جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الذبائح من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الذبائح من سنن ابن ماجه

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجه بسنده عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: سَألتُ عَبْدَ الله بْنَ أَبِي أَوْفَى عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ؟ فَقَالَ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وَقَدْ أَصَابَ القَوْمُ حُمُرًا خَارِجًا مِنْ المَدِينَةِ، فَنَحَرْنَاهَـا وَإِنَّ قُدُورَنَا لَتَغْلِي، إِذْ نَـادَى مُنَادِي النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أَنْ أَكْفِئُوا القُدُورَ، وَلَا تَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الحُمُرِ شَيْئًا، فَأَكْفَأْنَاهَا. فَقُلْتُ لِعَبْدِ الله بْنِ أَبِي أَوْفَى: حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا؟ قَالَ: تَحَدَّثْنَا أَنَّمَا حَرَّمَهَا رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ البَتَّةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا كانت تَأْكُلُ العَذِرَةَ([1]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث هو بيان حكم أكل لحوم الحمر الأهلية، وأنه حرام، وأن سبب التحريم هو أكلها العذرة([2]). 

* عناصر بناء الحديث:

لتحقيق هـذا المقصد جاء الخبر على شكل السؤال والجواب، حيث طرح أبو إسحاق الشيباني سؤالين على عبد الله بن أبي أوفى ـ رضي الله عنهما ـ: السؤال الأول: سـؤال عن حكـم أكل لحوم الحمر (سَالتُ عَبْدَ الله بْنَ أَبِي أَوْفَى عَنْ لُحُومِ الحُمُـرِ الأَهْلِيَّةِ؟)، وإجابـة عبد الله ـ رضي الله عنـه ـ تمت من خـلال سرده قصة حدثت يوم خـيبر (أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وَقَدْ أَصَابَ القَوْمُ حُمُرًا خَارِجًا مِنْ المَدِينَةِ، فَنَحَرْنَاهَا وَإِنَّ قُدُورَنَـا لَتَغْلِي، إِذْ نَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أَنْ أَكْفِئُوا القُدُورَ، وَلَا تَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الحُمُرِ شَيْئًا، فَأَكْفَأْنَاهَا.)؛ والسؤالالثاني: سؤال عن نوع التحريم (حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا؟)، والإجابة عليه (تَحَدَّثْنَا أَنَّمَا حَرَّمَهَا رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ البَتَّةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا كانت تَأْكُلُ العَذِرَةَ).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر بإنما المتمثل في قول عبد الله ـ رضي الله عنه ـ (أَنَّمَا حَرَّمَهَا رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ البَتَّةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا كانت تَأْكُلُ العَذِرَةَ) في إجابته على السؤال الثاني الذي سأله فيه أبو إسحاق ـ رضي الله عنه ـ عن نوع تحريم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأكل لحوم الحمر الأهلية (حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا؟)، أهو تحريم قطعي أبديّ لذات الحمر الأهلية؟ أم تحريم مؤقّت لظـرف خاص؟([3])وذلك أن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قد ذكر لأبي إسحاق ـ رضي الله عنه ـ في إجابتـه على سؤالـه الأول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرم أكل لحوم الحمر الأهلية (إِذْ نَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أَنْ أَكْفِئُوا القُدُورَ، وَلَاتَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الحُمُرِ شَيْئًا.). وقـد أمرهـم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكـفء أو إكفـاء([4]) القـدور، «والمقصود بكـفء القدور طرح ما فيهـا من لحوم الحمر على الأرض، مبالغة في عـدم تنـاول شيء منهـا»([5])، وأكد هذه المبالغـة ووضحها في عبارة النهي التالية (وَلَا تَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الحُمُرِ شَيْئًا)، حيث أكد النهي وبالغ فيه، وذلك أنه اختار لفظ (تَطْعَمُوا)، وذكر (شَيْئًا). ولهذه المبالغـة أو هذا التأكيد في النهي سارعوا إلى الاستجابة، فنفّذوا ما أُمروا به، وكفوا عما نُهوا عنه. وهذه السرعة تنعكس في حرفالعطف (الفاء) من قوله (فَأَكْفَأْنَاهَا).

