جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الصدقات من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الصدقات من سنن ابن ماجه

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجـه بسنـده عن جَدِّ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيـمَ بْنِ عَبْـدِ الله بْنِ أَبِي رَبِيعَـةَ المَخْزُومِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ اسْتَلَفَ مِنْـهُ حِينَ غَـزَا حُنَيْنًـا ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ ألفًا، فَلَمَّا قَدِمَ قَضَاهَا إِيَّاهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «بَارَكَ الله لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الوَفَاءُ وَالحَمْدُ»([1]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هو الحـث على حسن قضـاء الدين والشكر للدائن والدعاء له بالخير.

* عناصر بناء الحديث:

لتحقيق هـذا المقصود أورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديثه في جملتين كريمتين، داعيًا في الأولى منها للدائن بالمباركة في الأهـل والمال (بَارَكَ الله لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ)، ومؤكدا في الثانيـة منهـا على أن جزاء الدين هو الوفاء والحمد (إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الوَفَاءُ وَالحَمْدُ). وسبق قولَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولُ راوي الحديث ذكر فيه سياق ورودالحديث، وهو (أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ اسْتَلَفَ مِنْهُ حِينَ غَزَا حُنَيْنًا ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ الفًا، فَلَمَّا قَدِمَ قَضَاهَا إِيَّاهُ) ثم قال هذا الحديث الشريف.

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

أكـد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خلال أسلوب القصر بإنما على أن جزاء الدَين هو الوفاء والحمد، حيث يقول (إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الوَفَاءُ وَالحَمْدُ). 

قال ابن الأثير ـ رحمه الله تعالى ـ في معنى (سلف): «يقال: سَلَّفت وأسْلَفت تَسْليفا وإسْلافا، والاسم السَّلَف، وهو في المعاملات على وجهين: أحدهما القرض الذي لا منفعـة فيـه للمُقْرِض غير الأجر والشكر، وعلى المقْترِض رَدُّه كما أخذه، والعرب تُسِّمي القرض سلفًا؛ والثاني هو أن يعطى مالاً في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلف، وذلك منفعة للمُسْلِفِ. ويقال له سَلَم دون الأول»([2]). 

والمراد بالسلف في هـذا الحديث هو النوع الأول، لما يفهم من سياق ورود الحديث، حيث إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى ما استقرض في غزوة حنين من صاحبه، ثم دعا له، ولم يزد له شيئا في القضاء، بالإضافة إلى أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصر جزاء السلف على الوفاء والحمد.

وإنما أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا قوله بأسلوب القصر نظرًا لأهمية القرض البالغة وفضله العظيم، وهو من أهم سبل سدّ حاجات المحتاجين، والتيسير لهم والفرج في موقف متـأزم، وهو مظهر جميل من مظاهـر التعـاون البشري في حياتهم. وقد وعـد الله ـ سبحانـه وتعالى ـ للمقرضين بمضاعفـة الثواب: ﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّـهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[البقرة: 245]. وقد جعل الله ـ تعالى ـ الإقراض للإنسان كالإقراض له ـ سبحانه وتعالى ـ، تعظيما لشأن القرض ومبالغة في أهميته. قال الإمام الشعراوي
 ـ رحمه الله تعالى ـ
عند تفسيره لهذه الآية: «والحق ـ سبحانه وتعالى ـ يريد أن ينبهنا بكلمـة القـرض على أنه يطلب منا عملية ليست سهلة على النفس البشرية، وهو ـ سبحانه ـ يعلم بما طبع عليه النفوس. والقرض في اللغة معناه قضم الشيء بالناب،وهـو ـ سبحانه وتعالى ـ يعلـم أن عملية الإقراض هي مسألة صعبة، وحتى يبين للناس أنه يعلم صعوبتها جاء بقوله: (يُقْرِضُ)، إنه المقدر لصعوبتها، ويقدر الجزاء على قدر الصعوبة»([3]). 

وكذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الجَنَّةِ مَكْتُوبًا: الصَّدَقَـةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَـرَ. فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! مَا بَـالُ القَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ قَـالَ: إِنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ»([4]). 

وهنا أشار إلى أن «القرض ثوابـه أعظم من الصدقـة، مع أن الصدقة يجود فيها الإنسان بالشيء كله، في حين أن القرض هو دين يسترجعه صاحبه، لأن الألم في إخراج الصدقة يكون لمرة واحدة، فأنت تخرجها وتفقد الأمل فيها، لكن القرض تتعلق نفسك به، فكلما صبرت مرة أتتك حسنة، كما أن المتصدق عليه قد يكون غير محتاج، ولكن المقترض لا يكون إلا محتاجاً»([5]). 

