مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن التجارات من سنن ابن ماجه
مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن التجارات من سنن ابن ماجه
كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)
فقال:
روى ابـن ماجـه بسنـده عَنْ أَبِي دَاوُدَ بْنِ صَالِـحٍ المَدِينِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّمَا البَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ»([1]).
* مقصود الحديث:
المقصود من الحديث الشريف هو بيان أن البيع يكون بالتراضي بين الطرفين، فليس لأحد إكراه الآخر على عقده.
* عناصر بناء الحديث:
ورد الحديث بجملـة قصريـة موجـزة (إِنَّمَا البَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ) تؤكد الحكم المذكور.
أسلوب القصر في الحديث وعناصر بنائه:
بيّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحكم المذكـور بأسلوب القصر بإنما، وذلك لتأكيد أهمية عنصر التراضي بين الجانبين في البيع، لأن الله ـ عز وجل ـ شرع البيع لتبادل المنافع بين الناس وسد حاجاتهم.
والتراضي من الرضا، وهو سرور القلب وطيب النفس. وهو ضد السخط والكراهة. وعرفه جمهور الفقهاء: بأن التراضي قصد الفعل دون أن يشوبه إكراه. وعرفـه الحنفيـة: بأنـه امتلاء الاختيار, أي: بلوغـه نهايتـه, بحيث يفضي أثره إلى الظاهر من البشاشة في الوجه, أو إيثار الشيء واستحسانه([2]). فالتراضي هو «الرضا من الجانبين بما يدل عليـه من لفـظ أو عرف، وهو أساس العقود بصفة عامة، وأساس المبادلات الماليـة بصفـة خاصـة، فلا بيع ولا شراء ولا إجارة ولا شركة ولا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا»([3]).
ونظرا لكل هـذه الأهمية البالغة للتراضي في البيع ذكّر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمة به، وأكد لهم أن البيع لا بد فيـه من تراض بين الجانبين، ولا يصح أي بيع يخالف هذا الشرط الأساسي. وأشار ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن كون التراضي شرطا أساسيا للبيع أمرمعلـوم واضح لا ينبغي أن يجهله العاقـل أو يخالفه. وقد بين ذلك ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾[النساء: 29]، ثـم كيـف يتوافـق عـدم التراضي مع ما بنـي عليـه البيع من حكم جليلة وأغراض شريفة؟ بل إنه يخالف ذلك كله تماما.
أكـد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلـك بكـل حـزم من خـلال أسلوب القصر بإنما، وحديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا من جوامع كلمه، أثبت فيه صريحا أن البيع يصدر عن تراضي الجانبين، ونفى ضمنيا أنه لا يجوز بيع المكره. فقد قصر فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ البيع على كونه صادرا عن تراض. فالقصر وقع بين أجزاء الجملة الاسمية، حيث قصر المبتدأ (البيع) على الجار والمجرور المتعلقين بالخبر المحذوف (عن تراض)، ويمكن تقدير هذا المحذوف: صادر. قال ابن عاشور ـ رحمه الله تعالى ـ عند تفسير قوله ـ تعالى ـ ﴿ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾[النساء: 29]: «وقوله (عن تراض منكم) صفة لـ (تجارة)، و(عن) فيه للمجاوزة، أي صادرة عن التراضي وهو الرضا من الجانبين بما يدلّ عليـه من لفـظ أو عـرف»([4]). وفي التعبير عن القصر بالجملة الاسمية دلالة على ثبوت هذا الحكم واستمراره، فالتراضي دائما شرط أساسي للبيع، لا يستغني عنه أبدا.
وهذا القصر قصر موصوف على صفة، قصر الموصوف (البيع) على الصفة (الصدور عن التراضي)، ونفى عنه الصفة الصدور عن عدم التراضي أي الإكراه. قال السندي ـ رحمه الله تعالى ـ: «يدل ظاهـره على عـدم جـواز بيـع المكره لعدم التراضي»([5]). فيكون القصر قصراً إضافياً، وهو قصر الإفراد. فكأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتوقع أن هناك يكون من يكره صاحبه على البيع، فبادر ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى النهي عن ذلك، حيث أقر البيع الذي تم بالتراضي بين الجانبين، ونفى الذي أكره فيه أحدهما على شيء. والذي أكره صاحبه على البيع لا يخرج عن أنه يعتقد أو يتوهم أن البيع يصح بالإكراه كما يصح بالتراضي، فأقـر ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثانيهما، ونفـى أولهما، لذا كان القصر قصر الإفراد، حيث نفى فيه الشركة.
