جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الرهون من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الرهون من سنن ابن ماجه

 

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجه بسنده عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ المُحَاقَلَةِ وَالمُزَابَنَةِ، وَقَالَ: «إِنَّمَا يَزْرَعُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَا، وَرَجُلٌ مُنِحَ أَرْضًا فَهُوَ يَزْرَعُ مَا مُنِحَ، وَرَجُلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ»([1]). 

* مقصود الحديث:

المقصود مـن الحديث الشريف هو النهي عن المحاقلـة والمزابنة. المحاقلة: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما؛ والمزابنة: هي بيع الطعام في سنبله بالبُر([2]). وهذا الحديث من الأصول التي تمسك بها القائلون بعدم جواز هذين النوعين من المعاملات([3]). 

* عناصر بناء الحديث:

جاء الحديث في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجملة قصرية (إِنَّمَا يَزْرَعُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَا، وَرَجُلٌ مُنِحَ أَرْضًـا فَهُوَ يَزْرَعُ مَا مُنِحَ، وَرَجُلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ) تؤكد هذا النهي وتعلله، مسبقا بقول رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ ذكر فيـه سياق ورود الحديث، حيث إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاله بعد نهيه الصريح عن المحاقلة والمزابنة.

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر هنا بعد نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصريح عن المحاقلة والمزابنة، ووقع موقع التأكيد والتعليل له، حيث قصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ زراعة الأرض في ثلاثة أنواع (إِنَّمَا يَزْرَعُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَا، وَرَجُلٌ مُنِحَ أَرْضًا فَهُوَ يَزْرَعُ مَا مُنِحَ، وَرَجُلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ)، فمن خلال هذا القصر نفى المزارعة،فكأن هذه الجملة القصرية ترجح معنى المزارعة للمحاقلة على غيره من المعاني، لأن بهذا المعنى يكون التأكيـد أو التعليل بهذه الجملـة أنسب للنهي المذكور. لذا حمل لفظ المحاقلة هنا على معنى المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما.

وإنما نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المزارعة والمزابنة وأكده بأسلوب القصر لما فيهما من الجهالة التي تفضي إلى المنازعة والخصومة.

أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهيه وعلله من خلال أسلوب القصر، فقصر الزراعة على ثلاثة أنواع من الزرّاع، وبعبارة أخرى قصرها على ثلاثة أنواع من الزراعة: الأول: زراعة مالك الأرض نفسه (رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَا)؛ والثاني: منح المالك أرضه لغـيره للزراعـة بدون عوض (رَجُلٌ مُنِـحَ أَرْضًا فَهُوَ يَزْرَعُ مَا مُنِـحَ)؛ والثالـث: استئجار الأرض من مالكهـا بالنقـود للزراعـة (رَجُلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ). وبهذا القصر نفى المزارعة، لأنها لم تكن من هذه الأنواع الثلاثة المنحصرة فيها الزراعـة. ثم بالـغ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأكيده من خلال اختياره طريـق (إنما) لأداء هذا المعنى القصري، مشيرا بذلك إلى أنه من الوضوح الجلي في الشرع أن الأرض تصح زراعتها من خلال هذه الطرق الثلاث فقط، فلا ينبغي لأحد أن يتجاهلها فيزرع بطريقة أخرى غير مشروعة كالمزارعة.

والقصر هنا وقع بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل (يَزْرَعُ) على فاعله (ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ لَـهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَـا، وَرَجُلٌ مُنِحَ أَرْضًا فَهُوَ يَزْرَعُ مَا مُنِحَ، وَرَجُلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ). وفي الجملة الفعلية مع كون فعلها مضارعادلالة على تجدد عملية الزراعـة، فالزراعة تتجدد سنة بعد سنة، وجيلا بعد جيل، إذ هي من مقومات الحياة الأساسية. وهذا القصر من قصر صفة على موصوف، قصر الصفـة (الزراعـة) على الموصوف (ثلاثة)، أي ثلاثة أنواع من الزرّاع، وقد فسرت ووضحت بما بعدهـا. وذلك على سبيل القصر الحقيقي التحقيقي، حيث قصر فيه الصفـة الزراعـة على ثلاثـة أنواع من الزرّاع، ونفاها عن غيرهم، وتبعا لذلك نفاها عن المزارع على سبيل استكراء الأرض بالثلث أو الربع أو نحو ذلك للزراعة. والمراد بالزراعة هنا الزراعة المطابقة للشريعة الإسلامية، إذ الكلام يدور حولها، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبين فيه الحكم الشرعي للزراعة، يبين الأنواع التي شرعها الإسلام، ويحذر مما نهت عنه الشريعة. فالزراعة المطابقة للشريعة منحصرة في هذه الثلاثة، ولا تتعداها إلى غيرها. ولو كان المراد الزراعة على الإطلاق، لم يكن القصر تحقيقيا، ولم يستقم التعليل بالجملـة القصريـة للنهي عن المحاقلـة والمزابنة. ومن منطلق هذا المعنى القصري تمسك بهذا الحديث القائلون بعدم جواز المزارعة.  

