جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الجنائز من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الجنائز من سنن ابن ماجه

 

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجه بسنده عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كَـانَ ابْنٌ لِبَعْضِ بَنَـاتِ رَسُـولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْضِي، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْـهِ أَنْ يَأْتِيَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا أَنَّ: «لله مَا أَخَذَ وَلَـهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ إِلَى أَجَـلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ». فَأَرْسَلَتْ إِلَيْـهِ، فَأَقْسَمَتْ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَقُمْتُ مَعَهُ، وَمَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا نَاوَلُوا الصَّبِيَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وَرُوحُهُ تَقَلْقَلُ([1]) فِي صَدْرِهِ. ـ قَالَ: حَسِبْتُهُ قَالَ: كَأَنَّهَا شَنَّةٌ([2])ـ قَالَ: فَبَكَى رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَقَـالَ لَـهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: مَا هَـذَا يَا رَسُولَ الله؟ قَـالَ: «الرَّحْمَـةُ الَّتِي جَعَلَهَا الله فِي بَنِي آدَمَ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»([3]). 

* مقصود الحديث:

الحديث يهدف لبيان حكم البكاء عند مصيبة الموت، وأن مجرد البكاء الذي لم يقرن بشيء من النوح والندب ليس بحرام ولا مكروه يؤاخذ به الباكي والميت، بل هو رحمة وفضيلة يثاب عليها. 

* عناصر بناء الحديث:

ولتحقيق هـذا المقصـد، ورد قـول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث مرتـين: المرة الأولى: (لله مَا أَخَـذَ وَلَـهُ مَا أَعْطَى، وَكُـلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ إِلَى أَجَـلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) نصيحة مرسل بها إلى ابنته التي قرب أجل ولدها حثا لها وللأمة على «الصبر والتسليم لقضاء الله ـ تعالى ـ وتقديره، لأن هذا الذي أخذ منكم كان له لا لكم، فلم يأخذ إلا ما هو له، فينبغي أن لا تجزعوا كما لا يجزع من استردت منه وديعة أو عارية. فإن كل من يأتي إلى هذه الدنيا أجله مقدر عند خالقه ـ عز وجل ـ، فإذا انقضى أجله المسمى، فمحال تقدمه أو تأخره عنه. فإذا علمتم هذا كله فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم»([4]). والمرة الثانية: (الرَّحْمَةُ الَّتِي جَعَلَهَا الله فِي بَنِي آدَمَ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) رد على سؤال السائل، وبيان أن البكاء من غير النوح أو الندب جائز، وهو علامة من علامات الرحمة، فيثاب عليه.

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

جاء أسلوب القصر بإنما هنا في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (وَإِنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) إجابة على سـؤال السائل، وتأكيداً لجواز البكاء من غير النوح أو الندب عند مصيبة الموت، وأن هذا النوع من البكاء محمود، وهو (الرَّحْمَةُ الَّتِي جَعَلَهَا الله فِي بَنِي آدَمَ)، ورقة يجدها الإنسان في قلبه، تبعثه على البكاء من خشية الله ـ تعالى ـ، وعلى أفعـال البر والخير، وعلى الشفقـة على المبتلى والمصاب، ومن كـان كذلـك، جازاه الله برحمته. وذلك ـ كما ذكر أسامـة بن زيد ـ عندما بكى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ولد ابنته الذي ترددت روحه في صدره، سأله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ  مستبعدا ما رآه منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَا هَذَا يَا رَسُولَ الله؟» لأنه «ظن أن جميع أنواع البكاء حرام، وأن دمـع العين حـرام، وظن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نسي فذكّره»([5]). فرد عليـه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثبتا أن هذا النوع من البكاء ليس بحرام ولا بمكروه، بل هو رحمة يثاب عليها. ثم أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جواز ذلك النوع من البكاء وفضيلته بجملة القصر، فقصـر رحمة الله ـ تعالى ـ على كونها للرحماء من عباده، ونفى عنها كونهـا لغيرهم على سبيل القصر الحقيقي المبني على المبالغـة، لأن رحمتـه وسعت كل شيء([6]).

 وهذا يؤكـد على أن من في قلبه شيء من الرحمة، فإن الله ـ تعالى ـ يجازيهبحظ وافر من رحمته العظيمة. أما الذي لا يرحم، فليست له هذه المجازاة الشريفة، وربما يرحمه الله ـ تعالى ـ إذا شـاء ذلك، فإنـه ـ تعالى ـ فعال لما يريد، غير أن ذلك النصيب لا اعتداد به بجوار هذه الرحمـة العظيمـة التي يهديها الرحمن الرحيم لمن يتخلق بخلقه الكريم، فيرحم الخلـق. وفيه حـث للأمة على الرحمة للخلق، لأنها من أكـبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله التي من آثارها خيرات الدنيا وخيرات الآخرة، وفقد الرحمة من أكبر الموانع لرحمة الله ـ تعالى ـ. وإن العبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمـة الله ـ عز وجل ـ، لا يستغني عنهـا طرفـة عين. فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمـل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وعلى رأسها التخلق بصفة الرحمة اقتداء بتعليم الله ـ تعالى ـ ورسوله الكريم، فإنه «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»([7]). 

