مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن السنة من سنن ابن ماجه
مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن السنة من سنن ابن ماجه
كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)
فقال:
روى ابن ماجه بسنده عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْبِشَيْءٍ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْءٍ فَانْتَهُوا»([1]).
* مقصود الحديث:
المقصود من الحديث الشريف فـي ظاهـره هـو الأمر بترك السؤال([2]) عن الأشياء التي سكت عنها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والنهـي عن الإلحاح في السؤال، غير أن هذا الأمر أو النهي في ذاته ليس هو المقصود، وإنما المقصود هو لازم ترك السؤال، وهو الطاعـة المطلقـة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والاعتصام بسنتـه بالتسليم والاتباع، فالإتيان بما يأمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والاجتناب عما نهى عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والسكوت عما يسكت عنـه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقد أمرنا ربنا ـ عزّ وجلّ ـ بذلك: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[الحشر: 7]. فترك السؤال عما يسكت عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو علامة من علامات الطاعة المطلقة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. والحديث قد جاء في مناسبة سؤال بعض الصحابة عن الحج حين فرض عليهم: أيكون كل عام؟([3]) فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينتهز فرصة هذا الحدث ليعلم الأمة الأدب الرفيع والمنهج القويم لطلب العلم، وكيفية تحقيق الطاعة المطلقة لله ـ عز وجل ـ ولرسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ . هـذا المنهـج القويم الذي وضعـه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأمة هو كما قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ «من قواعـد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها»([4]).
* عناصر بناء الحديث:
ورد الحديث بأربع جمل لتحقيق هذا المقصد الغالي، أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمة في الأولى منها بترك الإلحاح في السؤال (ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ)([5])، ثم في الثانية علل ذلك الأمـر (فَإِنَّمَا هَلَـكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ)، وفي الثالثة والرابعة أرشد الأمة إلى المنهج القويم بدل الإلحاح في السؤال (فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْءٍ فَانْتَهُوا).
* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:
وقد وقـع أسلوب القصر بإنما المتمثل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ) في الحديث واسطة عقد لمقصد الحديث.فقد سبق بجملة النهي وأتبع بأسلوب الإرشاد بعد النهي، وكان أسلوب القصر سبـب النهـي ومهـاد الإرشـاد. وذلـك أن الجملـة الأولى فـي الحديـث (ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ) نهـى فيهـا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإلحـاح في السـؤال عما يسكت عنه الله ـ تعالى ـ ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم علـل ذلك النهي بجملة القصر هذه، حيث قصر فيهـا هـلاك الأمم السابقة على كونـه بسبب الإلحاح في السؤال والاختلاف على الأنبياء. كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: اتركوني ما تركتكم، ولا تتعرضوا بالتفتيش والسؤال، لأن هـلاك من كان قبلكم من الأمـم السابقة كبني إسرائيـل هو بسبب سؤالهـمواختلافهم على أنبيائهم كما ذكر الله في كتابـه في قصـة البقـرة وسؤال رؤية الله ودخول قرية الجبارين وغير ذلك. فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما لم أنه عنه فاسكتوا عنه، ولا تتعرضوا لـه بالسـؤال والتشديد، فيشدّدَ الله عليكـم. وفي هذا التعليل ما فيه من تهويل خطورة ذلك النوع من السؤال، وترهيب الأمة منه من جهة، حيث إن هلاك السابقين لم يكـن إلا بسبب الإلحـاح في السـؤال وما يؤدي إليه ذلـك الإلحـاح من الاختلاف على الأنبياء، فإذًا، قد يهلـك من يشابههم في ذلك ويلح في السؤال عما يسكت عنه الشارع. وفيه أيضا حملهم وحثهم على إنفاذ الأمر سمعـا وطاعـة من جهة أخرى. وبهذا كانت جملـة القصر مهادا وفرشا لإرشاد الأمة إلى الطاعة المطلقة، واتباع سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والتي قصد إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجملتين الشرطيتين الأخيرتين اللتين جاءت بهما فاء التفريع، واللتين تشملان اتباع الشريعة أمـرا، واجتناب نواهيهـا انتهاء: (فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْءٍ فَانْتَهُـوا). وفيهـا تأكيد لأهميـة الطاعـة. فالفـاء الداخلة على (إنما) تشير إشارة واضحة إلى السببية، وفي هذا التعليل إشارة إلى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن أمره لأمته بترك السؤال إلا لأجل رأفته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهم وشفقته عليهم وحرصه على ألا يقعوا في المحنة التي وقع فيها السابقون، لأن «المراد بهذا الأمـر ترك السـؤال عن شيء لم يقـع خشيـةَ أن ينزلَ به وجوبُـه أو تحريمه، وعن كثرة السؤال لما فيه غالبا من التعنُّت، وخشيةَ أن تقع الإجابة بأمـر يستثقل، فقد يؤدي لترك الامتثال فتقع المخالفة»([6]). ومن خـلال ذلك النهي أو الأمر بالترك، وهذا التعليل توصل إلى النتيجة والمقصود من وراء الحديث الشريف وهو الطاعةالمطلقة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فما دام الأمر للإلحاح في السؤال قد بان، ومن خلال التعليل قد وقفتم على خطورة ذلك النوع من السؤال، فما لكم إلا أن تتمسكوا بهذا المنهج القويم: فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما أطقتم؛ وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه مطلقا.وبذلك تمكن هذا المعنى المقصود في نفوس الأمة فضل تمكن.
هكـذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام الإرشاد والتعليم وتصحيح المواقف، فوقع أحسن موقع وأفاد أجل فائدة. وقـد دقـق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اختيار الأساليب، فعندما أكثر بعض الصحابة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السؤال، وألحوا على مـا سكت عنـه الله ـ تعالى ـ ورسولـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمـة لهـم ورفقا بهم، وجاؤوا بالأسئلـة التي لا تهمهم في دينهـم، رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنـه لم يكن له إلا أن يصرح لهم بالنهي عن ذلك النوع من السؤال. ثم أكد ذلك النهي من خلال تعليله بما وجد السابقون من وراء ذلك النوع من الأسئلة من سوء العاقبة لتنفيرهم عن الوقوع في المحنة نفسها. فاستعمال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تعليله هذا أسلوب القصر الذي هو نوع من أنواع التوكيد لم يكن إلا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى أن أصحابه الذين سألوه تلك الأسئلة قد شددوا في المسائل التي لم تطلـب منهـم، أو التي لا تعنيهم في دينهم، وهم بهذا الصنيع قد تجاهلوا ونسوا ما أصاب السابقين بسبب سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فهـم أنـاس محتاجون إلى من يكرر ويؤكـد لهـم تلـك الأحداث والحقائق لينتبهوا ويستيقظوا ويأخذوا منها العبرة.
وقـد أوجـز النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكلام في جملة القصر، فقصر فيها هلاك الأمم السابقة على كونـه بسبب السؤال والاختلاف على الأنبياء، ونفى عنه غيرهما من أسباب الهلاك، وهذا مبني على المبالغة والتأكيد لخطورة هذين السببين، إذ هناك أسباب أخـرى بالإضافـة إلى السببين المذكورين، غير أن تلك الأسباب بجوار هذيـن السببين كلا شيء، فلا يعتد بها، كأنها لم تكن. وهذا هو ما سماه البلاغيون باسـم القصـر الحقيقي الادعائي أو المبنـي على المبالغـة تأدبا مع الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
والمـراد من وراء هذا القصر التحذير والوعيـد لمن يلـح في السـؤال عماسكت عنه الشارع، والحث على تركه، إذ إن هلاك الأمم السابقة لم يكن إلا بسبب السؤال والاختلاف، ولا يتجـاوزه إلى غيره، فهذا يعني أن سؤالكم قد يؤدي بكم إلى النتيجة نفسها، فانتبهوا واحذروا.
القصر هنـا وقع بين أجزاء الجملـة الفعليـة، حيث قصر الفعل الواقع من الفاعل على متعلقـه، فالمقصور هو الجملـة المكونة من الفعل وفاعله: (هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)، وهـى هنـا المعنى الموصوف، والمقصور عليـه هو الجـار والمجرور:(بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ)، وهو كالوصف للمقصور، فالقصر هنا قصر موصوف على صفـة، قصر الموصوف (هـلاك الأمم السابقة) على الصفة (كونه متعلقا ومرتبطا بسبب سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وعدم طاعتهم واتباعهم لهم). وتعريف فاعل الفعل هنا باسم الموصول (مَن) ليشمل كل من يقصد بهم من السابقين في هـذا السياق، وكـل من ألحّ على الأنبياء بالسؤال، ثم لم يمتثل بالجواب مما يجلب على نفسه المشقة والمحنة والهلاك زيادة في الترهيب من السؤال، والحمل على إنفـاذ الأمر. وفي التعليل بهلاك السابقين بالإضافة إلى الترهيب من السؤال إحالة على قراءة تاريخ السابقين، فإن وقائع التاريخ لا تكذب، ثم التفكر فيها والاعتبار بها. وفي إيثار التعبير بالجملـة الفعليـة وإبراز الظرف (قبلكم) مع إضافته إلى ضمير المخاطبين حث لهم على أخذ العبرة منهم. وفي تكرار الضمير (هم) المضاف إليه تأكيد بأن أولئك هم الذين أهلكوا أنفسهم، إذ هم الذين ألحوا بالسؤال، وهم الذيـن اختلفوا على الأنبياء مع أن الأنبياء لهم، جاءوا لإخراجهم من الظلمات إلى النور. فهم بذلـك استحقوا الإهلاك فهلكوا. فما دامت قصص أولئك قد حدثت ومضت قبلكـم وأنتم قد عرفتموها، فينبغي عليكم أن تتعظوا وتعتبروا. فاتركـوا السـؤال عما لا يقـع ولا يهمكـم، واسكتوا عـما يسكـت عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وما عليكم إلا طاعة مطلقة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإنه ﴿ مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ﴾[النساء: 80].
وهكذا علـل أسلوب القصر بإنما هنـا النهي السابق عليـه ترهيبا لخطورة ذلك المنهي عنـه، وتأكيدا لإثبات النهي، ومهد للإرشاد اللاحق به تأكيدا لأهمية المرشد إليه، وتقوية لتمكنـه في النفـوس. وتتظاهـر عناصر الأسلوب على زيادة ذلك الترهيب أو التأكيد أو التقوية.