وهنا أشرك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القصر لونا آخر من ألوان البلاغة، وهو الإيضاح بعـد الإبهـام، ليزيد المعنى أكثر تأكيدا وتمكنا على النفوس. الإيضاح بعد الإبهام نوع من أنواع الإطناب الذي لـه فضل ومزية إذا جـاء مطابقا لمقتضى الحال. فقد أجمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله وأبهمه أولا، حيث لخص أنواع الزراع بلفظ (ثلاثة)، ثم وضح ما هي هذه الثلاثة، وفصله. وبهذا يرينا المعنى في صورتين مختلفتين إحداهما مبهمـة، والأخرى موضحـة، وعلمان خير من علم واحد، وبذلك يتمكن المعنى في النفوس فضل تمكن لمـا طبـع الله ـ تعالى ـ النفوس عليـه من أن الشيء إذا ذكر مبهما ثم بين كان أوقع فيها من أن يبين في دفعة واحدة. وفي ذلك كمال لذة العلم بالمعنى، لأن الإدراك لـذة، والحرمـان عنـه مع الشعور بالمجهول بوجـه مـا ألم، فالمجهول إذا لم يحصل به شعور ما فلا ألم في الجهل به، وإذا حصل به الشعور بوجه دون وجه، تشوقت النفس إلى العلم به، وتألمت بفقدانها إياه. فإذا حصل لها العلم به على سبيل الإيضاح كملت لذة العلم به للعلم الضروري بأن اللذة عقيب الألم أكمل وأقوى، وكان لها لذتان: لذة الوجدان ولذة الخلاص عن الألم([4]). ثم إن القصر لون من الإيجاز كما هو معروف، لأن فيه معنى منفيا ضمنيا لم يصرح بذكره. وبذلك توهم هذه العبارة الجمع بين الأمرين المتنافيين: الإيجاز والإطناب. والجمع بين المتنافيين من الأمور الغريبة المستطرفة التي يظهر في النفس عند وجدانها تأثر وانفعال عجيب([5]). 

وكل هذه التأكيدات والمبالغات لإثبات النهي عن المزارعة والمزابنة، وحمل الأمة على اجتنابهما لسد ذرائع التنازعات والخصومات من جذورها. وفي هذا ما فيـه من حـث لملاك الأراضي على الإحسان بمنح بعضها لمن يحتاج إلى زراعتها، وعدم طلب المقابل على الإحسان، والترغيب إلى ما فيه جلب المودة والمحبة، وبث روح التراحم والتعاطف بين أبناء الأمة، وترهيبهم عما يورث الشحناء والبغضاء والحقد والحسد.

وهكذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنـا في مقـام النهي عن المنكـر، فتظاهـر بعناصره على حمل المخاطبين، بل الأمةِ بأكملها على اجتناب ما نهوا عنه، لتحقيق أمن المجتمع وتطوره وازدهاره في ظلال التراحم والتعاون بين أبنائه، واستئصال ما يثير الخصومات والفتن بينهم مما يزعزع أمن المجتمع واستقراره. وما تفيده (إنما) من معنى الوضوح يرشحها على غيرها في هذا المقام، لأن هذا الوضوح في أن الزراعة مقصورة على الأنواع الثلاثة المذكورة تقوية هذا النهي ومبالغة فيه.

*  *  *

روى ابن ماجـه بسنده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ لَمَّا سَمِـعَ إِكْثَارَ النَّاسِ فِي كِرَاءِ الأَرْضِ،قَالَ: سُبْحَانَ الله! إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَلَا مَنَحَهَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟!»، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ كِرَائِهَا.

وفي رواية عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ الأَرْضَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ خَرَاجًا مَعْلُومًا»([6]). 

* مقصود الحديث:

إن المقصود من الحديث الشريف هو بيان الرخصـة في كراء الأرض، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينه عنه، وإنما حث على منح الأرض للآخر للزراعة بدون عوض.

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث بثلاث جمـل في قول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ لتحقيق هذا المقصد، تعجب في الأولى منهـا مما عليـه الناس من الإكثـار بالطعن والتشنيع في كراء الأرض (سُبْحَانَ الله!)؛ وصرح في الثانية بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حثّ مالك الأرض على منحها أخـاه للزراعة بدون عوض، ونفى ضمنيا نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كراء الأرض (إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَلَا مَنَحَهَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟!»)؛ وأكد صراحة في الثالثة على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينـه عن كـراء الأرض (وَلَمْ يَنْهَ عَنْ كِرَائِهَـا). وفي رواية طاوس ـ رضي الله عنه ـ اقتصر على الجملة القصرية مكتفيا بما فيه من معنى الإثبات والنفي (إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ الأَرْضَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ خَرَاجًا مَعْلُومًا) مع اختلاف في ألفاظ قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، غير أنها متحدة في الغرض، وهو حث مالك الأرض على الإحسان بمنحها وإعارتها أخاه بدون عوض.

