جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الأحكام من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الأحكام من سنن ابن ماجه

 

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجه بسنـده عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ الحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَاأَقْضِي لَكُمْ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْكُمْ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ».

وفي رواية عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ ألحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ قِطْعَةً، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ»([1]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هو بيان للحُكّام بوجوب الحكم بالظاهر، وأن حكم الحاكم لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، وأنه متى أخطأ في حكمه فمضى كان ذلك في الظاهر، فأما في الباطن وفي حكم الآخرة فإنه غير ماض. فلا يجوز للمقضي له بالشيء أخذه إذا علم أنه لا يحل له فيما بينه وبين الله([2]).

* عناصر بناء الحديث:

لتحقيق هـذا المقصد الشريف جـاء الحديث بمجموعـة من الجمل يمكن تقسيمها إلى ثلاثـة عناصر رئيسيـة: العنصر الأول: تمهيد بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه أنه يحكم بظاهر الأمر، ولا ينفذ إلى باطنه، لأنه واحد من البشر، ثم إن من المتخاصمين من هو أفطن بحجته من صاحبه: (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ ألحَـنَ بِحُجَّتِـهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي لَكُمْ عَلَى نَحْـوٍ مِمَّا أَسْمَـعُ مِنْكُمْ)؛ والعنصر الثاني: نَهْيٌ بعد التمهيد نَهَى فيه عن أخذ المحكوم له شيئا مما يحكم له به إن حُكِمَ له بخلاف الباطن (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلَا يَأْخُذْهُ)؛ والعنصر الثالث: تعليل للنهي المذكور (فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ).

وفي رواية أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ حذف جزاء الشرط من العنصر الثاني مكتفيا بإنابة هذه الجملة التعليلية مكانه (فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ قِطْعَةً، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّار).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر بإنما في ثلاثـة مواضع من الحديث، وقع في الموضعين الأول والثاني موقـع التمهيـد، وفي الموضع الثالث وقع موقع التعليل. وذلك كما يلي:

الموضع الأول: قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ)، قصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه نفسه على صفة البشرية مقِرّا على أنـه مشارك للبشر في أصل الخلقـة ولو زاد عليهـم بالمزايا التي اختص بها في ذاتـه وصفاته، فلا يعلم الغيب، لا يعلم باطن الخصمين، فلا يعلم المحق منهما من المبطل، مخبرا بأن حاله في ذلك حال غيره، لأنه لا يعلم من الغيب إلا ما اطلع عليه بالوحي، منبها على أن أصل البشرية عدم العلم بالغيب، وبما يخفى من البواطن إلا من أطلعـه الله ـ تعالى ـ على شيء من ذلـك، وعلى جـواز الغلـط والسَّهو عليهم إلا من عصمه الله من ذلك([3]). 

وإنما أثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه صفـة البشريـة بأسلوب القصر ليذكر هذه الحقيقة للناس، وخاصة للذين يختصمون إليه، ويؤكدها لهم، وذلك لأن من شأن النفوس، وعلى الأخص من شأن المختصمين إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كأنهم يعتقدون أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لن يخطىء في حكمه، كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عالم بباطن الأمور. وبهذا كأنهم قد نسواأو تجاهلوا كـون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحدا من البشر، وذلك أن أصحابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفرط احترامهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واستعظامهم له، لا يصدقون حصول أي سهو من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولو أن ذلك جائز منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولذلك عندما اشتدت خصومتهم لم يلجأوا إلا إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ولهذا كله أورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلامه بأسلوب مؤكد أسلوب القصر. ثم اختـار ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهـذا القصر طريق (إنما) خاصـة لأن كونه من البشر أمر مسلم واضح لا يجهله أحد.