هذا وقد اختار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أدائه معنى القصر هذا طريق (إنما) خاصة، دون غيره من الطرق المعروفة المستعملة في أسلوب القصر، إشارة إلى أن ما يذكر بعده أمر معلوم لكـل أحـد، لاسيما أصحابه الذين توجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم بهذا القول، إذ الأصل في (إنما) أنها تستعمل في الأمور الظاهرة الجلـية المعلومـة التي لا يجهلها المخاطب ولا ينكرها، أو فيما تنزل هذه المنزلة كما قرره شيخ البلاغيين الإمام عبد القاهر الجرجاني ـ رحمـه الله تعالى ـ ([7]). والذي ذكر هنا بعد (إنما) هو سبب هـلاك الأمم السابقـة التي قـد عرفتموهـا من خلال ما حكى لكم القرآن الكريم، وما دمتم قد عرفتم هـذه الأحداث ونتيجتها المسيئة، فعليكم أن تتعظوا وتعتبروا، فتتركوا أي سؤال كسؤالهم، لئلا يكون مصيركم مثلهم.
ففي أسلوب القصر هنا بهذا الطريق خاصـة إضافـة إلى ما سبق دلالة على حث النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ والأمة أجمعين على أخذ العبرة من الأحداث التاريخيـة لألا يقعوا فيما وقع فيه أولئك السائلون. وفي هذا دلالة على رحمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورفقه لأمته، وشفقته عليهم ورأفته بهم، مصداقا لقول الله ـ تعالى ـ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[التوبة: 128].
إن (إنما) باعتبـاره طريقـا من طـرق القصـر متميزا بطابـع الرقة والهمس والهـدوء، قـد تناسب وروده في هـذا المقـام مقـام الإرشاد والتعليـم وتصحيحالمواقف، وقد بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معلما، وهو خير المعلمين، علم أصحابه ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ والأمة أجمعين بالتواضع والهـدوء رحمـة لهـم ورفقا بهم، حتى جاءت عباراته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنغمة الهمس والرقة والهدوء.
ومن هنا تبين لنا أن استخدام (إنما) هو الأليق بهذا المقام، ولو استخدمت طـرق القصـر الأخـرى لاختـل المعنى. فلـو استخدم طريق (النفي والاستثناء) مثلا، لذهب ما سبق أن ذكرناه مما يختفي وراء (إنما) من المعاني، فذهب الوضوح في سبب هـلاك الأمم السابقـة، وأصبح هذا السبب مجهـولا مع أنه في الأصل واضح من خلال قراءة التاريخ. وبالإضافة إلى ذلك فإن استخدام طريق (النفي والاستثنـاء) يجعـل المخاطبين أصحـاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجهلـون هـذا الخـبر وينكرونه، مع أنهـم ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ لا ينكـرون ولن ينكروا شيئا أخبرهم حبيبهم المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لأن طريـق (النفـي والاستثناء) يستعمل في الأمور التي يجهلها المخاطب أو ينكرها، أو فيما تنزل هذه المنزلـة، كما قال الإمام عبد القاهر ـ رحمه الله تعالى ـ: «وأما الخـبر بالنفي والإثبات نحـو: (ما هـذا إلا كذا)، و(إن هو إلا كذا)، فيكون للأمر ينكـره المخاطب ويشـك فيه، فإذا قلت: (ما هو إلا مصيب) أو (مـا هـو إلا مخطئ)، قلتـه لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلته...»([8])وقال ـ رحمه الله تعالى ـ: «وجملـة الأمر أنك متى رأيت شيئا هو من المعلوم الذي لا يشك فيه قد جـاء بالنفـي، فذلك لتقدير معنى صار به في حكم المشكوك فيه...»([9]) وكذلك استخدام طريق (النفي والاستثناء) هنا يفقـد مـا في طريق (إنما) من الرقة والخفة والهدوء التي تعكس مدى رأفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأصحابه بل بأمته كلها، حتى تنبثق هذه الرأفـة العظيمة من ثنايا ألفاظه الكريمة ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وفضلا عن كـل ذلـك فإن في قصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا تعريضا لمن يلح في السؤال دون جدوى، تعريضا لـه بأن مثل هذا الصنيع يؤديه إلى الهلاك. وهذا التعريض لا يمكن أن يفيده القصر بغـير طريـق (إنما)، فإن التعريض من خصائص (إنما)، بل هو أفضل مواضعها([10]). وكذلك طريق العطف لا يمكن أن يكون بديل طريق (إنما) فـي هـذا المقام، لأنه يُفقد مـا في طريق (إنما) من جمالِ الإيجاز وجعلِ الأمر المثبت ظاهرا، حيث ذكر في طريق (إنما) الأمـر المثبت فقط، ويوارى الأمر المنفي تحت لفظ (إنما)، ولم يصرح بذكره، فجعل الأمر المثبت مثبتا معنى وشكلا. هكذا تكون بلاغة أفصح الخلق ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ دقق في اختيار ألفاظ كلامه، وأودع تحت كل منها ما لا يحصى مـن المعاني الجميلة، وإنما نلتقط القليل منها. وصلى الله على من أوتي جوامع الكلم وعلى آله وصحبه وسلم!.
* * *
روى ابن ماجـه بسنـده عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَـنِ بْـنِ عَمْـرٍو السُّلَمِيِّ، أَنَّـهُ سَمِـعَ العِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَـةَ يَقُولُ: وَعَظَنَـا رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَـا القُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله! إِنَّ هَـذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَـدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى البَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، مَنْ يَعِشْ مِنْكُـمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَـا بِالنَّوَاجِـذِ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّمَا المُؤْمِنُ كَالجَمَلِ الأَنِفِ، حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ»([11]).