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

أورد ابن عباس ـ رضي الله عنـه ـ في قوله أسلوب القصر بإنما للتأكيد على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينه عن المزارعة، وإنما حث مالك الأرض على الإحسان بمنح أرضه وإعارتها من غير مقابل لبث روح التراحم والتعاون بينهم، فقال: (إِنَّمَا قَالَ رَسُـولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَلَا مَنَحَهَـا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ»)، أو (إِنَّمَا قَـالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ الأَرْضَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ خَرَاجًا مَعْلُومًا). أثبت ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المذكور ومقصور عليه، ففيه نفي ضمني كما هو معلوم من مفهوم القصر، إذ هو إثبات شيء لشيء، ونفيه عن غيره. فما المنفي هنا؟

وقد سبـق قـول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في الرواية الأولى ببيان لسياق وروده، حيث إنه قاله حين سمع إكثار الناس بالطعن والتشنيـع في حق من كرى الأرض (أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ إِكْثَارَ النَّاسِ فِي كِرَاءِ الأَرْضِ قَالَ). فهو يتعجب من هذا الأمر (سُبْحَانَ الله!)، مؤكدا على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن ينهى الكراء.

وهنـا يوهـم أن ابن عباس ـ رضي الله عنـه ـ كأنـه ينفي نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوارد في روايات أخـرى([7])، فكأن هنـاك تعارضا بين الروايات. وفي الحقيقة أنه لا تعارض أصـلا، ومـا يوهمـه ظاهر الحديث لم يكن قصد الصحابي الجليل ابن عباس ـ رضي الله عنـه ـ . وقد بينه العلماء، وقالوا إن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ لم ينـف النهـي على الإطلاق، بل إنه نفـى نهـي التحريم، فكأنه قال إن النهي من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان فيما يشترطون شرطا فاسدا، ولم ينه عما لم يكن كذلك. أو كان مراده ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنهـي نهـي الأولويـة، ولم يكن على وجـه التحريـم. فابـن عباس ـ رضي الله عنه ـ أثبت نهي التنزيه، ونفى نهي التحريم([8]).  

وهـذا المعنى يظهـر في ألفـاظ قـول النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أورده ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في الحديثين اللذين نحن بصددهما، لأن فيه تنبثق معاني التحريض والحث وبيان الأفضلية. ومن ذلك: ابتداء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله بلفظة (ألا) في الرواية الأولى (أَلَا مَنَحَهَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ). و(ألا) حرف التنديم والتحضيض، وهي كلمة مركبة أصلها (هلا)، مأخوذة من حرف (هل) الاستفهامية وحرف (لا) المزيدة، فقلبت الهـاء همـزة؛ أو مركبـة من همزة الاستفهام و(لا) المزيدة. وضمنت معنى التمني المستفـاد من (هل)، لأن (هل) قد يتمنى بها. ثم تولد منها معنى التندم أو الحض والحث على الفعل على سبيل الاستعارة التبعية([9]) أو المجاز المرسل ([10]) لعلاقة الإطلاق والتقييد([11]). وقال السندي ـ رحمه الله تعالى ـ: «قوله (أَلَا مَنَحَهَا أَحَدُكُمْ) أي: قاله تحريضا للناس على الإحسان»([12]). 

وفي الرواية الثانية أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلام الابتداء على أن منح الأرض بدون مقابل أفضل من إكرائها بأجرة معلومة (لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ الأَرْضَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ خَرَاجًا مَعْلُومًا)، ففيه بيان للأفضلية. وهذه الأفضلية لا تحرم المفضل عليـه، وهـو الإكراء بأجرة معلومـة. وفي تقييد الخراج (بالمعلوم) في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دلالة على صحة هذه المعاملـة، وإلا فلا داعي لذكرهـا، بل يكفي أن يقال «خير من أن يأخذ خراجا».

ومن هنـا يبدو لنـا أن غرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هـو حـث مالـك الأرض على الإحسان بمنـح الأرض وإعارتها لمن يرغب في زراعتها بدون أخذ أجرة عليها، لغرس روح المحبـة والتراحم والتعاون بينهم، ولسد ذرائع الخصومات والفتن، لأنهـم كانـوا يتنازعون في كـراء الأرض حتى أفضى بهم إلى التقاتل كما سنراه في حديث آخر إن شاء الله ـ تعالى ـ. أو لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كره لهم الافتنان بالمزارعة والحرص عليها لئلا يقعدوا بها عن الجهاد([13]).

أشار ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ إلى أن هذا هو غرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأنه واضح لمن يفهـم الكلام على وجهـه الصحيح، ولا يخفى عليه، فلا ينبغي لأحد الطعن والتشنيع في حـق من كرى الأرض. وهـذه الإشارة تمت من خلال إيراده أسلوب القصر بطريق (إنما)، حيث إن في هذا الطريق ادعاء جلاء المعنى القصريووضوحه.

والقصر هنا وقع بين أجزاء الجملـة الفعليـة حيث قصر الفعل الصادر من فاعله (قَـالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ) على مقولـه (أَلَا مَنَحَهَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟!) أو (لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُـمْ أَخَاهُ الأَرْضَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ خَرَاجًا مَعْلُومًا)، ونفى عن هذا الفعل كونه متعلقا ومرتبطا بنهي المزارعة على وجه التحريم. فهو قصر موصوف على صفة، قصر الموصوف (القول الصادر من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ) على صفة تعلقه وارتباطـه بمعنى الحث والتحريض على الإحسان بمنح الأرض للزراعـة بدون مقابل، وهـو مفهوم المقصور عليـه (أَلَا مَنَحَهَـا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟!) أو (لَأَنْ يَمْنَـحَ أَحَدُكُـمْ أَخَـاهُ الأَرْضَ خَيْرٌ لَـهُ مِنْ أَنْ يَأْخُـذَ خَرَاجًا مَعْلُومًا)، ونفـى عنه تعلقه وارتباطه بنهي المزارعة على وجه التحريم.

