خصائص إنما في سنن ابن ماجه

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

أثبت البلاغيون دلالـة (إنما) على القصر، وجعلوهـا من طرقه بمجموعة من الأدلة القوية، ومن بين هـذه الأدلة ـ كما سبق ذكرها ـ كونها متضمنة معنى (ما... إلا) الذي اتفق الجميع على أنه طريق من طرق القصر، بل هو الطريق الأم في هذا الباب. وهذا لا يعني أنهم يرون أن المعنى في الطريقين سواء، ولا يفرقون بينهما، لأن هناك «فرقا بين أن يكون في الشيء معنى الشيء، وبين أن يكون الشيءُ الشيءَ على الإطلاق» كما قال الإمام عبد القاهر ـ رحمه الله تعالى ـ ([1]). 

وعلى أساس بيان هذه النقطة ودفع توهم من يتوهم أن البلاغيين يسوون الطريقين في الدلالة، بنى الإمـام عبد القاهر ـ رحمـه الله تعالى ـ باب القصر في كتابه (دلائل الإعجاز)، فأحسن البـناء، مبينا «أنه ليس كل كلام يصلح فيه (ما) و(إلا) يصلح فيه (إنما)»([2])، كذلك العكس. ومن خلال تحليلاته الرائعة، نستطيع أن نلخّص أهم ما تتميز به (إنما) فيما يلي:

1 ـ أن النفي فيها نفي ضمني.

سبـق أن ذكرنـا أن القصر عبـارة عن إثبات شيء لشيء، ونفيه عن غيره، وما دام قد ثبت كون (إنما) من بين طـرق القصر الاصطلاحية، فلا بد فيهـا من وجود النفي الذي هو أحد الجزأين الأساسيين لمعنى القصر. غير أن النفي فيها نفيضمني، ولم يكن نفيـا صريحا كما هـو في طريق النفي والاستثناء. فهذا النفي هو «نفى متضمن مخبوء وخافت، فليس لـه من الجهارة ومن القوة ما للنفي في (ما) و(إلا)»([3]). ويترتب على ذلك ما يلي:

(1) ـ لا تقـع (من) الزائدة ولا لفظة (أحد) في جملتها، لأنهما لا تدخلان إلا في حـيز النفي ومـا يجري مجـرى النفي من النهـي والاستفهـام. قـال الإمـام عبد القاهـر ـ رحمـه الله تعالى ـ: «ألا تَرى أنها لا تصلحُ في مثلِ قولِه ـ تعالى ـ: ﴿ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلَّا اللَّـهُ ﴾[آل عمران: 62]، ولا في نحـو قولنـا: (ما أحـدٌ إلاَّ وهو يقولُ ذاك)، إذ لو قلتَ: (إنَّما مِنْ إلهٍ الله) و(إنَّما أحَدٌ وهو يقولُ ذاك)، قلتَ ما لا يكون له معنًى»([4]). «إنَّ سببَ ذلك أن (أحداً) لا يقعُ إلاَّ في النفيِ وما يَجْري مَجْرى النفي من النَهْي والاستفهام، وأنَّ (مِن) المَزيدةَ في (مـا مِنْ إلهٍ إلاّ الله) كذلكَ لا تكونُ إلاّ في النفي»([5]).

