مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الجهاد من سنن ابن ماجه
مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الجهاد من سنن ابن ماجه
كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)
فقال:
روى ابن ماجـه بسنـده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَعَثَ عَلْقَمَـةَ بْنَ مُجَزِّرٍ عَلَى بَعْثٍ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَأْسِ غَزَاتِهِ، أَوْ كَـانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، اسْتَأْذَنَتْهُ طَائِفَـةٌ مِنْ الجَيْشِ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ الله بْنَ حُذَافَةَ بْنِ قَيْـسٍ السَّهْمِيَّ، فَكُنْتُ فِيمَنْ غَـزَا مَعَـهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَوْقَدَ القَوْمُ نَارًا لِيَصْطَلُوا أَوْ لِيَصْنَعُوا عَلَيْهَا صَنِيعًا، فَقَالَ عَبْدُ الله ـ وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَـةٌ ـ: أَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَمَا أَنَا بِآمِرِكُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا صَنَعْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي أَعْـزِمُ عَلَيْكُمْ إِلَّا تَوَاثَبْتُمْ فِي هَذِهِ النَّارِ، فَقَـامَ نَاسٌ فَتَحَجَّزُوا، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّهُمْ وَاثِبُونَ، قَالَ: أَمْسِكُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّمَا كُنْتُ أَمْـزَحُ مَعَكُمْ. فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَقَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةِ الله،فَلَا تُطِيعُوهُ»([1]).
* مقصود الحديث:
المقصـود مـن الحديث الشريف هو بيـان وجوب طاعـة الإمـام ما لم يأمر بمعصية، فإن طاعة الإمام في المعروف هي من طاعة الله ـ تعالى ـ ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأنـه لا طاعـة في معصية الله، كما يقال: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ـ جلّ وعلا ـ وهو قول سديد.
* عناصر بناء الحديث:
لتحقيق هذا المقصود جاء الحديث في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجملة شرطية أرشد فيها الأمة إلى أنه لا طاعة في معصية الله (مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةِ الله، فَلَا تُطِيعُوهُ)، مع ما سبقه من مجموعة طويلة من الجمل ذكر فيها أبو سعيد الخدري ـ رضي الله ـ سياق ورود إرشاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وذلك أنه ـ رضي الله عنه ـ كان خرج مع طائفة من الجيش (أَنَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَعَثَ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزِّرٍ عَلَى بَعْثٍ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَأْسِ غَزَاتِهِ، أَوْ كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، اسْتَأْذَنَتْـهُ طَائِفَـةٌ مِنْ الجَيْشِ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ الله بْنَ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسٍ السَّهْمِيَّ، فَكُنْتُ فِيمَنْ غَزَا مَعَهُ.) وفي الطريق أوقدوا نارا، فكان أمير الجيش عبد الله بن حذافة ـ رضي الله عنه ـ يتحدث معهـم على سبيل المزاح، فأقرهم أولا على وجوب طاعة الأمير (فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَوْقَدَ القَوْمُ نَارًا لِيَصْطَلُوا أَوْ لِيَصْنَعُوا عَلَيْهَا صَنِيعًا، فَقَالَ عَبْدُ الله ـ وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ ـ: أَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَمَا أَنَا بِآمِرِكُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا صَنَعْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ.)، ثم أمرهم بالتواثب في النار الموقدة (قَالَ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكُمْ إِلَّا تَوَاثَبْتُمْ فِي هَذِهِ النَّارِ)، فلما قـام ناس وتهيئوا للتواثب، منعهـم واعتذر من ذلك على وجه لطيف (فَقَامَ نَاسٌ فَتَحَجَّزُوا، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّهُمْ وَاثِبُونَ، قَالَ: أَمْسِكُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّمَا كُنْتُ أَمْزَحُ مَعَكُمْ.). وبعدما رجعوا ذكروا ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأهدى لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإرشاد المذكور.
* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:
ورد أسلوب القصر بإنما في قول أمير الجيش عبد الله بن حذافة ـ رضي الله عنه ـ (فَإِنَّمَا كُنْتُ أَمْزَحُ مَعَكُمْ)، ووقـع موقـع التعليـل والاعتذار، وفـاء السببية المصدرة بهـا هـذه الجملـة تشير إشارة واضحة إلى هذا التعليل. وذلك ـ كما ذكرسابقا ـ أنه كان أمر من معه بالتواثب في النار، وكانت حاله عند الأمر حال المزاح، غير أن القوم مستعدون لما يؤمرون، فإنهم يعلمون جيدا أن رسالتهم هي السمع والطاعة لما يأمر بـه الأمـير، فقـد قرروا هـم أنفسهم ذلك للأمير (فَقَالَ عَبْدُ الله ـ وَكَانَتْ فِيـهِ دُعَابَـةٌ ـ: أَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَـةُ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَمَا أَنَا بِآمِرِكُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا صَنَعْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ.).
وعندما تهيأ القوم للتواثب في النار تنفيذا لأمر الأمير، سارع الأمير إلى منعهم (أَمْسِكُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)، معلـلا للمنع بأنه كـان يأمرهم بذلك على سبيل المزاح، لا الجد، فليس عليهم الطاعة فيه (فَإِنَّمَا كُنْتُ أَمْزَحُ مَعَكُمْ)، وبذلك قدم للجميع اعتذاره منه على وجه لطيف.
وإنما أكد الأمير تعليله بأسلوب القصر، لأنه أتى به ردا على اعتقاد المخاطبين الذين تهيئوا للتواثب في النار، فإنهم بتحركاتهم هذه كأنهم يعتقدون أن ما أمرهم الأمير كان على سبيل الجد، فوجب عليهم السمع والطاعة. فرد الأمير اعتقادهم هذا، وأثبت أن ذلك كان مجرد المزاح، والتمس بذلك اعتذارهم من ذلك إن كان فيما فعله تضييق عليهم.
ثم في إيراده القصر بطريـق (إنما) إشـارة إلى أن كون أمره على سبيل المزاح شيء واضح يتجلى من خلال الوقوف على حاله، بالإضافة إلى أن ما يؤمرون به أمر تافه لا فائدة فيـه، بل يؤدي إلى التهلكة، فكيف يكون هـو أمرا مطلوبا منهم على سبيل الِجدّ؟
لذلك عندما بلـغ الخبر إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، يقول: (مَنْ أَمَرَكُمْ مِنْهُمْ بِمَعْصِيَةِ الله، فَلَا تُطِيعُوهُ)، مرشدا للأمـة إلى أن وجوب الطاعـة مشروط بعـدم كونهـا في معصية الله. وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم أن ما أمر به عبد الله بن حذافة ـ رضي الله عنه ـ كان على سبيل المزاح، فليست فيه طاعة، غير أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يلتفت إلى ذلك، فلم يصرح به تنبيها لهم على أن ذلك واضح، ينبغي لكل واحد أن يعلم أن في ذلك لا طاعة. بل أكـد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك من جهة أخرى، لحمل المخاطبين على أن يحكموا هم أنفسهم بأنه لا طاعة فيه، وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أورد إرشاده بجملة شرطية، بين فيها أن الطاعة مشروطة بأن تكون في المعروف، وأنه لا طاعة في معصية الله، إشارة بذلك إلى أن ما كان يأمرهـم الأمير بـه لم يكن من المعروف، لأن فيه تهلكة للنفوس، والإسلام ينهانا عن ذلك: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾[البقرة: 195]. فكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: حتى ولو كان أمره على سبيل الجد، فإنه لا طاعة فيه، لأنه لم يكن من المعروف، فضلا عن أنـه كان يأمر بذلك على سبيل المزاح، فماذا تقولون فيه، هل تلزم فيه الطاعة؟ والجواب: لا.
والقصر هنا وقع بين أجزاء الفعـل الناسخ، حيث قصر الفعل الناسخ مع اسمه (كنت) على خـبره (أَمْزَحُ مَعَكُمْ)، وفي التعبير بالفعل الناسخ الماضي دلالة على مضي الحكم وانتهائه، وهو أمره إياهم بالتواثب في النار. فهو أمر متحقق في أنه مجرد مزاح، ربما يكون فيه نـوع من التخفيف لتعب سفرهـم، غـير أنه لا يلزمهم شيئا.
وهو قصر موصوف على صفة، قصر حاله أو قصده في أمرهم بالتواثب في النار على كونه بصفة المزاح معهم، ونفى عنه كونه بصفة الجدية التي تُلزِمهم الطاعة فيـه. فواضح أن القصر من قبيل القصر الإضافي للقلب، ردا لمـا في نفوس القوم المستعدين للتواثـب من اعتقـاد بأنـه كـان جديـا في أمره، وقلبـا لـه إلى أنه كـان مازحا.