وبهـذا وضح أن القصر من القصر الإضافي للقلب، حيث يعكس بـه ظن المخاطبين وفهمهم غير الدقيق لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حيث إنهم فهموا حديث النهيعن المزارعة بظاهره، فأنكروا المزارعة. وهذا هو سبب إيراد ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ كلامه مؤكدا له بأسلوب القصر بإنما على الوجه الذي وفقنا عنده. أورد ابن عباس ـ رضي الله عنـه ـ القصر في الجملـة الفعليـة مع كون الفعل ماضيا لتأكيد تحقـق هـذا الأمر وحدوثـه. فالذي صـدر من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتحقـق هو حثه على الإحسان بمنح الأرض للزراعـة، وحكمه بأفضليته، ولم يكن يقصد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نهيه عن المزارعة تحريمها، بل القصد هو تنزيهها ونفي أفضليتها.

ومن هنا نرى أن هذا القصر بالإضافة إلى ما فيه من معنى النفي، فإن فيه نوعا من التعليل لعدم حمـل نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على التحريم. ووجه هذا التعليل هو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقط حث على منح الأرض وإعارتها، وبين أفضلية ذلك على المزارعة، فدل على أن المزارعة جائزة ولم تكن محرمة، لأن الأفضلية لا تنفي فضل المفضل عليه من أصله. ثم الحث على المنح لا ينفي أخذ الأجرة أيضا. فكل من الأفضلية والحث يدل على استحباب المفضل والمحث فقـط، ولا يـدل على تحريـم المفضل عليه. ولذا قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ (وَلَمْ يَنْهَ عَنْ كِرَائِهَا).

فباختصار القول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى الأمـة عن المزارعة نهيا تنزيهياً لما فيه من ذرائع تفضي إلى المنازعات والخصومات والفتن، وحثهم على الإحسان بمنح الأرض وإعارتها لمن يرغب في زراعتها تحقيقا لروح التعاطف والتراحم والتعاون والأخوة بينهم. وحرصاً منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا فقد ذكّر الأخوة بين أبناء الأمة وأكدها في قولـه زيادة ترغيبهم فيما يحث عليه، حيث ذكر المزارع بلفظة الأخ مع إضافتها إلى الضمير العائد على مالك الأرض. 

هكـذا جـاء أسلوب القصر هنا في مقام رد خطأ الخاطئ إلى الصحة، فرد بـه الفهـم غـير الدقيق لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى صحته. وفي ذلك فقد أكد أسلوب القصر هذا الخطـأ وعلله، وفي الوقت نفسه أثبت الوجه الصحيح في ذلك. وتبعاً لذلك حقق المقصود الذي يرمي إليه الحديث، وهو بيان أن المزارعة جائزة ولم تكن محرمة، غير أنه ينبغي ألا يزرع عن طريق المزارعة، بل الأفضل هو أن يمنح مالك الأرض أرضه ويعيرها من غير مقابل لمن يرغب في زراعتها.

ومما سبق من التحليل وضح لنا أن استخـدام (إنما) هو الأليق بهذا المقام، لأن القصر هنا قصر قـول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المذكور، وهذا واضح سمعه ابن عباس ـ رضي الله عنـه ـ وغيره من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فلا يحتاج إثباته إلى مزيد من التأكيد مثل ما في (النفي والاستثناء)، لأنه لا أحد يجهل أو ينكر هذه الحقيقة الثابتة، وإنماالجهل من بعضهم في غرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحديث. فذكّر ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ لهؤلاء قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونبههم على ذلك بأسلوب مؤكد رقيق، وهو أسلوب القصر بـ (إنما)، مشيراً لهم إلى أن غرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واضح لمن يفهم الكلام علىوجهه الصحيح، وبذلك علل عدم نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المزارعة، وأكده.

*  *  *

روى ابن ماجه بسنده عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: يَغْفِرُ الله لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ. أَنَا ـ وَالله! ـ أَعْلَمُ بِالحَدِيثِ مِنْهُ، إِنَّمَا أَتَى رَجُلَانِ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقَدْ اقْتَتَلَا، فَقَالَ: «إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنَكُمْ فَلَا تُكْرُوا المَزَارِعَ»، فَسَمِعَ رَافِعُ بنُ خَدِيجٍ قَوْلَهُ: «فلَا تُكْرُوا المَزَارِعَ»([14]).

* مقصود الحديث:

قد سبـق تحليل الحديث الذي بينت فيـه الرخصـة في المزارعـة، وأن نهـي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنـه لم يكن نهي التحريم، بل المـراد بالنهي حث مالك الأرض على منـح الأرض للآخـر للزراعـة بدون عوض. والمقصود بهـذا الحديث هو تعليل لعـدم حمل نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على التحريم، وبيان أن ذلك النهي هو نهي التأديب والإرشاد.