هكذا ورد أسلوب القصر هنا في مقام إزالة الوهم وتصحيح الفهم، فأكد للذي يتوهم أن كل أنواع البكاء حرام ينافي الصبر والرضى أن منه ما ليس بحرام، بل هو محمود، كمن بكى بغير النياحة لحبيبه المصاب بموت أو غيره من المصائب، وكان حزنه عليه لرحمة. وذلك لأن هذا النوع من البكاء رحمة جعلها الله ـ تعالى ـ في قلوب عباده، وهـو يحصل للإنسان من غير اختياره، فضلا عن أن ذلك سبب من أسبـاب اكتساب رحمة الله ـ تعالى ـ التـي يعيش الإنسان بـها، لأن رحمـة الله ـ تعالى ـ مقصورة على من يرحم، ولا تتجاوزه إلى غيره. وبذلك رغّب المخاطب بـل الأمـة في التحلي بمكـارم الأخلاق، وحثهـم على الاقتباس من صفـة الرحمة الكريمة للرحمن الرحيم ولرسوله الذي أرسل رحمة للعالمين.

ووقع القصر هنـا بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل الصادر من فاعله (يَرْحَمُ الله) على مفعوله (الرُّحَمَاءَ)، ويكون القصر قصر موصوف على صفة، إذ الفعـل مـع فاعلـه كالموصوف لمفعوله، فأثبت للموصوف (رحمة الله) الصفة (كونها للرحماء وارتباطها بهم)، ونفى عنها صفة كونها لغيرهم. واختيار الجملة الفعلية التي فعلها مضارع يدل على أن هذه الرحمة من الله ـ تعالى ـ لعباده الرحماء تتجدد وتستمر ما داموا يرحمون، فإن الجزاء من جنس العمل. وفي إضافة العباد إلى الضمير العائد على اسـم الجلالة تشريف لهم، وزيادة تأكيد رحمة الله ـ تعالى ـ وتقريرها لهم، لأنهم من عباده الضعفاء الذين في قلوبهم رحمة ورقة. ثم في وصفهم بالرحماء أيضا تشريف لهم لأن الرحيم من أسماء الله الحسنى وصفاته الذاتية. وفي لفظ (الرحمـاء) مبالغـة، لأنـه جمع الرحيم، وهو من صيغ المبالغة. وهذه المبالغة «للرد على من استبعد جواز فيض الدمع، ولأن لفظ الجلالة فيه دالّ على العظمة فناسب فيه التعظيم والمبالغة»([8]). 

هكذا علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمة حكم البكاء من غير النياحة، وأثبت جوازه وفضله من خلال قوله البليغ وفعله الهادف. ولذا ترك ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولا إجابة رسول ابنته الذي جاء ليدعوه، ثم أجابه وذهب معه في المرة الثانية، قال العيني ـ رحمه الله تعالى ـ: «أما ترك إجابته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولا، فيحتمل أنه كان في شغل في ذلك الوقت، أو كان امتناعه مبالغة في إظهار التسليم لربه، أو كان لبيان الجواز في أن من دعي لمثل ذلـك لم تجب عليـه الإجابـة، بخلاف الوليمـة مثلا، وأما إجابته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد إلحاحها عليه، فكانت دفعا لما يظنه بعض الجهلة أنها ناقصة المكان عنده، أو أنه لما رآها عزمت عليه بالقسم حن عليها بإجابته»([9]). 

وقـد دقـق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اختياره طريق هـذا القصر، فأحسن الاختيار، فإن استخدام (إنما) هو الأليق بهذا المقام، والموافق لمقتضى الحال، هذه هي البلاغة، وهكذا تكون بلاغة أفصح الناطقين بالضاد. ففي أسلوب القصر تأكيد يزيل ما دار في ذهن السائل من الوهم، ويحقق ما يقصد من الحث والترغيب في الرحمة؛ وفيه إيجاز يوافق تمامـا مقتضى الحـال، حيث إن العين تدمـع والقلب يحزن، فلا مجال لتطويل القول، فطوى كثيرا من المعاني في هذه العبارة الموجزة، ولهذا أيضا حذف المبتدأ في الجملة السابقة: (الرَّحْمَةُ الَّتِي جَعَلَهَا الله فِي بَنِي آدَمَ). وما تحمله (إنما) من خصائص الرقـة والخفة والهمس يناسب هذا الموقف الحزين الدامع تمام المناسبة، وكأن الدمـع ينقطـر من ثنايا الحروف. فلو استخدم غيرها من طرق القصر مثل (النفي والاستثناء) أو العطف أو غير ذلك، لذهبت هذه الخصائص المناسبة لهذا المقام الضيق الحزين، بل يأتي بما فيه من قوة وشدة تجافي هذا المقام الرقيق، أو تطويلٍلا يتحمله القلب الحزين، أو نفيٍ صريح تأباه النفس الجريحة. فإن طريق (إنما) هي أوجز طرق القصر وأرقّها، فضلا عن أن النفي فيه لم يصرَّح به، والمقام مقام المؤاساةوالتراحم، فلا يليق التصريح بنفي الرحمة.

