مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الشفعة من سنن ابن ماجه
مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الشفعة من سنن ابن ماجه
كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)
فقال:
روى ابن ماجه بسنده عن جابرِ بنِ عبدِ الله، قال: إنَّمَا جَعَلَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشُفْعَةَ في كلِ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فإذا وَقَعَتِ الحُدُودُ وصُرِّفَتِ الطُرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ([1]).
* مقصود الحديث:
المقصود من الحديث الشريف هو إثبات الشفعـة في الشركـة، ونفيهـا عن المقسوم([2]).
* عناصر بناء الحديث:
ورد الحديث بجملتين لتحقيق هذا المقصد: الجملة الأولى عبارة عن قاعدة كليـة في أن الشفعة ثابتة في الشركة (إنَّمَا جَعَلَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشُفْعَةَ في كلِ مَا لَمْ يُقْسَمْ)؛ والجملة الثانية تفريع من هذه القاعدة، وهو أن الشفعة تسقط بسقوط الشركة (فإذا وَقَعَتِ الحُدُودُ وصُرِّفَتِ الطُرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ).
* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:
ورد أسلـوب القصـر بإنما في الجملـة الأولى (إنَّمَا جَعَـلَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشُفْعَةَ في كلِ مَا لَمْ يُقْسَمْ) لتأكيد هذه القاعدة الكلية. ومن خلاله أثبت أن الشفعة تكون في كل ما لم يقسم، بمعنى في كل ما لم تسقـط منـه الشركة. وإثبات الشفعة في الشركـة هو محل اتفاق من أهل العلم([3]). وذلك لأن حكمة مشروعية الشفعة تتمثل في دفع ضرر الدخيل الأجنبي الذي يأتي على الدوام، بسبب سوء المشاركة والدخول في ملـك الشريك، وسوء المعاشرة والمعاملـة في استعمال أو استحداث المرافق المشتركـة، أو إعلاء الجدار، أو غير ذلك من مظاهر الضرر، وكذلك دفع ضرر مؤنـة القسمـة. وإن الأصل المقرر في الإسلام أنه (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)([4])، كما أن حسن العشرة يقتضي رعاية مصلحة الشريك أو الجار، ورعاية المصلحة أمر مطلوب شرعاً أيضاً([5]).
وقد يتوهـم مـن لا يقـف جيـدا على هذه الحكمة التي من أجلها شرعت الشفعة، ولم يبلغه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا فعله في ذلك، أن الشفعة تكون في المقسوم كما تكون فيما لم يقسم. ولإزالة هذا الوهم أورد جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قوله بأسلوب القصر مؤكـدًا من خلالـه على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرع الشفعة فيما لم يقسم، دون المقسوم، وزاد تأكيده من خلال إيراد القصر بطريق (إنما)، إشارة إلى أن هذا الحكم واضح جلي، ولا يخفى على من بلغه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقضاءه في ذلك، وعلى من يفهم جيدا قاعدة (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ).
وقـد قصر جابر ـ رضي الله عنـه ـ في قولـه جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشفعة على كونهـا في كـل مـا لم يقسم، بمعنى في الشيء المشاع الذي لم يقسم بين الشريكين، لأن حقهما فيـه مشاع، وكل واحـد حقـه غير متميز، وكل جزء من الأرض لكل منهما فيه نصيب، وفي تمليك أي واحد منهما نصيبه للأجنبي ضرر لشريكه. فنفى فيه ضمنيًا كونها في المقسوم. رأى الخطابي ـ رحمه الله تعالى ـ أن هـذا الحديث واضح بيِّنٌ في الدلالة على نفي الشفعة لغير الشريك لدلالة (إنما) على القصر، فأثبت فيه الشفعة للشريك غير المقسوم، ونفاهـا عن المقسوم، حيث قال ـ رحمه الله تعالى ـ: «هذا الحديث أبين في الدلالة على نفي الشفعـة لغير الشريك من مثبته من الحديث الأول([6])، وكلمـة (إنما) تعمل بركنيها، فهي مثبتة للشيء نافية لما سواه، فثبت أنه لا شفعة في المقسوم»([7]).