ولهذه الأهميـة أو الأفضلية كلها أكد لنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا مرة أخرى حسن جزاء القرض، حثا للأمـة «على حسن الأداء للدين، ومن حسن الأداء المسارعة بقضاء الدين عند حلولـه دون مماطلـة، وشكر الدائن والدعـاء له جزاء معروفه وإحسانه»([6]). قصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جـزاء القرض على الوفـاء والحمد، مشيرا بلفظ (إنما) إلى أن ذلـك معلوم واضح، فكيف لا يكون واضحـا؟ والقرض إنما يكون إعطاء الشيء ليقضاه، فوجب القضاء. ثم إنـه نوع من الفضل والإحسان، فلزم الشكر، ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ[الرحمن: 60].

والقصر هنـا وقـع بين أجزاء الجملـة الاسميـة، حيث قصر المبتـدأ (جَزَاء السَّلَفِ) على خبره (الوَفَـاء وَالحَمْد)، وفي مجيئه بالجملـة الاسمية ما لا يخفى من دلالة على الثبوت والدوام، فإن جزاء القرض هـذا ثابت لازم كما سبق ذكره، ثم إنه مستمر مع استمرار عمليـة القرض. وهـذا القصر من قبيـل قصر الموصوف على الصفة، قصر الموصوف (جَزَاء السَّلَفِ) على الصفتين (الوَفَاء وَالحَمْد)، وذلك علىسبيـل القصر الحقيقي التحقيقي، بمعنى أن جـزاء السلف مقصـور على الوفـاء والحمد، ولا يتعداهما إلى غيرهما.

وهنـا يوهـم معنى القصر المذكور سابقـًشا أن الزيادة على الدين زيـادة غير جائزة، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حصر الجزاء في الأمرين: الوفاء والحمد. لكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو نفسه زاد عند قضاء ما عليه من الدين كما ثبت في بعض الروايات([7]). وتمسك بهذا كثير من أهـل العلم على أن الزيادة على الدين جائزة، بل هي من حسن قضاء الديون، ومستحبة على ألا تكون مشروطة عند القرض، فإنها إن كانت مشروطة كانت ربا محرمًا([8]). 

وقد أزال الإمام الطيبي ـ رحمه الله تعالى ـ هذا الوهم، حيث قيد هذا الجزاء المذكور في الحديث، وذكر أن مراد الجزاء هنـا هو مـا يكون على سبيل الوجوب، يقول: «فإن قلت: هـذا يوهـم أن الزيادة على الدين غـير جائزة، لأن (إنما) تثبت الحكم للمذكور وتنفيه عما سواه، قلت: هو على سبيل الوجوب، لأن شكر المنعم وأداء حقه واجبان، والزيادة فضل»([9]). 

فيكون معنى القصر هنـا أن جزاء السلف على سبيل الوجوب منحصر في الوفاء والحمد، فالوفاء بحق المقرض بقضاء دينـه مع الشكر على إحسانه هو أمر واجب يجب على كل مسلم الامتثال به. ولذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»([10]). وقال: «يُغْفَرُ للشهيد كلُّ ذَنْب إلا الدَّيْنَ»([11]). 

والمراد بهـذا القصر حث الأمـة على حسن قضاء الديون والشكر لأربابها، فإن القـرض بهما يستمر، فيسـد حاجات المحتاجين في كل زمان ومكان، وبذلك يسـد ذرائع التنازعات والخصومات والفتـن على أبوابهـا، ويفشي روح التعـاون والأخوة بين أبناء المجتمع، مما يتحقق معه أمن المجتمع وسعادته.

أوجب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجزاء السلف أمرين كما رأينا: الوفـاء والحمد. الوفاء هـو «القيـام بمقتضى العهد»([12]). فالقرض عهـد بين الدائن والمدين، فإذا ما تيسر الأمـر للمدين، وجب عليه الوفاء بعهده، وتسليم ما عليه من دين من غير مطل ولا تسويف. وقد جاء في رواية أخرى لفظ (الأداء) بدل الوفاء، والأداء «هو في عرف أهل الشرع عبارة عن تسليم عين الواجب في الوقت»([13]). ففيه أيضًا ما فيه من حث على وجوب حسن قضاء الديون.

