جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الأشربة من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الأشربة من سنن ابن ماجه

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجه بسنده عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، عَنْ رَسُولِ  الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «إِنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ»([1]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هو النهي عن الشرب في أواني الفضة([2]). 

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث الشريف بجملـة موجزة مؤكـدة مليئة بالتهديد والوعيد لمن يشرب فـي أواني الفضـة (إِنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الفِضَّـةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِـهِ نَارَ جَهَنَّمَ) نهيا للأمة عن استعمال أواني الفضة.

* أسلوب القصر في الحديث وعناصر بنائه:

وقع أسلوب القصر بإنما في هذه الجملـة الموجزة المؤكـدة بحـرف التأكيد«إن» موقعَ خبر «إن» (إِنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ)، في محل الرفع، تصويرا لسوء عاقبة الشارب في أواني الفضة، وتأكيدا له.

وهذا النهي الجازم المؤكـد قد يرجع إلى عين الفضة، وإلى أنها الأثمان وقيم المتلفات، فإذا اتُّخذت أواني قلّت في أيدي الناس، وقـد يكون لأجل دفع السرف والتشبه بفعل الأعاجم، أو لأجل دفع التكبر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء([3]). 

بالغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوعيد والتهديد على من استعمل أواني الفضة والذهب، حيث جعل الذي يشرب فيها كأنما يجرجر في بطنه نار جهنم، بل إنه مقصور على ذلك (إِنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِـهِ نَارَ جَهَنَّمَ) مشيراً بلفـظ (إنما) إلى أن ذلك أمر واضح معلوم، وفيه تنزيل غـير المعلوم منزلة المعلوم لزيادة المبالغة في التهديد، لأن الذي يشرب فيها لا يعترف بأنه يشرب بذلك في بطنه نار جهنم، بل ربما ينكر ذلك. 

قال ابن الأثير ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ) «أي يُحْدِر فيها نار جهنم، فجعل الشُّرب والجَرْع جَرْجَرة، وهي صوت وقوع الماء في الجوف. قال الزمخشري: يُروى برفع النار، والأكثر النصب، وهذا القول مجاز، لأن نار جهنم على الحقيقة لا تُجَرْجِرُ في جوفه. والجرجرة: صوت البعير عند الضجر، ولكنه جعل صوت جَرْع الإنسان للماء في هذه الأواني المخصوصة ـ لوقوع النهي عنهـا واستحقاق العقاب على استعمالهـا ـ كجرجرة نـار جهنم في بطنه من طريق المجاز، هذا وجه رفع النـار. ويكون قد ذكر يُجَرْجرُ بالياء للفصل بينه وبين النار. فأما على النصب فالشارب هو الفاعل، والنار مفعوله، يقال جَرْجَر فلان الماء إذا جرعه جَرْعاً متواتراً له صوت. فالمعنى كأنما يجرع نار جهنم»([4]). 

وقال الإمام المازري ـ رحمه الله تعالى ـ: «وأما قولـه (يُجَرْجِرُ) فقد يريد به يُصَوِّتُ، والجرجرة صوت البعير عنـد الهدير، فعلى هـذا تكون الرواية نار جهنم بالرفع. وقد يكون (يُجَرْجِرُ) بمعنى يتجرع فتكون الرواية على هذا نار جهنم بنصب الراء. وقال الزجاج: يجرجر في جوفه أي يردده في جوفه»([5]). 

و«قيل: معنى هذا أنه يعاقب عليهـا في جهنم، فيحتمل أن يكون العقاب بجنس كسبه، كما جاء في عقاب شارب الخمر غير الحديث، وذلك بأن يسقى المهلَ، أو حميمَ شرابها الذي يوصف بأنه نار أو كالنار، أو يكون أي عقاب عوقب به عليها من شربها المسبب له جرجرته»([6]). 

وقال الإمـام النـووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وأما معنـاه فعلى روايـة النصب الفاعل هو الشارب مضمـر في يجرجر، أي يلقيهـا في بطنه بجرع متتابع يُسمَع لهجرجرة وهو الصوت لتردده في حلقه؛ وعلى رواية الرفع تكون النار فاعله، ومعناه تصوت النارُ في بطنه، والجرجرة هي التصويت. وسمي المشروب نارا لأنه يؤول إليها كما قال ـ تعالى ـ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا[النساء: 10]»([7]) .

وهذا يعني أن العبارة على رواية نصب (نار) تكون من قبيل المجاز المرسل، حيث أطلـق نـار جهنـم وأراد المشروب. والقرينـة هـي أن النار لا تجرجر ـ أي لا تتجرع ـ في البطن، وإنما يجرجر فيها المشروب، والعلاقة المسوغة لهذا الإطلاق هي اعتبار ما سيكون، لأن هذا المشروب الذي شربـه في إناء الفضـة سيؤول إلى النار يوم القيامـة. أو تكون العلاقة المسببية، لأن هذه النار مسببة للشرب في إناء الفضة، وهذا أوجه. وفي هذا المجاز تهديد شديد لمن شرب أو أكل في أواني الذهب أو الفضـة، إذ إنه حين شرب أو أكل في إناء الفضة قد شرب أو أكل ما يفضي به إلى نار جهنم.

وعلى روايـة رفع (نار) تكون (نَار جَهَنَّمَ) كذلـك من قبيل المجاز المرسل، ويكون اللفـظ (يُجَرْجِرُ) بمعنى التصويت، والجرجرة صوت البعـير عند الهدير. فشبه صوت المشروب عند جرعه بالجرجرة، ثم حذف المشبه، واستعير له المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية([8]). وكل ذلك لتصوير سوء عاقبة الشرب في إناء الفضـة، وشدة عقابـه، مبالغة في التهديد والوعيد لمن يشرب فيها. وذكر (فِي بَطْنِهِ) زيادة وتقوية لهذه المبالغة.