وهـذا الحدث وإن كان حدث على سبيل المزاح بينهم، غير أن له دروسا قيمة، وفوائد جليلة للأمة، حيث يتجلى في ثناياه مدى التزام الصحابـة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ بالسمع والطاعة لله ورسوله ولأولي الأمر منهم تنفيذا لأمر الله ـ تعالى ـ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾[النساء: 59]. ومن جانب آخر أكد لنا أن الطاعة تكون في المعروف، وأنه لا طاعة في معصية الله ـ عز وجل ـ . هكذا أسهم في تحقيق الهـدف الذي يرمـي إليـه الحديث الشريف. وأسلوب القصر بإنما هنا كذلك له دور في ذلك، حيث أبرز لنا جانبا من جوانب هذا الحـدث، والذي هـو سيـاق ورود هـذا الحديث الشريف. فقد ورد في مقام الاعتذار، فعلـل لمـا يعتذر منه على النحو الذي سبق ذكره. واستخدام (إنما) هو الأنسب لهـذا المقـام، لأن فيها إشارة إلى وضوح مفهوم القصر كما سبق ذكره في أثناء التحليل، فإن هذا الوضوح يناسب تماما لهذا التعليل.
* * *
روى ابن ماجـه بسنده عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ جَاءَ هُوَ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّـانَ إِلَى رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُكَلِّمَانِهِ، فِيمَا قَسَمَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ، فَقَالَا: قَسَمْتَ لِإِخْوَانِنَا بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ، وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ! فَقَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّمَا أَرَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ شَيْئًا وَاحِدًا»([2]).
* مقصود الحديث:
الحديث يهدف لبيان أن أهل القرابـة الذين لهم خمس خمس الغنيمة هم بنو هاشم وبنو المطلب([3]).
* عناصر بناء الحديث:
لتحقيق هذا المقصد، ورد الحديث في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجملة قصرية موجزة بين فيهـا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أهـل قرابته الذين يستحقون خمس خمس الغنيمـة هم بنو هاشم وبنو المطلب (إِنَّمَا أَرَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ شَيْئًا وَاحِدًا)، مع ما سبقهمن قـول سعيـد بن المسيَّب ـ رضي الله عنـه ـ ذكر فيه سياق ورود الحديث (أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ جَاءَ هُوَ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُكَلِّمَانِهِ، فِيمَا قَسَمَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ، فَقَـالَا: قَسَمْتَ لِإِخْوَانِنَا بَنِـي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ، وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ!).
* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:
أورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولـه بأسلوب مؤكـد أسلـوب القصـر (إِنَّمَا أَرَى بَنِـي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ شَيْئًا وَاحِدًا)، تعليلا لقسمته من خمس غنيمة خيبر لبني هاشموبني المطلب، وعـدم قسمتهـا لبني عبد شمس وبني نوفـل، وتأكيدا على صحة قِسْمته.
وإنما احتيج إلى هذا التأكيـد لأن المخاطبين قد اعترضا على قسمته، وأقاما عليه نوعـا من الحجـة، كأن قسمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تكن مقنعة لهما، حيث قالا (قَسَمْتَ لِإِخْوَانِنَا بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ، وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ!) والقائلان هما جبير بن مطعم وعثمان بن عفان ـ رضي الله عنهما ـ، ثم «جبير من بني نوفل، وعثمان من بني عبد شمس، وعبد شمس ونوفل وهاشم والمطلب سواء، الجميع بنو عبد مناف. لذلك قالا (وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ!)، حيث إن كلهم ينتسبون إلى عبد مناف الجد الرابع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .»([4])فكأنهما بهـذا أقامـا الحجـة على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا ينبغـي أن يفـرق بينهم في القسمة، فذكّرا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قسمتـه لبني هاشم وبني المطلب، ولمحا في العبارة إلى أنهم إخوة (لِإِخْوَانِنَا)، ونبهاه على أن قرابتهم منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحدة.