هذا وقـد شارك القصر فن آخر في تخفيف ما في نفوسهم من الحزن في هذا المقام، وهذا الفن هو الجناس([10])، حيث قد جاء في هذا القصر عفوا دون أدنى تكلف، وهو التجانس بين (يرحم) و(الرحماء). وهذا يسمى «جناس الاشتقاق»([11])، وقد ألحقه البلاغيون بالجناس. وهو بما يحملـه من الخفـة والتوافق لـه دور في مؤاساة القلوب الحزينة.

*  *  *

روى ابن ماجه بسنده عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّمَا كَانَتْ يَهُودِيَّةٌ مَاتَتْ، فَسَمِعَهُمْ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَبْكُونَ عَلَيْهَـا، قَـالَ: «فإِنَّ أَهْلَهَـا يَبْكُونَ عَلَيْهَـا، وَإِنَّهَا تُعَـذَّبُ فِي قَبْرِهَا»([12]). 

* مقصود الحديث:

الحديث الشريف يهدف لبيـان أن المقصود من الحديـث «إن الميت يعذَّب ببكاء الحي عليه» هو اليهودي، وأنه يعذب في القبر، وأهله يبكون عليه.

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث في قـول السيدة عائشـة ـ رضي الله عنهـا ـ، أوردتـه بجملـة طويلة تندرج تحتها مجموعـة من الجمل المعطوف بعضها على بعض، ذكرت فيها أنها (كَانَتْ يَهُودِيَّةٌ مَاتَتْ، فَسَمِعَهُمْ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَبْكُونَ عَلَيْهَا.) فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مستنكرا لذلك (فإِنَّ أَهْلَهَا يَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا تُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

أرادت السيدة عائشة  ـ رضي الله عنها ـ  من خلال قولها هذا إنكار الحديث (إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه)، لأنها قالت قولها عندما سمعت هذا الحديث، قال السندي ـ رحمه الله تعالى ـ: «قالت ذلك حين بلغها حديث (إن الميت يعذب ببكاء الحـي عليـه)، فأنكرت ذلـك لقولـه ـ تعالى ـ: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ[الأنعام : 164] وقالـت: وما كـان الحديث كذلـك، وإنما كـان الحديث على هـذا الوجه، وهو: (إن يهودية ماتت... إلخ)»([13]).

ولتأكيد الإنكار أوردت ـ رضي الله عنهـا ـ كلامها بأسلوب القصر بإنما، وقصرت الحديث من النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على سياقـه وعبارتـه المذكورين، ونفت عـن الحديث أن يكون على الوجه الذي بلغها، وهو أن الميت يعذب ببكاء الحي عليه. وزادت تأكيدها باستعمال طريق (إنما)، إشارة إلى أن كون الحديث الصحيح على الوجه الذي ذكرته أمر معلوم واضح، قد سمعته هي من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

ومن هنـا نرى أن في القصر هنـا حذفـا، إذ المقصور محذوف، لأن ما يذكر هنـا لا يصلح أي شيء منه ليكـون مقصوراً، ويمكن تقديـر المحذوف: الحديث الصحيح. أي: أن الحديث الصحيح هو على الوجـه الذي ذكرت، لا على الوجه الذي بلغها. وقد ورد عن عَمْرَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ، وَذُكِرَ لَهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ (إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ عَلَيْهِ) فَقَالَتْ عَائِشَةُ: غَفَرَ الله لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ! أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْـذِبْ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَـرَّ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى يَهُودِيَّـةٍ يُبْكَـى عَلَيْهَا. فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا»([14]). 

وإنما أنكرت السيدة عائشـة ـ رضي الله عنها ـ ذلك الحديث، لأنه ما بلغها إلا من عمـر أو ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، ولِما رأت أن فيه تعارضا مع قول الله ـ تعالى ـ: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ، غير أن العلماء قد أثبتوا صحته لمجيئه عن الصحابة العديدة، ولإمكان تأويله من وجوه كثيرة([15]). 

والمهم أن القصر بتقديرنـا السابق وقع بين أجزاء الجملـة الاسميـة، وقـد حذف المبتدأ لدلالة سيـاق الحديث ومورده عليـه، وخبره هو ما ذكر بعد (إنما) بأكمله. فالمقصور عليه هنـا مكون من مجموعـة من الجمل لا ينفصل بعضها عن بعض: (إِنَّمَا كَانَتْ يَهُودِيَّةٌ مَاتَتْ، فَسَمِعَهُمْ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَبْكُونَ عَلَيْهَا، قَالَ: «فإِنَّ أَهْلَهَا يَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا تُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا».) وهذا القصر قصر صفة على موصوف إن قدرنـا المقصور المحـذوف: الصحيـح أو نحـوه، فالمعنـى أن السيـدة عائشـة ـ رضي الله عنها ـ أثبتت صفـة الصحـة على الحديث الذي جـاء في سياقـه الذي ذكرت، ونفتها عن الحديث الذي بلغها من عمر أو ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ . ويمكن أن يكون من قصر موصوف على صفة إن قدرنا المقصور المحذوف: الحديث أو نحوه، فيكون المعنى أنها أثبتت للحديث كونه على الوجه الذي ذكرت، ونفت عنه كونه على الوجه الذي بلغها من عمر أو ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ. فالحديث هو الموصوف، وكونه على الوجه الذي ذكرته هو كالصفة له.

