جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الأطعمة من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الأطعمة من سنن ابن ماجه

 

كتبت عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجه بسنده عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا». قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ قَيْسٍ يَسْأَلُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ: أَرَأَيْتَ حَدِيثَ عَطَاءٍ: «لَا يَمْسَحْ أَحَدُكُمْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا» عَمَّنْ هُوَ؟ قَالَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَإِنَّهُ حُدِّثْنَاهُ عَنْ جَابِرٍ،قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ جَابِرٌ عَلَيْنَا، وَإِنَّمَا لَقِيَ عَطَاءٌ جَابِرًا فِي سَنَةٍ جَاوَرَ فِيهَا بِمَكَّةَ([1]). 

* مقصود الحديث:

المقصود مـن الحديث الشريـف هـو بيان أدب مـن آداب الطعـام، وهـو استحباب لعـق الأصابع أو إلعاقها([2]) بعد الفراغ من أكل الطعام قبل مسح اليد بالمنديل، احتراماً للطعام ودفعاً للكبر ومحافظة على النظافة واغتناماً للبركة، «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ البَرَكَةُ؟»([3]) فالله ـ تعالى ـ قد يجعـل بركـة الطعام في جزئه الذي على الأصابع، ويخلق الشبع في الأكل عند لعق الأصابع، فلا يترك شيء من ذلك احتقاراً له لتحصل البركة([4]). 

* عناصر بناء الحديث:

جـاء الحديث في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجملة شرطية (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا) نهى فيها عن مسح اليد قبل لعقها أو إلعاقها. ثم ذكر سفيان ـ رضي الله تعالى عنه ـ الحوار الجاري بين عمر بن قيس وعمرو بن دينـار ـ رضي الله عنهما ـ (سَمِعْتُ عُمَـرَ بْنَ قَيْسٍ يَسْـأَلُ عَمْرَو بْنَ دِينَـارٍ: أَرَأَيْتَ حَدِيثَ عَطَاءٍ: «لَا يَمْسَحْ أَحَدُكُمْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا» عَمَّنْ هُوَ؟ قَالَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَإِنَّهُ حُدِّثْنَاهُ عَنْ جَابِرٍ، قَـالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَطَـاءٍ عَنْ ابْـنِ عَبَّاسٍ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ جَابِرٌ عَلَيْنَا، وَإِنَّمَا لَقِيَ عَطَاءٌ جَابِرًا فِي سَنَةٍ جَاوَرَ فِيهَا بِمَكَّةَ.) بين فيه رواية الحديث.

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصـر بإنما في هذا الحوار الجاري بين عمر بن قيس وعمرو ابن دينار ـ رضي الله عنهما ـ، أورده عمرو بن دينار ـ رضي الله عنه ـ في قوله الذي أثبت فيه أن الذي روى الحديث هو ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ، رواه عنه عطاء ـ رضي الله عنه ـ، ونفى أن يكون الراوي هو جابرا ـ رضي الله عنه ـ . ووقع أسلوب القصر بإنما موقـع التعليل لهـذا النفي (وَإِنَّمَا لَقِيَ عَطَـاءٌ جَابِرًا فِي سَنَـةٍ جَاوَرَ فِيهَا بِمَكَّةَ)، وذلـك أن عمـر بن قيس ـ رضي الله عنه ـ أكد على أن راوي الحديث هو جابر ـ رضي الله عنه ـ معترضا على عمرو بن دينار ـ رضي الله عنه ـ، حيث إن عمرًا ـ رضي الله عنه ـ أخبره أن الراوي هو ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، فرد عليه عمر ـ رضي الله عنه ـ مؤكـدا لـه أن الراوي هو جابر ـ رضي الله عنه ـ، حيث قال (فَإِنَّهُ حُدِّثْنَاهُ عَنْ جَابِرٍ). وكلامه هذا كالتعليل لاعتراضه، كأنه يقول: ليس ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ راوي الحديث، لأن الشأن أن الحديث روي لنا عن جابر ـ رضي الله عنه ـ . لذا جاء كلامه مصدرا بفاء السببية. وهو قد أكد كلامه بحرف التوكيد (إن)، وبضمير الشأن.

