دلالة إنما على القصر في سنن ابن ماجه
دلالة إنما على القصر في سنن ابن ماجه
كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)
فقال:
وبسبب تلـك المنازعة أو ذلـك التردد السابق ذكره من قبل بعض العلماء حول دلالة (إنما) على القصر، استدل البلاغيون لهذه الدلالة بأمور.
ذكر شيخ البلاغيين الإمام عبد القاهر الجرجاني ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه (دلائل الإعجاز) ثلاثة من هذه الأدلة، وهو ناقل ما قاله أبو علي الفارسي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه (الشِيرازيَّات)، وهذه الأدلة الثلاثة هي([1]):
1 ـ أن الأصل فى ذلك أنها متضمنة معنى (ما...إلا) بدليل قول المفسرين العالمين باللغة فى نحو قوله ـ تعالى ـ ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ...﴾[البقرة: 173] معناه: ما حرم عليكـم إلا الميتة، ويؤيد إصابتهم فى ذلك قراءة رفع (الميتة)([2])، وفى هذه القـراءة لا تكون (إنما) هى (إنّ) و(ما) الكافة، وإنما تكون (إن) و(ما) الموصولة، والمعنى أن الذى حرمه الله عليكم الميتةُ، والجملة حينئذ معرَّفة الطرفين، مثل قولك: الذى فعل كذا محمد، وهذا يفيد القصر.
2 ـ بدليـل قول النحاة: أن (إنما) لإثبات ما يذكـر بعدها ونفى ما سواه. فهى لا تثبت مـا بعدها فقط، وإلا لما كان هنـاك فـرق بين قولك: محمد كاتب، وقولك: إنما محمد كاتب، لأن الجملة بدون (إنما) فيهـا إثبات أنـه كاتب، ولكن (إنما) تزيد على هذا أنها تنفى ماسواه، وهذا هو القصر.
3 ـ لصحـة انفصـال الضمير معهـا، تقـول: إنما يضـرب أنـا، كـما تقول: ما يضرب إلا أنـا. والقاعدة أن «كل موضع أمكـن أن يؤتى فيه بالضمير المتصل لا يجوز العدول عنه إلى المنفصل إلا في مواضع محددة»([3])، وقد ذكر محمد محي الديـن عبد الحميد ـ رحمه الله تعالى ـ مواضـع انفصـال الضمير بالتفصيل على هوامش كتابـي (أوضح المسالـك) و(شـرح ابن عقيل)([4])، ولا يصلح من تلك المواضع لانفصـال الضمـير هنـا إلا كونـه محصورا. فالأصل أن تقول: أضرب، ولا يجوز القول: يضرب أنـا، فإذا أردت الحصر تقـول: ما يضرب إلا أنا. فتعين كون (إنما) للحصر. ومن ذلك قول الفرزدق:
أَنَا الذّائدُ الحَامِي الذِّمَارَ وإنَّما | يُدافِعُ عَنْ أحْسابِهِمْ أَنا أَوْ مِثْلي([5]) |
ثم أضاف غيره على هذه الأدلة الثلاثة أدلة أخرى، منها:
4 ـ ذكر السكاكي ـ رحمه الله تعالى ـ أن من أدلتها ما قاله بعض النحاة من أن في كلمـة (إنما) اجتماع تأكيدين: (إنّ) المؤكـدة و(ما) المؤكدة، وما القصر إلا عبارة عن تأكيد على تأكيد، حيث قال: «ويذكرون لذلـك وجهـا لطيفا يسند إلى علي بن عيسى الربعي، وإنه كان من أكابر أئمة النحو ببغداد، وهو: أن كلمة (إنّ) لما كانت لتأكيـد إثبات المسند للمسند إليه، ثم اتصلت بها (ما) المؤكدة لا النافية على مـا يظنـه من لا وقوف له بعلم النحو، ضاعف تأكيدها، فناسب أن يضمن معنى القصر، لأن قصر الصفة على الموصوف، وبالعكس، ليس إلا تأكيدا للحكم على تأكيـد، ألا تراهم، متى قلت لمخاطب يردد المجيء الواقع بين زيد وعمرو: زيد جـاء لا عمرو، وكيف يكـون قولك: زيد جاء، إثباتا للمجيء لزيد صريحا، وقولك: لا عمرو، إثباتا ثانيا للمجيء لزيد ضمنا».([6])
5 ـ استدل الإمام فخـر الدين الرازي ـ رحمه الله تعالى ـ لدلالة (إنما) على القصر بوجوه، منها: «أن كلمة (إِنَّمَا) مركبة من (إنّ) و(ما)، وكلمة (إنّ) للإثبات،وكلمـة (ما) للنفي، فعند اجتماعهما وجب بقاؤهما على هذا المفهوم، فوجب أن يفيدا ثبوت المذكور، وعدم ما يغايره»([7]). وهذا الوجه قد رد عليه العلماء بأن (ما) في (إنما) كافة أو مؤكدة لا نافية([8]). وجعل من ضمن الأدلة على إفادتها القصر الحديث (إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ)([9])الذي تمسك به من لا يرى دلالة (إنما) على القصر، حيث ذكـر: «أن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ تمسك في نفي ربا الفضل بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ (إنما الربا في النسيئة)، ولولا أن هذا اللفظ يفيد الحصر، وإلا لمـا كـان الأمـر كذلـك»([10]). ومما يؤيد كلامه هذا ورود الحديث في صحيح البخاري بلفظ: «لا الرِّبَا إِلا فِي النَّسِيئَةِ»([11]).