ومن خـلال هـذه التأكيدات أو المبالغات يُفهَم إلى حد ما أن هذا التحريم كان تحريما قطعيا. وكأن السائل هنا قد فهم هذا، لذلك أورد سؤاله الثاني على صورة الإخبار عن ذلك، وهو سؤال بحرف الاستفهام المحذوف (حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا؟)، غير أنه مع ذلك طرح السؤال، وذلك ليتأكد على ذلك باليقين.

وعبد الله ـ رضي الله عنـه ـ كذلك قـد فهـم ما دار في ذهن سائله، فأجابه بأسلوب غير مباشر، حيث ساق في إجابته علة هذا النهي المؤكد، فذكر له أن ذلك النهي القطعي كان لعلة داخلية، وهي أن الحمر كانت تأكل العذرة، مؤكدا لذلك من خلال قصر علة النهي على هذه العلة، بحيث لا تتعداها إلى غيرها، مدعيا أن ذلك واضح معلوم. وتبعا لذلك فإن لحومها يحرم أكلها قطعا. وبهذا أزال ما بقي في ذهن السائل من شك، وأكد له على أن التحريم كان قطعيا لا رجعة فيه. إضافة إلى ذلك فإن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أشار في إجابته إلى أن القول بقطعية التحريم ليس قولَه أو فهمَه هو وحده، بل هو قول جمع من الصحابة، كلهم فهموا ذلك من كلام منادي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . لذلك قال عبد الله ـ رضي الله عنه ـ (تَحَدَّثْنَا...). 

هذا ظاهر ما يفهم من هذا الخبر، من أسلوبه وتراكيبه وألفاظه، غير أن هناك روايات أخرى تفيد عللا أخرى لهذا النهي. وبسبب هذا الاختلاف في الروايات، اختلفت آراء العلماء في هذا النهي، وتبعاً لذلك اختلفوا في حكم أكل لحوم الحمر الأهلية، وتفاصيل ذلك مبسوط ذكرها في كتب الفقه والشروح([6]). 

المهـم أن القصر الذي يدور حولـه هذا البحث هنا وقع بين أجزاء الجملة الفعليـة، حيث قصـر الفعـل الصادر من فاعلـه والواقـع على مفعولـه (حَرَّمَهَـا رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ البَتَّةَ) على المفعـول لأجلـه (مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا كانت تَأْكُلُ العَذِرَةَ). اختارت الجملـة الفعليـة مع كـون الفعل ماضيا لحدوث هذا الفعل (التحريم)، وتحققه من قبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وتعريف الفاعل بإضافة اسم الرسول إلى لفظالجلالة تقوية لهذا الحكم، فالتحريم لم يكن صادرا من أي شخص، بل كان صادرا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذي ضمن رسالته الأساسية بيان الحلال والحرام عن الله ـ عز وجل ـ لعباده. فيكون حكمه حكم الله. والضمير المفعول به (ها) تعود على لحـوم الحمـر الأهلية، لكن المراد بها أكلهـا. فهنا حذف المضاف للمبالغة، ويدل السياق على أن المحذوف هو أكل([7]). 

قـال ابن منظور ـ رحمه الله تعالى ـ: «البَتّ: القطع المستأصل... ولا أَفْعَلُه البَتَّةَ، كأَنـه قَطَعَ فِعْلَهُ. قال سيبويه: وقالوا قَعَدَ البَتَّةَ مصدر مُؤَكِّد، ولا يُستعمل إِلا بالأَلف واللام. ويقال: لا أَفْعَلُه بَتَّةً ولا أَفعلـهُ البَتَّةَ، لكل أَمرٍ لا رَجْعـة فيه، ونَصْبُه على المصدر. قال ابن بريّ: مذهب سيبويه وأَصحابه أَن البَتَّةَ لا تكون إِلاَّ مَعرفةً: البَتَّةَ لا غَيْرُ، وإِنما أَجازَ تَنْكِيرَه الفراءُ وَحْدَه، وهو كوفي»([8]).

وقال أبو البقاء ـ رحمه الله تعالى ـ: «وقولهم ألبتّة: أي أبت هذا القول قطعة واحـدة ليس فيها تردد، بحيث أجزم مرة وأرجع أخرى ثم أجزم فيكون قطعتين أو أكثر، بل لا يثنى فيه النظر. وهو مصدر منصوب على المصدرية بفعل مقدر، أي: (بَتَّ) بمعنى (قطع)، ثم أدخل الألف واللام للجنس، والتاء للمبالغة، والمسموع قطع همزته على غير القياس، وقلّ تنكيرها»([9]). و(العَذِرةُ) الغائط الذي هو السَّلح، وأصلها فِناء الدَّار وناحِيَتُها. وسُمّيت بالعَذِرة لأنهم كانوا يُلْقُونها في أفْنِيَةِ الدُّور فكُنِيَ عنها باسم الفناء كما كُنِيَ بالغائط وهو المطمئن من الأرض([10]). 