لذلـك أكـد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولـه في الرد عليهما لإقناعهما بما فعل، فأثبت أن بني هاشم وبني المطلب في عينه هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ كشيء واحد، فلا يفرق بينهم، وذلك لأنهم «كانـوا معـه في الجاهليـة والإسلام»([5]). وذلك أمر معلوم يتجلى في موقفهم مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عـبر العصرين، كان يشهـده المسلمون والمشركون، يشهده أبناء كل القبائل، لذا أورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصره بطريق (إنما).
ولأن «بني هاشم وبني المطلب وقفوا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العصرين ونصروه، وصبروا على ما أصابهم بسبب الإسلام من بقيـة قومهم الذين لم يسلمـوا، فهم أهل قرابته الحقيقية، يستحقون ما فضلهم الله لهم من خمس الغنيمة»([6]). وخاصة بني هاشم، فإن لهم مزيـد الفضل والشرف بسبب كون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهم. وهذا معترف ومقر من قبلهما همـا أيضا كما جـاء في رواية أخرى: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ: أَخْبَرَنِى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، قَـالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سَهْمَ ذِى القُرْبَى فِى بَنِى هَاشِمٍ وَبَنِى المُطَّلِبِ، وَتَرَكَ بَنِى نَوْفَـلٍ وَبَنِى عَبْدِ شَمْسٍ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ حَتَّى أَتَيْنَا النَّبِىَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، هَؤُلاَءِ بَنُو هَاشِمٍ، لاَ نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِى وَضَعَـكَ الله بِهِ مِنْهُمْ، فَمَا بَالُ إِخْوَانِنَا بَنِى المُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا، وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَنَا وَبَنُو المُطَّلِبِ لاَ نَفْتَرِقُ فِى جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إِسْـلاَمٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُـمْ شَىْءٌ وَاحِـدٌ». وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.)([7]) فهنا قرر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأكد من خلال أسلوب القصر أنه لا يفرق بين بني المطلب وبني هاشم، وهم عنده كشيء واحد، لذا عندما قسم لبني هاشم قسم لبني المطلب أيضا. وقد ظهر لنا في هذه الرواية وجه كونهم عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـكشيء واحـد. «أما بنو عبد شمس وبنو نوفـل، فإنهم قـد افترقوا من بني هاشم، ودخلوا مع كفار قريش في حلفهم، وحاربوا المسلمين ونابذوهم»([8]).
القصر هنـا وقع بين أجزاء الجملـة الفعلية، حيث قصر الفعل الصادر من فاعله والواقـع على مفعولـه الأول (أَرَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ) على مفعولـه الثاني (شَيْئًا وَاحِدًا). ويكون القصر قصر موصوف على صفـة، إذ قصر رأيه لبني هاشم وبني المطلب على كونـه متعلقـا ومرتبطا بتشبيههم بشيء واحد، فالمقصور كالموصوف، والمقصور عليه بمثابة الصفة له.
واختيار الجملة الفعلية التي فعلها مضارع يدل على أن هذه الرؤية منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تتجدد وتستمر، فكلما رأى أو تذكر نصرتهم وبذلهم في سبيل الله تتجدد هذه الثقة وتزداد. والفعل (أرى) من الرؤية، والرؤيـة لا تكون إلا لموجود([9])، ففي اختيار هـذا اللفـظ إشارة إلى أن ما يراه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيهم موجـود متحقق، وأن هذه الرؤية مبناها على الثقة لا على الظن.
وهذا القصر قـام على أساس التشبيـه، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شبههم أولا بشيء واحد، ثم أكد هذا الشبه من خلال أسلوب القصر، حيث أكد أن هذا التشبيه هو الأظهر لتصوير ما بينهم من علاقة ممتزجة، وأن (شيء واحد) هو المشبه به الوحيد لهم. ووجه الشبه لهذا التشبيه هو ما بينهم من كمال الاختلاط والامتزاج والتحاب والتحالـف والتوافـق والتعـاون، ولم تكن بينهم مخالفـة، لا في الجاهليـة ولا في الإسلام([10])، كما صرح بذلـك النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أَنَا وَبَنُو المُطَّلِبِ لاَ نَفْتَرِقُ فِى جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إِسْلاَمٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَىْءٌ وَاحِدٌ». وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.)([11])، فهنا بين ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسـه وجـه الشبـه بالقول (لاَ نَفْتَرِقُ فِى جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إِسْلاَمٍ) والفعـل (شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) معا. وبهذا التشبيه صور للأمة بكل وضوح ما بين بني هاشم وبني المطلب من وثيق الترابط، كأنهم لم يكونوا قبيلتين أصلا.