والـلام في المقصور المبتـدأ (البيع) للعهد، حيث إن البيع الذي يتكلم عنه هنا هو البيع الشرعي الذي شرع الله ـ تعالى ـ في قوله ﴿ وَأَحَلَّ اللَّـهُ الْبَيْعَ﴾[البقرة: 275]، والذي له شروطه الخاصة وأهدافه الشريفة. فكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: إن البيع الشرعي هو البيع الذي وجـد فيه التراضي، فإذا لم يوجد الرضا فليس ثمّ بيع شرعي. وفي حذف الخبر (صادر) بالإضافة إلى الإيجـاز في القول، فإن فيه مزيد المبالغة لأهمية التراضي في البيـع، فكأن البيـع هو نفسـه التراضي، ولم يكن صادرا عن التراضي فحسب. ثم في تنكير المجرور (تراض) إفادة العموم والشمول، فإن هذا التراضي يشمل كل مـا يدل عليـه من قول أو فعل أو نحو ذلك. فإن المقصود هو حصول التراضي، فالمهم أنه لا بد في البيع من شيء دال على التراضي بين الجانبين، مهما يكن نوع الدلالة. والتراضي من الرضا كما ذكرنا سابقا، وهو حقيقة في المشاركة، فلا بد من حصول الرضا في البيع من كل جانب، ولا يكفي حصوله من جانب دون آخر. قال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ في قول الله ـ تعالى ـ ﴿ عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾: «أي: عن رضى، إلا أنها جاءت من المفاعلة، إذ التجارة من اثنين»([6]).
هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام بيان الحكم، فأكد على أن التراضي بين الجانبين شرط أساسي لصحة البيع، وأنه ليس لأحد إكراه صاحبه على البيع.
وبالتحليل الذي مضى تبين لنا أن استخدام (إنما) هنا هو الأليق بهذا المقام، لأن فيها إشارة إلى أن التراضي شرط أساسي لصحة البيع، ينبغي ألا يتجاهله أحد، وإنما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا الأسلوب، تنبيها على ذلك، نظراً لما له من أهمية بالغة في معاملات الناس. ولو استخدم طريق قصر غيرهـا، مثـل (النفي والاستثناء)، لذهب مثل هذا المعنى، وأصبح كـأن هذا الشـرط لم يشتهر، بل هنـاك من يجهله وينكره، فيحتاج إثباته إلى مزيد من التأكيد.
* * *
روى ابن ماجه بسنده عَنْ أَبِي القَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ مَسْعُودٍ بَاعَ مِنْ الأَشْعَثِ ابْنِ قَيْسٍ رَقِيقًـا مِنْ رَقِيقِ الإِمَارَةِ، فَاخْتَلَفَـا فِي الثَّمَنِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بِعْتُـكَ بِعِشْرِينَ الفًـا، وَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ بِعَشْرَةِ آلَافٍ، فَقَالَ عَبْدُ الله: إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُـكَ بِحَدِيثٍ سَمِعْتُـهُ مِنْ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَقَالَ: هَاتِهِ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ: «إِذَا اخْتَلَفَ البَيِّعَانِ، وَلَيْسَبَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَالبَيْعُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ، فَالقَوْلُ مَا قَالَ البَائِعُ، أَوْ يَتَرَادَّانِ البَيْعَ». قَالَ فَإِنِّي أَرَى أَنْ أَرُدَّ البَيْعَ، فَرَدَّهُ([7]).
* مقصود الحديث:
الحديث الشريف يهـدف لبيان الحكم في ما إذا اختلف البيعان ـ أي البائع والمشتري ـ والمبيع قائم، وهو أن القول قول البائع، فلهما التراضي بما قاله البائع، أو فسخ البيع([8]).
* عناصر بناء الحديث:
ولتحقيق هذا المقصد ورد الحديث على شكل الحوار الجاري بين الصحابيين عبد الله بن مسعود والأشعث بن قيس ـ رضي الله عنهما ـ، ذكـره راوي الحديث القاسم بن عبد الرحمن ـ رضي الله تعالى عنه ـ، وذلك أن الأشعث ـ رضي الله عنه ـ اشترى من ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ رقيقا، فاختلفا في الثمن، حيث قال البائع ابن مسعـود ـ رضي الله عنه ـ: (بِعْتُـكَ بِعِشْرِينَ الفًـا)، وقـال المشتري الأشعـث ـ رضي الله عنه ـ: (إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ بِعَشْرَةِ آلَافٍ)، فذكر ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ للأشعث ـ رضي الله عنه ـ حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المبين الحكم في مثل هذا الاختلاف: (إِذَا اخْتَلَفَ البَيِّعَانِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَـةٌ، وَالبَيْعُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ، فَالقَوْلُ مَا قَالَ البَائِعُ، أَوْ يَتَرَادَّانِ البَيْعَ.) وفي قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن لهما في مثل هذا الاختيار بين شيئين: الأول: التراضي بقول البائع؛ والثاني: فسخ البيع. وفي النهاية، اختار الأشعث الثاني، فرد البيع.
* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:
ورد أسلوب القصر بإنما في قـول المشتري الأشعث ـ رضي الله عنـه ـ (إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ بِعَشْرَةِ آلَافٍ) لتأكيـد أن الثمن هو ما قاله هو، وهـو عشرة آلاف، ونفى أن يكون الثمن هو ما قاله ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ، وهو عشرون ألفا. هكـذا حدث الاختلاف بينهما، كل واحد يتمسك بقولـه، ويرد قول صاحبه. وها هو المشتري الأشعث ـ رضي الله عنـه ـ أكـد قولـه بأسلوب القصر، وزاد تأكيده من خلال إيراد القصر بطريق (إنما) مشيرا بـه إلى أن كون اشترائه من ابن مسعود ـ رضي الله عنـه ـ بعشرة آلاف هو أمر معلـوم ينبغي ألا يحدث فيه إنكار من قبل المخاطب، وهو البائع ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ .
ولما اشتد الاختلاف بينهما على هذا النحو، وازدادت رائحة التأكيدات من قبـل المشتري الأشعث ـ رضي الله عنه ـ، جاء البائع ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ بالكلام الفاصل الحاكـم في ذلـك، كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إِذَا اخْتَلَفَ البَيِّعَانِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَالبَيْعُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ، فَالقَوْلُ مَا قَالَ البَائِعُ، أَوْ يَتَرَادَّانِ البَيْعَ.) كأن ابن مسعود ـ رضي الله عنـه ـ يعرض من خلال ذلك للأشعث ـ رضي الله عنـه ـ أمرين: إما الأخذ بعشرين ألفا، وإما رد البيع. كأنه يشير إلى أنـه لا يبيعـه بعشرة آلاف. وفي قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يذكـر الأمر المختلف فيـه لإفادة العموم، فيشمل الاختلاف في الثمن وفي غيره. قال الشوكاني ـ رحمه الله تعالى ـ: «ولم يذكر الأمر الذي فيه الاختلاف، وحذف المتعلق مشعر بالتعميم في مثل هذا المقام على ما تقرر في علم المعاني، فيعم الاختلاف في المبيع والثمن وفي كل أمر يرجع إليهما وفي سائر الشروط المعتبرة، والتصريح بالاختلاف في الثمـن في بعض الروايات كما وقع في الباب لا ينافي هذا العموم المستفاد من الحذف»([9]).
والقصر هنا وقع بين أجزاء الجملة الفعلية، والفعـل فيها فعل ماض، لأن القائل يريد إثبات أن الفعـل قـد حدث وتـم. فهـو قصر الفعل مع فاعله والجار والمجرور المتعلقين بـه (اشْتَرَيْتُ مِنْكَ) على الجار والمجرور (بِعَشْرَةِ آلَافٍ)، فهو مـن قصر الموصوف على الصفة، قصر الموصوف (اشترائي منك) على صفة كونه متعلقا (بِعَشْرَةِ آلَافٍ)، ونفى عنه صفة كونه متعلقا بعشرين ألفا كما زعمه البائع. وهـو قصر قلب قصرا إضافيا، حيث إنه سبق بقول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ (بِعْتُكَ بِعِشْرِينَ الفًا)، فجـاء الأشعث ـ رضي الله عنه ـ بأسلوب القصر ليعكس اعتقاد المخاطب، فأثبت أن الثمن عشرة آلاف، لا عشرون ألفا.
هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام التنازع والاختلاف، فأكد قول القائل، ونفى زعـم المخاطب. وفي الوقت نفسه عرض لنا كيف تم تطبيق إرشاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مثـل هـذا الحدث، وبين لنا الحكم الفاصل فيه. وهذا هو مقصد الحديث الذي يرمي إليه.
وبالتحليل الذي مضى تبين لنا أن استخدام (إنما) هنا هو الأليق بهذا المقام، لأن المتكلم ادعـى باختياره طريـق (إنما) وضوح موقفـه، كـأن ما تمسك بـه من الوضوح ينبغي ألا يشك فيـه، فأخرجه بصورة مسلمة لدى المخاطب مع أنه في الواقع ينكره ويتنازع فيه معه. وفي ذلك ما لم يكن في غيرها من الطرق مثل (النفيوالاستثناء) من المبالغة والتأكيد.
* * *
روى ابـن ماجـه بسنـده عَنْ أَبِي صَالِـحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيـدٍ الخُدْرِيَّ يَقُولُ: الدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّينَـارُ بِالدِّينَارِ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّـاسٍ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِـكَ، قَـالَ: أَمَا إِنِّي لَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَـذَا الَّذِي تَقُولُ فِي الصَّرْفِ، أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أَمْ شَيْءٌ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ الله؟ فَقَالَ: مَا وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ الله ولَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ»([10]).
* مقصود الحديث:
المقصود من الحديث الشريف هو بيان حكم الصرف وربا النسيئة([11]).
* عناصر بناء الحديث:
ولتحقيق هذا المقصود جاء الحديث على شكل الحوار الجاري بين أبي سعيد الخدري وأبي صالح ـ رضي الله عنهما ـ، حيث ذكر أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ حديث النهي عن ربا الفضل (الدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارُ بِالدِّينَارِ)، فذكر أبو صالح ـ رضي الله عنـه ـ أن لابن عباس ـ رضي الله عنـه ـ قولا آخر في ذلك، وهو قد سأله عن أصل رأيه هذا (أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الَّذِي تَقُولُ فِي الصَّرْفِ، أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أَمْ شَيْءٌ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ الله؟)، فقال له ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ إنه قـال بذلك لأنـه سمـع من أسامـة ابن زيد ـ رضي الله عنه ـ الحديث «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» (مَا وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ الله ولَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ»).
* أسلوب القصر في الحديث وعناصر بنائه:
جاء أسلوب القصر بإنما في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ)، أتى به ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ هنا للاستدلال على قوله بأنه لا ربا في التفاضل.