والقصر وقع بين أجزاء الجملة الاسمية، حيث قصر المبتدأ على خبره، قصر (الضمير العائد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ) على (البشر). وهو قصر موصوف على صفة على سبيل القصر الإضافي للقلب، حيث قصر نفسـه على صفـة البشرية، ونفى صفة مخالفـة للبشر وهي الملكيـة. قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ: «والمراد أنه مشارك لهم في أصل الخلقة ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختص بها في ذاته وصفاته،والحصر هنا مجازي لأنه يختص بالعلم الباطن، ويسمى قصر قلب لأنه أتى به ردا على من زعم أن من كان رسولا فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم»([4]). وقـال الزرقاني ـ رحمـه الله تعالى ـ بعـد الاستفادة من قـول ابن حجـر ـ رحمه الله تعالى ـ السابـق: «فأشـار إلى أن الوضع البشري يقتضي ألا يدرك من الأمـور إلا ظواهرها، فإنه خلق خلقا لا يسلم من قضايا تحجبه عن حقائق الأشياء، فإذا ترك على ما جبل عليه من القضايا البشرية، ولم يؤيد بالوحي السماوي طرأ عليه ما يطرأعلى سائر البشر»([5]). 

والجملة الاسمية تدل على ثبوت صفة البشرية له ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحد من البشر في أصل خلقته، وإن كان خير البشر على الإطلاق، يتميز بكثير مما لا يتميز به غيره من البشر.

وبعد ذلك يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ ألحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ)، يقول إن بعض الخصوم يكون أعلم بمواقع الحجج، وأهدى إلى إيراد ما يحتاج من ذلـك، وأشـد تبيينا لما يحتج بـه، وأبلغ وأفصح وأعلم في تقرير مقصوده، وأعلم ببيان دليلـه، وأقدر على البرهنة على دفع دعوى خصمه بحيث يُظَنُّ أن الحق معه وهو كاذب([6]). وفي النهاية: «اللَّحْن: المَيْل عن جِهة الاستِقامة. يقال: لَحَن فُلان في كلامه إذا مال عن صَحيح المًنْطِق. وأراد: إنَّ بعضَكم يكون أعْرف بالحجة وأفْطَنَ لها من غيره. ويقال: لَحَنْتُ لفُلانٍ إذا قلتَ له قَوْلاً يَفْهَمُه ويَخْفَى على غيره، لأنك تُمِيله بالتَّوْرِية عن الواضِح المَفْهوم. ومنه قالوا: لَحِنَ الرجلُ فهو لَحِنٌ إذا فَهِم وفَطِن لِمَا لا يَفْطَن له غيره»([7]). 

وبتنبيهـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذين الجانبين، أعني تنبيهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنه واحد من البشر لا يتجاوز ذلك إلى ما فوق البشرية، وعلى أن بعض الخصوم قد يكون ألحن بحجته من بعض، مهد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمضمون الموضع التالي لأسلوب القصر بإنما.

الموضع الثاني: قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (وَإِنَّمَا أَقْضِي لَكُمْ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْكُمْ)، قصر فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضاءه للخصوم على كونه على نحو مما يسمع منهم من الدعوى والإجابـة والبينـة أو اليمين أو نحو ذلك مما يلتفت إليه عند القضاء. وذلك لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحـد من البشـر، يحكـم كما يحكـم البشر، وهـو لا يعرف باطن الأمور، لا يعرف باطن ما يحتكم الخصوم فيه عنده ويختصمون فيه إليه، فلا يقضي لهم إلا على ظاهر ما يقولون ويدلون به من الدعوى والحجة([8]). وإضافة إلى ذلك فإن أحد الخصمين قد يكون ألحن من الآخـر بحجته، لذلك قد يكون حكمه على خلاف باطن الأمر وحقيقته.

وهنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلن للأمة: فإن حدث ذلك، وقضى لأحد من حق أخيه شيئا فلا يأخذنَّه، فإن حكم الحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلَا يَأْخُذْهُ). فقضاؤه له بشيء من حق أخيـه لما سمع منه من إظهار حجة أوجبت له ذلـك من دعوى باطل عجـز المحـق عن إنكاره أو إنكار حق عجـز المحـق عن إثباتـه، فإن ذلـك لا يملكـه من حكم له به ولا يبيحه له، فلا يجـوز للمقضي له أخذه إذا علم أنـه لا يحل له فيما بينه وبين الله([9])، فلا يتذرع بقضاء القاضي ويقول: أنا قُضِيَ لي بهـذا، أو حَكَمَ لي الحاكـم بهـذا، بل عليـه أن يعيده إلى صاحبه.