6 ـ أضـاف بهـاء الدين السبكى ـ رحمه الله تعالى ـ أن من أدلة إفادة (إنما) القصـر مثـل قولـه ـ تعالى ـ: ﴿ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّـهُ ﴾[هود: 33]، «فإنه إنما يحصل مطابقة الجواب إذا كانت (إنما) للحصر، ليكـون معناه: لا آتيكم به، إنما يأتى به الله»([12]). «هذه أدلة قوية على إفادتها الاختصاص لأنها لا تعتمد على كلام المحققين من المفسرين والنحاة واللغويين، وإنما تعتمد على مجراها فى الأسلوب، وأن ذلك يقتضى أن تكون أفادت الإثبات والنفى معـا، وهـذا من أقوى الأدلة وأحكمها، بل هو أصـل ما قاله اللغويـون والمفسرون لأن مقالتهـم مستنبطـة من دلالات التراكيب»([13]).
هذا، وقد أشار الإمام الزمخشري ـ رحمه الله تعالى ـ إلى أن (أَنَّمَا) المفتوحة الهمزة ك(إِنَّمَا) المكسورة الهمزة في الدلالة على القصر، وهو يقول عند تفسيره قول الله ـ تعالى ـ ﴿ قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[الأنبياء: 108]: «(إنما) لقصـر الحكم على شـيء([14])، أو لقصر الشيء على حكـم([15])، كقولـك: إنما زيد قائـم، وإنما يقـوم زيد. وقد اجتمع المثالان في هـذه الآيـة، لأن (إِنَّمَا يُوحَى إِلَىَّ) مع فاعله بمنزلـة: إنما يقوم زيد، و(أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) بمنزلـة: إنما زيـد قائم، وفائدة اجتماعهما: الدلالـة على أن الوحـي إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقصور على استئثار الله بالوحدانية»([16]).
وقد ذكرنا سابقا موقف الشيخ أبي حيان ـ رحمه الله تعالى ـ من دلالة (إِنَّمَا) المكسورة الهمزة على القصر، وهـو هنا ينكـر صراحة دلالة (أَنَّمَا) المفتوحة الهمزة على القصر، ويرد على الإمـام الزمخشري قائلا: «وأما ما ذكره في (إِنَّمَا) أنها لقصر ما ذكر فهو مبني على أن (إنما) للحصر، وقد قررنا أنها لا تكون للحصر، وإنما مع (إنّ) كهي مع (كان) ومع (لعل)، فكما أنها لا تفيد الحصر في التشبيه ولا الحصر في الترجي، فكذلـك لا تفيـده مع (إنّ)، وأمـا جعلـه (أَنَّمَا) المفتوحـة الهمـزة مثل مكسورتها يـدل على القصر، فلا نعلـم الخلاف إلاّ في (إِنَّمَا) بالكسر، وأما بالفتح فحرف مصدري ينسبـك منـه مـع ما بعدهـا مصدر، فالجملة بعدها ليست جملة مستقلـة، ولـو كانت (إنما) دالـة على الحصر لزم أن يقال إنه لم يوح إليه شيء إلاّ التوحيد، وذلك لا يصح الحصر فيه إذ قد أوحى له أشياء غير التوحيد»([17]).