 (2) ـ صحة مجامعتهـا (لا) العاطفـة. وذلك أن »(لا) العاطـفة تنفي عن الثاني ما وجب للأول»([6])، ولا ينتفي بها شيء قد نفي قبلها بغيرها، فيصح مجيء (لا) العاطفـة بعد الجملة المصدرة بـ (إنما) لتأكيد النفي المستفاد من القصر، لأن النفـي مع (إنما) نفـي ضمني، وليس نفيـا صريحا. فيصح أن نقول: إنما زيد قائم لا قاعد، ولا يصـح القول: ما زيد إلا قائـم لا قاعـد، «فإِنَّ ذلك إِنما لم يَجُزْ من حيثُ إِنك إِذا قلتَ: (ما زيدٌ إلاَّ قائمٌ)، فقد نفيتَ عنه كلَّ صفةٍ تُنافي (القيامَ)، وصـرت كأنك قلت: (ليس هو بقاعدٍ ولا مضطجعٍ ولا متكىءٍ)، وهكذا حتى لا تدعَ صفةً يخرجُ بها من (القيامِ). فإِذا قلتَ من بعـد ذلـك: (لا قاعد) كنتَ قد نفيتَ بـ (لا) العاطفةِ شيئاً قد بدأتَ فنفيتَه، وهي موضوعةٌ لأنْ تنفيَ بها ما بدأتَفأوجبتَه، لا لأن تفيدَ بها النفيَ في شيءٍ قد نفيتَه»([7]). أما نحو القول: (إنما جاءني زيـد)، فهـو «كـلامٌ ـ كـما تراهُ ـ مثْبَتٌ ليس فيـه نفيٌ البتَّةَ كما كـانَ فـي قولِـك: (ما جاءني إِلاّ زيدٌ)، وإِنما فيه أَنَّك وضعتَ يدَك على (زيدٍ) فجعلتَه (الجائي)، وذلك وإِن أوجَبَ انتفاءَ المجيء عن غيرِه، فليس يوجِبُه من أجلِ أنْ كان ذلك إِعمالَ نفيٍ في شيءٍ، وإِنما أوجَبَه مـن حيثُ كـان (المجيءُ) الذي أخبرتَ بـه مَجيئاً مخصوصاً، إِذا كانَ لزيدٍ لم يكنْ لغـيره. والذي أَبيناهُ أن تنفيَ بـ (لا) العاطفـةِ عن شيءٍ وقد نفيتَه عنه لفظاً»([8]). 

(3) ـ مجيء النفي والإثبات دفـعة واحـدة في حال واحدة، فجعل الأمر المثبَت ظاهـرا. قـال الإمام عبد القاهر ـ رحمه الله تعالى ـ: «اعلمْ أنها تفيدُ في الكلام بعدَها إيجابَ الفعـل لشيءٍ ونفيَه عن غـيرِه. فإذا قلتَ: (إنما جاءني زيدٌ)، عُقِلَ منـه أنك أردتَ أن تنفيَ أن يكونَ الجائي غيرَه. فمعنـى الكلامِ معها شبيهٌ بالمعنى في قولِـك: (جاءني زيـدٌ لا عمرٌو) إلا أنَّ لَهَا مَزيّةً، وهي أنك تعقِلُ معها إيجابَ الفعل لشيءٍ ونفيَه عن غيرِه دفعةً واحـدة وفي حالٍ واحدةٍ. وليس كذلك الأمرُ في: (جاءني زيدٌ لا عمرٌو)، فإنَّك تعقِلُهما في حالين؛ ومزيّةً ثانيةً، وهي أنها تجعلُ الأمرَ ظاهراً في أن الجائي (زيدٌ)، ولا يكونُ هذا الظهورُ إذا جعلتَ الكلامَ بـ (لا) فقلتَ: (جاءني زيدٌ لا عمرُو)»([9]).

 (4) ـ المعاني التي تدخل عليها (إنما) معان مأنوسة قريبة من النفوس.

بنـاء على أن النفـي في (إنما) نفـي ضمني خافت، فإنها أداة رقيقة هامسة، فتدخل على المعاني المأنوسة القريبة من النفوس، ولا تدخـل على الحقائق الغريبة والأفكـار البعيدة، لأن هذه الغربـة أو ذلك البعد يحتاج في إثباتها إلى مزيد من القـوة والتأكيـد، فهـذه الأداة الرقيقـة الهامسة لا تناسب ذلـك. بخلاف النفي والاستثناء، فإن النفي فيها نفي صريح قوي، ولهذه الأداة قعقعة وجلبة، ووراءها قدر من الانفعال والحدة، فلا تصاغ بها إلا المعاني النافرة والحقائق النادرة التي من شأن النفوس أن تنكرها وتقيم دونها الأسوار.

قال الإمام عبد القاهر ـ رحمه الله تعالى ـ: «اعـلمْ أنَّ موضوعَ (إنما) على أن تجيءَ لخبرٍ لا يجهلهُ المخاطَب ولا يدفَعُ صحَّتَه، أو لما ينزَّل هذه المنزلة»([10]). كقول الشاعر:

الأب لا يجهل أبوته، فالمخاطب هنا يعرف جيدا أنه والد، فإدخال الشاعر (إنما) في هـذا المعنى القريب ـ كما قال الإمام عبد القاهر ـ «لم يُردْ أن يُعْلم كافوراً أنـه والـدٌ، ولا ذاك ممـا يحتاجُ كافورٌ فيـه إلى الإِعلام، ولكنـه أراد أن يذَكِّرَه منه بالأمِر المعلـوم ليبنيَ عليه استدعاءَ ما يوجُبه كونُه بمنزلة الوالدِ»([12]). فمثـل هذا الشاهد يكـون وضوح مفهومـه وقربـه باعتبار المخاطب، لأنـه واضح بالنسبة للمخاطب بينما قد يكون فيـه نوع من الخفاء بالنسبة لمن لا يعـرف مـا بينهما من العلاقة. 