والقصر هنـا وقع بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل الصادر من فاعله مع ما يتعلق به من الجـار والمجرور (يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ) على المفعـول بـه (نَار جَهَنَّمَ) باعتبار رواية نصب اللفظ (نَارَ)، أو قصر الفعل مع ما يتعلق عليه من الجار والمجرور (يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ) على فاعله (نَار جَهَنَّمَ) باعتبار رواية رفع اللفظ (نَارُ). وفي الجملة الفعلية مع كون الفعل مضارعا دلالة على حدوث الفعل وتجدده، لأن مفهوم هذه الجملـة القصريـة الواقعـة موقع خبر (إن) عبارة عن عقاب أليم لمن يشرب في إناء الفضة، وسوء عاقبته، وهذا العقاب يحدث ويتجدد بحدوث الشرب وتجدده. و(جَهَنَّمَ) عنـد أكثر النحويين هي لفظـة أعجميـة لا تنصرف للتعريف والعجمية، اسم لنار الآخرة. وسميت بذلك لبعد قعرها، يقال بئر جِهِنّام إذا كانت بعيدةَ القعـر. وقـال بعض اللغويين إنها مشتقـة من الجهومة وهي الغلظ سميت بذلك لغلظ أمرها في العذاب([9]). 

وهـذا القصر بروايـة نصب (نار) يكون قصر موصوف على صفـة، قصر الموصوف (جرجرة الشارب في بطنه) على صفة كونه متعلقاً ومرتبطاً (بنَار جَهَنَّمَ)؛ وبرواية رفع (نار) يكون قصر صفة على موصوف، قصر الصفة (الجرجرة في بطن الشارب) على الموصوف (نَار جَهَنَّمَ).

وعلى الروايتين يكون القصر قصـرا إضافيـا للقلب، حيث إن مـا يدور في النفوس، وعلى الأخـص في نفوس الذيـن يشربون في إناء الفضـة هو أنهـم بهذا الشرب يتجرعون في بطونهـم المشروب الذي يكون في هـذا الإناء، أو أن الـذي يصوت عنـد شربهـم هو المشروب، وهـم ينكرون أن يكون الذي يتجرعونه نار جهنـم، أو أن تكون نار جهنم تصوت في بطونهم. فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رد عليهم ذلك الاعتقاد أو هذا الإنكـار، مثبتـاً لهـم أن ما يتجرعون في بطونهـم هي نار جهنـم، لا المشروب الموضـوع في الإنـاء، أو أن الذي يصوت في بطونهـم هي نار جهنم، لا المشروب. وهذا مبني على التأكيـد والمبالغـة في خطورة الشرب في إناء الفضة وسوء عاقبته، تهديداً ووعيداً لمن يستعمل إناء الفضة بعقاب شديد وعذاب أليم. وقد زاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا التأكيـد أو المبالغة من خلال إيراد القصر بطريق (إنما) مشيراً إلى أن هذا المفهوم معلوم واضح لا يخفى على أحد، ولم يعتد بإنكار الشاربين في إناء الفضة له، فكأن هذا الإنكار لم يكن أصلا.

هكذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنـا في مقام الوعيد والتهديد، وقد تظاهرأسلوب القصر بإنما بعناصره على تشنيع صورة المتوعد عليه، فبالغ في تصوير سوء عاقبة الشرب في إناء الفضة وشدة عقابه، مما أكد تحذير الأمة من استعمال إناء الفضة،وتهديد من يخالف ذلـك بعقاب شديد وعذاب أليم. واستخدام (إنما) هو الأليق بهذا المقام، لأن فيها ما ليس في غيرها من طرق القصر من المبالغة، وذلك أن فيها ادعاء أن جرجرة النـار في بطن الشارب في إناء الفضـة أمر واضح ثابت لا مجال للشك فيه، تنزيلاً لغير المعلوم منزلة المعلوم لزيادة المبالغة في التهديد.

 

*  *  *

 



([1])   سنن ابن ماجه: كتاب الأشربة باب الشرب في آنية الفضة، حديث رقم: 3413.

([2])   هذا ما يدل عليه ظاهر الحديث، غير أنه تدخل في دائرة النهي آنية الذهب، ويدخل فيهاكذلك الأكل وغيره من طرق الاستعمال. هذا ما أجمع عليه العلماء. ينظر: إكمال المعلم: ج6 ص562؛ فتح الباري: ج10 ص100؛ فتح المنعم: ج8 ص321 ـ 322.

([3])   ينظر: المعلم بفوائد مسلم: ج3 ص123؛ إكمال المعلم: ج6 ص562؛ شرح النووي على صحيح مسلم: ج14 ص29.

([4])   النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (جرجر).

([5])   المعلم بفوائد مسلم: ج3 ص123.

([6])   إكمال المعلم: ج6 ص563 ـ 564.

([7])   شرح النووي على صحيح مسلم: ج14 ص28.

([8])   الاستعارة التصريحية: هي ما يصرح فيهـا بلفـظ المشبه به المستعار؛ والاستعارة التبعية: هي ما كان اللفظ المستعار فيها فعلا أو اسما مشتقـا أو حرفا. ينظر: علم البيان للدكتور بسيوني عبد الفتاح فيود: ص169/ 179.

([9])   ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (جهنم)؛ شرح النووي على صحيح مسلم:ج14 ص28.

الموضوعات