وذكـر المرادي ـ رحمـه الله تعالى ـ أنه «انتصر بعـض الناس للزمخشري بأن قال: إن المفتوحـة هي فرع المكسورة، بدليل أن سيبويه عدها خمسة([18])، واستغنى بـ (إِنّ) المكسورة عن المفتوحـة، فلا فرق بينهما في الحصـر، وعدمـه»([19]). ويجيب على إبطال أبي حيان الحصر في الآية المذكورة قائلا: «جوابه أن الحصر عند القائلين بـه باعتبار المقام، وهـو هنـا خطاب للمشركين، والموحَى إليه في حقهم أولا هو التوحيد. والله أعلم»([20]). يعني أن القصر في الآية قصـر إضافي، لا قصـر حقيقي كما فهمه أبو حيان ـ رحمه الله تعالى ـ .
ووضح ذلك ابن هشام ـ رحمه الله تعالى ـ قائلا: «والأصح أنها([21])فرع عن (إِنَّ) المكسورة، ومن هنا صح للزمخشري أن يَدَّعي أن (أَنَّمَا) بالفتح تفيد الحصر كـ (إِنَّمَا)، وقد اجتمعا في قوله ـ تعالى ـ: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ﴾[الأنبياء: 108] فالأولى لقصر الصفة على الموصوف، والثانية بالعكس. وقول أبي حيان (هذا شيء انفرد به، ولا يعرف القول بذلك إلا في إنما بالكسر) مردود بما ذكـرت. وقولـه (إن دعوى الحصر هنا باطلة لاقتضائها أنه لم يوحَ إليه غير التوحيد) مردود أيضـا بأنـه حصر مقيـد، إذ الخطاب مع المشركين، فالمعنى: مـا أوحِيَ إلـى فـي أمـر الربوبية إلا التوحيد، لا الإشراك، ويسمـى ذلك قصر قلب لقلب اعتقاد المخاطب، وإلا فما الذي يقول هـو في نحـو:﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾[آل عمران: 144]، فإن (ما) للنفي و(إلا) للحصـر قطعـا، وليست صفتـه ـ عليه الصلاة والسلام ـ منحصرة في الرسالـة، ولكن لما استعظموا موته جُعِلوا كأنهم أثبتوا له البقاء الدائم، فجاء الحصر باعتبار ذلك ويسمى قصر إفراد»([22]).
وقال أبو البقـاء ـ رحمه الله تعالى ـ: «كل مـا أوجب (إِنَّمَا) بالكسر للحصر أوجب (أَنَّمَا) بالفتـح للحصر أيضـا، لأنهـا فـرع عنهـا، ومـا ثبت للأصـل ثبت للفرع، ما لم يثبت مانع منـه والأصل عدمه، وموجب الحصر موجود فيهما، وهو تضمن معنى (ما) و(إلا) أو اجتماع حرفي التأكيـد. وقد اجتمع الحصران في قوله ـ تعالى ـ: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ﴾[الأنبيـاء: 108]، وفائدة الاجتماع الدلالة على أن الوحي مقصور على استئثار الله بالوحدانية، والحصر مقيد لأن الخطاب مع المشركين، لا مطلق، لاقتضائه أنه لم يوح إليه سوى التوحيد، وليس كذلك. هذا ما ذهب إليه الزمخشري والبيضاوي»([23]). وقال: «والجمهور على أن (أَنَّمَا) بالفتح لا يفيد الحصر، والفرع لا يجب أن يجري على وتيرة الأصل في جميع أحكامه. وقيل: المفتوحة أصل المكسورة؛ وقيل: كل منهما أصل برأسه»([24]).
وقـال الدسوقي ـ رحمـه الله تعالى ـ: «واعلم أن الموجب للحصر في (إِنَّمَا) بالكسر موجود في (أَنَّمَا) بالفتح، فمن قال سبب إفادة (إِنَّمَا) الحصر تضمنها معنى (ما) و(إلا)، قال بذلك في (أَنَّمَا) المفتوحة، لوجود هذا السبب فيها؛ ومن قال إن السبب اجتماع حرفي توكيد، قال به في (أَنَّمَا) أيضا لذلك».([25])
ثم قال البلاغيون إن دلالة (إنما) على القصر دلالة وضعية، وإنها تفيد القصر فى كل صورة من صوره، فتأتى للقصر الحقيقي بقسميه التحقيقي والادعائي، كما تفيد القصر الإضافي بأقسامه الثلاثة إفرادا وقلبا وتعيينا.