وقد يكون ذلك الوضوح باعتبار مفهوم الخبر نفسه، كقول الله ـ تعالى ـ: ﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَـٰنَ بِالْغَيْبِ﴾[يس: 11]، من الواضـح أن الإنذار يوجـه به من يؤمن بالله ويخشاه، فإنه «معلومٌ أَنَّ الإِنذارَ إنما يكونُ إنذاراً ويكونُ له تأثيرٌ إذا كان معَ مَنْ يؤمنُ بالله ويخشاه ويُصَدِّقُ بالبعثِ والساعِة، فأما الكافُر الجاهـلُ، فالإنذارُ وترك الإنذار معـه واحدٌ»([13]). وكذلك قوله ـ تعالى ـ ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[الرعد: 19]، إذ كون التذكر مقصورا على أولي الألباب أمر بدهي لا يجهله أحد. وقول الشاعر:

لا أحـد يجهـل أن القول يكون له تأثير حين صادف هوى عند سماعه، أما عند عدم مصادفة الهوى، فقد لا يدخل الآذان، فكيف يكون له تأثير؟!

وقد يكون ذلك الوضوح باعتبار اعتقـاد المتكلم وادعائه، فإن المتكلم قد يدّعي الوضوح في الأمـور التـي مـن شأنها أنهـا تكـون غير واضحـة للجميع، ولا معلومة للمخاطب، فأوردها بـ (إنما) الموضوعة لخبر معلوم واضح، لغرض ما كالمبالغة. قال الإمام عبد القاهر ـ رحمه الله تعالى ـ: «وممّا يجبُ لك أن تجعلَه على ذُكْرٍ منك من معاني (إِنما) ما عرَّفتُك أولاً من أنها قد تدخلُ في الشيء على أن يُخيِّلَ فيه المتكلِّمُ أنه معلومٌ، ويدَّعيَ أنه من الصحَّةِ بحيثُ لا يدفعُه دافعٌ»([15]). وهذا الاستعمال كما ورد في قوله ـ تعالى ـ تصويراً عن نفاق المنافقين:﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾[البقرة: 11]، كونهم مقصورا على الصفة (الإصلاح) أمر ينكره المخاطبون أشد إنكار، لكنه في اعتقاد المتكلمين وادعائهم أمر واضح معلوم، وهم يدّعون هذا الوضوح للمبالغة في إنكار الصفة (الإفساد) عـن أنفسهم، فقصروا أنفسهـم على الإصلاح، وأنه ليس فيهم شائبة من فساد، لأن هـذا ردّ على من يقولـون لهـم: لا تفسدوا في الأرض. وفـي هذا القصر «دخلتْ (إِنّما) لتدلَّ على أنَّهم حين ادَّعَوا لأنفسهم أنهم مُصْلِحُون، أظهرواأنهم يدَّعون من ذلك أمراً ظاهراً معلومـاً. ولذلـك أكَّد الأمرَ في تكذيبِهم والرَّدَّ عليهم، فجمَعَ بين (أَلاَ) الذي هو للتَّنبيه وبين (إِنّ) الذي هو للتأكيد، فقيل: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ﴾[البقرة: 12]»([16]).

 وكقول الشاعر:

«الشاعر لم يؤكـد هذه الحقيقـة، ولم يلتفت إلى حـال النفوس المتلقيـة لها، فيواجهها كما يقتضى واقعها، وإنما خيّل وأوهم أنها ينبغي أن تكون من المسلمات، وأن المشاحنة فيها لا وجه لها، وأن من ينكرها لا يجد آذانا تسمعه. هذا الإحساس بأن تلـك حقائق ظاهرة لا وجه لإنكارهـا. وهذا ضرب من تقرير تلك الحقائق يفوق كل صور التوكيد» ([18]). 