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث بثلاث جمـل لتحقيـق هـذا المقصد على لسـان زيـد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ، داعيا في الأولى منها لرافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ (يَغْفِرُ الله لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) مشيرا بذلـك إلى أنـه أخطـأ في فهـم حديث النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المزارعة؛ ومؤكدا في الثانية على أنه أعلم بالحديث من رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ (أَنَا ـ وَالله! ـ أَعْلَمُ بِالحَدِيثِ مِنْهُ) تأييدا بذلـك لصحة ما يذكره هو لاحقا؛ ومقررا في الثالثـة أن رافع بن خديج ـ رضي الله عنـه ـ لم يقف على سياق حديث النهـي (إِنَّمَا أَتَى رَجُـلَانِ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقَـدْ اقْتَتَلَا، فَقَـالَ: «إِنْ كَـانَ هَذَا شَأْنَكُمْ فَلَا تُكْرُوا المَزَارِعَ»، فَسَمِعَ رَافِعُ بنُ خَدِيجٍ قَوْلَهُ: «فلَا تُكْرُوا المَزَارِعَ»). وهذه الجملة الأخيرة مكونة من مجموعة من الجمل، وإنما اعتبرتها جملة واحدة لأنها كلها تندرج تحت كلمـة (إنما)، إذ الجملة (وقَدْ اقْتَتَلَا) واقعة موقع الحال للرجلين اللذين أتيا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والجملتـان (فَقَالَ: «إِنْ كَـانَ هَـذَا شَأْنَكُمْ فَلَا تُكْـرُوا المَزَارِعَ») و(فَسَمِعَ رَافِعُ بنُ خَدِيجٍ قَوْلَهُ: «فلَا تُكْرُوا المَزَارِعَ») معطوفتان على الجملة (أَتَى رَجُلَانِ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر بإنما في قـول زيد بن ثابت ـ رضي الله عنـه ـ (إِنَّمَا أَتَى رَجُلَانِ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقَدْ اقْتَتَلَا، فَقَالَ: «إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنَكُمْ فَلَا تُكْرُوا المَزَارِعَ»، فَسَمِعَ رَافِعُ ابنُ خَدِيجٍ قَوْلَهُ: «فلَا تُكْرُوا المَزَارِعَ») مؤكدا على أن رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ لم يوفَّق في فهم حديث نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المزارعة. وإنما احتاج الكلام إلى التأكيد لأن رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ فهم حديث النهي بعمومه وإطلاقـه، وتناقل ذلـك بين بعض الأصحاب، حتى أكثروا من الطعن والتشنيع في حـق من يقوم بعمليـة المزارعـة كما رأينا في الحديث الآخر. ولم يكتف زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ بهـذا القـدر من التأكيد فحسب، بل قواه من خلال دعائه لرافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ وقسمه على أنه أعلم منه بالحديث: (يَغْفِرُ الله لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ. أَنَا ـ وَالله! ـ أَعْلَمُ بِالحَدِيثِ مِنْهُ)، ففي الدعاء بالغفران لرافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ إشارة إلى أنه قد أخطأ، فاستغفر الله له. ثم في القسم باسم الجلالة على أنه أعلم من رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ إشارة أخرى إلى أن رافع ابن خديج ـ رضي الله عنه ـ أخطأ، وأن الصحيح هو ما يذكره بعد ذلك. فبهاتين الإشارتين مهـد لما يذكـر بعدهمـا، فكأن مفهوم القصر اللاحق بعد هذا التمهيد أصبح فيه قدر من الوضوح والجلاء، لذا جاء القصر بطريق (إنما)، بالإضافة إلى أن في اختيار هذا الطريق تأكيدا على ظهور خطأ رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ ووضوح صحة قول زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ . قال العيني ـ رحمه الله تعالى ـ ناقلا عن الطحاوي ـ رحمه الله تعالى ـ: «فهذا زيد بن ثابت يخبر أن قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (لا تكروا المزارع) النهي الذي قد سمعـه رافع لم يكن من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على وجه التحريم، وإنما كان لكراهيته وقوعَ الشر بينهم»([15]). 