ثم واضح أن القصر على التقديرين يكون من القصـر الإضافي، وهو قصر قلب، قلب الحديث من الوجه الذي بلغها من عمر أو ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إلى الوجه الذي ذكرتْه.    

هكذا أنكرت السيدة عائشـة ـ رضي الله عنها ـ الحديث الذي لم تتيقن من صحته، وأكدت إنكارها له وأثبتت الصحيح فيه من خلال إيراد كلامها بأسلوب القصر بإنما، وبذلك أثبت رخصة الشرع في البكاء من غير النياحة على الميت، لأنه «الرَّحْمَةُ الَّتِي جَعَلَهَا الله فِي بَنِي آدَمَ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»([16]). أما البكاء مع النياح فكأنهـا ترى أن الوزر والعذاب على الباكي لا على الميت كما يوحي من خلال رفضها الحديث. هـذا وإن كـان العلماء قـد أثبتوا الصحـة للحديث الذي أنكرته السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ، فإنه لا غبـار عليها ـ رضي الله عنها ـ، فإنه إن دل على شيء فإنما يدل على مدى دقتها وحذرها ـ رضي الله عنهـا ـ في روايـة الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

وبالتحليل الذي مضى تبين لنـا أن استخدام (إنما) هـو الأليـق بهذا المقام، ولو استخدم غيرها من طرق القصر مثل (النفي والاستثناء)، لاختل المعنى، وذلك أن في استخدام (إنما) ادعاءَ وضوح مفهوم القصر وجلائـه، وهـو كون الحديث الصحيح كالمذكور في هذا القصر، وليس كما قيـل: «إن الميت يعـذب ببكاء الحي عليه»، يعني ليس كما هو في إطلاقه وعمومه. أوردتـه السيدة عائشة ـ رضي الله عنهـا ـ بأسلوب القصر تأكيـدا على إنكارها القول بالإطلاق والعموم. لكنها لم تستخدم مثل طريق (النفي والاستثناء) الذي فيه قوة التأكيد، وذلك لحرصها على إعلام وضوح صحة الحديث الذي على الوجه الذي ذكرته، وبطلان حمل الحديث على إطلاقه وعمومـه، لأنها هي التي سمعته من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأن لهذا الحديث مورده الخاص، ولم يكن على وجـه الإطلاق والعموم كما سبـق في أثناء التحليل، فضلاً عن ذلك فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى. فكأن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ رأت أن هذه الحقيقة لوضوحها وجلائها، لا يحتاج إثباتها إلى مزيد من التأكيد، وإنمايكفيه مجرد التنبيه والتذكير. وهذا أبلغ وأنفع في هذا المقام، مقام الرد والاحتجاج، كأن فيه إثبات شيء، ونفي آخر من خلال إقامة الأدلة والبراهين.

*  *  *

روى ابـن ماجـه بسنده عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى»([17]).

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هو حـث الأمـة على الصبر عنـد المصائب، ولا سيما عند أول نزولها، لأنه هو  الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر الجزيل لكثرة المشقة فيه.

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث بجملة قصرية موجزة لتحقيق هذا المقصود، أثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها صريحا أن الصبر عند أول نزول المصائب، ونفى ضمنيا أنه يكون في غير ذلك الوقت، على سبيل المبالغـة والتنويـه لشأن الصبر عنـد أول نزول المصائب: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى).

* أسلوب القصر في الحديث وعناصر بنائه:

جاء كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسلوب القصر الذي يفيد التأكيد والتقرير، ليؤكد مضمون هذه الجملة ويقرره، وإنما احتيج إلى هذا التوكيد، لأنه من شأن النفوس أنها تعتقـد أن الصبر لم يكن في أول نزول المصائب فقـط، بل هـو يستمر إلى مدة غير قليلة. والنبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكـد وبالـغ أهميـة الصبر في أول نزول المصائب، لأن الصبر عندئذ أكثر مشقة، وأكبر نفعـاً، وأجـل ثوابا، ومع أن أكثر الناس يعلمون ذلـك غير أنـه يقـل من يصبر. ها هو ورد في مورد الحديث أنه (مَرَّ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْـدَ قَبْرٍ فَقَالَ: اتَّقِي الله وَاصْبِرِي. قَالَتْ: إِلَيْـكَ عَنِّي، فَإِنَّـكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ. فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ. فَقَالَ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى»)([18]). 