هذا، فإن تكليف الله ـ تعالى ـ عباده بحكم الظاهر لا الباطن جزء من رحمته الواسعة، وفي تكليفه ـ تعالى ـ رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالشيء نفسه تأنيسٌ لأمته ورأفة عليهم([10]). 

أكد النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هـذا القصر على أن حكمـه مبني على ظاهـر الحجج والدعوى تمهيدا لما يأتي بعـده من إقراره ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنه قد يحصل منه الحكم على خلاف باطن الأمر وحقيقته. فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصر قضاءه للخصوم على تعلقه وارتباطه بما يسمع منهم من دعوى وحجج ونحو ذلك، وهو قصر موصوف على صفة على سبيل القصر الإضافي للقلب، ردّا على من يعتقد أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قضائه ينفذ إلى باطنالأمور، ولا يقبـل منـه حصول القضاء على خلاف الباطن والحقيقة. فأثبت بهذا القصر لقضائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صفـة كونـه متعلقا ومرتبطا بظاهر ما يسمع من الخصوم، ونفى عنه صفة كونه نافذا إلى باطن الأمر. وعبر هذا القصر بطريق (إنما) خاصة، لأنه قد مهد لهذا المعنى القصري بما سبقه من الكلام في الحديث كما ذكرنا سابقا، بالإضافة إلى أنه من المعلوم أن أحكام الشريعة مبنية على الظاهر، فكأن هذا المعنى قد وضح لمن يحسن فهم الكلام.

والقصر في هـذا الموضع وقع بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل الصادر من فاعلـه مع ما يتعلق عليـه من الجار والمجرور (أَقْضِي لَكُمْ) على الجار والمجرور (عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْكُمْ)، وفي التعبير بالجملة الفعلية مع كون الفعل مضارعـا دلالـة على معنى الحدوث والتجدد، فإن قضاءه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحدث ويتجدد بتجدد الخصومات التي يحتكم إليه فيها. ولفظ القضاء يفيد أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصل الأمر بينهم على التمام، ويحرص على صحة الحكم وعدله، إذ إنه سيد القضاة، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يقضي إلا بالحق، ولم يحدث ولن يحدث منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي سهـو أو خطأ في ذلك، وإن كان حدوث ذلك منه جائزا. فلو يحدث ذلك على نحو ما يُشْعِر به في كلامه، فإن ذلك على سبيل الافتراض، قصدا لتعليم الأمة ما يعمله عند حدوث ذلك من أي واحـد يتولى مسؤولية القضاء. ثم إن ما حكـم بخلاف الباطن لم يكن خطأه، بل الخطأ خطأ بعض الخصوم للحنهم بحجتهم كما سبق شرح ذلك. ولم يعبر بلفظ(الحكم) هنـا، لأن الحكم يقتضي المنـع عن الخصومـة، فاختيار لفظ القضاء أدق وأنسب في هذا السياق. قـال أبو هلال العسكري ـ رحمـه الله تعالى ـ حول الفرق بين القضاء والحكـم: «أن القضاء يقتضي فصل الأمر على التمام من قولك: قضاه إذا أتمـه وقطع عمله، ومنه قولـه ـ تعالى ـ: ﴿ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا[الأنعام: 2] أي: فصل الحكم به...»([11]) وقال: «والحكم يقتضي المنـع عن الخصومـة من قولك: أحكمته إذا منعته. قال الشاعر([12]): 

أبَني حَنيفَةَ أحكِمُوا سُفهاءكُمْ

إني أخافُ عليكمُ أنْ أغضَبا

ويجوز أن يقال: الحكم فصل الأمر على الأحكام بما يقتضيه العقل والشرع، فإذا قيل: حكم بالباطل، فمعناه أنه جعل الباطل موضع الحق، ويستعمل الحكم في مواضـع لا يستعمل فيهـا القضاء، كقولـك: حكم هـذا كحكم هذا، أي: هما متماثلان في السبب أو العلة أو نحو ذلك»([13]). 

