جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الزكاة من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الزكاة من سنن ابن ماجه

 

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجه بسنده عَنِ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رضي الله عنـه ـ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ ـ رضي الله عنه ـ، فَلَحِقَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ لَـهُ قَـوْلُ الله: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ، قَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ ـ رضي الله عنه ـ: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، فَوَيْلٌ لَهُ، إِنَّمَا كَـانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَـا الله طَهُورًا لِلْأَمْوَالِ، ثُمَّ التَفَتَ فَقَالَ: مَا أُبَالِي لَوْ كَانَ لِي أُحُدٌ ذَهَبًا، أَعْلَـمُ عَدَدَهُ وَأُزَكِّيهِ، وَأَعْمَـلُ فِيـهِ بِطَاعَـةِ الله ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ([1]). 

* مقصود الحديث:

الحديث الشريف يقصد لبيان حكم الاكتناز، وأن المال ما دام قد أُدّيت زكاته، فليس بالكنز الذي توعد عليه في قول الله ـ تعالى ـ: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 34]. 

* عناصر بناء الحديث:

جـاء الحديث متمثلا في قول خالد بن أسلـم ـ رضي الله عنه ـ ومكوّنا من مجموعة من الجمـل يمكن تقسيمها إلى ثلاثة عناصر: العنصر الأول: ذكـر سبب ورود الحديث، وذلك أن أعرابيا سأل عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن آية الوعيد من الكنز([2])(خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، فَلَحِقَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ لَهُ قَوْلُ الله: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ)؛ والعنصر الثاني: إجابة عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ على السؤال، بين فيها حكم الاكتناز وكيفية توافقه مع الآية (مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، فَوَيْلٌ لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا الله طَهُورًا لِلْأَمْوَالِ.)؛ والعنصر الثالث: تأكيد لما بيّنه من الحكم (ثُمَّ التَفَتَ فَقَالَ: مَا أُبَالِي لَوْ كَانَ لِي أُحُدٌ ذَهَبًا، أَعْلَمُ عَدَدَهُ وَأُزَكِّيهِ، وَأَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ الله ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ.).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

وقـع أسلوب القصر بإنما هنا في إجابة عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ على السؤال، أكد به على أن ما أديت زكاته ليس بالكنز الذي يحذر منه الله ـ  تعالى ـ في الآية، لأن الزكاة جعلته طاهرا لا غبار عليه، وأن الحكم الذي ذكر في الآية يقصد به الكنز قبل نزول الزكاة، لا يتعداه إلى ما أدّيت منه الزكاة بعد نزولها.

والمراد بهذا القصر نفي أن يكون ما أديت زكاته في عموم الوعيد في الآية، فقد بين ابـن عمـر ـ رضي الله عنه ـ معنى الآية، وصرح بأن معناها: (مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، فَوَيْلٌ لَهُ). فالوعيد في الآية لمانعي الزكاة.

وبعد هذا البيان كأن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ بفطنته رأى ما قد يتردد في ذهـن ذلـك السائـل: لم يقـال في الآيـة: ﴿ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ؟ لـذا زاد ـ رضي الله عنه ـ بيانه أكثر وضوحا حيث قال: (إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا الله طَهُورًا لِلْأَمْوَالِ)، كأنه قال: ولم يصرح في الآية بما ذكرت، لأنه من المعلوم أن ما ذكرته الآية كان قبل نزول الزكاة، فحكم ظاهر الآية مقصور على ما قبـل نزول الزكاة، فيكون الكنز في ذلك الوقت محرّما. فلما أُنزلت الزكاة، وحُدّدت نُصُبهـا، كان المال الذي أُدّيت زكاتـه حلالا طاهرا، لأن الله ـ  تعالى ـ جعل الزكاة طهورا للأموال.

قال ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ: «قوله (إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة) هذا مشعر بأن الوعيد على الاكتناز ـ وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به ـ كان في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة لما فتح الله الفتوح، وقُدّرت نُصُبُ الزكاة، فعلى هذا المراد بنزول الزكاة بيان نصبها ومقاديرها لا إنزال أصلها. والله أعلم»([3]).