ذكر الطيبي ـ رحمه الله تعالى ـ أن صدور هذا الجواب من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على اعتذارهـا «لم أعرفـك» على أسلوب الحكيم([19])، قـال: «فكان ظاهر الجواب غير ما ذكـر من قولـه: (الصبر عنـد الصدمـة الأولى)، ولكن أخرجـه مخرج أسلوب الحكيم، أي: دَعِي الاعتذار مني، فإن من شيمتي أن لا أغضب إلا لله، وانظـري إلى تفويتك من نفسك الثواب الجزيل، والكرامة، والفضل من الله ـ تعالى ـ بالجزع وعدم الصبر عند فجاءة الفجيعة»([20]). 

فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يعاتبها على ما صدر منها من الجفوة في حال مصيبتها وعدم معرفتها به، بل بين لها فضل الصبر في أول الحال، وما له من جزيل الثواب، تأسيفاً لما فاتها من ذلك الثواب، حثا لها وللأمة على الصبر في أول فجاءة المصيبة. هكذا يكون نبينا الكريم الذي بعث رحمة للعالمين.

أكد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهمية هذا الصبر من خلال أسلوب القصر، حيث قصر الصبر على كونـه عند الصدمة الأولى، ونفى عنه كونـه في غيرهـا. كـأن هذا الصبر عند الصدمة الأولى لأهميته ومشقته وجزيل ثوابه جعل غيره من ألوان الصبر لا يعتد به، لأن غيره لم تترتب عليـه تلـك المشقة، فإن «مرور الزمان يهوِّن المصائبَ، لأن النسيان يطرأ، وعمل القوة الفكرية ينصرف عما تقادمَ عهدُه إلى غيره، فيقع الصبر من غـير تكلّف»([21]). فلا يكون لـه ذلـك الثواب الجزيل، لأن الجـزاء من جنس العمل، فإذا كانت المشقة المترتبة على العمل أكثر، كان الثواب المترتب عليه أعظم. وهذا معروف، فجاء القصر بطريق (إنما) الذي يتناسب مع هذا الوضوح.

والقصر هنا وقـع بين أجزاء الجملـة الاسميـة، فقصر المبتدأ (الصبر) على الظرف المتعلق بالخبر المحذوف (عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى)، قصر موصوف على صفة، إذ هذا الظرف كالصفة للصبر، قصر الصبر على كونه عند الصدمة الأولى، ونفى كونه بعد ذلـك. فواضح أن القصر قصر إضافي، وهو قصر إفـراد، لأن من شأن النفوس أنها تعتقد أن الصبر يكون في أول فجاءة المصيبة، ويكون أيضا بعد ذلك. فهنا أثبت للصبر كونـه في أول فجاءة المصيبة، ونفى عنه كونه بعد ذلك، وبذلك أفرد ما تعتقده النفوس من شركة الصبر في الحالين. ثم هذا القصر يحتمل أن يكون تحقيقيا، وأن يكون مبنيا على المبالغـة، وذلك أنه يكون تحقيقيا إذا اعتبرنا أن اللام في (الصبر) لام التعريف، بمعنى أن المقصود بهذا الصبر هو الصبر الكامل الذي يعـود لصاحبـه بعظيم النفع وجزيل الثواب من عند الله ـ تعالى ـ، كما قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «معناه الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر الجزيل لكثرة المشقة فيه»([22]). وبهذا قـال العيني ـ رحمه الله تعالى ـ: «قولـه إنما الصبر أي:

إنما الصـبر الكامل، ليصـح معنى الحصر على الصدمـة الأولى»([23])، وكـأن هذا هو الأظهر. غير أنه يظهر لي أن هذا القصر من المحتمل أن يكون قصرا مبنيا على المبالغة، وذلك إن اعتبرنا أن اللام في الصبر لام الحقيقة والجنس، بمعنى أنه قصر حقيقة الصبر على كونه في أول الصدمة مبنيا على مبالغة مشقته وأهميته، فكأن الصبربعد ذلك لم يكن صبرا لقلة المشقة فيه. يقول العيني ـ رحمه الله تعالى ـ: «وحاصل المعنى: أن الصبر الذي يكـون عنـد الصدمـة الأولى هـو الذي يكـون صبرا على الحقيقة، وأما السكون بعد فوات المصيبة فربما لا يكون صبراً، بل قد يكون سَلْوَى، كما يقـع لكثير من أهـل المصائب، بخلاف أول وقوع المصيبة، فإنه يصدم القلب بغتة فلا يكون السكون عند ذلك، والرضى بالمقدور إلا صبرا على الحقيقة»([24]). ثم في اختيار لفظ الصدمة تجسيد وتأكيد لمشقة الصبر في أول فجاءة المصيبة، لأن أصله في اللغة: «مرة من الصدم، وهو الضرب في الشيء الصلب بمثله، ثم استعير لكل أمر مكروه»([25]). فهنا استعير لفجاءة المصيبة، فإنها كالضرب بالشيء الصلب على مثلها بجامع شـدة التأثير. هكذا يكـون الضرب شديدا عند فجاءة المصيبة، وشدة وقع المصيبة هو فجأة حصول المصيبـة عند الإنسان لأول مرة، هذه أعظم حالة تكون عند الإنسان، «فإنما القوة في مقابلة البلاء عند مبدأه، ولا يقدر على الصبر حينئذ إلا أحد رجلين: مؤمن بالأجـر فهـو يصبر لنيل ما يرجوه، أو ناظر بعين العقل إلى أن الجزع لا فائدة فيه»([26]). فإذا صبر الإنسان عنـد الصدمة الأولى فمن باب أولى أن يصبر فيما وراء ذلـك، فإنـه على مدى الأيام يسلو أو ينسى. ولهذا كان الصبر في أول الصدمة هو أهمه، وله جزيل الثواب.

هكـذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقـام تأكيد مشقة الصبر وفضيلته المترتبـة على تلـك المشقـة، قاصـدا لحث الأمـة على الصبر عند فجاءة المصائب، وترغيبهم في الحرص على نيـل فضيلتـه العظيمـة وثوابـه الجزيل. وأصبـح هـذا الحديث البليـغ الموجـز مثلا رائعـا يتمثل به جيلا بعد جيل، ـ صلى الله على قائله وسلم ـ .

ومن خلال التحليل الذي سبق تبين لنا أن استخدام طريق (إنما) هنا هو الأنسب لهذا المقام، لأن في هذا الطريق ما لم يكن في غيره من مزيد المبالغة والتأكيد، حيث إن فيه ادعاء أن الصبر هو الصبر عنـد الصدمة الأولى، وذلك أنه لِما يترتب عليه من جزيل الثواب، يجعل غيره من الصبر لا يعتد به كما ذكرنا في أثناء التحليل، وهذا القدر من المبالغة أو الادعاء يوجد في غير (إنما) من طرق القصر، لكن (إنما) هنا تجعل المبالغة لم تنته بهذا الحد، بل زادت عليه، حيث إنها جعلت هذه المبالغة كأنها لم تكن مبالغة أصلا، بل هي حقيقة ثابتة معروفة مسلمة لدى الجميع. وفي هذا ما فيه من زيادة الحث على الصبر في أول فجاءة المصيبة. وذلك دور (إنما) لا تنوب عنها غيرها. 

*  *  *

روى ابن ماجـه بسنده عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ـ وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَ امْرَأَتِهِ ابْنَةِ خَارِجَةَ بِالعَوَالِي ـ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: لَمْ يَمُتِ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، إِنَّمَا هُوَ بَعْضُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عِنْدَ الوَحْيِ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: أَنْتَ أَكْرَمُ عَلَى الله مِنْ أَنْ يُمِيتَكَ مَرَّتَيْنِ، قَدْ وَالله! مَاتَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وَعُمَرُ فِي نَاحِيَةِ المَسْجِدِ يَقُولُ: وَالله! مَا مَاتَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وَلَا يَمُوتُ حَتَّى يَقْطَـعَ أَيْدِيَ أُنَاسٍ مِنْ المُنَافِقِينَ كَثِيرٍ وَأَرْجُلَهُمْ. فَقَـامَ أَبُو بَكْـرٍ فَصَعِـدَ المِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ كَـانَ يَعْبُدُ الله فَإِنَّ الله حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ. ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّـهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّـهُ الشَّاكِرِينَ. قَالَ عُمَرُ: فَلَكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْهَا إِلَّا يَوْمَئِذٍ([27]). 

* مقصود الحديث:

الحديث يقصد لبيان أحوال أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما هزّهم خبر وفاة أحب الناس إليهـم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مما يؤكد عظمة منزلته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قلوبهم، ومدى تعظيمهم له ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث الشريف بمجموعـة من الجمـل تحكيهـا لنـا السيـدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ، يمكن تقسيم هذه المجموعة إلى أربعة عناصر: العنصر الأول: بيان حال عامة الناس عند وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ـ وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَ امْرَأَتِهِ ابْنَةِ خَارِجَةَ بِالعَوَالِي ـ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: لَمْ يَمُتِ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، إِنَّمَا هُوَ بَعْضُ مَا كَـانَ يَأْخُذُهُ عِنْـدَ الوَحْيِ)؛ والعنصر الثاني: بيـان موقـف أبي بكـر ـ رضي الله عنه ـ من ذلـك (فَجَـاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِـهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: أَنْتَ أَكْرَمُ عَلَى الله مِنْ أَنْ يُمِيتَكَ مَرَّتَيْنِ، قَدْ وَالله! مَاتَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .)؛ والعنصر الثالث: بيان حال عمر ـ رضي الله عنه ـ عندئذ (وَعُمَرُ فِي نَاحِيَةِ المَسْجِدِيَقُولُ: وَالله! مَا مَاتَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وَلَا يَمُوتُ حَتَّى يَقْطَعَ أَيْدِيَ أُنَاسٍ مِنْ المُنَافِقِينَ كَثِيرٍ وَأَرْجُلَهُمْ.)؛ والعنصر الرابع: خطبة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وتأثيرها في عمر ـ رضي الله عنه ـ (فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَصَعِدَ المِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله فَإِنَّ الله حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، وَمَـنْ كَـانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَـدْ مَـاتَ. ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّـهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّـهُ الشَّاكِرِينَ. قَـالَ عُمَـرُ: فَلَكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْهَا إِلَّا يَوْمَئِذٍ).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