غير أن الإمام عبد القاهـر ـ رحمـه الله تعالى ـ ذهب إلى أنـه يؤتى بـ (إنما) للرد على من يعتقد نفـي ما أثبته بها، بمعنى أن (إنما) عنده لا يأتى بها إلا فى قصر القلب. قال الإمام عبد القاهر ـ رحمـه الله تعالى ـ: «فإذا قلتَ: (إنما جاءَني زيدٌ) لم يكن غرضُك أنْ تنفيَ أن يكونَ قد جاء مع (زيدٍ) غيرُه، ولكن أن تنفيَ أن يكونَ المجيءُ الذي قلتَ إنه كانَ منه، كان من عمرٍو. وكذلك تكونُ الشبهةُ مرتفعةً في أن ليس ههنـا جائيان، وأن ليسَ إلاّ جـاءٍ واحدٌ، وإنما تكونُ الشبهةُ في أنَّ ذلك الجائي (زيدٌ) أم (عمرٌو)، فإذا قلتَ: (إنما جاءني زيدٌ) حققتَ الأمر في أنه (زيد). وكذلك لا تقول: (إنما جاءني زيد) حتى يكونَ قد بَلَغ المخاطَبَ أن قدْ جاءَك جاءٍ، ولكنه ظنَّ أنه عمرُو مثلاً، فأعلمتَهُ أنه (زيد).»([26]).
قـال الدكتور محمد محمد أبو موسى ـ حفظـه الله تعالى ـ: «الأصل الذى يعتمده عبـد القاهـر فى هـذا التحديد هو ما يسبق إلى القلب، والسبق إلى القلب ليس أصلا ثابتا فى الدلالة اللغوية، وإنما هو أصل يهتز باعتبار الأحوال والعوارض التى تعتور القلب من نشاط وفتور وحدة وكلال، ولهذا لا نستطيع أن نعول عليه فى كل حال، ولا نرى وجها لهذا التحديد وهذه الصرامة، وكيف ونحن لا نجد هذا الذى يقول إنه يسبـق إلى القلب عند سماع مثل قولك: إنما جاءنى زيد، وإنما يقع فى نفوسنا أنـك تخصه بالمجيء، وقـد يكون ذلك إعلاما أوليا، وقد يكون دفعـا لمن ظـن أنهما جاءاك إلى آخر ما يرشد إليه السياق والقرائن. ثم كيف نقبل منه ذلك والكلام العربى الخالص مليء بما يناقضه»([27]).
ثم سـاق الدكتور مجموعـة من الشواهد التي لا يستقيم فيهـا كون القصر قصر القلب، وبذلك يرد على مـا ذهب إليـه الإمام عبد القاهر ـ رحمه الله تعالى ـمن أن (إنما) يؤتى بهـا لقصر القلب فقط، وأثبت أنها ـ كما قال جمهور البلاغيين ـ تصلح لجميع أنواع القصر([28]). ومن هذه الشواهد قوله ـ تعالى ـ: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[فاطر: 28]. هذه الآية لا يمكن أن نقول فيها أن القصر قصر القلب، جاء لرد على من اعتقد أن غير العلماء يخشون الله وأن العلماء لا يخشون الله. بل الآية من قبيل القصر الحقيقي المبني على المبالغة، قصر فيها ـ جلّ وعلا ـ الصفة (الخشية) على الموصوف (العلماء)، ونفاها عن كل من عداهم، غير أنه فى الواقع كثير من العوام الغير العلماء يخشون الله بل أشد خشية من كثير العلماء. ولكن الآيةجاءت فى سياق التنويه بالعلم الذى يكتنه أسرار آيات الله، ويكشف ما ينطوى عليه الكون من نظام دقيق وإحكام بالغ لا يكون إلا بيد عليم خبير. ثم فى سياق الآيـة التعريض بالمكذبين بآيات الله، وأنهـم هم الذين يجهلون الحقائق الكونية، الخشيـة مقصورة على العلماء لا تتعداهـم إلى الجاهلين، لأن الجاهلين يكذبون الرسـول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كـما أن الجاهلين الذين قبلهـم كذبـوا الرسـل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من قبـل. الآية جاءت فى هذا السياق فلم تعتد بخشية غير العلماء، ولم تلتفت إليها، وكأنها ليست واقعـة لأن العلم يزيد العالم المهتدى به بصيرة فى أمر اعتقاده، ويقينا فى أمر دينه، فتقع خشيته لله على بصيرة ودراية.