وإنما استدل ابن عباس ـ رضي الله عنـه ـ بهذا الحديث على أنـه لا ربـا في التفاضل لأن الحديث جاء بأسلوب القصر، ومعلوم أن القصر لإثبات شيء لشيء ونفيه عن غيره. فما الشيء المنفي في الحديث؟ وابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قد حمل القصر على القصر الحقيقي التحقيقي، فرأى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أثبت بهذا الأسلوب أن الربا ثابت في النسيئة، ونفى عن الربا ثبوته فيما عدا النسيئة، وتبعا لذلك فإنه لا ربا في التفاضل.
وهنا كأنه حصل التعارض بين حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ وحديث شاهدنا هذا في الظاهر، فذهب العلماء إلى جهات عدة للتخلص من ذلك، ومن أهمها:
الأول: أن القصر هنـا قصر إضافي للإفراد، حيث إنـه ورد ليؤكـد للسائل ثبوت الربا في النسيئة إذا اختلفت الأجناس، وعدم ثبوتـه في التفاضل عند اختلافالأجناس، إزالـة لما في ذهنـه من التوهم بأن الربـا ثابت في النسيئـة وفي التفاضل كذلك في هذه الحالة. قال ابن بطال ـ رحمه الله تعالى ـ: «وقد تأول بعض العلماء أن قوله عليه السلام (لا ربا إلا في النسيئة) خُرِّج على جواب سائل سأل عن الربا في الذهب بالورق أو البر بالتمر ونحو ذلك مما هو جنسان، فقال عليه السلام (لا ربا إلا في النسيئة)، فسمع أسامة كلامه، ولم يسمع السؤال، فنقل ما سمع»([12]). وقال الكرماني ـ رحمه الله تعالى ـ: «فإن قلت: ما التلفيق بين حديث أسامة وحديث أبي سعيد؟ قلت: الحصر إنما يختلف بحسب اختلاف اعتقاد السامع، فلعله كان يعتقد الربا في غير الجنس حالاً، فقيل رداً لاعتقاده: لا ربا إلا في النسيئة أي فيه مطلقاً»([13]). أو يكون قصراً إضافياً للقلب، ليعكس وهم السائل، قال المناوي ـ رحمه الله تعالى ـ: «ومن ثم قـال بعض المحققين الحصر إضافـي لا حقيقـي مـن قبيل ﴿ إِنَّمَا اللَّـهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ﴾[النساء: 171] لأن صفاته لا تنحصر في ذلك، وإنما قصد به الرد على منكري التوحيد، فكذا هنا المقصود الرد على من أنكر ربا النسيئة»([14]).
الثاني: أن (إنما) في الحديث لا تفيد القصر، وإنما تفيد المبالغة والتأكيد فقط. قال ابن عطية ـ رحمه الله تعالى ـ: «(إنما)لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر، فإذا دخل في قصة وساعد معناها على الانحصار صح ذلك وترتب، كقوله ﴿إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ﴾[الأنبياء: 108، فصلت: 6] وغير ذلـك من الأمثلـة، وإذا كانت القصـة لا تتأتى للانحصار بقيـت (إنما) للمبالغة والتأكيد فقط، كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إنما الربا في النسيئة) وكقوله: إنما الشجاع عنترة»([15]). ويمكن الرد عليـه بهـذا الحديث نفسـه، وذلـك لأن الحديث أتى بـه ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ للاستدلال على نفي ربا الفضل، فلولا أن (إنما) تفيد معنى القصر لم يكن لهذا الاستدلال وجه. وقد ذكر الإمام فخر الدين الرازي ـ رحمه الله تعالى ـ من بين وجوه دلالـة (إنما) على القصر: «أن ابـن عباس تمسك في نفي ربا الفضل بقوله ـ عليـه الصلاة والسلام ـ (إنما الربا في النسيئـة)، ولولا أن هذا اللفظ يفيد الحصر، وإلا لما كـان الأمـر كذلك»([16]). وإضافة إلى ذلك فإن الحديث قد ورد في صحيح البخاري بلفظ: «لاَ رِبَا إِلاَّ فِي النَّسِيئَةِ»([17]).
الثالث: أن القصر هنـا قصر حقيقي مبني على المبالغـة، تأكيـدا لشدة هذا النوع من الربا وغلظتـه حتى كأن غيره لا يعد ربا بإزائه. قال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «إن قوله: لا ربا إلا في النسيئة، إنما مقصوده نفي الأغلظ الذي حرَّمه الله بنص القرآن، وتوعَّد عليه بالعقاب الشديد، وجعل فاعله محاربًا لله، وذلك بقوله ـ تعالى ـ: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ...﴾[البقرة: 275 ـ 281] إلى آخـر الآيات، وما كانت العـرب تعرف ربًا إلا ذلك، فكانت إذا حل دينها قالت للغريم: إما أن تقضي، وإما أن تربي، أي تزيدفي الدَّين. وهـذا هو الذي نسخـه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم عرفـة لما قال: (ألا إن كل ربا موضوع، وإن أول ربًا أضعه ربا العباس). وهذا كما تقول العرب: إنما المال الإبل، وإنما الشجاع عليٌّ، وإنما الكريم يوسف ابن نبي الله. ولا عالم في البلد إلا زيد. ومثله كثير. يعنون بذلك نفي الأكبر والأكمل، لا نفي الأصل. وهذا واضح»([18]).
الرابع: «أن دلالـة حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ على نفي ربا الفضل دلالة بالمفهوم، ودلالـة إثباته دلالـة بالمنظوم. ودلالة المنظوم راجحة على دلالة المفهوم باتفاق النُظّار»([19]).