* مقصود الحديث:
المقصود من الحديث الشريف هو حث الأمة على التمسك بسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنة الخلفـاء الراشدين المهديين بعده وطاعتهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ، لأنهم لزموا سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فلم يحيدوا عنها شيئا، فالاهتداء بهديهم هو اهتداء بالسنة. وإن الخير والهدي والفلاح والفوز في اتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه الراشدين،والشر والضلال والخسر في مخالفتهم.
* عناصر بناء الحديث:
ورد كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعشر جمل شريفة يمكن تقسيمها إلى أربعة عناصر: العنصر الأول: (قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى البَيْضَاءِ، لَيْلُهَـا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ). أكد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيـه أنـه ترك أصحابـه بل الأمـة أجمعين على ملـة الإسـلام وشريعتـه الواضحـة السهلـة؛ والعنصر الثاني: (مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا.) أخبر فيه عن غيب قد وقع وهو وقوع اختلاف كثير في المستقبل؛ والعنصر الثالث: (فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا.)([12]) أمر بالتمسك بسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطريقـة الخلفاء الراشدين المهديين وطاعتهم ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ، وأكد ذلك من خلال التصوير الرائع بالكناية([13])اللطيفة، حيث إن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)([14]) «كناية عن شدة التمسك ولزوم الاتباع لهم»([15])، قال الخطابي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وإنما أراد بذلك الجِدَّ في لزوم السنة، فعل من أمسك الشيء بين أضراسه، وعض عليه منعاً له أن ينتزع، وذلك أشد ما يكون من التمسك بالشيء، إذ كان ما يمسكه بمقاديم فمـه أقرب تناولاً وأسهل انتزاعاً؛ وقد يكون معنـاه أيضاً الأمـر بالصبر على ما يصيبه من المضض في ذات الله كما يفعلـه المتألّم بالوجـع يصيبـه»([16])؛ والعنصر الرابـع: (فَإِنَّمَا المُؤْمِنُ كَالجَمَلِ الأَنِفِ، حَيْثُمَا قِيـدَ انْقَادَ.) علل ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه ذلك الأمر.
وقد سبق كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا قول العرباض بن سارية ـ رضي الله تعالى عنه ـ كمقدمة بين فيها سياق ورود الحديث، حيث إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعظهم عظة مؤثرة قد بالغ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها بالإنذار والتخويف، ودمعت من هذه الموعظة العيون وخافت منها القلوب لتأثيرهـا في النفوس واستيلاء سلطـان الخشية على القلوب. ولما كانت الموعظة شديدة المبالغة والتأثير في النفوس، قال أحد المستمعين: إن هذه لموعظةُ مُوَدِّعٍ([17])، فماذا تعهد إلينا؟ فأوصاهم والأمة أجمعين بهذه الوصية العظيمة.
* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:
وقد وقع أسلوب القصر بإنما المتمثل في قولـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (فَإِنَّمَا المُؤْمِنُ كَالجَمَلِ الأَنِـفِ، حَيْثُمَا قِيـدَ انْقَـادَ) في الحديث تعليـلا لمقصد الحديث. فقـد سبـق بتأكيد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنـه ترك الأمـة على ملـة الإسلام وشريعته الواضحة السهلة، (قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى البَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ)، وإخبار منه بأنه سيقع كثير من الاختلاف في المستقبل، (مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وبهذا التميهـد شرع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى غرضه الأساسي من الحديث، فأمر أصحابه ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ بل الأمة أجمعين بمواجهة مثل ذلك الاختلاف الكثير من خلال اتباع سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنة خلفائه وطاعتهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ . (فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُـمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّـةِ الخُلَفَـاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّـوا عَلَيْهَـا بِالنَّوَاجِذِ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا)، ثم أكد هذا الأمر من خلال تعليله بجملة القصر المذكورة المقرونة بفاء السببية حثا لهم على امتثال الأمر ونفوذه. فقصر المؤمن على صفـة الطاعـة. فما دام شأن المؤمن مقصورا على الطاعة لا يتجاوزها إلى غيرها، فما لكم إلا طاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائـه الراشدين المهديين ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ، واتباع سنته ـ عليـه الصلاة والسلام ـ وسنة خلفائه ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ، فإن هذا الاتباع هو علامة الطاعة لهم.
هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام الإرشاد والتعليم، فعلل مضمون الإرشاد وأكده، فزاد تمكنه في النفوس.
وقـد وفق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اختيار الأسلوب للتعبير عن هذه العلة المؤكدة لمضمون الإرشاد مقصود الحديث الشريف، فاختـار أسلوب القصر بإنما، لما فيـه من مزيد التأكيدات والإيحاءات. فقصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ المؤمن على الطاعة كالجمل الذي يطيع قائده، ونفى عنـه صفات أخرى على سبيل المبالغـة، كأن هذه الصفـة هي أبرز صفات المؤمن، وهي تكاد تخفي غيرها إزاءها لشدة إبرازها. فإن شأن المؤمن شديد الانقيـاد للشارع في أمره ونهيه من ترك التكبر والتـزام التواضع والطاعـة كالجمل الذلول الذي جعل الزمام من أنفه، فلم يمتنع على قائده، ولا ينفر للوجع الذي به، فيجره من يشاء من صغير وكبير إلى حيث يشاء. قال صاحب الإنجاح ـ رحمه الله تعالى ـ: «فالظاهر من شأن البعير إذا كـان في تلـك الحالة أنه يطيع صاحبه حيث ما قاده، فالمؤمن تحت أوامر الله ونواهيه منقاد ومطاع»([18]).