وقع أسلوب القصر بإنما في العنصر الأول الذي بين فيه حال عامة الناس عندما هزّهم خبر وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهم لم يستطيعوا تصديق الخبر لشدة حبهم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واستعظامهم له، فأنكروا موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقالوا: (لَمْ يَمُتِ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، إِنَّمَا هُوَ بَعْضُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عِنْدَ الوَحْيِ). فهم نفوا موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ صريحاً، ثم أكدوا نفيهم ثانيا من خلال أسلوب القصر، وفي هذا الأسلوب نفوا موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضمنيا مرة أخرى، وأثبتوا أن ما حدث لـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن موتا، بل هو بعض من أحـوال الوحـي. قـال السندي ـ رحمه الله ـ: «قولـه: (إنما هو بعض ما كان) أي: هذا الذي طرأ عليه من الحال هو بعض من تلك الأحوال التي تأخذه عند الوحي إليه»([28]). وهذه الجملـة القصرية بمثابـة الجملـة المؤكدة أو المبينة للجملة السابقة عليها، والتأكيد جاء من معنى النفي الضمني الذي هو شق من معنى القصر، وهذا النفي الضمني تأكيد للنفي الصريح السابق عليـه؛ وأما البيان فإنه أتى من معنى الإثبات الصريح الذي هـو شـق آخـر من معنى القصر، فكأن بعد النفي يثار في الذهن سؤال: إن لم يكن ذلك موتا، فماذا كان إذًا؟ فجاءت الإجابة مبينة أن ذلك هو بعض ما كان يأخذه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند الوحي. وعلى كلٍ فإن بين جملـة القصر والجملة السابقـة عليها صلةً داخلية وثيقة، تغنيهما عن الارتباط بينهما بشيء من العطف، ولذا ترك العطف بالواو بينهما.

هكذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنا ليؤكـد مـا في نفوسهم من شدة النفي والرفض لحقيقة هذا الخبر المؤلم، وهو وإن كان حقا، فإنهم لا يملكون القدرة على إقناع نفوسهم، كأن شدة المصيبة هزّتهم، وأنستهم قول الله ـ تعالى ـ: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّـهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّـهُ الشَّاكِرِينَ[آل عمران: 144]. هكذا تكون شـدة وجع مصيبة الموت في النفوس بعظمـة منزلـة المتوفَّى عندهـا، فمن ذا يكون أعظم منزلـة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندهم؟ وفي اختيارهم طريق (إنما) خاصـة للتعبير عن القصر الذي يقصد من ورائه تأكيد نفيهم لموت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زيادة لذلـك التأكيد، لأنهم جعلوا كون ذلك الذي حدث للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعضاً مما يأخذه عند الوحي أمراً مسلماً معلوماً لـدى الجميع، فلن يكون ذلـك موتـا، بـل إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيرجـع، أكـد ذلـك عمـر ـ رضي الله عنه ـ  في قوله: (وَالله! مَا مَاتَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وَلَا يَمُوتُ حَتَّى يَقْطَعَ أَيْدِيَ أُنَاسٍ مِنْ المُنَافِقِينَ كَثِيرٍ وَأَرْجُلَهُمْ)، أكد ـ رضي الله عنه ـ كلامه من خلال القسم باسم الجلالة، أكد أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يمت، ولن يموت قبل قطع أيدي المنافقين وأرجلهم والقضاء عليهم، فما دام هناك منافق حقـير فلن يموت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ جـاء مميزاً بين الحق والباطل، وإتمام التمييز متوقف على القضاء على جميع المنافقين.

هكذا كان عمر وغيره من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يقدروا على تصديق موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لحبهـم الشديـد واستعظامهم لـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين يرفضان لهم التصديق، ويحرصان على إقناعهم بنفي موتـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ويخفيان لهم ما حفظوا من قول الله ـ تعالى ـ المبين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحد من البشر يطرأ عليه الموت كما طرأ على غيره من البشر.

ولهذا كله لم يجد أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ  إلا أن ينبّههم، ويؤكد لهم حقيقة موت النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ويذكّرهم قول الله في شأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فعندما أنكر عامة الناس موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أكد لهم أنه قد مات، والموت حق: (أَنْتَ أَكْرَمُ عَلَى الله مِنْ أَنْ يُمِيتَكَ مَرَّتَيْنِ([29])، قَدْ وَالله! مَـاتَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ). ثم إنه حينما وجد عمر ـ  رضي الله عنه ـ  أيضاً أنكر موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأكد إنكاره، صعد المنبر وأكد الحقيقة للجميع مرة أخرى: (مَنْ كَـانَ يَعْبُدُ الله فَإِنَّ الله حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ. ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّـهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّـهُ الشَّاكِرِينَ ). انظر كيف أكد عمر ـ  رضي الله عنه ـ  في قوله (فَلَكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْهَا إِلَّا يَوْمَئِذٍ) على أن المصيبة قد أنسته الآية، كأنه سمعها أول مرة.