الخامس: أن هذا الحديث منسوخ بحديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ([20]).
ومن خلال العرض لهذه الأوجه التي أوردها العلماء للتخلص من ظاهرة التعارض بين الحديثين، وضح لنا أن حمل الحديث على القصر الحقيقي المبني على المبالغة هو أظهر هذه الأوجه، وهو لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه القصر الإضافي من التقديرات، وما دام هـذا الوجـه مستقيما وظاهرا، فلا داعي للقول بأن الحديث منسوخ، أو بأن دلالة المنطوق راجحة على دلالة المفهـوم. والله ـ تعالى ـ أعلـم بالحقيقة.
فسياق الحديث هو بيان خطورة ربـا النسيئة، لأن هذا النوع من الربا أشد خطورة وأكثـر وقوعـا. وما كانت العرب تعرف ربا إلا ذلك، «كانوا يضاعفونه على الفقير الذي لا يجـد وفاء بتوالي الأيام والسنين، وهو مخرب البيوت، ومزيل الرحمة من القلوب، ومولد العداوة بين الأغنياء والفقراء»([21]). فقصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الربا على كونه في النسيئة التي هي أغلظ أنواع الربا، لتأكيد ومبالغة خطورته للأمة تنفيرا لهم منها، ولا يلزم ذلك نفـي ربا الفضل، فلا تعارض أصلا بين الحديثين. وإنما نفى ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ربا الفضل استدلالا بهذا الحديث ربما فهم الحديث من ظاهره، فحملـه على القصر الحقيقي التحقيقي الذي يلزم نفـي الربا في كل ما عدا النيسئة. وهذا لا يقدح في شأنه ـ رضي الله عنه ـ شيئاً، فإنه قد رجع عن رأيـه هذا عندما تيقن أنه أخطأ فهـم هذا الحديث، كما سنقف عند ذلك في الحديث التالي إن شاء الله ـ تعالى ـ .
وسبق أن عرفنا من خـلال التحليل أن القصر هنا جاء بروايتين: استخدم فيإحداهما طريق (إنما)، وفي الأخرى طريق (النفي والاستثناء)، ولعل ذلك يرجع إلى أن الراوي روى الحديث بمعناه. ومهما يكن فإن لكل من الروايتين بلاغتها. ففي استخدام (النفي والاستثناء) قـوة التأكيد على حرمة ربا النسيئة، وكذلك في استخدام (إنما) مبالغة في هذا التأكيد. والمقام مقام بيان غلظة هذا النوع من الربا وخطورته كما سبق ذكره، فيستحق ما في الأولى من القوة، وما في الثانية من المبالغة، تنفيرا للأمة من ذلك.
* * *
روى ابـن ماجـه بسنده عَنْ أَبِي الجَوْزَاءِ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَأْمُرُ بِالصَّرْفِ ـ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ ـ وَيُحَدَّثُ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، فَلَقِيتُهُ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجَعْتَ، قَالَ: نَعَمْ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَأْيًا مِنِّي، وَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّرْفِ([22]).
* مقصود الحديث:
المقصود من الحديث الشريف هو بيان أن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ رجع عن رأيه في حكم الصرف الذي يقـول بأنـه لا ربا في الفضل كما وقفنـا عنـده في الحديث السابق، وبهذا أكد أن الربا ثابت في التفاضل كما هو ثابت في النسيئة.
* عناصر بناء الحديث:
ولتحقيق هذا المقصود جاء الحديث على شكل الحوار الجاري بين أبي الجوزاء وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، حيث ذكر أبو الجوزاء ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع أن ابن عباس ـ رضي الله عنـه ـ رخص في الصرف بالزيادة مع اتحـاد الجنس، ثم رجع عن رأيه هـذا، فسألـه عن ذلك عندمـا لقيـه بمكة لتأكيـد الخبر، فقال: (إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجَعْتَ)، فأجابه ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ مؤكدا لرجوعه عن رأيه الأول، مبينا أن ذلك كان مجرد رأيه هو، وقد فهمه من ظاهر الحديث، وأن الحق هو تحريمه كما رواه أبو سعيد ـ رضي الله عنه ـ: (نَعَمْ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَأْيًا مِنِّي، وَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّرْفِ.).
* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:
جاء أسلوب القصر بإنما في قول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ (إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَأْيًا مِنِّي)، تأكيدا لرجوعـه عن رأيـه الأول، مثبتـا أن ذلـك كان مجرد رأيه الذي فهـم من ظاهـر حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولم يكن من مقصـود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . حيث سبق بإجابة صرّح فيها أنه رجع عن رأيه الأول (نعم)، وألحق الحكم الصحيح في القضية، وهو ما رواه أبو سعيد ـ رضي الله عنه ـ من حديث النهي عن الصرف.