وذكر السندي ـ رحمه الله تعالى ـ أن الكنز المتوعد عليه بعد مشروعية الزكاة هو ما لم تؤد زكاتـه، وأما الذي أديت زكاته فليس بالكنز المتوعد عليه. ثم قال: «قوله: (إنما كان هـذا) أي: ظاهر هذه الآيـة كان معمولا بـه قبـل شروع الزكاة، وأما بعـد شروعها فتحمل الآية على هذا المحمل الذي ذكرنا، وهذا يدل على أن ظاهر الآية كان معمولا به قبل شروع الزكاة ثم نسخ، والمشهور أن الآية نزلت في منـع الزكاة من الأصل، وأيضا لو كانت الآيـة منسوخة لما حملت على محمل آخر بعد النسخ، فلعل المراد بقولـه: (إنما كان هذا) أي: ما فهمت من ظاهر الآية قبل أن تنزل الزكاة، وفهمت منها هذا الفهم لكان فهمك هذا مستقيما، وحيث نزلت الزكاة ثم نزلت الآية فلا يستقيم هذا الفهم، لأن الله جعل الزكاة طهورا للأموال بأن علق بحبسها الآثام»([4]). 

وابن عمـر ـ رضي الله عنه ـ أثبت لنـا أن الكنـز المتوعـد عليـه بعـد نزول الزكاة هو ما لم تؤد زكاته، وأن ما أديت زكاتـه لا يستحق الوعيد، وأكد ذلك من خلال قصر وعيـد الآيـة على الزمن الذي لم تنزل الزكاة فيه بعد. وبهذا قال أكثر العلماء، وهنـاك من يقول إن المـال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم، سواء أديت زكاته أو لم تـؤد. وقـد فصل ذلـك الإمـام الفخـر الرازي ـ رحمه الله تعالى ـعند تفسيره الآية([5]). 

والمهم أن القصر هنا وقـع بين أجزاء الجملـة الفعليـة، حيث قصر الفعـلالناسخ مع اسمه (كان هذا) على ظرف الزمان: (قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ)، وخبر كان محذوف. وفي التعبير بالجملـة الفعليـة مع كون الفعل فعلا ناسخا دالا على المضي إشارة إلى أنـه مضى ذلك الحكم، فحكم ظاهـر الآيـة قد مضى وانتهى مع شروع الزكاة وتحديد نصبهـا. وهذا القصر من قصر الموصوف على الصفة، قصر ثبوت ذلك الحكم على كونـه قبل نزول الزكاة، ونفى ثبوته بعد نزول الزكاة. وهذا من القصـر الإضافي، وهو قصر الإفراد، حيث إن المخاطب السائـل يعتقـد أن ذلك الحكم سارٍ سواء قبل النزول أو بعده، أو على الأقل أنه يشك في ذلك، ولذا سأل ابن عمـر ـ رضي الله عنه ـ . فأفرد ـ رضي الله عنـه ـ لـه الزمن، وأثبت أن ذلـك الحكم كان قبـل نزول الزكـاة، لا بعـده. وبهذا نفـى أن يكون كل ما حفظ من الأموال حراما، فالأموال التي أديت زكاتهـا لا بأس بـه، ولم يعد من قبيل الكنز المذموم. ولتأكيد هذا المعنى، ذكر ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ بعد ذلك: (مَا أُبَالِي لَوْ كَانَ لِي أُحُدٌ ذَهَبًا، أَعْلَمُ عَدَدَهُ وَأُزَكِّيهِ، وَأَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ الله ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ).

هكذا بين ابن عمر ـ رضي الله عنـه ـ وأكـد أن ما أديت زكاته ليس بكنز، ولا يحـرم على صاحبـه اكتنازه لأنـه لم يتوعد عليـه، وإنما الوعيد على مـا لم تؤد زكاته. 

ومن خلال التحليل الذي مضى تبين لنا أن استخدام (إنما) هو الأليق بهذا المقام، لأن القصر هنا جاء لتأكيد عـدم دخول المال الذي أديت زكاته تحت وعيد الآية ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[التوبة: 34]، ووجـه هذا التأكيد هو كـون الوعيـد مقصورا على الزمن الذي لم تحدد الزكاة بعد، بل يكون هذا الوجه أوضح إذا كان تقييد الوعيد بذلك الزمن واضحا معلوما. فكأن في هذا القصر نوعـا من التعليل لعدم دخول ما أديت زكاته تحت الوعيد، كأنه قيل: كيف يكون المال الذي أديت زكاته ضمن وعيد الآية، والمعلوم أن ذلك الوعيد كان قبل مشروعية الزكاة وتحديد نصبها؟! وأما بعد مشرعية الزكاة، فالزكاة طهور للأموال، فلم تعد الأموال المؤداة زكاتها بالكنز المتوعد عليه.