هكذا أثبت البلاغيون أن (إنما) تعتبر طريقا من طرق القصر، وكادوا أجمعوا على أن (أَنَّمَا) المفتوحة الهمزة ك(إِنَّمَا) المكسورة الهمزة في الدلالة على القصر، وأنها تفيد القصر فى كـل صورة من صوره، فتارة يكون القصر بها قصرا مطلقا، وتارة يكون قصرا مخصوصا، فالأول هو ما يعرف عند البلاغيين بالقصر الحقيقي، والثاني هو القصر الإضافي أو غير الحقيقي. والحاكم في ذلك هو السياق والقرائن، كما قال ابن دقيق العيد ـ رحمه الله تعالى ـ: «فإذا وردت لفظة (إنما) فاعتبرها، فإن دلّ السياق والمقصود من الكلام على الحصر في شيء مخصوص، فقل به؛ وإن لم يكن في شيء مخصوص، فاحمل الحصر على الإطلاق»([29]).
* * *
([1]) ينظر: دلائل الإعجاز لعبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني المتوفى سنة 471ﻫ: ص328. تحقيـق: محمـود محمد شاكر، دار المدنـي بجـدة، الطبعة الثالثة 1413ﻫ ـ 1992م.
([2]) «قرأ الجمهور (حَرَّمَ) مسنداً إلى ضمـير اسم الله، وما بعده نصب، فتكون (ما) مهيئة في (إنما) هيأت (إنّ) لولايتها الجملة الفعليـة؛ وقـرأ ابن أبي عبلة برفع (الميتة) وما بعدها، فتكون (ما) موصولـة اسم (إنّ)، والعائد عليها محذوف، أي: إنّ الذي حرمه الله الميتة، ومـا بعدهـا خبر (إنّ)؛ وقرأ أبو جعفر (حُرِّمَ) مشدداً مبنياً للمفعول، فاحتملت (ما) وجهين: أحدهما: أن تكون موصولـة اسـم (إنّ)، والعائد الضمير المستكن في (حُرِّمَ)، و(الميتة) خبر (إنّ)، والوجه الثاني: أن تكون (ما) مهيئة، و(الميتـة) مرفوع بـ (حُرِّمَ)؛=
= وقرأ أبو عبد الرحمن السلمـي (إنما حَرُمَ)، بفتـح الحاء وضم الراء مخففة جعله لازماً، و(الميتة) وما بعدها مرفوع، ويحتمل (ما) الوجهين من التهيئة والوصل، و(الميتة) فاعل (يَحْرُمُ) إن كانت (ما) مهيئة، وخبر (إنّ) إن كانت (ما) موصولة.» تفسير البحر المحيط: ج1 ص660.
([3]) شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك: ج1 ص99. تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار التراث ـ القاهرة، الطبعة العشرون رمضان 1400ﻫ ـ يوليو 1980م.
([4]) ينظر: أوضـح المسالك إلى ألفية ابن مالك: ج1 ص94 وما بعدها، تحقيق: محمد محي الديـن عبد الحميد، المكتبـة العصريـة صيدا ـ بيروت؛ شـرح ابن عقيل: ج1 ص100 وما بعدها.
([5]) البيت في ديوانـه، وروايته: أنا الضامن الراعي عليهم. ينظر: ديوانه: ص488. تحقيق: الأستاذ علـي فاعـور، دار الكتب العلميـة بيروت ـ لبنـان، الطبعة الأولى 1407ﻫ ـ 1987م.
([7]) مفاتيح الغيب للإمام فخر الدين الرازي (544 ـ 606ﻫـ): ج16 ص107. دار الفكر، الطبعة الأولى 1401ﻫ ـ 1981م.
([8]) ينظر في تفصيل ذلك: الجنى الداني في حروف المعاني: ص397 ـ 398؛ شروح التلخيص: ج2 ص192؛ الكليات لأبي البقاء: ص189.
([9]) صحيـح مسلم: كتاب المساقاة باب بيع الطعام مِثلا بمثل، حديث رقم: 1596؛ سنن ابن ماجه: كتاب التجارات باب من قال لا ربا إلا في النسيئة، حديث رقم: 2257.
([16]) الكشاف للإمام الزمخشري (467 ـ 538ﻫ): ج4 ص170. تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجـود والشيخ علي محمـد معوض والأستاذ الدكتور فتحـي عبـد الرحمـن أحمد حجازي، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى 1418ﻫ ـ 1998م.