ثم إن هذه الصفـة هي صفـة معروفة لكل من يندرج تحت صف المؤمن، وهذا المعنى هو من إيحاءات طريق القصر هـذا خاصة. وفيـه أيضا تعريض بمن لا يطيع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفـاءه الراشدين بعـده ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ، تعريض بأنه لا يعـد من صـف المؤمنين لفقدانه صفة الطاعة، إذ المؤمن لا يكون إلا مطيعا.
ثم زاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مضمون هـذا القصر أكثـر وضوحـا من خلال إيراده بأسلوب التشبيه الذي يزيد إيضاح حال المشبه، حيث شبه المؤمن بالجمل الأنف الذي جعل الزمام من أنفه في أن كلا منهما متواضع ومطيع لقائده لا يخرج عليـه كما سبق ذكـره. ثم أكـد وجـه الشبه هـذا بالجملة الشرطيـة: (حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ)، فالمؤمن يطيع وينقـاد تحت أوامـر الشارع ونواهيه، كالجمل المأنوف الذي جعل الزمام من أنفه، فيطيع قائده، فيجره من يشاء من صغير وكبير إلى حيث يشاء.
القصر هنـا وقع بين أجزاء الجملـة الاسمية، حيث قصر المبتدأ على خبره،فالمقصور هو المؤمن وهو الموصوف، والمقصور عليه هو الجار والمجرور الموصوف بالأنف (كالجمل الأنف)، وهذا كناية عن صفة الطاعة، فالقصر قصر موصوف على صفة، قصر المؤمن على صفة الطاعة قصرا حقيقيا مبنيا على المبالغة، فنفى عنه غيرهـا من الصفات على سبيل المبالغـة، لا على جهة التحقيق، إذ هناك للمؤمن كثير من الصفات الجميلة الأخرى، كحب السلام والكرم وغير ذلك. وإنما جاء هنا على سبيل القصر الحقيقي لإفادة المبالغة وتأكيد ظهور صفة الطاعة للمؤمن وبروزها لدرجة أنها أخفت غيرها لشدة وضوحها. ومن ثم أكد للأمة أهمية هذه الصفـة الجميلـة، وحثهم على التحلي بها، فاتباع سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعـده وطاعتهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ حيـاة المؤمن. وإنما اختار الجملـة الاسمية فى القصر هنـا لإفادة الثبوت والدوام، فالطاعة صفة ثابتة دائمة للمؤمن، لا تنفصل عنه أبدا. وتعريف المقصور (المؤمن) بأل الجنسية ليشمل كل من نطق بالشهادتين، فلزمت على كل من هو مؤمن الطاعة، لا فرق بين كبير وصغير، ولا بين رجـل وامرأة، ولا بين غني وفقـير، ولا بين حاكم ومحكوم... وهكذا. وجاء المقصور عليه موصوفا بالأنف (كَالجَمَلِ الأَنِفِ) إشارة إلى المقصود بالتشبيه وهو إبراز صفة الطاعة. والأنف بمعنى «المأنوف وهو الذي عقَرَ الخِشَاشُأنْفَـه فهـو لا يَمْتَنِع على قائدِه للْوَجَع الذي به. وقيل: الأنِفُ الذَّلُول، يقال: أنِفَ البعير يَأنَفُ أنَفاً فهو أنِفٌ إذا اشتكى أنْفَـه من الخِشَاش. وكـان الأصـل أن يقال مأنُوف لأنـه مفعول بـه كما يقـال مَصْدورٌ ومَبْطُون للذي يشْتَكي صدره وبَطْنه. وإنما جاء هذا شاذّا»([19]). وهو وإن كان شاذا من حيث قواعد علم الصرف إلا أنه فصيح استعمالا، وفي علم البلاغة يعد فنا من فنونه له قيمته وسره. يمكننا أن نعده من قبيل المجاز المرسل([20])، وعلاقتـه تعلـق الاشتقاق، إذ عبر عن المفعول باسم الفاعل. أو نجعله مما يخرج على خلاف مقتضى الظاهر. فكأن هذا العدول يوحي بأن الطاعة صفـة عظيمـة للمؤمن، وهو يطيـع من تلقاء نفسه لا أحد يجبره على ذلك. فإن «الذليل المؤاتي الذي يأنف من الزجر ومن الضرب، ويعطي مـا عنده من السير عفوا سهلا، كذلـك المؤمن لا يحتاج إلى زجر ولا عتاب، وما لزمه من حق صبر عليه، وقام به»([21]).
قال ابن العربي المالكي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وحقيقتـه الذي خـزم أنفه ببرة أو غيرها فيقاد فلا يستطيع الامتناع، ونسب الفعل إليه لأنه قد صار عادة له وإن كان مدفعا فيه. وتقول العرب: أَنِفَ موضع البُرَةِ وهو أَنِفٌ، ضرب مثلا للمؤمن إذا غلب على الذي لا يرضاه، فإنـه يفعلـه بالضرورة، وإن كان يأباه. يعذره فيه برحمة الله»([22]).