والمقصور عليـه (عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْكُمْ)، جـاء فيـه المجرور اسم نكرة موصوفة بالجار والمجرور، «ومن في مما بمعنى لأجل أو بمعنى على، أي أقضي على الظاهـر من كلامـه»([14]). والنحو «قصد الشيء من وجـه واحد، يقال: نحوته إذا قصدته من وجـه واحـد»([15]). فالحكم قائم على وجه واحد وهو الظاهر، ولم ينفذ إلى الباطن، لأنـه لا يعلـم الباطن إلا الله ـ سبحانـه وتعالى ـ . وفي ثنايـا كل هذه الألفاظ إشارة إلى وجه براءة القاضي من وزر خطأ حكمه، لأنه يقضي على ما يُظهره لـه الخصوم من الحجج والبينات، وإنما وزره على من يلحـن بحججـه بخـلاف الواقع والحقيقة. وفي حذف المفعول به للفعل (أسمع) تخييل السامع لما يدلي به كلٌّ من الخصمين إلى القاضي، وما يقدمانه من الحجج ليطمع كل واحد في أن يقضي له على صاحبه، وفيه كذلك إفادة معنى الشمول، حيث يشمل السماع كل ما يقدمه كلا الخصمين مما يتعلق بالقضية، فضلا إلى ما فيه من الإيجاز والاختصار في العبارة كما لا يخفى. هكذا يكون شأن القضاة يسمعون ما يقدمه الخصوم من كل جوانبه، وينظر فيه حرصا على التحري بالصحة والدقة والعدل في القضاء.

ثم لفـظ السماع يقال لما كان بقصد، وكذلـك لما كان بدون قصد، بخلاف الاستماع، فإنه يقال لما كان بقصد([16])، فكأن فيه إشارةً إلى أن ما يقدمه الخصوم، منه ما يكون مطلوبا منه من قبل القاضي، ومنه ما يكون تقديمه من غير الطلب، وإنما قدمه الخصم لإدلاء القاضي به حتى يكون القضاء في مصلحته.

هـذا، وقـد استفاد العلماء من معنى هذا القصر أن الحاكم لا يحكم بعلمه. وفي تفصيل هذا اختلاف بين العلماء من حيث إطلاقـه أو تقييده، وذلك مبسوط ذكره في شروح الحديث لا داعي لنقله ههنا([17]). 

وهنا أرشـد سيـد القُضاة ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن يتولى الحكم والقضاء إلى منهج قويم في ذلك، ومنحهم فسحـة كبيرة، فإنهم لا يكلفون بشيء غاب عنهم، بل يقضون حسب البينات التي بين أيديهم، فإن أخطأوا فلهم أجر، وإن أصابوا فلهم أجران، كما صرح بذلك في حديث آخر، حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وإذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»([18]). ولا يكلفون ما وراء ذلك، لأنه لا يعلم الغيب إلا الله ـ عز وجل ـ .

ثم زاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأكيده لهذا النهي، فعللـه بجملة قصرية شنّع فيها أمر ما يقضى لواحد من حق أخيه للحنـه بحجته، تنفيرا للأمة من أخذ شيء من حق أخيه يقضى له عن طريق الخطأ. فجاء الموضع الثالث للقصر.

الموضع الثالث: قولـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَـهُ قِطْعَـةً مِنْ النَّـارِ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ)، قصر فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يقطع لواحد عن طريق الخطأ على كونه قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة.

وقد شارك أسلوب القصر لون آخر من ألوان البلاغـة في تأكيد النهي عن أخذ أي شخص ما قضي له عن طريق خلاف الحقيقة للحنه بحجته، وتشنيع أمر هـذا الأخذ، وهو مجاز مرسل حيث أطلـق لفظ (قطعة من النار)، وأريد ما أخذ من حـق غيره. والعلاقـة المسوغة لهذا الإطلاق هو اعتبار ما سيكون، لأن الذي أخذ سيكون يوم القيامة قطعة من النار يعذب بها. أو تكون العلاقة مسببية، لأن هذه القطعة من النار مسببة لأخذه ما ليس بحقه. وهذا الأخير أجود لوجود سبب يترتب عليه هذا الواقع يوم القيامة. وفي هذا التعبير ما لا يخفى من إيجاز في العبارة، وتهويل للأمر من خلال إبراز سببه وتسجيل نتيجته. قال الباجي ـ رحمه الله تعالى ـ: «يريد ـ والله أعلـم ـ قطعة من العـذاب، كقولـه ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا[النساء: 10]، يعني ـ والله أعلم ـ ما يعذبون عليه بالنار، وقد يوصف الشيء بما يئـول إليه ويكون سببا له، ولذلك يوصف الشجاع بالموت. قال الشاعر([19]):