وإنما أكـد ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قولـه بأسلوب القصر، لأنه جاء به رداً على سؤال السائل أبي الجوزاء ـ رضي الله عنه ـ، فمراده من ذلك تأكيد لرجوعه وتعليل له، والتماس عذر لما وقع فيه من سهو. ولهذا لم يعطف بين الجملة القصريةوالجملة السابقة عليها. وجاءت الجملة اللاحقة مبتدأة بالواو إشارة إلى أن ما بين مضمونيهما من تغايـر واضـح، إذ الأول مجـرد فهم ناقص لسامـع الحديث، وأما الثاني فهو الحكم الصحيح في المسألة، والوارد عن النبي المعصوم ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وأورد ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ القصر بطريق (إنما) للإشارة إلى وضوح خطئه في رأيه الأول وظهوره، وأنه لم يكن مقصود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهى صريحا عن ربا الفضل كما رواه أبو سعيد ـ رضي الله عنه ـ . فكان مراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديثه «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» غير ما فهمه ابن عباس ـ رضي اللهعنه ـ من ظاهره، فقد فصلنا ذلك سابقاً عند تحليل ذلك الحديث([23]).
والقصر في قول ابن عباس ـ رضي الله عنـه ـ وقـع بين اسم كـان وخبره، حيث قصر اسـم كـان (ذلك) على خـبره (رَأْيًا مِنِّي)، وفي التعبير بالفعل الناسخ الماضي دلالة على مضي الحكم وانتهائه، وهو رأيه السابق في ربا الفضل، فهو فهمه الناقص من ظاهر الحديث في البداية، ثم قد انتهى ورجع عنه عند سماعه حديث النهي عن ربا الفضل من أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ .
وهـو قصر موصوف على صفـة، قصر قولـه في ترخيص ربـا الفضل على صفة كونه رأيا منه، ونفى عنه كونه مراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فواضح أن القصر من قبيل القصر الإضافي للقلب، ردا لمـا في نفسـه أو في نفس غيره من وهم أن الترخيص في ربا الفضل هو مراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حديثه «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ»، وذلك لأنه كان في الأول يعتقد أن ذلك هو مراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لأن الحوار يدور حول الحكم في مسألـة ربا الفضل، وسبب رجوع ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ عن رأيه الأول في ذلـك إلى القـول بتحريـم ربـا الفضل. ففي هذا القصـر نوع من التعليل لهذا الرجوع ولون من التأكيد له، وكأنه يقول: رجعت عن قولي الأول لأنني وجدته غير مقصود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بل مجرد رأي ناقص مني، فإن رواية أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ تؤكـد على خطأ رأيي، فرجعت عن ذلك، وأقول إن ربا الفضل حرام نهى عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولم يكن يقصد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الترخيص في ربا الفضل بقوله أصلا، وإنما أخطأت أنا في فهم ذلك الحديث، فقلت بظاهر الحديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفي فيه ضمنيا كون الربا في التفاضل.
هكذا يكون شأن أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أدّبهم خير البرية فأحسن تأديبهم، اجتهدوا بكل حـذر، فإذا وجـد مـا هو الصحيح، رجعوا عن آرائهم، مقرين بما وقعوا فيه من خطأ بكل صراحة ـ رضي الله عنهم ـ أجمعين. ففي الحديث إضافة إلى ما فيه من بيان للحكم الشرعي في ربا الفضل، وذكر رجوع ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ عن رأيه الأول الذي يقول بعدم تحريم ربا الفضل إلى القول بتحريمه، فإنه ألقى للأمة درسـاً قيماً، علمهـم فيـه أدباً رفيعاً، وهو الاعتراف بالخطأ والرجوع عنه. حقا، فإن كثيراً من الناس اليوم محتاجون إلى تلقي هذا الدرس القيم، لقد كثر في زماننا هذا من يخطئ، فلا يعترف بخطئه استحياء من الناس، وهو لا يستحيي من الله ـ عز وجل ـ!
وفي إيراده ـ رضي الله عنـه ـ المقصور باسم الإشارة، وتنكير المقصور عليه مع وصفـه بالجار والمجرور إيحاء لتهوينه وتخطيئه، فكأنـه يصرح بأن قوله الأول بعيد عن الصواب، فقد ألقى إلى الوراء، فيشير إليه من بعيد. أو أنه بعد ما عرف عدم صحتـه لم يرض بذكـره على اللسان مـرة أخرى نادما لما وقع فيه في البداية، ولهذا لم يذكره أبو الجوزاء ـ رضي الله عنه ـ في سؤاله أيضا (إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجَعْتَ). وفي وصفه الرأي بالجار والمجرور (مني) تأكيـد على اعترافـه بما وقع فيه، وأنه لم يكن إلا رأياً غـير موفـق صادرا منـه هـو على سبيل الفهم غير الدقيق للحديث. فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بريء من كل ذلك، وهو معصوم لا يخطئ، ولن يكون بين أقواله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعارض، وإنما التعارض في فهمنا غير الدقيق لأقواله الهادفة.
هكذا ورد أسلوب القصر هنا في مقام الحوار والإجابة على السؤال، فعلل للإجابة وأكدهـا، أكد أن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قد رجع عن قوله الأول في حكم ربا الفضل، وتبعاً لذلـك أكـد على التحريم الشرعي لربا الفضل، وبذلك حقق بأسلوب حكيم الهدف الذي يرمي إليه الحديث الشريف.
وبالتحليل الذي مضى تبين لنا أن استخدام (إنما) هنا هو الأليق بهذا المقام، لأنه بعد رواية أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ التي ذكر فيها صريح نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الصرف، قد تبين خطأ فهم ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ للحديث «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ»، فاعترف ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ من خلال أسلوب القصر بخطئه، وبين وجه عدوله إلى القول الصحيح في هذه القضية.