*  *  *

روى ابن ماجه بسنـده عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: إِنَّمَا سَـنَّ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الزَّكَاةَ فِي هَـذِهِ الخَمْسَةِ: فِي الحِنْطَـةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْـرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالذُّرَةِ([6]). 

* مقصود الحديث:

الحديث يقصد بيان أقسام الزروع التي تجب فيها الزكاة.

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث في قول جد عمرو بن شعيب ـ رضي الله عنهما ـ بجملة ذكر فيها أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حدد الزكاة في خمسة أقسام من الزروع، وهي: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذرة.

* أسلوب القصر في الحديث وعناصر بنائه:

وقـد حصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الزكاة في هذه الأقسام الخمسة، حيث ذكرها جد عمرو بـن شعيب ـ رضي الله عنهما ـ بأسلوب القصر، وهـذا الحصر ربما يكون بسبب أنهـا غالب قوت الناس حينئذ، قـال السندي ـ رحمه الله تعالى ـ: «فالظاهر أن الحصر في هذه الأقسام إنما كان اتفاقيا لأجـل أنهـا هي غالب قوت الناس في ذلك الوقت»([7]).

وعلى هذا يكون القصر هنا قصرا حقيقيا تحقيقيا، لأنه أثبت سَنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للزكاة للأقسام المذكورة على طريق الوجوب، ونفاه عن غير تلك الأقسام، وهـذا هـو الواقع، ولم يكن مبنيا على المبالغـة. ثم كـأن هـذا التحديد أو الحصر معلوم لدى أصحابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فعبر عن الحصر هنا بطريق (إنما). وهذا القصر قصر صفـة على موصوف، على تقدير الكلام بأن وجوب الزكـاة محصور على الأقسام المذكورة. ويمكـن أن يكـون قصـر موصوف على صفـة، على تقديـر أن إيجـاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الزكاة مقصور على كونه واقعا في الأقسام المذكورة ومرتبطا بها. 

والقصر هنا وقع بين أجزاء الجملة الفعليـة، حيث قصر الفعل الصادر من فاعله والواقـع على مفعولـه (سَنَّ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الزَّكَاةَ) على الجار والمجرور الذي بُيِّن ووُضِّح ببدله (فِي هَذِهِ الخَمْسَةِ: فِي الحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالذُّرَةِ). وفي مجيئـه بالجملة الفعلية مع كون الفعل ماضيا دلالة على ثبوت هذا الفعـل، وقـد تـم تحديد الزكاة على هذه الهيـئة من قبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ثم في جملة القصر شيء من الإطناب، حيث أتى بالبدل بعـد تلخيص الأقسام في (هذه الخمسة)، ليوضح هـذا الرقـم الذي فيـه نـوع من الإبهام، وذلك لتأكيد القصر، وتقريره في النفوس، وزاد هـذا التأكيد من خـلال تعريف الأقسام الخمسة باسم الإشارة الذي هو يدل على تمييزه أكمل تمييز. 

هكـذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام بيان الحكم الشرعي، فتظاهر بعناصره على إثبات الحكم وتقريره، فحصر الحكم فيما يحصر فيـه، وأكـد الحصر على النحو الذي لاحظنا جانبا منه.

وجاءت (إنما) هنـا طريقـا للتعبير عن القصر المذكور، كأن فيها إشارة إلى أن الحكم المذكور معلوم لدى أصحابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بالإضافة إلى ذلك فإن المقام مقام تبليغ الحكم الشرعي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فالكلام متوجه إلى خالي الذهن، فلا يحتاج إلى مزيـد من التأكيد مثل (النفي والاستثناء)، وإنما ذكره المتكلم على سبيل التنبيه والتذكير، وبصورة أدنى التأكيد، تقريرا للحكم في ذهن المسلمين، ليمتثلوا به في حياتهم.

*  *  *

روى ابن ماجـه بسنـده عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرَ جَهَنَّمَ، فَلْيَسْتَقِلَّ مِنْهُ أَوْ لِيُكْثِرْ»([8]). 

* مقصود الحديث:

الحديث الشريف يقصد إلى منع الأمة عن سؤال ما في أيدي الناس لتكثير المال، وترهيبهم منه.