ثم المـدح هو الشكـر غير أن هناك فرقـا بينهما، قـال ابن الأثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «والحمـد والشكـر متقاربان. والحمد أعمهما، لأنـك تحمد الإنسان على صفاتـه الذاتية وعلى عطائـه ولا تشكره على صفاته. ومنه الحديث (الحَمْدُ رأسُ الشُّكرِ، ما شَكَر الله عبْدٌ لا يَحْمَدُه)([14]) كما أنّ كلمة الإخلاص رأس الإيمان. وإنما كان رأس الشكـر لأن فيه إظهارَ النعمة والإشادةَ بها، ولأنه أعم منه، فهو شكر وزيادة» ([15]). والحمد فيه الشكر والرضى والجزاء وقضاء الحق والذكر بالجميل على جهـة التعظيم، ويكون على النعمة وغير النعمة([16]). فكأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خلال تدقيقـه في اختيـار هـذه الألفـاظ يحث الأمـة على حسن قضاء الديون، والشكر لأربابهـا، لا على إحسانهم فحسب، بل على ما يتحلون بـه من خلق كريم وصفة جميلة أيضا.

هكذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام الحث والترغيب، فأكد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بـه الأمـر المحث عليـه والمرغب فيه، مطبقًا هو نفسه ما قاله، ومن ثم علم الأمة أدبا رفيعـا، بل واجبا من الواجبات، وهو حسن قضاء الديون، والشكر لأربابها عليها. علمهم بالقـول والفعل معـًا، حيث قـال الكلام عند قضائه الدين، داعيًا للدائن بالمباركة في الأهل والمال، وهل من حمد أو شكر أفضل من دعائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟! وهذا الدعاء إنما هو مكافأة على إحسانـه، لأن القـرض إحسان يستحـق المكافاة بالدعاء، كما أشار إليه بقوله القصري اللاحق، فكأن هذا القصر بيان دعائه وتأكيد وجوبه على المستقرضين، لذا لم يعطف بين الجملتين.

ومن خلال التحليل الذي مضى تبين لنا أن استخدام (إنما) هو الأليق بهذا المقام، لأن القصر هنـا جـاء للحث على حسن قضاء الدين والشكر عليه، وذلك لما له من أهمية بالغة في حياة البشر كما وقفنا عنده في أثناء التحليل، وقد بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن جـزاء الدين هو حسن القضاء والشكر، مشيرًا من خلال (إنما) إلى أن ذلك شيء ينبغي ألا يجهل أو يشك فيه، وهو بالفعل شيء واضح كما سبق أن ذكرنا في أثناء التحليل. وفي هذا الوضوح ما فيه من معنى الحث على حسن قضاء الدين والشكر عليه، والعتاب لمن لا يقضيه ولا يشكـر عليـه. ولو استخدم غيرها من طرق القصر مثل (النفي والاستثناء) لذهبت هذه المعاني مع ذهاب (إنما). 

 

*  *  *

 



([1])   سنن ابن ماجه: كتاب الصدقات باب حسن القضاء، حديث رقم: 2424.

([2])   النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (سلف).

([3])   تفسير الشعراوي: ج2 ص1040.

([4])   سنن ابن ماجه: كتاب الصدقات باب القرض، حديث رقم: 2431.

([5])   تفسير الشعراوي: ج2 ص1041.

([6])   إهداء الديباجة: ج3 ص379 ـ 380.

([7])   ينظر: صحيح البخاري كتـاب الاستقراء وأداء الديون والحجـر والتفليس باب حسن القضاء، حديث رقـم: 2394؛ سنن أبي داود كتاب البيـوع والإجـارات باب حسن القضاء، حديث رقم: 3347؛ سنن النسائي كتاب البيوع باب الزيادة في الوزن، حديث رقم: 4591.

([8])   ينظر: إهداء الديباجة: ج3 ص380.

([9])   شرح الطيبي على مشكاة المصابيح: ج7 ص2182؛ فيض القدير: ج2 ص573؛ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: ج6 ص119.

([10])   سنن ابن ماجه كتاب الصدقات باب التشديد في الدين، حديث رقم: 2413؛ سنن الترمذي كتاب الجنائز باب ما جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضى عَنْهُ.» حديث رقم: 1079.

([11])   صحيح مسلم: كتاب الإمارة باب من قُتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، حديثرقم: 1886.

([12])   الكليات: ص209/ 948.

([13])   المرجع السابق: ص66.

([14])   شعب الإيمان: الثالث والثلاثون من شعب الإيمان، وهـو باب في تعديـد نعم الله ـ عز وجل ـ وما يجب من شكرها، حديث رقم: 4395.

([15])   النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (حمد).

([16])   ينظر: الفروق اللغوي: ص48 ـ 49؛ الكليات: ص365.

الموضوعات