جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الأدب من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الأدب من سنن ابن ماجه

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجه بسنده عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَأَنَا مُضْطَجِعٌ عَلَى بَطْنِي، فَرَكَضَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ: «يَا جُنَيْدِبُ!إِنَّمَا هَذِهِ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ»([1]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هو تأديب الأمة ونهيهم عن الاضطجاع على البطن من غير عذر([2]). 

* عناصر بناء الحديث:

جاء قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جملتين موجزتين: جملـة النداء نبه به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المخاطب من غفلته (يَا جُنَيْدِبُ)، حيث إنه فعل ما يخالف الأدب الإسلامي (وَأَنَا مُضْطَجِعٌ عَلَى بَطْنِي)؛ وجملة القصر هدد بهـا ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذه المخالفـة (إِنَّمَا هَذِهِ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

وردت الجملة القصرية (إِنَّمَا هَذِهِ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ) لإنكار تلك الضجعة المخالفة للأدب الإسلامي، مليئـة بالتهديـد والوعيـد. وقد أنكرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعلا وقولا، حيث ركض أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ بالرجل (فَرَكَضَنِي بِرِجْلِهِ)، وهذا الفعل منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنكار فعلي لتلك الضجعة. ثم أنكرها قولا إذ جعل هذه الضجعة ضجعة أهل النار (إِنَّمَا هَذِهِ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ)، منبها له أولا بنداء طويل لإيقاظه منغفلته البعيدة، لأنه بهذا الاضطجاع قد خالف الأدب الإسلامي ووقع في غفلة، لذلك ناداه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نداء طويلا تنزيلا لبعده المعنوي منزلة البعد الحسي.

هـدد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهـذا القصر المخاطب، وكذلك من تقـع منـه مثل هذه المخالفة، هددهم بدخول النار يوم القيامة، لأن هذه الضجعة ضجعة أهل النار، فمن يضطجع هذه الضجعة يدخل في صـف مشابهـة أهـل النـار. والعيـاذ بالله ـ تعالى ـ!

وزيادة لهذا التهديد أورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسلوب القصر بطريق (إنما)، مشيرا إلى أن كون تلك الضِجعة ضجعةَ أهل النار أمر واضح معلوم، وإن كان المخاطب قد غفله وتجاهله. وقد أخبرنا ربنا ـ عز وجل ـ عن أهل النار: ﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ[القمر: 48] هنا كـأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَرَض للمخاطب الحقيقة، ثم تركه يختار بنفسه ما يشاء، لأن من له أدنى عقل لا يخطئ في اختياره بعد ذلك التبيين وهذا التهديد، فمن شاء فليضطجع كما يشاء، ثم ينتظر دخول النار؛ ومن شاء فليترك هذه الضجعة، ويبتعد عن النار.

وبهذا يظهر أن كراهة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الضجعة وإنكاره لها كأن سبب ذلك هو أن فيها مشابهة أهل النار، وأنها نومة جَهنمية، نومة يبغضها الله ـ تعالى ـ([3]). 

القصر هنـا وقع بين أجزاء الجملـة الاسميـة حيث قصر المبتدأ (هَذِهِ) على خبره (ضِجْعَة أَهْلِ النَّارِ)، وتعريف المقصور باسم الإشارة (هَذِهِ) للتحقير، أي: أن الاضطجاع على البطن شيء حقير لا يليق بشأن الإنسان الذي كرمه الله ـ عز وجل ـ، وعلى الأخص لا يليق بشأن المؤمنين. وفي المقصور عليه جاء المضاف اسمالهيئة (ضِجْعَة)، إشارة إلى أن ما أنكر عليه هي هذه الهيئة من الاضطجاع المشابهة لضجعة أهـل النار، لا مطلـق الاضطجاع. قـال ابـن الأثير ـ رحمـه الله تعالى ـ: «الضِّجْعة بالكسر من الاضطجاع، وهـو النوم، كالجِلْسة من الجلوس، وبفتحها المرّة الواحدة»([4]). 

وهذا القصر قصر موصوف على صفـة، قصر الموصوف اسم الإشارة (هَذِهِ) المشار إلى الاضطجاع على البطن على الصفة (ضِجْعَة أَهْلِ النَّارِ). وذلك على سبيل القصر الحقيقي المبني على المبالغة، حيث أثبت فيه لذلك الاضطجاع صفة كونه ضجعة أهل النار، ونفى عنه غيرها من الصفات على سبيل العموم، غير أن هناكصفات أخرى له. ومع ذلك فقد قصره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صفة واحدة (ضِجْعَة أَهْلِ النَّارِ)، مبالغة في التنفير من ذلك النوع من الاضطجاع، والتهديد على ذلك.

هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام إنكار المنكر وتأديب الأمة، فحذر به الأمـة من نوع من أنواع سوء الأدب، وهدد من يقع فيه بأشد العقاب وسوء المصير، حذر من الاضطجاع على البطن، وهدد من يضطجع على هذه الهيئة بدخول النار، حملا للأمة على ترك هذه الضجعة المخالفة لأدب الإسلام، وغيرها من سوء الأدب، وحثـا لهم على الاتصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب. واستخدام طريق (إنما) هو الأليق بهذا المقـام، لأن فيه ما ليس في غيره من طرق القصر مثل (النفي والاستثناء) من زيادة التهديد الذي يقصد الحديث، حيث جعل كون تلك الضِجعـة ضجعةَ أهل النـار من الأمور الثابتة الواضحة، وإن كان في الواقع من الأمور الغيبية قد غفله بعض الناس وتجاهلـه، تنزيلا لغير المعلوم منزلـة المعلوم، مبالغة في تحذير الأمة من تلك الضجعة الكريهة.

*  *  *

روى ابن ماجـه بسنده عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ، فَحُدِّثَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِشَأْنِهِمْ، فَقَالَ: «إِنَّمَا هَذِهِ النَّارُ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ»([5]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هو الأمر بإطفاء النار عند النوم حماية للنفوس والأموال.

* عناصر بناء الحديث:

لتحقيق هذا المقصد جاء الحديث في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجملتين موجزتين: جملـة قصرية بيّن ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها شأن النار ممهدا لأمره الذي يأتي في الجملة اللاحقة (إِنَّمَا هَذِهِ النَّارُ عَدُوٌّ لَكُمْ)؛ وجملـة شرطيـة أمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها الأمة بإطفاء النار عند النوم (فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ)، حمايـة للنفوس والأمـوال، لأن الحديث ورد في سيـاق احتراق بيت بالمدينـة كما ذكره راوي الحديث حيث قال (احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ، فَحُدِّثَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِشَأْنِهِمْ.).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

أورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولـه المبيِّن شـأنَ النـار بأسلوب القصر (إِنَّمَا هَـذِهِ النَّارُ عَدُوٌّ لَكُمْ) لتأكيد خطـورة النار على النفوس والأموال في حالة الغفلة عنها. وقد تجلّت هذه الخطورة فعلا بينهم، حيث (احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ). وقد بالغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تأكيـد هـذه الخطورة حيث قصر النار على صفة العداوة للناس، ولأجل هذا أمر بإطفائها عند النوم (فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ). فالجملة الأولى القصريـة كالسبب للأمر الوارد في الجملـة الثانيـة، لذلـك جاءت الجملـة الثانية مصدرة بفاء السببية.

وقـد زاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأكيد خطـورة هـذا السبب مـن خـلال تدقيقـه في اختيـار طريق القصر، حيث اختـار طريق (إنما) إشـارة إلى ظهـور عـداوة النـار للناس وخطورتها، كأنهـا بظهورها الواضح وخطورتها البالغة لا تخفى على أحد عداوتها.

هكذا أمـر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإطفـاء النـار قبل النوم، وعلـل ذلـك بأن النـار عـدو للإنسان، إشارة إلى ما يكـون في تركهـا من تعريضـه للهـلاك، وتعريض أموالـه للإحراق والتلف. وهذا الأمر أو الإرشاد منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مراعاة للسلامة، مراعاة لحماية النفوس والأموال والبيئة([6]). 

وقع القصر بين أجزاء الجملة الاسمية، حيث قصر المبتدأ على خبره، قصر المبتدأ اسم الإشارة مع المشار إليـه (هذه النار) على الخبر (عدو لكم). وهو قصر موصوف على صفـة، قصر الموصوف (النار) على صفـة (العـداوة) للمخاطبين. وذلـك على سبيل القصر الحقيقي المبني على المبالغـة، حيث أثبت فيـه للنار صفة العداوة، ونفى عنهـا غيرهـا من الصفات على وجه العموم، غير أنه في الواقع أن للنـار صفات أخرى قد يصعب إحصاؤهـا. ومع ذلك قصرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صفـة واحـدة وهي عداوتها للناس، مبالغـة في تصويـر خطورتهـا على النفوس والأمـوال إن غفـل عنهـا، وتأكيدا لضرورة إطفائهـا عنـد النوم، فإنهـا قـد تجـر خطورتها عندئذ من حيث لا يشعر. قال ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ: «هكذا أورده بصيغة الحصر مبالغة في تأكيد ذلك»([7]). 