ولتأكيد هذا المعنى وتوضيحه ألحقـه جملة شرطية مبتدئة بفاء التفريع (فإذا وَقَعَتِ الحُدُودُ وصُرِّفَتِ الطُرُقُ، فَلَا شُفْعَـةَ)، مبينـًا فيهـا صريحـًا أن ما قد قُسم وعَرف كـلٌّ نصيبَـه لا شفعة فيه، لأنه لا اشتراك إذا حصلت القسمة وعرف كلّ نصيبه، فقد انتهت الشركة، ولم يوجد شيء يربط بينهما، وكلٌّ استقل بنصيبه، وقد ارتفع الضرر الذي من أجل دفعه شُرعت الشفعة. وهنا ذكر علامتين من علامات القسمة، وهما: وقوع الحدود، وصرف الطرق. وقوع الحدود يعني إقامة ما تتميز به الأملاك بعد القسمـة، وتعيين حدودها، والحدود جمع حدّ، وأصله المنع، ففي تحديد الشيء منع خروج شيء منـه، ومنع دخول غيره فيه. وصرف الطرق يعني تبيين مصارف الطرق وشوارعهـا، (صرفت) من التصرف أو التصريف، أو من الصرف بمعنى خلصت وبانت([8]). فإذا وجدت هاتان العلامتان، تمت القسمة، وسقطة الشفعة. لأنه بهما ارتفع الضرر.
والقصر هنا وقع بين أجـزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل الصادر من فاعلـه والواقـع على مفعولـه الأول (جَعَلَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشُفْعَةَ) على الجار والمجرور (في كلِ مَا لَمْ يُقْسَمْ) المتعلقين بمحذوف، وهذا المحذوف يمكن تقديره (ثابتة)، وهو مفعول ثان للفعل (جعل). والتعبير بالجملة الفعلية مع كون الفعل ماضيا للدلالة على حدوث ذلك الفعل وتحققه، فجعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشفعة ثابتة في كل ما لم يقسم قد صدر منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالفعل، وتحقق، فما للمسلمين إلا الامتثال.
وهذا القصر قصر موصوف على صفـة، حيث إنه قصر جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشفعة على كونه متعلقًا ومرتبطًا بثبوتها في كل ما لم يقسم. وهو على سبيل القصر الإضافي للإفراد، لأنه أثبت لجعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشفعة صفة تعلقه وارتباطه بثبوتها في كل ما لم يقسم، ونفى عنه صفة تعلقه وارتباطه بثبوتها في المقسوم.
والمراد بهـذا القصر هنا بيـان أن الشفعـة ثابتـة في كل شيء مشاع لم يقسم، وساقطة في كـل شيء مشـاع قد قسم، وقد بيّن في الحديث علامتي تمـام القسمة. فالحديث يدور حول سقوط الشفعة بالقسمة، ولم يتطرق إلى ما هي الأشياء التي تكون فيها الشفعـة. هذا هو ظاهر الحديث، غير أن من العلماء من يرى أن في الحديث دلالةً على أن الشفعة تكون فيما يقبل القسمة، ولا تكون فيما لا يقبلها كالبئر والحمام ونحوهمـا([9]). قـال الخطابي ـ رحمـه الله تعالى ـ: «وهذا([10]) أولى لأن القصد بقوله الشفعة فيما لم يقسم ليس بيان ما تجب فيـه الشفعة مما ينقسم أو لا ينقسم، إنما هو بيان سقوط الشفعة فيما قد قسم، فإذا كان معنى الشفعة إزالة الضرر فإن هذا المعنىقائـم في البئر وفيما أشبهها، وإلى هذا ذهب أبو العباس بن سريج، فقال: إذا كان إزالة الضرر فيما يمكن إزالته واجبة، ففيما لا يمكن إزالته أولى»([11]).
