مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الصيد من سنن ابن ماجه
مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الصيد من سنن ابن ماجه
كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب (إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)
فقال:
روى ابن ماجـه بسنده عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَألتُ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِهَذِهِ الكِلَابِ قَـالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَـكَ المُعَلَّمَـةَ، وَذَكَرْتَ اسْـمَ الله عَلَيْهَا، فَكُـلْ مَا أَمْسَكْنَ عَلَيْـكَ إِنْ قَتَلْنَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ، فَإِنْ أَكَلَ الكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ أُخَرُ فَلَا تَأْكُلْ». قَالَ ابْن مَاجَه: سَمِعْتُهُ، يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ المُنْذِرِ يَقُولُ: حَجَجْتُ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ حِجَّةً، أَكْثَرُهَا رَاجِلٌ([1]).
* مقصود الحديث:
المقصود من الحديث هو بيـان بعض الأحكام المتعلقـة بما صيـد بالكلب، وأنه يجوز للمسلم أكل ما اصطاده بكلبه المعلم له من صيد حلال ما لم يأكل الكلب بعد الإمساك([2]).
* عناصر بناء الحديث:
لتحقيق هـذا المقصد جاء الحديث الشريف بمجموعـة من الجمل، تتمثل في ثلاثـة أجزاء: الجـزء الأول: سبب ورود الحديث وهـو سؤال عدي بن حاتم ـ رضي الله عنـه ـ للنبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن حكم الصيـد بالكلـب (سَألـتُ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِهَـذِهِ الكِلَابِ)؛ والجـزء الثاني: إجابـة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على سؤاله (إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ المُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ الله عَلَيْهَا، فَكُلْ مَا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ إِنْ قَتَلْنَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُـلَ الكَلْبُ، فَإِنْ أَكَـلَ الكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَـا كِلَابٌ أُخَرُ فَلَا تَأْكُلْ)؛ والجزء الثالث: قول الجامع ابن ماجه ـ رحمه الله تعالى ـ يؤكد فيه على ثقة رجال الحديث، مما يزيد قوة صحتـه (سَمِعْتُهُ، يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ المُنْذِرِ يَقُـولُ: حَجَجْتُ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ حِجَّةً، أَكْثَرُهَا رَاجِلٌ.).
وإجابـة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تتكون من عناصر ثلاثـة: العنصر الأول: بيان جواز أكل ما صيد بالكلب مالم يأكل الكلب، مع ذكر شروط لا بد من توفرها في ذلك (إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ المُعَلَّمَـةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ الله عَلَيْهَا، فَكُلْ مَا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ إِنْ قَتَلْنَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ)؛ والعنصر الثاني: بيان عدم جواز أكل ما صاد الكلب وأكـل، مع التعليل لذلـك (فَإِنْ أَكَلَ الكَلْبُ فَلَا تَأْكُـلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ)؛ والعنصر الثالث: بيان عـدم جـواز أكـل ما صاده الكلب مع مشاركة كلب آخر (وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ أُخَرُ فَلَا تَأْكُلْ).
* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:
ورد أسلوب القصر بإنما في العنصر الثاني من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ)، ووقـع موقع التعليل لحكمـه، حيث بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا العنصر أن ما صاده الكلب وأكل منه، لا يجوز للإنسان أكله (فَإِنْ أَكَلَ الكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ).وهذا الحكم مع الحكـم الوارد في العنصر الثالث كالحكمين المتفرعين من الحكم الأول الذي سبق أن بينه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العنصر الأول من قوله، وهو أن ما صاده الكلب يجوز أكله للإنسان ما لم يأكل الكلب بعد إمساكه (فَكُلْ مَا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ إِنْ قَتَلْنَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ). هذا هو الأصل في حكم الصيد بالكلب، وقد بين ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا العنصر شروطًا لا بد من توافرهـا في الصيد بالكلب، وهي: كون الكلب معلمًا؛ وكونـه مرسلًا من جهـة الصائد عنـد الصيد؛ وذكـر اسم الله عند الإرسال؛ وإمساك الكلب الصيد لصاحبه؛ وقتل الصيد جرحا؛ وعدم أكل الكلب بعد الإمساك([3]). قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ المُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ الله عَلَيْهَا، فَكُلْ مَا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ إِنْ قَتَلْنَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ.).
هنـا في العنصر الثاني تفـرع من ذلـك الأصل الحكـم بأنـه إن أكل الكلب فلا يجـوز الأكـل، لأنه بهذا الأكل كأنـه أمسك على نفسه، لا على صاحبه. أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ذلـك وأكـده من خلال أسلوب القصر (إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ). وبذلك سقط شرط من شروط الصيد بالكلب، وهو إمساك الصيد على صاحبه. قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في قولـه (فَإِنِّي أَخَـافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ): «معنـاه أن الله ـ تعالى ـ قال ﴿ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾[المائدة: 4] فإنما إباحته بشـرط أن نعلـم أنه أمسك علينـا، وإذا أكـل منه لم نعلم أنه أمسك لنا أم لنفسه، فلم يوجد شرط إباحته، والأصل تحريمه»([4]). صرح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا بهذا السبب المفهوم مما ذكـر في العنصر الأول مـرة أخرى لزيادة توضيح هـذا الحكم وتأكيده. ومن أجـل ذلـك جـاء القصر خـبرا للفعـل الناسـخ (يكون)، والفعل (يكون) منصوب بأن المصدريـة الواقعـة مفعولا بـه للفعل (أخاف)، ثم الجملة الفعلية (أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ) في محل الرفع خبر (إنّ). وفي هذا أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أنـه إن أمسك الكلب على نفسه الصيد لا يجوز للإنسان أكله، ولو كان إمساك الكلب على نفسه مجرد الشك، ولم يتيقن من ذلك.