وهكذا دل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على وطأة جانب المؤمن وسماحة أخلاقه وسهولة أمره، وأنك لا تهزّه إلى خيرٍ لك أو له إّلا اهتزّ، ولا تدعوه إلى رشدٍ إّلا أسرع إليه، وأنه كثير الاسترسال، ظاهر التوكّل، قد ألقى مقاليده إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ، وإلى أوليائه؛ وما تجـد هكـذا الفاجر المنافق، فإن الشراسة فيـه غالبة، والاحتياط والحزم والتحرّز منه بنجوة، يتوهّم أنه إنما يعيش بتأتّيه وقدرته واستطاعته، وهذا ظنّ لا حقيقة له، ورأيٌ لا محصول معـه. إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ مالـك النواصي، ومصرّف الجوارح، ومقلّب القلوب، وباعث الخواطر.
ومن خلال كل هـذا حقـق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الغرض الذي ساق إليه الحديث وهو حـث الأمـة على التمسك بسنتـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنـة خلفائـه الراشدين المهديين ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ، وتحذيرهم من مخالفتهم، فإن «طريقتهم ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ هي نفس طريقته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإنهـم أشـد الناس حرصا عليها وعملا بها في كل شيء، وعلى كل حال كانوا يتوقّون مخالفتـه في أصغر الأمور فضلا عن أكبرها»([23]). وقـد تظاهر أسلوب القصر بعناصره على تحقيق هذا الغرض، فعلله وأكـده حتى يتمكن هذا المعنى الغالي من النفوس فضل تمكن، ومن ثم يستأصل شأفة كل اختلاف، وتكون الأمة يدا واحدة، أشداء على الكفار رحماء بينهم.
وبالتحليل الذي مضى تبين لنـا أن استخدام (إنما) هو الأليـق بهذا المقام، ولو استخـدم طريق قصر غيرهـا، مثـل (النفي والاستثناء) لاختـل المعنى، لأن القصر بطريق (النفي والاستثناء) يفقد ما سبق ذكرناه في أثناء التحليل من الجمال والإيحاءات، فيجعل صفـة الطاعة التي هي من أبرز صفات المؤمنين وأشهرها ـ كما فهمناه من إيحاءات (إنما) ـ صفةً غريبة غير معروفة لدى المخاطبين، بالإضافة إلى ذلك فإنه يذهب مع طريق (النفي والاستثناء) جمالُ التعريض في طريق (إنما)، حيث إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سلـك طريق التعريض في حـواره مع المخاطبين مراعـاةلمشاعرهم، وحثـا لهم على طاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفاءه الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ، فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرض في كلامـه بأن من لا يطيع النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه الراشدين بعـده ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ لا يعدّ من صـف المؤمنين، لفقدانـه صفة الطاعة، فإن المؤمن لا يكون إلا مطيعا. وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصرح لهم بهذا مراعاة لمشاعرهم وشفقة بهم، فضلا عن ذلك فإن أصحابه ـ رضوان الله تعالى ـ أصحابالفطن، يفهمون الكلام بمجرد التلميح أو الإشارة، ثم يمتثلون به على أكمل الوجـه، رضي الله عنهم!
* * *
روى ابن ماجـه بسنده عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ: الكَلَامُ وَالهَـدْيُ، فَأَحْسَنُ الكَـلَامِ كَلَامُ الله،وَأَحْسَنُ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّـدٍ، أَلَا وَإِيَّاكُـمْ وَمُحْدِثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، أَلَا لَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ الأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ، أَلَا إِنَّ مَـا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَإِنَّمَا البَعِيدُ مَا لَيْسَ بِآتٍ، أَلَا إِنَّمَا الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِأُمِّهِ، وَالسَّعِيـدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، أَلَا إِنَّ قِتَـالَ المُؤْمِنِ كُفْرٌ وَسَبَابَـهُ فُسُوقٌ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَـاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَالكَـذِبَ، فَإِنَّ الكَذِبَ لَا يَصْلُحُ بِالجِدِّ وَلَا بِالهَزْلِ، وَلَا يَعِدُ الرَّجُـلُ صَبِيَّهُ ثُمَّ لَا يَفِيَ لَهُ، وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّـارِ، وَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْـدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّـهُ يُقَالُ لِلصَّادِقِ: صَدَقَ وَبَرَّ، وَيُقَالُ لِلْكَاذِبِ: كَذَبَ وَفَجَـرَ، أَلَا وَإِنَّ العَبْدَ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ كَذَّابًا»([24]).
* مقصود الحديث:
المقصود من الحديث الشريف هـو الأمـر بالتمسك بكتاب الله ـ تعالى ـ الكريم وسنـة رسوله المطهرة ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فإنه استقام من اعتصم بهما، وانحرف من ابتعد عنهما. فمتى ترك القـوم كتـاب الله ـ عز وجـل ـ وراء ظهورهم واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وخالفوا سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والتمسوا الهدي في غيرهمـا، عاقبهـم الله ـ تعالى ـ بأن جعل بأسهـم بينهم شديدا، وتفرقوا أحزابا وشيعـا، كـل حزب بما لديهم فرحـون. فحث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمـة على التمسك بالكتاب والسنة، والتسليم لهما، وشرح الصدر بهما، والاكتفـاء بهديهما، فإن فيهما تمـام الهـدي وكمال الشفاء من مختلف أمراض القلوب، وحـذرهم من مخالفتهما، ومن اتباع البدع التي لا أصل لها في الكتاب والسنة، فإنها سبب الحيرة والضلال، وإن السلامة والعافية والفلاح والهداية في التمسك بكتاب الله ـ عز وجل ـ واتباع سنة رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجتناب البدع. وحثهم على التحلي بمكارم الأخلاق والتخلي عن مساوئها.