نظرا لهـذه التأكيدات فإن الرد عليه يحتاج كذلك إلى مزيد من التأكيد، فرد عليه عمرو بن دينار ـ رضي الله عنه ـ من خـلال جملتين: جملـة أكـد فيهـا على أن الراوي هو ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ، روى عنه عطاء ـ رضي الله عنه ـ قبل قدوم جابـر ـ رضي الله عنـه ـ عليهـم (حَفِظْنَاهُ مِنْ عَطَـاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ جَابِرٌ عَلَيْنَا)؛ وجملة قصرية أكد فيها على أن لقاء عطاء جابراً ـ رضي الله عنهما ـ كان في سنة مجاورته بمكة (وَإِنَّمَا لَقِيَ عَطَاءٌ جَابِرًا فِي سَنَةٍ جَاوَرَ فِيهَا بِمَكَّةَ)، وبهذا نفى أن يكون عطاء ـ رضي الله عنه ـ روى الحديث عن جابر ـ رضي الله عنه ـ، لأنه قد رواه قبل لقائه جابراً ـ رضي الله عنـه ـ، وقرر أنه رواه عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ . فزمن رواية الحديث وزمن اللقاء مختلفان تمام الاختلاف، كأنهما لا يجمعهما جامع، لذا عطف بين الجملتين بالواو، إشارة إلى ما بينهما من تغاير واضح، يجعل أمر رواية الحديث عن جابر ـ رضي الله عنه ـ مردوداً.

جاء القصر بطريق (إنما) لأن زمن اللقاء بين عطاء وجابر ـ رضي الله عنهما ـ معلوم واضح، ثم فيه زيادة التأكيد لنفي رواية عطاء الحديث عن جابر ـ رضي الله عنه ـ، لأن زمن لقائهما معلوم، وزمن رواية الحديث معلوم، ثم من خلال المقارنة بين الزمنين يتضح لنـا أنا لو فرضنـا أن الحديث رواه عطاء ـ رضي الله عنه ـ عن جابر ـ رضي الله عنه ـ للزم أنه رواه عنه قبل لقائـه، وذلك ممتنع، فثبت أن راوي الحديث هو ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ .  

القصر هنا وقع بين أجـزاء الجملـة الفعلية، حيث قصر الفعل الصادر من فاعله والواقع على مفعوله (لَقِيَ عَطَاءٌ جَابِرًا) على ظرف الزمان الجار والمجرور (فِي سَنَةٍ جَاوَرَ فِيهَا بِمَكَّةَ). وفي التعبير بالجملة الفعلية مع كون الفعل ماضياً دلالة على حدوث ذلك الفعل وتحققه، فكأنه يتأكد بها على أن اللقاء بينهما قد حدث وتحقق، لكنه في الزمن المذكور.

وهـذا القصر من قبيل قصـر الموصوف على الصفة، قصر الموصوف (لقاء عطاء جابرا) على صفـة (كونـه في سنـة مجاورته بمكة)، وذلك على سبيل القصر الإضافـي للقلـب، يعكس بـه اعتقـاد المخاطب، حيث إن المخاطب بادّعائـه أن الحديث رواه عطاء ـ رضي الله عنه ـ عن جابر ـ رضي الله عنه ـ كأنه يعتقد أن عطاء ـ رضي الله عنه ـ لقي جابـرا ـ رضي الله عنه ـ قبل هذه السنة المذكورة، وهي سنة مجاورته بمكة، فقلب بهذا القصر اعتقاده، مثبتا أن اللقاء كان في هذه السنة، ونافيا عنـه أن يكون قبلهـا. وبذلك أقام الحجـة على أن الراوي ليس جابرا ـ رضي الله عنه ـ، وقرر أنه هو ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ .

هكذا ورد أسلوب القصر بإنما هنـا في مقـام رد الاعتراض، فاحتج به على نفي موقف المخاطب وعلله، مما أكد على أن الحديث رواه عطاء ـ رضي الله عنه ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنـه ـ، ولم يكن عن جابـر ـ رضي الله عنه ـ . ثم إنه إن صحت روايته عن جابـر ـ رضي الله عنه ـ، فذلـك قد يكون بعد اللقاء بين عطاء وجابر ـ رضي الله عنهما ـ، وذلك في سنة جاور فيها بمكة، غير أن الحديث قد روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قبل قدوم جابر ـ رضي الله عنه ـ، فيحتمل أن عطاء ـ رضي الله عنه ـ رواه عن ابن عبـاس ـ رضي الله عنـه ـ أولاً، ثم رواه عن جابـر ـ رضي الله عنـه ـ ثانيا. ومهما كـان الأمر فإنه من الصحة الثابتة أن الحديث رواه عطاء ـ رضي الله عنه ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ . هكذا يتجلى في ذلك مدى تحري الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بالدقة والصحة في رواية الحديث. وهل بعد ذلك مجال للشك في كتاب الله ـ تعالى ـ وأحاديث رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟!