* * *
روى ابن ماجـه بسنـده عَنْ النَّجْرَانِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الله بْنِ عُمَـرَ: أُسْلِمُ فِي نَخْلٍ قَبْلَ أَنْ يُطْلِـعَ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: إِنَّ رَجُـلًا أَسْلَمَ فِي حَدِيقَةِ نَخْلٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَبْلَ أَنْ يُطْلِعَ النَّخْلُ، فَلَمْ يُطْلِعِ النَّخْلُ شَيْئًا ذَلِكَ العَامَ،فَقَالَ المُشْتَرِي: هُوَ لِي حَتَّى يُطْلِعَ، وَقَالَ البَائِعُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ النَّخْلَ هَذِهِ السَّنَةَ، فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَقَـالَ لِلْبَائِعِ: «أَخَذَ مِنْ نَخْلِكَ شَيْئًا؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «فَبِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَهُ؟ ارْدُدْ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ، وَلَا تُسْلِمُوا فِي نَخْلٍ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ»([24]).
* مقصود الحديث:
المقصود من الحديث الشريف هو بيان الحكم الشرعي في السَلَم([25]) إذا كان في نخل لم يُطْلِعْ، وأنه من البيع الفاسد الذي نهى عنه الشرع. ومن شروط صحة السلم التي اتفق عليها أئمة المذاهب: أن يكون السلم في جنس معلوم، بصفة معلومة، ومقدار معلوم، وأجل معلوم، فلا يصح أن يذكر في العقد أنه من الناتج الذي سيظهـر جديداً، وهـو لم يتكون بعد، لأنه يكون بيع المعدوم صراحة، وهو لا يجوز([26]). وهذا الحديث من الأصل الذي تمسك به الأئمة.
* عناصر بناء الحديث:
ولتحقيق هذا المقصود جاء الحديث على شكل الحوار الجاري بين النجراني وعبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، حيث سأل النجراني عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنـه ـ عن السلم في نخـل معين قبـل الاطـلاع (أُسْلِمُ فِي نَخْلٍ قَبْلَ أَنْ يُطْلِعَ؟)، فأجاب عليه ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه لا يصح. ثم علل لذلك واستدل عليه بخـبر مماثل حـدث في عهـد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهو أن رجلا كان أسلم في نخل قبل اطلاعه، فلم يطلع النخل شيئا ذلك العام، فحصلت المنازعة بين العاقدين: (فَقَالَ المُشْتَرِي: هُوَ لِي حَتَّى يُطْلِعَ، وَقَـالَ البَائِعُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ النَّخْلَ هَذِهِ السَّنَةَ.) فاختصما إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأمرهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفسخ العقد، وصرح بالنهي عن السلم قبل بُدُوِّ صـلاح الثمـر: (ارْدُدْ عَلَيْـهِ مَا أَخَذْتَ مِنْـهُ، وَلَا تُسْلِمُوا فِي نَخْلٍ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ.) ولإقناعهما بما حكـم أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسؤالين أحدهما تقريري (أَخَذَ مِنْ نَخْلِكَ شَيْئًا؟) حملا للبائع المسْلَم إليه على تقرير عدم أخذ المشتري المسلِم من نخله شيئا؛ والآخر إنكاري (فَبِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَهُ؟) نفيا لاستحقاقه الثمن، وتوبيخه على عدم رد الثمن للمسلِم. ثم أمره برد الثمن.
* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:
ورد أسلوب القصر بإنما في قول البائـع المسلم إليـه (إِنَّمَا بِعْتُكَ النَّخْلَ هَذِهِ السَّنَةَ) تعليلا لنفـي حـق المشتري في نخله، حيث إنه أثبت بيعه النخل للمشتري في هـذه السنـة، ونفاه عن الزمن الذي بعـد هذه السنـة. فكأنه بهذه العبارة أقام الحجة على المشتري، حيث إن السنة قد مضت، وكان البيع قائما في هذه السنة التي مضت، وقد تم مع مضي السنة، فالبائع قد حل لـه الثمن، والمشتري قد زال حقه في النخل، فليس له حـق فيما يطلع بعد مضي هذه السنة، لأنه لم يبع له النخل إلا في هذه السنة.
وإنما ورد هـذا الكلام بأسلوب القصـر الذي يفيـد التأكيد والتقرير، لأن المتكلم البائع جاء به ردا على خصمه المشتري، حيث إن خصمه يثبت لنفسه الحق في النخل المسلم فيـه (هُوَ لِي حَتَّى يُطْلِعَ)، لأن النخـل في هذه السنة لم يثمر شيئاً، فلم يتم البيع بعد، فهو معتقد أن البيع يتم باطلاع النخل، فما دام النخل لم يطلع، فحقـه فيـه مازال ثابتا ومستمرا إلى وقت اطلاعـه، ولم يبال في ذلك مضي السنة. وهذا مخالف لاعتقاد صاحبه البائع. فجـاء قـول البائع لرد اعتقاد المشتري هذا، مؤكـداً كلامـه بأسلوب القصر. وأقـام جملتـه القصريـة مقـام التعليل لنفيه قول المشتري، وأوردها بطريق (إنما) خاصة، لزيادة التأكيد على أن كـون ما زعمه من أن البيع ثابت في هذه السنة، ولم يتعدها إلى سنة أخرى أمر معلوم بينهما، مستشفعاًلما يثبت عليه من موقفه في القضية.