* عناصر بناء الحديث:
وقـد ورد الحديث بمجموعـة كبيرة من الجمـل لتحقيق هذا المقصد الهام يمكن تقسيمها إلى أربعة عناصر رئيسية: العنصر الأول: (إنما هما اثنتان: الكلامُ والهَديُ، فأحسنُ الكلام كلام الله، وأحسن الهَدي هدي محمد.) حثّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه الأمة على الاعتصام بالكتاب والسنة؛ والعنصر الثاني: (ألا وإيّاكم ومحدثاتِ الأمورِ، فإن شرّ الأمور محدَثاتها، وكلَّ محدَثةٍ بدعةٌ، وكلَ بدعة ضلالة.) حذرهم فيه من البدع التي لا أصل لهـا في الدين؛ والعنصر الثالث: (ألاَ لا يَطولنَّ عليكم الأمدُ فتَقسُوَ قلوبُكم، ألا إنّ ما هو آتٍ قريبٌ، وإنما البعيـد ما ليس بآتٍ، ألا إنما الشقيُّ من شَقِيَ في بطن أمِّه، والسعيدُ من وُعِظَ بِغيرِه.) حـذرهم فيه من الطمع في طول البقاء والأمل؛ والعنصر الرابع: (ألا إنّ قِتال المؤمنِ كفرٌ وسَبابَه فُسوقٌ، ولا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يهجُـرَ أخاه فوق ثـلاثٍ، ألا وإيّاكـم والكَـذبَ، فإن الكَـذِبَ لا يَصلُحُ بالجِدِّ ولا بالهَزْلِ، ولا يَعِدُ الرجلُ صَبيَّه ثمَّ لا يَفيَ له، وإنّ الكَذِبَ يهدي إلى الفجورِ، وإن الفجور يهـدي إلى النار، وإن الصـدق يهدي إلى البِرِّ، وإن البر يهدي إلى الجنّة، وإنه يقال للصادق: صَدقَ وبَرَّ، ويقال للكاذب: كذبَ وفَجَرَ، ألا وإن العبد يكذبُ حتّى يُكتبَ عند الله ـ عزّ وجلّ ـ كذّابًا.) حثهم فيه على التحلي بمكارم الأخلاق والتخلي عن مساوئها.
* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:
وقع أسلوب القصر بإنما في ثلاثة مواضع من الحديث، الموضع الأول جاء في أول الحديث: (إنما هما اثنتان: الكـلامُ والهَديُ)، ووقـع موقـع التمهيد لإيراد مقصود الحديث. بدأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إرشاده للأمة بجملة القصر هذه، فقصر ما وقع به التكليف في الدين على حجتين اثنتين، ونفاه عن غيرهما من الأشياء، وهاتان الحجتان هما الكلام والهدي. حقا إن الدين يقوم عليهما، الأمر بالأقوال والإرشاد بالأفعال. ثم أتبع بفاء التفريع الداخلة على الجملتين الاسميتين لإثبات الاكتفاء بالكتاب والسنة في الدين: (فأحسنُ الكلام كلام الله، وأحسن الهَدي هدي محمد.) ما دامت حجة التكليف مقصورة على الكلام والهدي، ثم أحسن الكلام كلام الله ـ تعالى ـ المتمثل في كتابه العزيز، وأحسن الهدي هـدي رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـالمتمثل في سنته المطهرة، فلا محال أن حجة التكليف هي الكتاب والسنة، ومقصورة عليهما لا تتعداهمـا إلى غيرهمـا. وبهـذا توصل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مقصوده من هذا الحديث وهو الأمر بالتمسك بالكتاب والسنـة. وهكـذا مهـد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا القصر لإثبـات أن التكليف الديني يقـع بالكتاب والسنـة، ومـا عـلى الأمة إلا التمسك بهما. وبهـذا التمهيد يكون تمكن ذلـك المعنى من النفـوس أقوى، لأن المعانـي إذا جـاءت بعـد شيء من التمهيد لهـا والتقديم عليها تكون أقوى تأثيرا وأشد تمكنا.
قال السنـدي ـ رحمـه الله تعالى ـ: «أي: إنما الكتاب والسنـة اللذين وقـع التكليف بهما اثنتان لا ثالث معهما حتى يثقل عليكـم الأمر ويتفرق. وفائدة الإخبار نفي أن يكون معهـما ثالث لما ذكرنا. ويحتمل أن يكون المقصود النهي عن ضـم المحدثات إليهما، كأنه قيل: المقصود بقاؤهما اثنتان. ويحتمل أن يكون ضميرهما لما وقـع بـه التكليف مع قطـع النظـر عن العدد، وإنما ثنّى نظرًا إلى كون ذلك في الواقع اثنتين، فحصل الفائدة في الإخبار باسم العدد، وهذا مثل ما قالوا في قوله ـ تعالى ـ: ﴿ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ﴾[النساء: 176]. ويحتمل أن يقال: اثنتان تمهيد لما هو الخبر، والخبر في الواقع ما هو المبدل من (اثنتان) وهما الكلام والهدي. وعلى الوجوه تأنيث (اثنتان) نظرًا إلى أنهما حُجّتان»([25]).