واستخدام (إنما) هو الأليـق بهـذا المقام، لأن مضمون القصر هنا واضح، ولم ينكره أحد، فلا يحتاج إثباته إلى مثل ما في (النفي والاستثناء) من قوة التأكيد، وإنما أورده عمرو بن دينـار ـ رضي الله عنـه ـ بهـذا الأسلوب على سبيل التذكير والتنبيه، ردّا على اعتراض المخاطب، فإن المخاطب يخالف عمرو بن دينار ـ رضي الله عنـه ـ وينكر رأيه في راوي الحديث كما عرفناه من خلال التحليل السابق، ولكنه لم ينكر مضمون القصر. ردّ عمرو بن دينار ـ رضي الله عنه ـ على اعتراضه من خلالهذا القصر، معلل وجه بطلان اعتراضه، ومستدلا لصحة موقفه.

*  *  *

روى ابن ماجه بسنده عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَـهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ القَدِيدَ». قَالَ أَبُو عَبْد الله: إِسْمَاعِيلُ وَحْدَهُ وَصَلَهُ([5]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هـو ذكـر جانب من جوانب مكارم أخلاق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهو كمال تواضعه.

* عناصر بناء الحديث:

جاء قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لتهدئة رجل ترعد فرائصه([6]) عند تكليم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مكونـاً من ثلاث جمـل: نصـح في الأولى منهـا المخاطب بعدم الخوف منه (هَوِّنْ عَلَيْكَ)؛ معللا في الثانية لنصحه (فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ)، ومؤكداً له في الثالثة (إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ القَدِيدَ).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

وقع أسلوب القصر بإنما في الجملة الثالثة، أكد به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنه واحد من أبنـاء أسرة فقيرة، ليس فيـه شيء من تكبّر الملـوك وقسوتهم وقهرهم (إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ القَدِيدَ)، فقد سبقت بنفي صريح، نفى عن نفسـه ما يتصفه الملك من صفة التكبر والقسوة والقهر وغير ذلك مما يخوّف الناس (فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ). وكل ذلك جاء لتهدئة المخاطب، حيث إنه عندما كلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تهيّبهوأرعدت فرائصه (أَتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُـلٌ فَكَلَّمَـهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ)، كخـوف رجل من ملك جبار. فنصحه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتهوين أمره أو مصاحبته (هَوِّنْ عَلَيْكَ) معللاً لذلك بأنه ليس بملك مخيف، بل إنه واحد من أبناء أسرة فقيرة ليس في قلبه مثقال ذرة تكبرا أو قسوة.

هكذا يكـون نبينـاً ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي بعث ليتمـم مكارم الأخلاق، «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ»([7])، وهو يتواضع لأبنـاء أمته تمام التواضع مع أنه أشرف الخلق على الإطلاق.

وقع القصر هنا بين أجزاء الجملـة الاسمية حيث قصر المبتدأ الضمير (أنا) على خبره (ابن امْرَأَةٍ تَأْكُلُ القَدِيدَ). وفي التعبير بالجملة الاسمية دلالة على الثبوت والدوام، إذ كونه ابن هذه المرأة حقيقـة ثابتـة أبدية. وهذا القصر قصر موصوف على صفة، قصر الموصوف الضمير العائد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أنا) على صفة (البنوة لامرأة تأكل القديد)، بمعنى امرأة فقيرة. فقولـه (تأكل القديد) كناية عن الفقر. والقديد: «اللحـم المملوح المجفف في الشمس، فعيل بمعنى مفعول»([8]). وتمليح اللحم وتجفيفه لإمكان بقائـه مدة أطول ليقتات في تلك المدة، وذلك لقلة اللحم عندهم بسبب الفقـر. وبهذا صور لنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كانت عليه أسرته من حالة الفقر والضعـف، وذلـك لكرمهم وسخائهم، حيث ينفقون ما لهم للمحتاجين، صور تلك الحالة بكل وضوح، وأقام البراهين والأدلة على ذلك، إذ إنهم يأكلون اللحم المجفف المحفوظ منذ وقت طويل.