هـذا القصر قصـر موصوف على صفة، قصر الموصوف (تحريم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ القطعي لحوم الحمـر الأهلية) على صفة كونه متعلقا ومرتبطا بعلة (كونها تأكـل العذرة). وهو من قبيل القصر الحقيقي المبني على المبالغـة، حيث أثبت فيه لهذا التحريم علة كونها تأكل العذرة، ونفى غيرها من العلل والأسباب على وجه العموم، غير أن هناك عللا وأسبابا غيرها كما وردت في روايات أخرى([11]). فقصرها هنـا على علـة واحدة ربما تكون هذه العلة هي العلة الأساسية، أو ما بلغتهم هي هذه العلة، ولم تبلغهم غيرها.

هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام الإجابة على السؤال، فمن خلاله علـل الإجابـة وأكدها. وبذلك حقق ما يحملـه الخبر من هدف، فبين أنه لا يجوز أكل لحوم الحمر الأهلية، وأن سبب تحريمها هو أنها تأكل العذرة.

ومما سبـق من التحليل وضح لنا أن استخدام (إنما) هو الأليق بهذا المقام، لأن فيها ادعاء وضوح ذلك السبب، كأنه واضح معلوم للجميع، فما دام السبب واضحا فنوع التحريم معلـوم، فكأن في هذا التعبير إثبات الدعوى بالحجة. ولو استخدم غـير (إنما) مـن طـرق القصر مثـل (النفـي والاستثنـاء) لذهـبت هـذه الفائدة. 

*  *  *

 



([1])   سنن ابن ماجه: كتاب الذبائح باب لحوم الحمر الوحشية، حديث رقم: 3192.

([2])   تحريم أكـل لحوم الحمر الأهلية هو قول الجمهور، وهناك قول آخر وهو أن حكم أكلها كراهية مغلظة. ينظر: المعلم بفوائد مسلم: ج3 ص77؛ المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: ج5 ص224؛ شرح النووي على صحيح مسلم: ج13 ص91؛ ذخيرة العقبى: ج33 ص223.

([3])   ينظر: فتح المنعم: ج8 ص27.

([4])   من كفـأ الإنـاء أو أكفأه، يقال: كفأت الإناء إذا كببته، وأكفأ الشيء إذا أماله. والمقصود هنا قلب القدور ليفرغ ما فيها. ينظـر: لسـان العرب: مـادة (كفأ)؛ إكمال المعلم: ج6 ص380؛ المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: ج5 ص 225 ـ 226.

([5])   فتح المنعم: ج8 ص27.

([6])   ينظر: الفقـه الإسلامي وأدلتـه: ج1 ص131 وما بعدهـا؛ المعلـم بفوائد مسلم: ج3 ص77 ـ 78؛ إكمال المعلم: ج6 ص378 ـ 380.

([7])   ينظر: تفسير التحرير والتنوير: ج2 ص115.

([8])   لسان العرب: مادة (بتت).

([9])   الكليات: ص246.

([10])   ينظر: الفائق في غريب الحديث للعلامـة جار الله محمـود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538ﻫ: مادة (عذر)، تحقيق: علي محمد البجاوى ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1414ﻫ ـ 1993م؛ النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (عذر)؛ لسان العرب: مادة (عذر).

([11])   من هذه العلل: عـدم تخميسها، والخوف من ذهاب الحمولة، وكونها رجسا من عمل الشيطان. ينظر: صحيح البخـاري: كتاب فرض الخمس باب ما يصيب من الطعام في أرض الحلرب، حديث رقم: 3155، وكتاب المغازي باب غزوة ذات قَرَد وهي الغزوة الي أغاروا على لقاح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل خيبر بثلاث، حديث رقم: 4220/ 4227؛ صحيح مسلم: كتاب الصيد والذبائح باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، أحاديث أرقام: 1937/ 1939/ 1940.

الموضوعات