قال الإمام عبـد القاهر ـ رحمه الله تعالى ـ: «ادَّعى في كونِ الممدوحِ بهذه الصفةِ أنه أَمْرٌ ظاهرٌ معلومٌ للجميع، على عادةِ الشعراءِ إذا مَدَحوا أن يدَّعوا في الأوصاف التي يذكرونَ بها الممدوحِينَ أنها ثابتةٌ لهم، وأنَّهم قد شُهروا بها، وأنهم لم يَصِفوا إلاّ بالمعلومِ الظاهرِ الذي لا يدفعُه أحدٌ» ([19]). 

وهكذا نجد (إنما) دائما أداة أليفة تقع على ما دنا من القلوب وخالط الأفهام ووضح المفهوم، أو على ما ينزل هذه المنزلة، كأن هذه الأداة «لقوة دلالتها على أن ما تدخل عليه مأنوس، ولتمكنها في هذه الدلالة، ولوفرة هذا المعنى فيها، تفيض علـى الشيء الغريب غـير المأنوس، فتصيره أليفا مأنوسا. وحين ترد هذه الموارد وتلقى هذه الظلال تجد لها مذاقا حسنا وثراء في الدلالة وتكثيفا في الإيحاء،»([20])كما في الأمثلة السابقة.

(5) ـ الكلام السابق عليها في أكثر الأساليب كأنه تهيئة للفكرة التي دخلت عليها، وتمهيد لها.

ولدخول (إنما) على المعاني القريبـة المأنوسة، «تجد الكلام السابق عليها في أكثر الأساليب كأنه تهيئة للفكرة التي دخلت عليها وتمهيد لها، وتجد هذا التمهيد يقـوى حتى لتكـاد النفس اليقظى والفهـم المتسارع يدرك الفكرة التي دخلت عليها قبل قراءتها أو سماعها»([21]). كقول الله ـ تعالى ـ: ﴿ ِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾[النحل: 51]، فإنه لما نهى عن اتخاذ إلهين اثنين، قرب في الأذهان إلى حد كبير أن الإله إله واحد، ولا إله غيره.

ومما يجـدر بالذكر ههنا أن (إنما) إذا جاءت بعد التمهيد تأتي أحيانا بالواو، وأحيانا بالفاء، وأحيانا بدونهما، ووراء كل حال من هذه الأحوال مغزى معنوي لا يكـون وراء الآخر. فالفـاء تشير إشارة ظاهرة إلى السببية، وذكر السبب بلفظ دال على السببية دلالة كاشفة، بينما توميء الواو إلى ما بين الجملتين من تغاير وإن جمعهما معنى واحـد، وكأنهـا توهم أن هنا معنيين، وأن جملة (إنما) تستقل بمعنى جديد. وإذا سقـط العاطف صار الكلامان كلاماً واحداً يتولد بعضه من بعض، يرتبط ثانيه بأوله رباطا داخليا لا حاجة فيه إلى عاطف ([22]). 

2 ـ حسـن ورودهـا للتعريض. والتعريض ـ كـما قال ابن الأثير رحمه الله تعالى ـ: «اللفـظ الـدال على الشـيء مـن طريـق المفهـوم لا بالوضـع الحقيقـي ولا المجازي، فإنك إذا قلت لمن تتوقع صلته ومعروفه بغير طلب: والله إني لمحتاج وليس في يدي شيء وأنا عريـان والـبرد قـد آذاني، فـإن هـذا وأشباهـه تعريـض بالطلب، وليس هـذا اللفـظ موضوعا في مقابلة الطلب لا حقيقـة ولا مجازا، إنما دل عليه من طريق المفهوم»([23]).

«يعنى أن يكـون المقصود بها معنى غير المعنى المباشر لما دخلت عليه، وإنما هو معنى يتولد بمزاوجة ما دخلت عليه بالسياق وتفاعلهما في إحكام واتساق»([24]). قال الإمـام عبـد القاهـر ـ رحمه الله تعالى ـ: «ثم اعلمْ أنك إِذا استقريتَ وجدتَها أقوى ما تكونُ وأعلَقَ ما ترى بالقلب إِذا كـان لا يُرادُ بالكلامِ بعدَها نفسُ معناه ولكنَّ التّعريضَ بأمرٍ هو مقتضَاه»([25]). 