ثم فصـل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القول في كيفيـة تحقيق التمسك بالكتاب والسنة، فحذر من البدع التـي لا أصـل لهـا في الكتاب ولا السنـة، (ألا وإيّاكم ومحدثاتِ الأمورِ، فإن شرّ الأمور محدَثاتهـا، وكلَّ محدَثةٍ بدعةٌ، وكلَ بدعـة ضلالة.) وحذر من الطمع في طول البقـاء والأمـل (ألاَ لا يَطولنَّ عليكـم الأمدُ فتَقسُوَ قلوبُكم، ألا إنّ ما هو آتٍ قريبٌ، وإنما البعيد ما ليس بآتٍ، ألا إنما الشقيُّ من شَقِيَ في بطن أمِّه، والسعيدُ من وُعِظَ بِغيرِه.) وأخيرا حث على التحلي بمكارم الأخلاق والتخليعن مساوئها. وكل هذا تفصيل وتأكيد للتمسك بالكتاب والسنة والاكتفاء بهما، فإنه من اعتصم بالكتاب والسنة، واقتنع بما قالـه الله ـ تعالى ـ واتبع بهدي رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لن يقع فيما حذر منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من البدع والطمع في طول البقاء والأمل، وليتحلى بمكارم الأخلاق وليتخلى عن مساوئها، لأن البدع لا أصل لها في الكتاب والسنة، ولأنه أيقن أنه ضيف في هذه الحياة الدنيا، وأن كل نفس ذائقة الموت، فلا يتمنى أو يطمع في طول البقاء أو الأمل، ثم لأنه لا يخفى على أحد أن الأمر بمكارم الأخلاق والنهي عن مساوئها من أغراض الكتاب والسنة الأساسية، فمـن اعتصم بالكتاب والسنـة واتبع بهما فلا محال أنه متحل بمكارم الأخلاق ومتخل عن مساوئها.
فكأن كل هذه المعاني داخلة في حيز المنفي المفهوم من القصر السابق عليها في أول الحديث، حيث قـد نفى فيـه كل مـا لا أصل لـه في الكتاب والسنـة نفيـا ضمنيا، ثم نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنها ههنا صريحـا، كل واحـد منها مبتديء بحرف التنبيه (أَلاَ)([26])، «استفتاحـا وتنبيهـا وجمعـا للقلوب للسماع»([27])، زيادة في تقريع القلوب بما يذكر بعده من المواعظ، وتأكيدا لأن كل كلمة من هذه الكلمات حقيقة بأن يتنبـه المخاطب بها، ويلقي لها سمعـا واعيـا وقلبـا مراعيا. وبذلك زاد الأمر وضوحا وتأكيدا.
هذا وللطمـع في طول البقاء والأمل خطورة بالغة في حياة البشر الدنيوية والأخروية، فإنه «إذا أملت العيش الطويل شغل قلبك، وضاع وقتك، وكثر همكوغمك، بلا فائدة ولا طائل. ومن طال أملـه لا يذكر الموت، فمن لم يذكره فمن أين لقلبـه الحرقـة؟ فإذا طولت أملـك قلت طاعتـك، فإنك تقول: سوف أفعل والأيام بين يدي. وتأخـرت توبتك، واشتـد حرصـك، وقسى قلبك، وعظمت غفلتك عن الآخـرة، وذهبت ـ والعياذ بالله ـ آخرتـك»([28]). ولذلك قد أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التحذير من الطمع في طول البقاء والأمل من خلال موضعين من أسلوبالقصر بإنما، قصر في الأول منهما (وإنما البعيـد ما ليس بآتٍ) صفـة (البعد) على (ما ليس بآت)، ونفاها عما هو آت، وقد سبق هذا القصر بجملة أكد فيها أن ما هو آت قريب (ألا إنّ ما هو آتٍ قريبٌ)، فمفهوم هذا القصر قد فهم ضمنيا من الجملة السابقة، وجـاء هنا صريحا مستعملا فيه طريق القصر لزيادة التأكيد والوضوح. ثم أكـد هـذا التحذير بقصر آخر (إنما الشقيُّ من شَقِيَ في بطن أمِّه، والسعيدُ من وُعِظَ بِغيرِه.) قصر فيـه (الشقي) على (من شقي في بطن أمه بأن قدر الله ـ تعالى ـ في أصـل خلقتـه كونـه شقيـا)، ونفـاه عمن عرض لـه الشقاء بعد، إشارة بذلك لشقاء الآخرة لا الدنيا([29]). ثم قصر (السعيد) على (مـن وعـظ بغيره بأن وفقه الله ـ تعالى ـ للاتعاظ فرأى مـا جـرى على غيره بالمعاصي من العقوبة، وما أصاب به غيره من الموت، فترك المعاصي خوفـا من أن يناله مثل ما نال غيره، وترك الطمع في طول البقاء والأمل لمعرفته أنه يرجع إلى ربه ـ عـز وجـل ـ في أي ساعة)([30])، ونفاه عـن غـيره على سبيل القصر الحقيقي المبني على المبالغـة، لتأكيد عظمة هذه السعادة، وزيادة التحذير من الطمع في طول البقاء والأمل.
وفي هذين القصرين تعليل لهـذا التحذير، كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: احذروا من إلقـاء الشيطـان في قلوبكم طـول البقـاء فتغلـظ قلوبكم، وتحسبوا المـوت بعيدا عنكم، فإن الموت متيقن إتيانـه، وكل ما هو متيقن إتيانه قريب لا بعيد، فالموت والحشر