وكذلك لا يدل ظاهر الحديث على عدم ثبوت الشفعة للجار، لأن مفهوم القصر في الحديث هو إثبات الشفعة للشريك قبل القسمة للمبيع، من غير تعرض للجـار، لا بمنطوق ولا بمفهوم. وإنما مدلولـه أن القسمـة تبطـل الشفعة، وهذا واضح([12]).
هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام بيان الحكم الشرعي، فأكد على صحـة الحكـم وثبوتـه من سنـة رسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وهو أن الشفعـة ثابتة بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثابتـة في الشيء المشاع الذي لم يقسـم بين الشريكين، وساقطة فيما قد قسم، وعرف كل واحد منهما نصيبه منه.
واستخدام (إنما) هو الأليق بهذا المقام، فإن فيها ادعاء أن كون الشفعة فيما لم يقسم أمر واضح ينبغي ألا يجهل أو ينكر، فكأن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ ذكره بأسلوب القصر على سبيل التذكير والتنبيه.
p p p
([2]) الشُفْعَة في اللغـة: مشتقة من الزّيادة، لأن الشفيع يضم المَبيع إلى ملكه فيشفعه به، كأنه كـان واحـدا وِترا فصار زوجا شَفعا. والشافع هو الجاعل الوتر شفعا. وفي الاصطلاح الفقهي عند الجمهور: هي حق تملك قهري يثبت للشريك القديم على الحادث، فيما ملك بعوض. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (شفع)؛ الفقه الإسلامي وأدلته: ج5 ص792.
([5]) ينظر: معالم السنن: ج3 ص153؛ عارضة الأحوذي: ج6 ص131؛ شرح الكرماني على صحيح البخاري: ج10 ص93؛ منحة الباري شرح صحيح البخاري: ج4 ص657؛ إرشاد السـاري شرح صحيح البخـاري: ج4 ص122؛ الفقه الإسلامـي وأدلته: ج5 ص793 ـ 794.
([6]) يقصد الحديث: «الشُّفْعَـةُ فِى كُلِّ شِـرْكٍ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِـطٍ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَبِيـعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ بَاعَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ.» (سنن أبي داود: كتاب البيوع والإجارات باب في الشفعة، حديث رقم: 3513.)
([8]) ينظر: فتح البـاري لابن حجـر: ج4 ص509؛ إرشاد الساري: ج4 ص123/ 290؛ منحة الباري: ج4 ص612؛ عون المعبود: ج9 ص426.
([9]) ينظر: معالم السنن: ج3 ص 156؛ عارضة الأحوذي: ج6 ص132 ـ 133؛ شرح ابن بطال على صحيح البخاري: ج6 ص376؛ شرح الكرماني على صحيح البخاري: ج10 ص92؛ إرشاد الساري: ج4 ص123؛ سبـل السـلام شرح بلوغ المرام للإمام العلامة محمد بـن إسماعيل الصنعاني المتوفى سنـة (1182ﻫ): ج3 ص198 وما بعدها، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع ـ الرياض، الطبعة الأولى 1427ﻫ ـ 2006م.
([12]) ينظر: سبل السلام: ج3 ص202 ـ 203. يبدو لي أن ظاهر الحديث الذي نحن بصدده الآن لم يتطرق إلى الحكم في الشفعـة للجـار، فاختصرت القـول فيما يتعلق بموضوع البحث. وقـد اختلف العلماء في مسألة ثبوت الشفعـة للجار، فمنهم من ينفيها مطلقًا، ومنهم من يثبتها مطلقًا، ومنهم من يثبتها بشروط. ولكل مذهب أدلته وحججه. وتفصيل كل هذا مبسوطة في كتب الفقه وشروح الحديث. ينظر: معالم السنن: ج3 ص154 وما بعدها؛ شرح ابن بطال على صحيح البخاري: ج6 ص376؛ فتح الباري لابن حجر: ج4 ص510؛ عمدة القاري: ج12 ص29 وما بعدها؛ سبل السلام: ج3 ص198 وما بعدها؛ عون المعبود: ج9 ص425؛ إهداء الديباجة: ج3 ص435 وما بعدها؛ الفقه الإسلامي وأدلته: ج5 ص800 وما بعدها.