ومن هنا نرى أن الحديث يدور حول سياقه الخاص وواقعه المحدد، إذ منه نشـأ السهـو، لأن الساهي لم يوفّق في فهـم الحديث على وجهـه الصحيح بسبب عـدم وقوفـه على هذا السياق أو الواقع، وعلى الجانب الآخر فهم معنى الحديث بوجهـه السليـم بسبب علمـه بهـذا السيـاق أو الواقـع. فالأول «مـا سمـع أول الحديث، وإنما سمـع آخره، فحفظه ظانًّا أنه تمام الحديث، فأخطأ فيه. ومراد زيد ابن ثابت ـ رضي الله عنه ـ أن النهـي مخصوص بما إذا أدى إلى النـزاع والخصام، وإلا فلا»([16]). لذلك يظهر لي أنه لا بد من تقدير الحذف في هذا القصر حتى يتوافق مفهومه مع سياق الحديث. ويمكننا تقدير هذا المحذوف بضمير الشأن أو الواقع أو ما شاكـل ذلك، فيكون المقصور هو الشأن أو الواقع، وما يذكر بعد (إنما) من الجمل بأكملها مقصور عليه. والمعنى أن الواقع هو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال الحديث في هذا السياق، وهو (أَتَى رَجُلَانِ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقَدْ اقْتَتَلَا، فَقَالَ: «إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنَكُمْ فَلَا تُكْـرُوا المَزَارِعَ»، فَسَمِعَ رَافِـعُ بنُ خَدِيجٍ قَوْلَهُ: «فلَا تُكْرُوا المَزَارِعَ»)، ولم يكن قالـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على وجه العموم. فالقصر قصر صفـة على موصوف، حيث أثبت لما ذكـر صفـة الواقعيـة والصحيـة، ونفاهـا عن ما يعتقـده رافع بن خديج ـ رضي الله عنـه ـ من أن النهي جاء على وجه العموم. وبهذا وضح أن القصر من القصر الإضافي للقلب، قلب فيـه اعتقاد رافـع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ، لأنه بإجرائه الحديث على العموم كأنـه يعتقد أن الواقع هو أن الحديث جاء على وجه العموم، ولم يكن يعرف أنه في الحقيقة جاء في السياق المذكور.

لذلـك، فالأظهـر أن مراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنهيـه عن المزارعـة كان نهي تنزيه وتأديب، أدب فيـه المختصمين إليه، مبيناً لهم أن مثل هذه الخصومات ليست من شأن المزارعة، وإنما المزارعة مظهر من مظاهر التعاون والتآخي بين مالك الأرض والمزارع، محـذراً لهـم بعـدم سماح المزارعة لهم إن كانوا على هذا الشكل. كل هذا يظهر من تركيب عبـارة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وألفاظهـا، وذلـك أنـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أورد كلامه بأسلوب الشرط، ووقـع نهيـه في جزاء الشرط، وهذا يفيد أن النهي موقوف على الشرط المذكور، وهذا الشرط هو وجود الخصومات التي تشبه ما وقع بين الرجلين المذكورين، بمعنى أنه إذا ذهب هذا الشرط، ذهب النهي معـه، فلا تحرم المزارعة حينئذ. فنهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاء لإنكار التنازع والخصومة. ولهذا عبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المعنى الشرطي بأداة الشرط (إنْ)، إشـارة بهـا إلى أن مفهوم الشرط وهو التنازع والخصومـة لا ينبغي أن يحـدث فيهـم، لأن أصـل (إنْ) أنهـا تستعمـل فيما يندر حدوثـه([17]). ثم أشـار ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ما عليه الرجلان من التنازع والخصومة والقتال باسم الإشارة (هذا) تحقيرا له، حيث جعل دنوَّ شأنه وحقارتَه منزلة القرب المشار إليه باسم الإشارة (هذا) المشار به للقريب([18]). 

هكذا بين زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ في خبره هذا علة من علل نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المزارعة، وبذلك رد الفهم غير الدقيق لهذا النهي إلى صحته. وقد أدى أسلوب القصر بإنما دوراً في هذا المقام مقام تصحيح الخطأ، حيث أثبت حقيقة علة النهي وأكدها صراحة، وأخطأ حمل النهي على وجه العموم وعللها ضمنيا كما رأينا. وقد ذكر ابن بطال ـ رحمه الله تعالى ـمجموعـة من العلل لهذا النهي، وذكر أن هذا الحديث بُيِّنت فيه واحدةٌ من هذه العلل، وهي خصومة وقتال بين بعض أصحاب الأراضي والمزارعين([19]). وبهذا كله احتج لجواز المزارعة.

هذا، ومن العلماء من يرى أن رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ لم ينقص في روايته هذا الحديث، إذ إنه لم يتفرد بحديث (لا تكروا المزارع)، فقد حدث به معه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصحابة الآخرون. وعلى هذا خص النهي بما اشتمل العقد على شروط فاسدة تؤدي إلى النزاع والخصام، وأما إذا خلا عن ذلك، فالنهي للتنزيه، لا التحريم بدليـل الأحاديث الأخرى التي دلت على الإباحة، فيكون مراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حث أصحاب الأراضي على الإحسان بمنح أراضيهم وإعارتها لإخوانهم الراغبين في الزراعة كما يظهر في الحديث السابق ذكره([20]). 

وبالتحليل الذي مضى تبين لنا أن استخدام (إنما) هو الأليق بهذا المقام، لأن القصر هنا جاء لتأكيد السياق الخاص لهذا الحديث، وذلك للرد على من فهم نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المزارعة على العموم. وهذا السياق واضح لمن كان مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وسمع قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المزارعة بكامله، وينبغي ألا يشك أحد في ذلك عندما أُخبرَ له بذلك، فلا يحتاج إثباته إلى مزيد من التأكيد مثل ما في (النفي والاستثناء). وأثبت زيد بـن ثابت ـ رضي الله عنـه ـ هـذا السياق بأسلوب القصر على سبيـل التذكير والتنبيه، مبيناً فيه وجه خطأ من فهم من حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحريم المزارعة.