والذين يعترضون علـى قسمـة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يرون ـ بالطبـع ـ أن بنـي هاشم وبني المطلب شيء واحد، بل يعتقدون أنهم يختلفون، ولم يكونوا على درجة واحدة في الشـرف أو المكانـة عند الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهو السبب لاعتراضهم كما هو ظاهر من قولهم، لذا عكس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا القصر اعتقادهم، فأثبت أنهم لا يختلفون، بل يتفقون ويمتزجون امتزاج شيء واحد، فاستحق بعضهم ما استحقالآخر. ومن هنا وضح أن هذا القصر من قبيل القصر الإضافي للقلب، قلب من خلاله اعتقاد المخاطبين وعكسه. غير أنـه مبني على المبالغـة، تأكيدا لما بينهم من ترابط وثيـق وامتزاج شديـد. وتوافقا لهذا التأكيـد والمبالغة، حذفت أداة التشبيه مبالغة في التشابه، حتى كأنه لم يكن تشابـه، بل هما شيء واحد، وجاء الكلام على سبيل الإخبار لا التشبيه.
هكذا ورد أسلوب القصر بإنما هنا في مقام الرد والاحتجاج، فعلل لموقف القائل وأكـده، ورد على اعتراض المخاطبين بكل إقناع، وبهذا حقق الهدف الذي يرمي إليـه الحديث الشريف، فبين أن بني هاشم وبني المطلب هـم أهـل القرابـة الحقيقيون للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيستحقون ما فضّـل لهم الله ـ تعالى ـ من سهم الغنيمة، بما نصروا في الإسلام، وما بذلوا له، وما صبروا عليه. واستخدام (إنما) لهذا القصر هـو الأليـق بهذا المقام، لأن كـون بني هاشـم وبني المطلب في عين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كشيء واحد أمر واضح، يتجلى في موقفهم مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أثناء التحليل، فلا يحتاج إثباته إلى ما في مثل (النفي والاستثناء) من قوة التأكيد. وإنما ذكـره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا بأسلوب القصر على سبيل التذكير والتنبيه، تعليلا لموقفه، وردّا على اعتراض المخاطبين بأسلوب رقيق في هدوء تام.
p p p
([3]) وقد بين الله ـ سبحانـه وتعالى ـ أن غنائم الحرب تخمس، فيجعل الخمس الأول منها للّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، حيث قال: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّـهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾[الأنفال: 41] ثم والأربعـة الأخماس الباقية تقسم على الجيش حسبما بينته السنة، كما روي «أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَسْهَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ، وَلِلرَّجُلِ سَهْمٌ.» (سنن ابن ماجه كتاب الجهاد باب قسمة الغنائم، حديث رقم: 2854؛ سنن أبي داود كتاب الجهـاد باب في سُهْمان الخيـل، حديث رقـم: 2733.) ثم ذهب جمهور العلماء إلى أن المقصود بإيتاء لفظ الجلالة في قوله ﴿ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ...﴾: التبرك والتعظيم والحض على إخلاص النية عند القسمة وعلى الامتثال والطاعة له ـ سبحانه ـ . وليس المقصود أن يقسم الخمس على ستة، منها الله ـ تعالى ـ، فإنه ـ سبحانه ـ له الدنيا والآخرة، وله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما. وعليه يكون خمس الغنيمة مقسما على خمسة أقسام: للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
ثم إن العلماء اختلفوا في مراد ذوي القربى على ثلاثة أقوال: أولها: أن المراد بهم قريش كلها؛ ثانيهـا: أن المراد بهـم بنو هاشم وبنو المطلب، والحديث الذي نحن بصدده من حجج أصحاب هذا القول؛ ثالثها: أن المراد بهم بنو هاشم خاصة. ينظر: ذخيرة العقبى: ج32 ص161.
([4]) ينظر: فتح الباري: ج6 ص282؛ عمـدة القاري: ج15 ص88؛ عـون المعبـود: ج8 ص199 ـ 200؛ ذخيرة العقبى: ج32 ص158.
([7]) سنن أبي داود: كتاب الخراج والإمارة والفيء باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى، حديث رقم: 2980.