وهذا القصـر من القصر الإضافي للقلب، حيث إن المخاطب الذي ترعـد فرائصه خوفا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كأنه بهذا يعتقد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كالملك الجبار يأخذ على من يكلمه بكل لفظة، فهو يخاف من أن يقع في شيء عند تكليمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيؤخذ عليه. وعندما رأى النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الخوف نصحه بالتهدئة، وألا يخاف منه ويهون على نفسه أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكلامه ومصاحبته([9])، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يُهاب، إذ إنه ليس بملك جبار مخيف، بل إنه ابن امرأة فقيرة ضعيفة. وبهذا أثبت ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه صفة كونـه ابن امرأة فقيرة ضعيفـة، ونفى عن نفسـه صفة الملك التي من شأنها أن تخيـف النـاس وتقلقهـم. وفي ذلـك يتجلى كمال تواضعه لأبنـاء أمتـه، ورحمته لهم.

هكذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام تهدئـة الخائف القلق، فأكد به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه واحـد من أبناء الأسرة الفقيرة، ولن يكون في نفسه أي شيء من شأنـه يهيب المتكلمين إليـه، كما يهيب الناس من الملك الجبار، بل إنه نبي الرحمة يحب أبناء أمته كحب نفسه، وهو يردد أمام ربه يوم القيامة: «يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي!»([10]) وهكذا كان تواضع نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورحمته، ولا يملك من يقرأ سيرته، ويطلع على صفاته إلا أن يمتلئ قلبه بمحبته. ونبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو سيد الخلق، وخاتم الرسل، وأعلى الناس مكانة في الدنيا والآخرة، بيد أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد الناس تواضعا وأعظمهم رحمة!

وبالتحليل السابق تبين لنـا أن استخدام (إنما) هـو الأليـق بهذا المقام، ولو استخدم غيرهـا من طرق القصر مثل (النفي والاستثناء) لاختل المعنى، وذلك أن في استخدام هذا الطريق إشارة إلى وضوح مضمون القصر، وهو كونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابن امرأة تأكل القديد، ولِم لا يكون هذا الوضوح؟! فإنه قد شهد أصحابه ـ  رضوان الله تعالى عليهم ـ وأخبرونا أنه «خَرَجَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ»([11]). وأنه «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ البُرِّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ»([12]). بالإضافـة إلى ذلـك فإن المقام هنـا ـ كما عرفنا ـ مقام تهدئة الخائف القلق، و(إنما) نفسها هي نوع من التهدئة، لأنها أداة رقيقة خفيفة هادئة كما نعلم. فهل بعد ذلك يمكن استبدالها بغيرها من طرق القصر؟!

*  *  *

روى ابن ماجه بسنده عن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: صَنَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِلنَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خُبْزَةً، وَضَعَتْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ سَمْنٍ ثُمَّ قَالَتْ: اذْهَبْ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَادْعُهُ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أُمِّي تَدْعُوكَ، قَالَ: فَقَـامَ، وَقَالَ لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ النَّاسِ: «قُومُوا»، قَالَ: فَسَبَقْتُهُمْ إِلَيْهَا فَأَخْبَرْتُهَا، فَجَاءَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ: «هَاتِي مَا صَنَعْتِ»، فَقَالَتْ:إِنَّمَا صَنَعْتُهُ لَكَ وَحْدَكَ، فَقَالَ: «هَاتِيهِ»، فَقَالَ: «يَا أنَسُ! أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشْرَةً عَشْرَةً»، قَالَ: فَمَا زِلْتُ أُدْخِلُ عَلَيْهِ عَشْرَةً عَشْرَةً، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَكَانُوا ثَمَانِينَ([13]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث هو ذكر معجزة من معجزات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهو شبع عدد كبير من الأشخاص بطعام يسير معد لرجل واحد.