وبهـذا القصر أشـار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أنه في حالة أكل الكلب الصيد سقط شرط من شروط صحة أكل ما صيد بالكلب، وهو الإمساك على صاحبه. وتبعًالذلك لا يجوز أكله. وذلك أن في القصر إثباتَ شيء لشيء، ونفيَه عن غيره كما هو معلوم. فهنا أثبت الإمساك على نفسه، ونفى كونـه على صاحبه. وهذا واضح مما فعلـه الكلب، لأنه أكـل مما صاد، وهذا يدل على أنه كان صاد على نفسه، أو على الأقل يجعل الإنسان يشك في ذلك. لذلك أورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصره بطريق (إنما) إشارة إلى هذا الوضوح.
كذلك هنـاك شـك عند مشاركة الكلب كلبا آخر، والمقصود بهذا الكلب الآخر كلب غير معلم، أو غير مرسل على الصيد، أو مرسل من قبل من هو ليس من أهل الذكاة([5]). فهناك شك في أيهما أمسك الصيـد، أصـاده الكلب المعلم أم صاده الكلب غير المعلم؟ فإنه إن أمسكه ذلك الكلب الآخر غير المعلم سقط شرط من شروط صحة الصيد بالكلب، وهو كون الكلب معلمًا. فبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا بد مـن أن يكون الكلب معلمًا، حتى إنـه لو حصل في تعليمه شك ما، لا يجوز أكل ما صاده (وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ أُخَـرُ فَلَا تَأْكُلْ). وكذلـك إن حصل شـك في صفة ذلك الكلب أو مرسله، أو لا يتحقق تعليم الكلب أو أهلية صاحبه للذكاة، لم يحل الأكل([6]).
والقصر هنـا وقع بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل الصادر من فاعله (أمسك) على الجار والمجرور (على نفسه). وهو قصر موصوف على صفة، قصر الموصوف (إمساكه) على صفـة كونـه متعلقًا بقولـه (على نفسه). ثم إنه من القصر الإضافي للقلب، حيث إن ما يدور في نفس مرسل الكلب أو نفوس البعض أن الكلب المرسل للصيـد أمسكـه لصاحبـه، ولم يكن يمسك لنفسه، لأنه معلم لذلـك. فـرد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك، وقلب هـذا الاعتقاد، حيث أثبت الإمساك على كونه لنفسه ونفى عنه كونه لصاحبـه، لأن أكل الكلب من الصيد علامة تشير إلى أنه أمسك لنفسه، فهذا الكلب ليس بمعلم التعليم المشترط، فكأنه فقد شرط التعليم أيضًا. وحرف (على) في (على نفسه) «بمعنى لام التعليل، كما تقول: سجن على الاعتداء، وضُرب الصبيّ على الكذب»([7]).
هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنـا في مقـام الإجابـة على السؤال والبيان للحكم، فعلل الإجابة وأكد الحكم مما زاد وضوحه وتمكنه من النفوس. واستخدام (إنما) هو الأليق بهذا المقام، لأن كون إمساك الكلب الصيد لأجل نفسه قد وضح إلى حد كبير، لأنه أكل مما صاد، وهذا مما يدل على أنه كان صاد على نفسه، أو على الأقل يجعل الإنسان يشك في ذلك كما سبق ذكره في التحليل السابق.
* * *
([2]) اختلف العلماء في الكلب المعلم إذا أكل من الصـيد، هل يجـوز أكله أم لا؟ فمنهم من يرى أنه لا يجوز الأكل، حيث إذا أكل الكلب فقد أفسد الصيد، وأمسكه على نفسه. وهذا الحديث من آكد ما يحتجون به؛ ومنهم من يجوزون الأكل وإن أكل الكلب ولو لم يبق إلا نصفه، وحملوا النهـي على التنزيه والاستحباب. ينظـر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري: ج5 ص391؛ المعلم بفوائـد مسلم: ج3 ص67 ـ 68؛ إكمال المعلم: ج6 ص358؛ المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلـم: ج5 ص211 ـ 212؛ شـرح النووي على صحيح مسلم: ج13 ص75 ـ 76؛ شرحا صحيح مسلم: إكمال إكمال المعلم ومكمل إكمال الإكمال: ج5 ص272.
([3]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: ج5 ص205 وما بعدها؛ شرح النووي على صحيـح مسلـم: ج13 ص73 ومـا بعدهـا؛ الفقـه الإسلامـي وأدلتـه: ج3 ص705 وما بعدها.
([5]) ينظر:المعلم بفوائد مسلم: ج3 ص69؛ إكمال المعلم: ج6 ص360؛ المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: ج5 ص209؛ شرح النووي على صحيح مسلم: ج1374.