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث بجملتين لتحقيق هذا المقصد، بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأولى منهما سوء عاقبة السؤال لتكثير الأموال، وأن الذي سأل لأجل ذلك يعاقب في الآخرة (مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرَ جَهَنَّمَ)؛ ثم وجّه في الثانية الوعيد والتهديد إلى السائل (فَلْيَسْتَقِلَّ مِنْهُ أَوْ لِيُكْثِرْ).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

وقـع أسلوب القصر بإنما المتمثل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرَ جَهَنَّمَ) جوابا للشرط، حيث جـاء بيـان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جملته الأولى بأسلوب الشرط. ومجيء الجواب هنا بأسلوب القصر بإنما لتأكيد سوء عاقبة السؤال للتكثير، فإن نتيجة هذا السؤال لم تكن إلا عذابا أليما في الآخرة.

وقد أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منعـه عن هـذا النوع من التسول من خلال إشراك أسلوب القصر فنا آخـر من فنون البلاغة، وهـو المجاز المرسل، لأن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (يَسْأَلُ جَمْرَ جَهَنَّمَ) يعني كما قال القاري ـ رحمه الله تعالى ـ: «(فإنما يسأل جمرا) أي قطعة من نار جهنم، يعني ما أخـذ سبب للعقاب بالنار، وجعله جمرا للمبالغة، فهـذا كقولـه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا[النساء: 10]، ومـا يوجـب نارا في العقبى وعـارا في الدنيا، ويجوز أن يكون جمـرا حقيقـة يعذب به كما ثبت لمانعي الزكاة»([9]). فعلى المعنى الأول يكون (جمر جهنم) مجازا مرسلا علاقته المسببية، إذ إنها مسببة السؤال. وعلى المعنى الثاني تكونعلاقة المجاز المرسل باعتبار ما سيكون، لأن إطلاق (جمر جهنم) حينئذ يكون على اعتبار أن السؤال سيكون ذلك في الآخرة. وفي كل من الاعتبارين ما فيه من التهويل لخطورة التسول وسوء عاقبته، وذلك لتنفير الأمة من التكاسل والارتكاز على ذلّ السـؤال، وترغيبهم في العمـل والكسب، فإن أفضـل الكسب ما يكسبه الرجل بيده. وأما السائل لتكثير الأموال، فكقول الشاعر ([10]): 

لَا تَحْسَبَنَّ المَوْتَ مَوْتَ البِلَى

فَإِنَّمَا المَوْتُ سُؤَالُ الرِّجَالِ

كِلَاهُمَا مَوْتٌ وَلَكِنَّ ذَا

أَفْظَعُ مِنْ ذَاكَ لِذُلِّ السُّؤَالِ

ثم هدد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجملـة اللاحقة بأبلغ التهديد، (فَلْيَسْتَقِلَّ مِنْهُ أَوْ لِيُكْثِرْ)، فكأنـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: مادمت قد وقفت على عقـاب شديد للتسول أيهـا السائل، فافعل ما شئت لو لم تكن خائفا من ذلك العقاب المؤلم، إن شئت فلتستقل منه اتقاء من عذاب الله ـ تعالى ـ، وإن شئت فلتكثر، ثم تذق ثمرته. فالأمر هنا غرضه التهديد والوعيـد. قـال الطيبي ـ رحمـه الله تعالى ـ: «قولـه: (فليستقل أو ليستكثر) أي فليستقل الجمـر أو ليستكثره، فيكون تهديدا على سبيل التهكم، أو فليستقل المسألـة، فيكـون تهديدا محضـا كقولـه ـ تعالى ـ: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهـف: 29].»([11]) وقال القاري ـ رحمـه الله تعالـى ـ في هـذا: «أي: ليطلب قليـلا أو كثيرا، وهـذا توبيـخ لـه أو تهديد، والمعنى سواء استكثر منه أو استقل»([12]). 