* عناصر بناء الحديث:

لتحقيق هذا المقصد جاء الحديث بمجموعة من الجمل يمكن تقسيمها إلى أربعة عناصر رئيسية: العنصر الأول: دعوة أم سُليم ـ رضي الله عنها ـ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإكرامـه (صَنَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِلنَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خُبْـزَةً، وَضَعَتْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ سَمْنٍ ثُمَّ قَالَتْ: اذْهَبْ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَادْعُهُ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أُمِّي تَدْعُوكَ.)؛ والعنصرالثاني: دعـوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من معـه للذهاب إلى دعوة أم سليم ـ رضي الله عنها ـ (فَقَـامَ، وَقَالَ لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ النَّاسِ: «قُومُوا»، قَالَ: فَسَبَقْتُهُمْ إِلَيْهَا فَأَخْبَرْتُهَا.)؛ والعنصر الثالث: الحـوار الجـاري بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأم سليـم ـ رضي الله عنها ـ (فَجَاءَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ: «هَاتِي مَا صَنَعْتِ»، فَقَالَتْ: إِنَّمَا صَنَعْتُهُ لَكَ وَحْدَكَ، فَقَالَ: «هَاتِيهِ».)؛ والعنصر الرابع: إطعام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خبزة أم سليم ـ رضي الله عنها ـ للحاضرين عشرة عشرة، وشبعهم جميعا بهذا الطعام اليسير (فَقَالَ: «يَا أنَسُ! أَدْخِلْعَلَيَّ عَشْرَةً عَشْرَةً»، قَالَ: فَمَا زِلْتُ أُدْخِلُ عَلَيْهِ عَشْرَةً عَشْرَةً، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَكَانُوا ثَمَانِينَ.).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر بإنما فـي الحـوار الجاري بين النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأم سليـم ـ رضي الله عنهـا ـ، أوردتـه أم سليـم ـ رضي الله عنها ـ في قولها (إِنَّمَا صَنَعْتُهُ لَكَ وَحْدَكَ) اعتذارا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وذلـك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما جاء إليها استجابة لدعوتها طلب منها إتيان ما صنعت (هَاتِي مَا صَنَعْتِ). وأم سليـم ـ رضي الله عنها ـ لما رأت كثرة الحاضرين اعتذرت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أنها لم تصنع ما يكفي الجميع، لأنها لم تصنع إلا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحـده. ولإبداء قلـة الطعام وتأكيد عدم كفايته للجميع أوردت كلامها بأسلوب مؤكـد أسلوب القصر. ثم إنهـا كانت صنعت الخبزة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وبعثت ابنها لدعوته هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فمن هنا أصبح كون صناعة الخبزة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحـده أمـرا واضحـا، لذا جـاء القصر بطريق (إنما). فكأنها تلمح للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا القصر: إنك تعلم يا رسول الله أني صنعت الطعام لك وحدك، فماذا أقـدّم لهـذا الجمع الكبير؟ وماذا يأكـل هـذا العـدد الكثير من هذا الطعام اليسير؟

غير أن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان عظيم الثقة في الله، وحسنَ التوكل عليه، وقويَّ اليقين بأن الله ـ تعالى ـ سيبـارِك في هـذا الطعـام القليل حتى يكفـي هـذا العدد الكبير([14]). فلم يقل ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئا إلا أن كرر قوله (هَاتِيهِ).

وفي النهاية جرى الأمر على يقين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأظهر الله ـ تعالى ـ على يديه معجـزة من معجزات تؤيد صدق نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وبارك لهم في هذا الطعام اليسير حتى يشبع الجميع منه. قال السندي ـ رحمه الله تعالى ـ: «قوله (فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا) فيه معجزة عظيمة له ـ صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ـ»([15]). 

القصر هنـا وقـع بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل الصادر من فاعلـه والواقـع على مفعولـه (صَنَعْتُهُ) على الجـار والمجرور المفعول لأجله (لَكَ وَحْدَكَ). واختار الجملة الفعليـة مع كون الفعل ماضيا للدلالة على حدوث هذا الفعـل وتحققـه. فصناعتها الخبزة قد وقعت وتحققت غير أنها كانت لأجل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده، ولم تكن تصنع لغيره.