يَا أيُّها الرَّاكِبُ المُزْجِي مَطِيَّتَهُ

سَائِلْ بَني أسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ

وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالعُذْرِ وَالتَمِسُوا

وَجْهاً يُنَجِّيكُمْ إنِّي أنَا المَوْتُ([20])

فوصـف نفسـه بأنـه الموت، يريد أنـه سبب بشجاعتـه وقلـة سلامـة مَن يحاربه مِن الموت»([21]). 

وقال أبو العباس القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وقوله: (فإنَّما أقطع له قطعة من النار) أي: ما يأخذه بغير حقه سببٌ يوصل آخذه إلى النَّار. وهو تمثيل يفهم منه شدة العذاب والتنكيل»([22]). 

ومن خلال هـذا التعليل أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن حكم الحاكم إذا كان قد بناه على ما ظهر وخالف باطن الأمر وحقيقته، فإنه لا يحرم الحلال ولا يحل الحرام، فعلى من قُضي له بحق أخيه وهو يعلم أنه مبطل ألا يأخذ ذلك الحق، بل عليه أن يرد الحق إلى صاحبه، لأنه إن أخذه فإنه يعاقب عليه يوم القيامة ويعذب به في نار جهنم.

ثم زاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فظاعـة هـذه الصورة وبشاعتهـا مـن خـلال إيرادهـا بأسلوب القصر، فقصر هذا السبب على عقبى أليمـة، وهي قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة. وقد أوقع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا القصر كذلك بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل الصادر من فاعله مع ما يتعلق عليه من الجار والمجرور (أَقْطَعُ لَهُ) على المفعول به (قِطْعَةً مِنْ النَّار يَأْتِي بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ). والجملـة الفعليـة كما في القصر السابق تفيد تجدد هذه العقبى بتجدد سببها. وفي إيراد القصر بطريق (إنما) زيادة تشنيع لهـذه العقبى الأليمـة، حيث جعلها أمرا معلوما مؤكدا لا يخفى على من يؤمن بالله واليوم الآخـر. كما وضح هـذا التأكيد والتقرير في رواية أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، حيث أناب فيهـا هذه الجملـة القصريـة مكـان جـزاء الجملـة الشرطيـة، فإن في ذلـك إشارة إلى أن هـذه العقبى لازمـة لأخـذ حق الغير لزوم الجزاء لشرطه.

وفي التعبير عن معنى القضاء بلفـظ القطع نكتـة دقيقة، يوحي أن القضاء على خلاف الحقيقة للحن الخصم بحجته لا ينقل حق ما قضي له من صاحبه إليه، وأنه لا ينفصل عن حق صاحبه، وذلك لأن لفظ القطع فيه معنى عدم زوال تعلق المقطوع بالمقطوع منه بوجه ما. وقـد ذكـر أبو هلال العسكري ـ رحمه الله تعالى ـ عند بيانه الفرق الدقيق بين الفصل والقطع: «أن الفصل هو القطع الظاهر، ولهذا يقال: فصل الثوب؛ والقطع يكون ظاهرا وخافيا كالقطع في الشيء الملزق المموّه، ولا يقال لذلك: فصل حتى يَبين أحد المفصولين عن الآخر، ومن ثم يقال: فصل بين الخصمين إذا ظهر الحـق على أحدهمـا فزال تعلـق أحدهمـا بصاحبـه فتباينا. ولا يقال في ذلك: قطع، ويقال: قطعه في المناظرة لأنه قد يكون ذلك من غير أن يظهر، ومن غير أن يقطع شغبه وخصومته»([23]). 