*  *  *

روى ابن ماجـه بسنده عَنْ سِمَاكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، قَـالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي نَخْلٍ، فَرَأَى قَوْمًا يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: «مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟» قَالُوا: يَأْخُذُونَ مِنْ الذَّكَرِ فَيَجْعَلُونَهُ فِي الأُنْثَى، قَالَ: «مَا أَظُنُّ ذَلِكَ يُغْنِي شَيْئًا»، فَبَلَغَهُمْ فَتَرَكُوهُ، فَنَزَلُوا عَنْهَـا، فَبَلَغَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ: «إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ، إِنْ كَانَ يُغْنِي شَيْئًا فَاصْنَعُوهُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَإِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ: قَالَ الله، فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى الله»([21]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هو بيان وجوب امتثال ما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرعاً مبلِّغاً عن الله ـ تعالى ـ، وعدم وجوب ذلك فيما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي ولم يوحَ إليه بشأنه.

* عناصر بناء الحديث:

لتحقيق هـذا المقصـد الشريف جاء الحديث بمجموعـة من الجمل يمكن تقسيمها إلى عنصرين أساسيين: العنصر الأول: ذكر قصة التلقيح([22]) وإبداء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأيـه في ذلك (مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي نَخْلٍ، فَرَأَى قَوْمًا يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: «مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟» قَالُوا: يَأْخُذُونَ مِنْ الذَّكَرِ فَيَجْعَلُونَهُ فِي الأُنْثَى، قَالَ: «مَا أَظُنُّ ذَلِكَ يُغْنِي شَيْئًا»، فَبَلَغَهُمْ فَتَرَكُوهُ، فَنَزَلُوا عَنْهَـا.)؛ والعنصر الثاني: اعتذار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خلاف رأيه الواقع، وبيانه للأمة قاعدة مهمة، وهو مقصد الحديث (فَبَلَـغَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ: «إِنَّمَا هُـوَ الظَّنُّ، إِنْ كَانَ يُغْنِي شَيْئًا فَاصْنَعُوهُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَإِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ: قَالَ الله، فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى الله».).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر بإنما في موضعين من الحديث، وكلاهما في العنصر الثاني الذي ذكر سابقا، ووقعا موقع التعليل التمس به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العذر لخلاف الواقع رأيه:

الموضع الأول: قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ)، قصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه قوله في شأن التلقيح على صفة الظن، ونفى عنه صفة العلم اليقين. والظن رجحان أحد طرفي التجويز، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بظنه هذا رجح عدم نفع التلقيح على نفعه، لعدم خبرته في هذا المجـال، ولم يكن عنده علم باستمرار هذه العـادة لعدم مباشرته مثل هذه الأشياء، وليقين اعتقـاده بأن النافـع والمؤثر هـو الله وحـده، وهو القادر على كل شيء، وما نسب شيء إلى غير الله ـ تعالى ـ نسبة التأثير فتلك النسبة مجازية عرضية لا حقيقية([23]). 

وما قالـه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شأن التلقيح من أنه لا يغني شيئاً كان على طريق الرأي منه، لا على وجه الخبر الذي يدخله الصدق والكذب، فظهور خلاف الواقع لا يعني أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذب في قوله، حاشاه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وهذا القصر مما يؤكد على ذلك. والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ حكمهم ورأيهم في مثل هذه الأمور الدنيوية كحكم غيرهم، قد يكون على خلاف ما هي عليه، ولا نقص عليهم في ذلك، لأنهممهم متعلقة بالآخرة ومعارفها، وهداية الناس إلى الصراط المستقيم بإذن ربهم ـ عز وجل ـ([24]).

قـال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ) بعدمـا بلغـه أن النخـل نقص لعـدم التلقيـح ملتمساً به المعذرة لخلاف الواقع رأيه، كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ليس علي شيء فيذلك، لأنني كنت قلت ما قلتـه لكم في هذه القضية على سبيل الظن، فإن الظن لا يغني من الحق شيئا. فليس عليكم وجوب الاتباع. فهنا يلمح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قـول الله ـ تعالى ـ ﴿ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [يونس: 36] تأكيداً لاعتذاره وعدم وجوب الاتباع في ذلك.

وإنما أثبت النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرأيـه صفـة الظـن بأسلوب القصـر الذي يفيد التأكيد والتقريـر، ليزيل ما في ذهن المخاطبين من وهـم، فإن القـوم الذين تركوا التلقيح عندمـا سمعـوا قـول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلـك (مَا أَظُنُّ ذَلِـكَ يُغْنِي شَيْئًا)، يتوهمون بتركهـم هـذا أن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لهم ذلك على سبيل اليقين، لأن هذا القائل ليس كأي شخص، بل إنه رسول الله الصادق الأمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وهنا تتجلى طاعة الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وامتثال كل ما قاله سمعاً وطاعة.