وهذا القصر قصر موصوف على صفة، قصر الموصوف (صناعتها الطعام) على صفـة كونهـا لأجل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده (لَكَ وَحْدَكَ)، ونفى عنه صفة كونها لأجل جميع الحاضرين. فواضح أنه من القصر الإضافي للإفراد، حيث إنه في اعتقاد المتكلمـة أن المخاطب كأنه يعتقـد أنها صنعت الطعام للجميع، لذا دعاهم إليها. فأفردت له أن صناعة الطعام كانت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده، ونفى شركة غيره فيه.

هكذا ورد أسلوب القصر بإنما هنـا في مقـام الاعتذار، فعللت المعتذرة به لاعتذارها وأكـده. وبذلك وضحت لنـا قلة الطعام، وفي الوقت نفسه تجلت من خلاله معجزة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك، ومباركة الله ـ تعالى ـ له وللجماعة في طعامهم حتى يكفي ذلك العدد الكبير. واستخدام طريق (إنما) لهذا القصر هنا هو الأنسبلهـذا المقـام، لأن أم سُلَيـم ـ رضي الله عنهـا ـ اعتذرت بهـذا الأسلـوب الرقيـق للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عدم استطاعتها تقديم ما يكفي الحاضرين من الطعام، فما تفيده (إنما) من معنى الوضوح، وما تحملـه من خصائص الخفـة والرقـة ترشحها على أخواتها من طرق القصر مثل (النفي والاستثناء) في هذا المقام، فإنها صنعت الطعام للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهـذا واضح من بعثتهـا ابنهـا لدعوته هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فالظاهر أن ما صنع للواحد لا يكفي مثل هذا العدد الكبير. 

*  *  *

 



([1])   سنن ابن ماجه: كتاب الأطعمة باب لعق الأصابع، حديث رقم: 3269.

([2])   قال الإمـام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «معناه ـ والله أعلم ـ لا يمسح يده حتى يلعقها، فإن لم يفعل فحتى يلعقها غيره ممن لا يتقذر ذلـك كزوجة وجارية وولد وخادم يحبونه ويلتذون بذلك ولا يتقذرون، وكذا من كان في معناهم كتلميذ يعتقد بركته ويود التبرك بلعقها، وكـذا لو ألعقهـا شاة ونحوها. والله أعلم».  شرح النووي على صحيح مسلم: ج13 ص206.

([3])   سنن ابن ماجه: كتاب الأطعمة باب لعق الأصابع، حديث رقم: 3270.

([4])   ينظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: ج5 ص298 ـ 299؛ شرح النووي على صحيح مسلم: ج13 ص203/ 206؛ شرحـاً صحيح مسلم: إكمال إكمال المعلم ومكمـل إكمال الإكمال: ج5 ص340؛ فتـح البـاري: ج9 ص491 ـ 492؛ عمدة القاري: ج21 ص112 ـ 113.

([5])   سنن ابن ماجه: كتاب الأطعمة باب القديد، حديث رقم: 3312.

([6])   الفرائص جمع فريصة، وهي لحمة عند نُغْضِ الكتف في وسط الجنب عند مَنْبِض القَلْب، وهما فَرِيصَتان تَرْتَعِدان عند الفزع. والكلام كناية عن الفزع. لسان العرب: مادة (فرص)؛ شرح السندي على سنن ابن ماجه: ج4 ص31 ـ 32.

([7])   السنن الكبرى: كتاب الشهادات باب بيان مكـارم الأخـلاق ومعاليهـا، حديث رقـم: 20782.

([8])   النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (قدد).

([9])   ينظر: شرح السندي على سنن ابن ماجه: ج4 ص32.

([10])   ينظر: صحيح البخاري: كتاب التوحيد باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياءوغيرهم، حديث رقم: 7510.

([11])   صحيح البخاري: كتاب الأطعمة باب مـا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه يأكلون، حديث رقم: 5414؛ سنن ابن ماجه: كتاب الأطعمة باب خبز البر، حديث رقم: 3343.

([12])   صحيح البخاري: كتاب الأطعمـة باب ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه يأكلون، حديث رقم: 5416؛ سنن ابن ماجه: كتاب الأطعمة باب خبز البر، حديث رقم: 3344.

([13])   سنن ابن ماجه: كتاب الأطعمة باب الخبز الملبق بالسمن، حديث رقم: 3342.

([14])   ينظر: إهداء الديباجة: ج4 ص468.

([15])   شرح السندي على سنن ابن ماجه: ج4 ص45.

الموضوعات