وهذا القصر من قبيل قصر الموصوف على الصفة، حيث قصر ما يقطع لأحد من غير حقه على صفة كونه قطعة من النار، ونفى عنه كونه عين ما يقطع. فهو على سبيل القصر الإضافي للقلب ردا على اعتقاد من قطع له، فإنه يعتقد أن ما قطع له هو عين ذلك الشيء، ولا يكون قطعـة من النار، لأنـه حصل ذلـك بالحكم لـه، فعكس له اعتقاده من خلال أسلوب القصر.

هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام النهي والتحذير عن المنكر، ووقع في ثلاثـة مواضـع من الحديث الشريف، فقـد دقـق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توظيفـه في كل موضع، فخـدم كل منهـا في توصيل مقصد الحديث للأمة، فمهد وأكد وعلل له كما رأينا. وبذلك كله حقق تنفير الأمة مما نهوا عنه إلى حد كبير. ورحم الله الإمام الشعراوي إذ يقول: «فردَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحكم إلى ذات المحكوم له، ونصحه أنْ يراجعَ نفسه وينظر فيما يستحق، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشر يقضي كما يقضي البشر، ولكن إنْ عَمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمِّيَ على قضاء السماء»([24]). 

وقـد وفـق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ  في اختـاره (إنما) لهـذه المواضع الثلاثة، فإنها هي الأنسب لهذه المواضع في هذا المقام، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصر في الموضع الأول نفسه على صفـة البشريـة، والحقيقـة أن كونـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحدا من البشر أمر واضح لا يجهله ولا ينكره أحد، فلا يحتاج إثباته إلى مزيد من التأكيد مثل ما في (النفي والاستثناء)، لكن فـرط الحـب والاحترام للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أنسى بعض الصحابة هذه الحقيقة الثابتة، فذكّرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياها، ونبههم عليها بأدنى تأكيد. وفي الموضع الثاني قصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضاءه على كونـه على نحـو ممـا يسمع من الخصوم، وهذا أيضا من الأمور الواضحـة التي لا يحتاج إثباتهـا إلى مثل ما في (النفي والاستثناء) من قوة التأكيد، وذلك أنه من المعلوم أن أحكام الشريعة مبنية على الظاهر، لأن الإنسان لا يعلم إلا ظواهر الأمور، وأما علم بواطنها فعند الله ـ عز وجل ـ، وقد اعترف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل هذا القصر من خلال قصر آخر بأنه واحد من البشر كما وقفنا عندذلك سابقـاً، فواضح أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحكم بظواهر الأمور. أما في الموضع الثالث فقد قصر فيـه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يقطعه لواحد عن طريق الخطأ على كونه قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة. وهـذا الأمر فيـه خفـاء ولم يكن من الأمور الواضحة كما في الموضعين السابقين، فعلى الظاهر يحتاج إثباتـه إلى مزيد من التأكيد مثل استخدام (النفي والاستثناء). ومع ذلك أورده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بطريق (إنما) تنزيلا غير المعلوم منزلة المعلوم، مبالغة في التشنيع لتلك العقبى الأليمة، وتنفير الأمة من أخذ ما حكمله عن طريق الخطأ.      

 

*  *  *

 

 



([1])   سنن ابن ماجه: كتاب الأحكام باب قضية الحاكم لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، حديث رقم: 2317/ 2318.

([2])   ينظر: معالم السنن: ج4 ص163.

([3])   ينظر: المنتقي شرح الموطأ: ج7 ص129؛ المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: ج5 ص153؛ شـرح أبي عبد الله الزرقاني (1055 ـ 1122ﻫ) على موطـأ ابن مالـك: ج3 ص176، المطبعة الخيرية.

([4])   فتح الباري لابن حجر: ج13 ص185.

([5])   شرح الزرقاني على الموطأ: ج3 ص176.

([6])   ينظر: المنتقي شرح الموطأ: ج7 ص136؛ شرح الزرقاني على الموطأ: ج3 ص176.

([7])   النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (لحن).

([8])   التمهيد والاستذكار لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البرّ المتوفى سنة 463ﻫ: ج18 ص7، ضمن موسوعة شروح الموطأ.