ولإزالة هذا الوهم أورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلامه بأسلوب القصر، مثبتاً فيه أن ما قاله في شأن التلقيح كان على سبيل الظن منه، لا على سبيل اليقين، فليس عليهم وجوب الامتثال، بل عليهـم إمعان النظـر في ذلك، فإذا كـان الحق معه، نفذوه، وإن كان خلاف الواقع تركوه، لأنهم أعرف بهذه الأشياء كما صرح في رواية أخرى،حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»([25]). فإن لكل صناعة أهلها. واختار ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا القصر طريق (إنما) خاصة للتأكيد على أن قوله في ذلك مجرد الظن منه، وهذا واضح جلي.

وقد صرح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا المعنى، حيث ألحق هذا القصر بقوله (إِنْ كَانَ يُغْنِي شَيْئًا فَاصْنَعُوهُ)، مرشدا لهم إلى تلقيح النخل إن كان فيه نفعاً، وترك امتثال ظنه إن كان خلاف الواقع.

وهنـا كـأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحس أن هنـاك ما قـد يثـار من تساؤل في بعـض النفوس: كيف يصح الظن من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ!؟ إنكارا لذلك لشدة استعظامهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كأنهم يعتقدون أن الظن لا يتناسب مع شأن رسول الله الصادق الأمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وهنا جاء الموضع الثاني لأسلوب القصر بإنما:

الموضع الثاني: قولـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)، قصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه نفسه على صفة البشرية مقرا على أنه مشارك للبشر في أصل الخلقة ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختص بها في ذاته وصفاته، فلا يجمع علوم الأشياء كلها، كما أن لكل واحد من البشر صناعة معينة ومعرفة محدودة، لا يجمع أي منهم المعارف كلها، لأن جمع المعارف كلها ليس من مقدور البشر، وما آتاهم الله من العلم إلا قليلاً.

قـال أبـو العبـاس القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وقوله (فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) أي: واحد منهم في البشرية، ومساوٍ لهم فيما ليس من الأمـور الدينية، وهذه إشارة إلى قوله ـ تعالى ـ: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ[الكهف: 110]، فقد ساوى البشر في البشرية، وامتاز عنهم بالخصوصية الإلهية التي هي: تبليغ الأمور الدينية»([26]). 

وإنما أثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه صفة البشرية بأسلوب القصر ليزيل التساؤل المحتمل السابق ذكره. فمن يتوهم أن الظن لا يتوافق مع شأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فكأنه قد نسي أو تجاهل كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحـداً من البشر، وهذا النسيان أو التجاهل ما هـو إلا لفرط الاحترام للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والاستعظام لـه، فلا يقـدر على تصديـق حصول أي شيء فيه شبهة النقص منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولذلك عندما سمع منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيَّ قول سارع إلى امتثاله سمعا وطاعة. ولهذا كله أورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلامه بأسلوب مؤكد أسلوب القصر. ثم اختار ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا القصر طريق (إنما) خاصة لأن كونه من البشر أمر مسلم واضح لا يخفى على أحد، وإن تجاهله المخاطبون.

فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا القصر قد علل واستدل لصحة وقوع الظن منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وإمكان خلاف ظنه الواقع، وبهذا اعتذر مرة أخرى لخلاف قوله في شأن التلقيح الواقعَ.

وبعـد هذين التعليلين، بيـن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شـأن الظـن (وَإِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ) زيادة تأكيد للتعليل السابق. وبهذا كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أقام لاعتذاره ثلاث حجج تؤيده أو علل تشفع له: قوله في التلقيح كان على سبيل الظن؛ وهو مشارك للبشر في عدم جمعه كل المعارف؛ وإمكان الخطأ بطريق الظن.

قـال أبـو العباس القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ في هذين القصرين: «هذا كله منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتذار لمن ضعف عقلـه، مخافة أن يزله الشيطان فيكذّب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيكفر، وإلا فما جرى شيء يحتاج فيه إلى عذر، غاية ما جرى مصلحة دنيوية خاصة بقوم مخصوصين لم يعرفها من لم يباشرها، ولا كان من أهلها المباشرين لعملها»([27]). 

وبعـد هـذا الاعتذار المعلَّل والمؤكَّد، أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنه لن يقع منه أيُّ شيء من الخطأ أو الكذب في قوله عن الشرع أو تبليغه عن الله ـ تعالى ـ، لا سهوا ولا عمدا (وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ: قَالَ الله، فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى الله) دفعـا لمن يحمل ما يقرّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اعتذاره من أنـه يظن في بعض الأمور فيخطئ كغـيره من البشر على العموم، فاستحـل ذلك فيما يخص الشريعة والتبليغ عن الله ـ تعالى ـ . وبهذا بين ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأمـة أن ما قالـه في الأمور الدنيويـة الخالصة مما يتعلـق بأهل الحرفة كالزراعة والتجارة مثلا، فإن ذلك يكون على سبيل إبداء الرأي والمشورة، ولا يجب الاتباع؛ وأما القول الذي يتعلق بأمور الشريعة فإنه يكون على سبيل الجزم واليقين، ويجب الاتباع.  

والقصر في موضعيه وقع بين أجزاء الجملة الاسمية، حيث قصر المبتدأ على خـبره. ففي الموضع الأول قصر الضمير العائـد على قولـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شأن تلقيح النخل (مَا أَظُنُّ ذَل

الموضوعات