جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الأضاحي من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الأضاحي من سنن ابن ماجه

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجـه بسنـده عَنْ عَائِشَـةَ قَالَتْ: إِنَّمَا نَهَى رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ لِجَهْدِ النَّاسِ، ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا([1]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث هو بيان جواز ادّخار لحوم الأضاحي.

* عناصر بناء الحديث:

بينت السيـدة عائشـة ـ رضي الله عنهـا ـ هـذا الحكم في جملتين موجزتين، موضحةً في الأولى منهما سبب نهي النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ادخار لحوم الأضاحي (إِنَّمَا نَهَى رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ لِجَهْدِ النَّاسِ)، ومصرّحةً في الثانية بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رخص ذلك بعد ارتفاع العلة (ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر بإنما في الجملـة الأولى (إِنَّمَا نَهَى رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ لُحُـومِ الأَضَاحِيِّ لِجَهْـدِ النَّاسِ)، تأكيدا لعلـة النهي عن ادخار لحوم الأضاحي، وتمهيدا لجواز ادخارها الذي صرحت به في الجملة الثانية (ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا).

كان الصحابـة ـ رضي الله عنهم ـ لشدة التزامهم بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولطاعتهم المطلقـة لـه، يأتمرون بما أُمـروا ويجتنبون عما نُهـوا، ولا يسألون: لِم أمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكذا؟ ولم نهـى عن كذا؟ وهذه علامة من علامات طاعتهم المطلقة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فعندمـا نهاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ادخار لحوم الأضاحي، نفّذوه في الحال سمعا وطاعة، بل استمروا على تنفيذه سنة بعد سنة في كل ما ذبح من الأضحية، كأنهم يعتقدون أن نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا نهي مطلق لم يوقت بزمن معين.

غير أن النهي في حقيقته نهي مقيد بظروف خاصة، وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان نهى عن ذلـك لجَهْـد الناس في تلك السنـة. فهـذا النهي متوقـف على سببه الخاص وهو جهد الناس، وافتقارهم وحاجتهم إلى من يطعمهم ويتصدق عليهم. فنهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ادخـار لحـوم الأضاحي في هـذه الظروف حثـا لهـم على التصدق بها لسدّ حاجـات هؤلاء المحتاجين. فإذا ما ذهب هذا السبب، وزالت حاجات الناس، رُفع النهي، فلا بأس بادخارها.

أكدت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ هذا المفهوم، حيث أوردت كلامها المبين لسبب النهي بأسلوب القصر، حيث قصرتـه على سبب واحـد وهـو جهد الناس، مشيرةً إلى وضوح ذلك من خلال إيرادها القصر بطريق (إنما). وكل هذه التأكيدات نظراً لما عليـه الصحابـة من شـدة الالتزام والطاعة كما ذكرنا سابقاً، فبذلك يحتاج تصحيح موقفهم إلى شيء من التأكيد.

وبهـذا القصر بيّنت ـ رضي الله عنهـا ـ سبب النهـي وأكدته، وفي الوقت نفسه مهدت لما تصرح بعد ذلك من ترخيص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الادخار (ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا).

والقصر هنـا وقع بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل الصادر من فاعلـه مـع ما يتعلـق عليـه من الجار والمجرور (نَهَى رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ) على المفعول لأجله (لِجَهْدِ النَّاسِ). اختـارت الجملة الفعلية مع كون الفعل ماضيا للدلالـة على حدوث هذا الفعل وانتهائه. فنهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حدث وتحقق، غير أنه مقيد بسببه الخاص، وهذا السبب لم يكن مستمراً أبدياً، فلا يكون الحكم المتعلق به مستمراً أبدياً. فمتى توفر السبب، يتحقق هذا الحكم، فلا يصح الادخار؛ ومتى زال السبب، ذهب الحكم، فلا بأس بالادخار.    

هذا القصر قصر موصوف على صفة، قصر الموصوف (نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن لحوم الأضاحي) على صفة كونه متعلقاً ومرتبطاً بسبب (جهد الناس)، والجَهد ـ بالفتح ـ «المشقـة والغايـة»([2]). وهـو من قبيـل القصـر الإضافي للقلـب، حيث إن الذين لا يدخرونها بعد ارتفاع ذلك الجهد امتثالاً بنهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كأنهم يعتقدون أن نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك كان نهياً مطلقاً لم يكن متوقفا على ظروف خاصة، لأن هـذا هـو سبب عدم ادخارهـم لحـوم الأضاحي بعد ارتفاع جهد الناس. فردت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ على هـذا الاعتقاد، مثبتةً أن ذلك النهي كان نهياً مقيـداً بظروف خاصة، ونافيـةً أن يكون نهيـاً مطلقـاً، وتبعا لذلك أكدت ضمنياً على أن ادخارهـا بعـد ارتفاع جهد الناس لا بأس به، ثم زادت القضية وضوحا وتأكيدا، حيث صرحت بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رخص فيها بعد ارتفاع الجهد.

هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام بيان الحكم، فبين سبب صدور الحكـم، وبذلك أكد على أن الحكم لم يكن حكماً مطلقاً أبدياً، بل إنه مقيد بسببه الخاص، فهو يذهب بذهاب السبب، ويرجع برجوعـه. فالنهي عن ادخار لحوم الأضاحي ثابت عندمـا يكون هناك في المجتمع أناس محتاجون إلى هـذه اللحوم لسد حاجاتهم الأساسية، ولم يكـن هنـاك ما يسدها سوى هذه اللحوم، ولو كان ذلك يحدث في زمننا هذا. فهذا النهي لم يكن منسوخا بالترخيص بعد ذلك([3]). وفي تعليـل السيدة عائشة ـ رضي الله عنهـا ـ هـذا إشارة إلى أن رفع النهي ليس للنسخ، بل لعدم العلة. وفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علته، وذلك أن المرفـوع بالنسـخ لا يحكم بـه أبدا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة([4]). وفي ذلك تتجلى عظمة الإسلام، فإنه دين التعاطف والمواساة، دين المودة والمحبة، دين الترابط بين الأغنياء والفقراء، دين التكافل الاجتماعي، دين تقع فيه مسئولية الجائعين على جيرانهم الأغنياء([5]). 

وقد وُفّقت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ في اختيارها (إنما) طريقا للتعبير عن هذا القصر، فإن هذا الطريق هو الأليق بهذا المقام، لأن القصر هنا جاء لتعليل جواز ادخار لحـوم الأضاحي كما عرفنا مما سبق، فناسب هذا التعليلَ ما تفيده(إنما) من وضوح هذه العلة، فإن العلة كلما تكون أوضح، يكون تأثيرها أقوى، ويكون الحكم المعلَّل بها أقنع.

p p  p



 



([1])   سنن ابن ماجه: كتاب الأضاحي باب ادخار لحوم الأضاحي، حديث رقم: 3159.

([2])   النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (جهد).

([3])   قال بعض العلماء إن النهـي عن ادخـار لحـوم الأضاحي نسـخ، وأن النهي كان خاصا بذلـك العـام. ينظر: فتح الباري: ج9 ص464؛ عمدة القاري: ج21 ص84؛ إرشاد السـاري إلى شرح صحيح البخـاري للعلامـة شهاب الدين أحمـد بن محمـد الخطيب القسطلانـي (851 ـ 923ﻫ): ج8 ص229، المطبعـة الكبرى الأميريـة ببولاق مصر المحمية، الطبعة السابعة 1323ﻫ؛ تحفة الأحوذي: ج5 ص100.

([4])   ينظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: ج5 ص378 ـ 379.

([5])   ينظر: فتح المنعم: ج8 ص90.

الموضوعات