([9])   ينظر: معالم السنن: ج4 ص163؛ المنتقي شرح الموطأ: ج7 ص136.

([10])   قال الإمام النووي ـ رحمـه الله تعالى ـ: «ولو شاء الله ـ تعالى ـ لأطلعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على باطن أمـر الخصمين، فحكـم بيقين نفسه من غير حاجـة إلى شهـادة أو يمين، لكن لما أمر الله ـ تعالى ـ أمته باتباعه والاقتداء بأقواله وأفعاله وأحكامه أجرى له حكمهم في عدم الاطلاع على باطن الأمور ليكون حكم الأمـة في ذلك حكمه، فأجرى الله ـ تعالى ـ أحكامه على الظاهر الذي يستوي فيـه هـو وغـيره ليصح الاقتـداء به وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن. فإن قيل: هذا الحديث ظاهره أنه قد يقع منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكم في الظاهر مخالف للباطن وقد اتفق الأصوليون على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يقر على خطأ في الأحكام؟ فالجواب: أنه لا تعـارض بين الحديث وقاعدة الأصوليين لأن مراد الأصوليين فيما حكـم فيه باجتهاده، فهل يجوز أن يقع فيه خطأ؟ فيه خلاف، الأكثرون على جوازه، ومنهم من منعـه، فالذين جوزوه قالوا: لا يقر على إمضائه، بل يعلمـه الله ـ تعالى ـ به ويتداركه. وأما الذي في الحديث فمعناه إذا حكم بغير اجتهاد كالبينة واليمين، فهذا إذا وقـع منـه ما يخالف ظاهره باطنه لا يسمى الحكم خطأ، بل الحكم صحيح بناء على ما استقر به التكليف وهو وجوب العمل بشاهدين مثلا، فإن كانا شاهدي زور أو نحو ذلك فالتقصير منهما وممن ساعدهما، وأما الحاكم فلا حيلة له في ذلك ولا عيب عليه بسببـه، بخـلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد، فإن هذا الذي حكم به ليس هو حكم الشرع. والله أعلم.» شرح النووي على صحيح مسلم: ج12 ص5 ـ 6.

([11])   الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري: ص190.

([12])   الشاعر هو جرير. والبيت في ديوان جرير: ص47، دار بيروت للطباعة والنشر ـ بيروت، 1406ﻫ ـ 1986م.

([13])   الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري: ص190.

([14])   شرح الزرقاني على الموطأ: ج3 ص177.

([15])   الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري: ص126 ـ 127.

([16])   المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، لأحمـد بن محمد بن علي المقري الفيومي المتوفى سنة 770ﻫ: ج1 ص392، وزارة المعارف العمومية، المطبعة الأميرية بالقاهرة، الطبعة الخامسة 1922م.

([17])   ينظر: شرح السنة للإمام البغوي: ج10 ص111 ـ 112؛ المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: ج5 ص155 وما بعدها؛ عمدة القاري: ج13 ص8.

([18])   صحيح البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، حديث رقم: 7352؛ صحيح مسلم: كتاب الأقضية باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، حديث رقم: 1716.

([19])   هو رُوَيْشِدُ بن كثير الطائي، من الشعراء الذين ليس لهـم ذكر في الشعر وشعره متوسط في الطبقة وهو جاهلي.

([20])   الشطر الثاني من البيت الثاني في ديـوان الحماسـة: «قَوْلاً يُبَرّئُكُمْ إنِّي أنَا المَوْتُ». المزجي: السائـق؛ وفي وجه تأنيث (الصوت): قال ابن منظور ـ رحمه الله تعالى ـ: «فإنما أنّثه لأنه أراد به الضوضاء والجلبة على معنى الصيحة أو الاستغاثة.» ينظر: ديوان الحماسة لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي: ج1 ص38 ـ 39، مطبعـة التوفيق بشـارع كلـوت بك بمصر 1322ﻫ؛ لسان العرب: مادة (صوت).

([21])   المنتقي شرح الموطأ: ج7 ص138.

([22])   المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: ج5 ص158.

([23])   الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري: ص151.

([24])   تفسير الشعراوي: ج13 ص8344.

الموضوعات