 «ولعل سبب فضل هذا الأسلوب وسر تمكنه وأنه أعلق بالقلب لأن إدراك مرمـاه محتاج إلى قـدر من الفطنـة واللقانـة والوعى بالسياق، لأن الغرض من الكلام يقف بعيدا عن العبارة بعـدا ليس بالكثير فيغيب عن الرؤية»([26]). فليس المقصود ب(إنما) معنى الكلام بعدهـا، وإنما التعريض بأمر هو ما يقتضيه معنى هذا الكلام. كقوله ـ تعالى ـ: ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[الرعد: 19، الزمر: 9]، «معنى الكلام أن أولي الألباب يتذكرون وأنه لا يتذكر غيرهم، وليس هذا مقصودا لأنه من البداهات التي لا يحتـاج أحـد إلى أن ينبـه إليها. يبعد إذن أن تكون الجملة الشريفـة التي نزل بهـا جبريل جاءت لتقول للناس أن التذكـر لا يكون إلا من العقلاء. والتذكـر يعنـى فيما يعنـى تعقـل القضايـا وإدارتها في النفس إدارة ذكية تكشف ما يحيـط بها مما يغرى بقبولها أو رفضها. والناس لا يتوهمون أن البحـث عن الحقيقة والتقاطها مما يحيط بها من التباس يمكن أن يكون من المجانين، لا بد إذن من مرمى آخر يرمى إليـه التعبير هو مقتضى هذا المعنى. يعنى إذا كان التذكر ثابتا لأولى الألباب ومنفيا عن غيرهم اقتضى هذا أن يكون غير المتذكرين من غير أولي الألباب»([27]). فالغرض من الكلام كما قال الإمام عبد القاهر ـ رحمه الله تعالى ـ: «أن يُذمَّ الكفارُ، وأنْ يُقالَ: إِنهم من فرطِ العِنادِ ومن غَلبَةِ الهوى عليهم، في حكمِ مَنْ ليس بذي عقـلٍ، وإِنكم إِنْ طَمعْتُم منهم في أن ينظروا ويتذكروا، كنتُمْ كمن طَمِع في ذلك من غيرِ أولي الألباب»([28]).

وكقول الشاعر:

«قوله (إنما للعبد ما رزقا) من المعاني البدهية، والمقصود أن يتسلى ويستشعر أن ذلك ليس مما قسمه الله له، فالله لم يرزقه محبتها، وليس للعبد إلا ما رزقه الله، والناتج من هذا أو ذلك أخذ النفس على سبيل اليأس وتدريبها على السلوى»([30])، فالغرض كما قـال الإمام عبد القاهر ـ رحمه الله تعالى ـ: «أن يُفهِمَـك مـن طريـقِ التَّعريضِ أنـه قـد صـار يَنْصَحُ نفسَه، ويُعلِم أنـه يَنْبغي لـه أن يقطعَ الطَّمعَ من وصلِها، ويَيْأسَ من أن يكونَ منها إِسعافٌ»([31]).

وقـد حـاول عبد القاهر ـ رحمه الله تعالى ـ شرح جريان المعنى في أسلوب التعريض وارتباطه بـ (إنما) حتى إنك لـو حذفت (إنما) يسقط المعنى التعريضي. قـال في تحليـل ذلـك: «ثم إِن العجَبَ في أنَّ هـذا التعريضَ الـذي ذكـرتُ لـك لا يحصُلُ من دُونِ (إِنما)، فلو قلتَ: (يتذكَّرُ أولـو الألباب)، لم يـدلَّ على ما دلَّ علـيه في الآيـة، وإِنْ كان الكلامُ لم يتغيَّرْ في نفسِه، وليس إِلاَّ أنه ليس فيه (إِنما). والسَبَبُ في ذلـك أن هـذا التَّعريضَ إِنما وقعَ بأن كان من شأنِ (إِنَّما) أن تُضمِّنَ الكلامَ معنى النفي من بَعْدِ الإِثباتِ، والتصريحَ بامتناعِ التذكُّرِ ممن لا يَعْقِل. وإِذا أُسقِطَتْ من الكلامِ فقيل: (يتذكَّر أولو الألباب)، كان مجرَّدَ وصفٍ لأولي الألباب بأنهم يَتذكَّرُون، ولم يكنْ فيـه معنى نفيٍ للتذكرِ عمَّن ليس منهـم. ومحالٌ أن يقعَ تعرضٌ لشيءٍ ليس لـه في الكلام ذكرٌ، ولا فيه دليلٌ عليـه. فالتعريضُ بمثلُ هـذا ـ أعني بأن تقـولَ: (يتذكرُ أولو الألباب) بِإسقاطِ (إِنما) ـ يقعُ إِذن إِنْ وقع بمدحِ إِنسانٍ بالتيقُّظ، وبأنه فعلَ ما فعلَ، وتنبَّهَ لِما تنبَّهَ له، لعقله ولحسنِ تمييزِه، كما يقال: (كذلك يفعلُ العاقلُ)، و(هكذا يفعل الكريمُ)»([32]).