وقال الإمـام الحافظ ابن العربي ـ رحمه الله تعالى ـ في معنى كون النار عدوا لكم: «أنها تنافي أموالكم وأبدانكم على الإطلاق منافاة العدو، ولكن تتصل منفعتها بكم بوسائط، فذكره العداوة مجاز لوجود معناها فيها»([8]). 

الجملـة الاسميـة تدل على ثبوت هذه الصفة صفة العداوة للنار ودوامها، فهي لا تنفصل عنهـا أبدا ما دامت مشتعلـة، وبذلك تنبيها للأمة على أن يحذروا من عداوتها وخطورتها في كل حين، وعلى الأخص عند نومهم، فإن ذلك الوقت هو وقت يسهل فيه الغفلة عنها.

ثم تعريف المقصور باسم الإشارة لتمييزه أكمل التمييز، كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشير إلى نوع معين من النار، وهي نار مهلكة، كهذه النار التي حرقت بيتا بالمدينة كما ذكر راوي الحديث، وهي نار أغفل عنهـا صاحبها، فالنار المغفـل عنها هي التي تمثل خطورة على النفوس والأموال، وهي عدو للناس. أما النار التي لم يغفل عنها، فإنها غالبا تجلب المنافع للناس، فلم تكن عدوا، بل هي صديقة للناس. إضافة إلى ذلك فإن في هذه الإشارة تهويلا لخطورة النار، فكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذه الإشارة أرى المخاطبين واقع هذه الخطورة، كأنه إثبات الدعوى بالأدلة والبراهين.

وبعد هذه التأكيدات وضحت خطورة النار إن أُغفل عنها إلى حد كبير، لذا أمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بل أمر الأمة كلها بإطفاء النار عند النوم (فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ). كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: فما دمتم قد وقفتم على خطورة النار، ووضحت لكم عداوتها، فما لكم إلا الأخـذ بالحذر منها، فلا تغفلوا عنها لحظة. فأطفئوا النيران عند النوم، فإن النار كما عرفتم من أخطر أعدائكم، يخشى عليكم أن تشتعل فتحرق البيت وتحرقكم وأنتم غارقون في نومكم([9]). 

هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام الإرشاد، فمهد للإرشاد الوارد في الحديث وعللـه وبين حكمتـه، ليكون أدخل في الاعتبار، وأسرع إلى الإجابة. وبذلك أسهم بحظ كبير في تحقيق الهدف الذي يرمي إليه الحديث الشريف. ومنخلال هذا الإرشاد النبوي يتجلى «أن الإسلام دين جـاء لخير الإنسانية في الدنيا والآخـرة، جـاء لعمارة الأرض، وحمايـة الإنسان من الأضرار التي قد تصيبه من مخلوقات محيطة به، جاء ليحفظ النفس، ويحذرها من أن تلقي بيدها إلى ما يؤذيها، جاء يرشد ابن آدم إلى ما ينفعه، ويحذره مما يضره. فليس الإسلام دين صلاة وصيام وحج وزكـاة فحسب، بل هناك من الأعمال الدنيوية ما هو طاعـة يثاب عليها، فحماية النفس، وحماية البيئة، وحماية الأموال مطلوب شرعي، ونفع مادي»([10]). 

واختيار طريق (إنما) هو الأليق بهذا المقام، لأن ما يفيده هذا الطريق من معنى الوضوح يناسب هذا المقام، فبتذكير الأمة وضوح خطورة النار حذّرهم من الغفلة عنها، ثم إرشادهم إلى كيفية التوقي من خطورتها.

 

 

*  *  *

 

 



([1])   سنن ابن ماجـه: كتاب الأدب باب النهـي عن الاضطجاع على الوجـه، حديث رقم: 3724.

([2])   الاضطجاع على البطن، أي على الوجه. ظاهر الحديث يفيد أنه لا يجوز، وأنه ضجعة أهل النار، ولعل ذلك إشارة إلى قول الله ـ تعالى ـ في الكافرين: ﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر: 48]. وهذا محمول على الاختيار، أما في حال الضرورة كالمريض إذا احتاج إلى أن ينام على وجهه فلا بأس. ينظر: إهداء الديباجة: ج5 ص110.

([3])   ينظر: سنن ابن ماجه: كتاب الأدب باب النهي عن الاضطجاع على الوجه، حديث رقم: 3723/ 3725.

([4])   النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (ضجع).

([5])   سنن ابن ماجه: كتاب الأدب باب إطفاء النار عند المبيت، حديث رقم: 3770.

([6])   ينظر: إهداء الديباجة: ج5 ص147.

([7])   فتح الباري: ج11 ص88.

([8])   عارضة الأحوذي: ج8 ص4.

([9])   ينظر: فتح المنعم: ج8 ص183.

([10])   فتح المنعم: ج8 ص182.

الموضوعات