هكذا بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شر عقبى السائلين من غير حاجة، وشدد تهديدهم ووعيدهم، كل ذلك يهدف إلى حث الأمة على العمل الجاد، وتنفيرهم من السؤال الذي نتيجتـه لم يكن إلا عذابا مؤلمـا. وقد ذكـر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا العذاب المؤلم بأسلوب القصر، فقصر السؤال على كونه جمر جهنم، وهذا يكون قصر موصوف على صفة، لأنه قصر السؤال على تعلقـه وارتباطه بجمر جهنم. ثم إنه قصر قلب من القصر الإضافي، حيث إن السائل يظن أن ما سألـه هو المال والغِنى ينفعه ويجعلـه مـن الأغنيـاء، ولن يعتقـد أن ذلـك سيكون وبالا وعقابا عليـه، فقلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل هذا الظـن الجاهل، وأثبت أن ذلـك سيكون عذابا أليما له في الآخرة، ولن ينفعـه شيئا. وأكـد هذه الحقيقة حيث جعلهـا من الأمور المعلومـة الواضحة، ولو أن السائل يجهلهـا، فإن ذلك من جهلـه، أما الأمر نفسه فواضح جلي لا يخفى على عاقل يتفكر.

والقصر هنا وقـع بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل الصادر من فاعله (يَسْأَلُ) على مفعوله (جَمْرَ جَهَنَّمَ)، وفي التعبير بالجملة الفعلية مع كون الفعل مضارعا، وإيقاعهـا جوابـا للشرط دلالة على أن هـذا الأمـر يحدث ويتجدد مع حدوث شرطه وتجدده، فأي واحـد سـأل أموال الناس للتكثير، فبذلك قد سأل وجلب لنفسه عذابا أليما يذوقه في الآخرة. وفي هذا ما فيه من الترهيب من السؤال والتنفير منه.     

هكذا دقـق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اختيار ما يحقق غرض الترهيب والترغيب من الألفاظ والأساليب والمجـاز، وكل هذا نظرا لخطورة التسول على المجتمع، وما يؤدي إليه من التكاسـل عن العمل الجاد. وأسلوب القصر بإنما ـ كما رأينا ـ أدّى في ذلـك دورا تأكيديـا لخطورة التسول، وجعـل نتيجـة هـذا السؤال مؤلمة يضر صاحبه ولا ينفعه، وما سأله لم يكن مالا، بل هو قطعـة عظيمة من جمر النار يكوى بها السائل لأخذه ما لا يحـل له أو لكتمـه نعمـة الله التي أغنته عن السؤال. وما أرعب الموقف!

وبالتحليل الذي مضى تبين لنـا أن استخـدام (إنما) هو الأليـق بهذا المقام، لأن القصر هنا جـاء لتهديـد التسول للتكثر، ففي (إنما) ما لا يوجد في غيرها من طرق القصر مثل (النفي والاستثناء) من المبالغة في هذا التهديد، وذلك لأن (إنما) تجعل ما يترتب على التسول من العقاب ثابتا معلوما لا يقبل الإنكار أو الجهل حتى لا يسمح أدنـى الشك فيـه، ففي ذلـك ما فيه من التهديد والوعيد مما يجعل المتسولين ترتعـد فرائصهم. ولو استخـدم غيرهـا من طـرق القصر مثـل (النفي والاستثناء)، لاختفت هذه المبالغـة في الوعيـد والتهديد، لأن مثلهـا تجعـل هـذا العقاب كأن هناك من ينكره أو يشك فيه، وبذلك قـد يترك في نفوس المتسولين شيئا من الطمع.

*  *  *

 



([1])   سنن ابن ماجه: كتاب الزكاة باب ما أدي زكاته فليس بكنز، حديث رقم: 1787.

([2])   الكنز في الأصل: المال المدفون تحت الأرض، فإذا أخرج منه الواجب عليه لم يبق كنزا، وإن كـان مكنـوزا، وهو حكم شرعي تجوز فيـه عن الأصل. النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (كنز).

([3])   فتح الباري لابن حجر: ج3 ص321.

([4])   شرح السندي على سنن ابن ماجه: ج2 ص371.

([5])   يراجع مفاتيح الغيب: ج16 ص45 وما بعدها.

([6])   سنن ابن ماجه: كتاب الزكاة باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال، حديث رقم: 1815.

([7])   شرح السندي على سنن ابن ماجه: ج2 ص388.

([8])   سنن ابن ماجه: كتاب الزكاة باب من سأل عن ظهر غنى، حديث رقم: 1838 .

([9])   مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ج4 ص301.

([10])   ورد البيتان في كتاب الحيـوان لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (150 ـ 255ﻫ): ج3 ص131. تحقيق: عبد السلام محمـد هـارون، مكتبـة ومطبعـة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية 1385ﻫ ـ 1965م.

([11])   شرح الطيبي على مشكاة المصابيح: ج5 ص1511.

([12])   مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: ج4 ص301.

الموضوعات