«وليس لدينا وسيلة لنحدد بها أي الأساليب يكون للتعريض، وأيها يكون لغيره. ومرجع ذلـك إلى تأمل النص وتذوق معنـاه والتعرف على مرماها تعرفا تلمسه النفس ويحسـه الوعي، ثم الاستضاءة بالسياق»([33]). قال الإمام ـ رحمه الله تعالى ـ: «وهـذا موضعٌ فيه دقةٌ وغموضٌ، وهو ممـا لا يكادُ يقعُ في نفسِ أحدٍ أنه ينبغي أن يَتعرَّفَ سببَه، ويَبحثَ عن حقيقة الأمرِ فيه»([34]). 

3 ـ كون المقصور عليه معها الجزء المؤخر المستقل.

وممـا يتميز بـه هـذا الطريق ـ أي طريق (إنما) ـ من بين طرق القصر أن المقصور عليه هو الجزء المؤخر المستقل في الجملة فاعـلا أو مفعولا أو ظرفا. وقد تطول في الجملة القصرية التعليقات وتتزاحـم فيهـا الأجزاء، لكن المقصور عليه دائما هو الجـزء المستقل المتأخر. فالتوابع لا تقع مقصورا عليه، لأنها ليست جزءا مستقلا، بل إنها تتبع المتبوعين من حيث المعنى. فلو قال في قول الفرزدق:

(وإنما أدافـع عن أحسابهم أنـا أو مثلى)، فيكون (أنا) غـير الجزء المستقل، لأنه ليس الفاعل، بل هو المؤكد للفاعل، والمؤكِّد والمؤكَّـد كشيء واحد. فيكون المقصور عليـه حينئذ (عن أحسابهم)، لأنـه هـو الجزء المستقل المتأخـر. وغرض الفرزدق هو أن يَخُصَّ المدافِع لا المدافَع عنـه، وأنه لا يزعم أن المدافعة منه تكون عن أحسابهم لا عن أحساب غيرهم، وإنما معناه أن يزعم أن المدافِع هو لا غيره. لذلك قدم الشاعر (عن أحسابهم) على الفاعل، فالفاعل هو المؤخر وهو المقصور عليه. فلو قال (أدافع) فلم يكن (عن أحسابهم) مقدما على الفاعل لأن «الفاعل هو الضمير المستكنّ في الفعل (أدافع)، وكان (أنا) الظاهر تأكيدا للفاعل المستكن، والحكم يتعلق بالمؤكَّد دون التأكيد، لأن التأكيد كالتكرار، فهو يجيء من بعد نفوذ الحكم، فلا يكون تقديم الجـار مـع المجرور الذي هـو قولـه (عن أحسابهم) على الضمير الـذي هو تأكيـد، تقديما له على الفاعـل، لأنَّ تقديمَ المفعولِ على الفاعل إِنما يكونُ إِذا ذكرتَ المفعولَ قبل أن تذكرَ الفاعل، ولا يكونُ لكَ إِذا قلتَ: (وإِنَّما أدافِعُ عن أحسابِهم) سبيلٌ إِلى أن تذكرَ المفعولَ قبـل أن تذكـرَ الفاعلَ، لأنَّ ذكَر الفاعـلِ هاهنا هـو ذكـرُ الفعلِ، من حيثُ إِن الفاعلَ مستكِنٌ في الفِعْلِ، فكيف يُتصَوَّرُ تقديمُ شيءٍ عليه» ([36]). فحينئذ المؤخر هو (عن أحسابهم)، ويكون مقصورا عليهم، وهذا ليس مراد الشاعر.

*  *  *