هكذا كلٌّ يؤكـد بأسلوبه ما أوقعت المصيبة في نفسه، والذين أكدوا نفيهم موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خلال أسلوب القصر بإنما، قد دققوا في اختيارهم للأسلوب وطريقه. وهذا القصر وقع بين أجزاء الجملة الاسمية، حيث قصر المبتدأ (الضمير العائد إلى الموت) على خبره الذي يكوّن من المضاف والمضاف إليه: (بَعْضُ مَا كَانَيَأْخُذُهُ عِنْدَ الوَحْيِ). وهو قصر موصوف على صفة، إذ الضمير العائد على الموت كالموصوف، وخبره كالوصف له، فيكون قصر الموت على صفة كونه بعضَ ما كان يأخـذه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند الوحي، حالاً من الأحوال التي هي تأخذه عند الوحي إليه، ونفى عنه أن يكون حقيقة الموت. وبهذا وضح أن القصر قصر إضافي، وهو قصر قلب.

 ثم في إيثـار الضمير في المقصور على الاسم الظاهر تجنّب من ذكر الموت، إذ الكـلام جاء لنفي الموت، فأسقطوه من أول الأمر، أسقطوه من اللفظ، لأنهم لا يرضون بالتلفـظ بـه في حـق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وجاء المضاف إليه باسم الموصول للتمكن من التعليل لنفي الموت عنـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حيث جاء في صلة الموصول ما هو كشيء من التعليـل لذلـك، فكأنهم يقولون: إن الذي طرأ على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس موتا، بل هو بعض من أحواله التي طرأت عليه عند الوحي، لأن مثل ذلك يحدث في حقـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيراً، وهذا ما نشمّـه من خلال تعبيرهم بالفعـل المضارع الذي يفيد الحدوث والتجدد: (يَأْخُذُهُ).

هكذا أكدوا ـ رضي الله تعالى عنهم ـ رفضهم وإنكارهم موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكل تلك التأكيدات، واستغلوا أسلوب القصر لهذا المقام مقام الإنكار والرفض أحسن استغلال. وهذا الإنكار أو الرفض لم يكن جهلاً منهم، بل إن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على مدى حبهم وتعظيمهم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

وبالتحليل السابق تبين لنا أن استخدام (إنما) هو الأليق بهذا المقام، ولا تنوب عنها غيرها مثل (النفي والاستثناء)، وإلا لَفات ما في التعبير بـ (إنما) من المعاني، وذلك أن المقام هنا مقام التكذيب والرفض، كذبوا خبر وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورفضوه، فإنهم لشـدة حبهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وحرصهم عليـه، لم يقـدروا على تصديق خـبر وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي هزّهم هزاً، فحاولوا إقناع أنفسهم وغيرهم من المسلمين، فبينوا لهم وجـه رفض الخبر، وأثبتوا أن ذلـك بعض ما كان يأخذه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند الوحي، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيرجـع، وهـذا معلوم لديكم. بالإضافـة إلى ذلك فإن في استخدام (إنما) تمكينهم من اجتناب ما لا يقدرون نطقه في هذا المقام، وهو الموت. رضي الله عن أصحابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجمعين!

*  *  *

روى ابن ماجه بسنده عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَإِنَّمَا وَجْهُنَا وَاحِدٌ، فَلَمَّا قُبِضَ نَظَرْنَا هَكَذَا وَهَكَذَا([30]). 

* مقصود الحديث:

الحديث يهـدف لبيان فضـل عهـد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأن المسلمين فيـه مجتمعون على كلمة واحدة تحت إرشاد أفضل المرشدين وأعظمهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كأنهم رجل واحد.

* عناصر بناء الحديث:

أتى أبيّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ  في كلامه بعنصرين لتحقيق هذا المقصد: العنصر الأول: بيان فضل عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَإِنَّمَا وَجْهُنَا وَاحِدٌ)؛ والعنصر الثاني: ذكر جانب من آثار وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وما طرأ على أحوال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من التغيير (فَلَمَّا قُبِضَ نَظَرْنَا هَكَذَا وَهَكَذَا). وبذلك تقيم مقارنـة واضحـة بين العهدين، ومن ثم أكد مدى فضل عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وإذا كان هذا الاختلاف بعد قبضة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فماذا يكون الأمر في زماننا هذا؟ فاللهمّ رحماك يا رب العالمين!

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر بإنما في العنصر الأول من قول أبي بن كعب ـ رضي الله عنـه ـ  (وَإِنَّمَا وَجْهُنَا وَاحِدٌ)، ووقـع موقـع الحال للجملة السابقة عليه: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم) ـ، تأكيدا لفضل عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حيث إن قص

الموضوعات