وواضح أن القصر هنا قصر إضافي للقلب، وهو قصر موصوف على صفة، حيث أثبت فيه للفعـل الصادر من فاعله والواقع على مفعوله صفة كونه في هذه السنة، ونفى عنه كونه فيما فوقها. وبهذا عكس ما عليه المخاطب من اعتقاد، حيث إن المخاطب في قولـه (هُوَ لِي حَتَّى يُطْلِعَ) أثبت ما فوق هذه السنة. والقصر وقع بين أجزاء الجملـة الفعليـة، والمقصور المكون من الفعل وفاعله ومفعوله (بِعْتُكَ النَّخْلَ) بمثابة الموصوف، والمقصور عليـه الذي هـو ظـرف الزمان للفعل (هَذِهِ السَّنَةَ) كالوصف لهـذا الموصوف. واختيار الجملـة الفعليـة مع كون فعله ماضيا للدلالة على معنى التحقق والانتهاء، ليساند ما يصر عليه المتكلم من أن البيع قد تم وانتهى، وتبعا لذلك فإن حق المشتري قد سقط وزال. وفي تعريفه المقصور عليه باسم الإشارة زيادة تأكيـد لهـذا العنصر الزمني، وتعيينـه أكمل تعيين، كأنه شيء مشاهد يشار إليه.
هكـذا مع زيادة تأكيد البائع لموقفـه وإصراره عليه فقد اشتدت الخصومة بينهما، فاتجها إلى سيد القضاة ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليفصل بينهما.
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفهـم جيـدا أن مجيئهما إليه للفصل، يعنـي أن الخصومة قد اشتدت بينهما، فدقق الاختيار لأسلوب الفصل بينهما، فطرح على البائع سؤالين: أحدهما تقريري (أَخَذَ مِنْ نَخْلِكَ شَيْئًا؟)، والآخـر إنكاري (فَبِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَهُ؟) لحمله على مراجعة نفسه، ثم التقرير بنفسه عدم أخذ المشتري من نخله شيئا، ولنفي عـدم استحقاقه الثمن، وتوبيخـه على عـدم رده الثمن للمشتري. ثم زاد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأكيده من خلال صراحته بالأمر والنهي، أمر برد الثمن، ونهى عن السلم في نخل قبل بـدو صلاحـه (ارْدُدْ عَلَيْهِ مَـا أَخَـذْتَ مِنْـهُ، وَلَا تُسْلِمُـوا فِي نَخْلٍ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ).
وإنما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ برد الثمن، لأن العقـد كـان فاسـدا واجب الفسخ، ولم يحصل للمسلم إليـه شيء حتى يؤديـه إلى رب السلم، فلـم يبق إلا رد الثمن. وفي نهيه الصريح عن السلم إشارة إلى أن يكون المسلَم فيه موجودا من حين العقد إلى وقت حلول الأجل([27]). لأن عدم الوجود جهالة، والجهالة مفضية إلى المنازعة، وأنها مفسدة للعقد كما حدث بين هذين الرجلين.
هذا وقد اختلف العلماء في جواز السلم فيما ليس بموجود في وقت السلم إذا أمكن وجوده في وقت حلول الأجل، فمنهم من ذهب إلى جوازه، ومنهم من يرى أنه لا يصح فيما ينقطع قبلـه، بل لا بد أن يكون موجودا من العقد إلى المحل. فلو أسلم في شيء فانقطع في محله لم ينفسخ عند المذهب الأول، وينفسخ عند المذهب الثاني. وهذا الحديث هو الأصل الذي استدل به القائلون بعدم الجواز([28]).
هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام التنازع والخصومة، فأكد به قائله موقفـه وعللـه، وزاد شدة الخصومـة، ومن ثم يأتي الفصل والحكم فيها مؤكَّدا، أكد على أن هذا النوع من السلم منهي شرعا لإفضائه إلى مثل ما حدث بين الرجلين من الخصومة.
واستخدام (إنما) هنا هو الأليق بهذا المقام، فإن فيها ما لم يكن في غيرها من الطرق مثل (النفي والاستثناء) من المبالغة والتأكيد كما وقفنا عند ذلك سابقا في المقامات المتشابهة.
* * *
روى ابن ماجه بسنده عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ قَامَ، فَقَالَ: «لَا يَحْتَلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ رَجُلٍ بِغَيْرِ إِذْنِـهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ، فَيُكْسَرَ بَابُ خِزَانَتِهِ، فَيُنْتَثَلَ طَعَامُهُ؟ فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلَا يَحْتَلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ»([29]).
* مقصود الحديث:
الحديث الشريـف بظاهـره يقصـد النهـي عن حلـب الماشيـة بـدون إذن صاحبها([30]).
* عناصر بناء الحديث:
ولتحقيق هـذا المقصد ورد الحديث الشريف بأربـع جمـل مبتدئـة بالنهـي الصريح عن حلب الماشية بغير إذن
صاحبها (لَا يَحْتَلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ رَجُلٍ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ) ومختتمة بالنهي المكـرر المؤكـد
( الموضوعات