جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الطب من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الطب من سنن ابن ماجه

 

كتبت عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجـه بسنده عَنْ أُمِّ جُنْدُبٍ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ مِنْ بَطْـنِ الوَادِي يَوْمَ النَّحْـرِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَتَبِعَتْـهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَـمٍ، وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، بِهِ بَلَاءٌ، لَا يَتَكَلَّمُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّ هَذَا ابْنِي وَبَقِيَّةُ أَهْلِي، وَإِنَّ بِهِ بَلَاءً، لَا يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ائْتُونِي بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ»، فَأُتِيَ بِمَاءٍ، فَغَسَلَ يَدَيْـهِ، وَمَضْمَضَ فَـاهُ ثُمَّ أَعْطَاهَـا، فَقَالَ: «اسْقِيـهِ مِنْهُ، وَصُبِّي عَلَيْـهِ مِنْهُ، وَاسْتَشْفِي الله لَهُ». قَالَتْ: فَلَقِيتُ المَرْأَةَ، فَقُلْتُ: لَوْ وَهَبْتِ لِي مِنْهُ! فَقَالَتْ: إِنَّمَا هُوَ لِهَذَا المُبْتَلَى، قَالَتْ: فَلَقِيتُ المَرْأَةَ مِنْ الحَوْلِ، فَسَألتُهَا عَنْ الغُلَامِ فَقَالَتْ: بَرَأَ وَعَقَلَ عَقْلًا لَيْسَ كَعُقُولِ النَّاسِ([1]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هو ذكر جانب من جوانب بركة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العظيمـة، ومعجـزة من معجزاتـه الدالـة على صدق نبوته وعظم منزلته عند الله ـ عز وجل ـ .

* عناصر بناء الحديث:

لتحقيق هـذا المقصود جـاء الحديث بمجموعـة كبيرة من الجمـل، يمكن تقسيمهـا إلى ثلاثـة عناصر رئيسيـة: العنصر الأول: طلب امـرأة من خثعـم من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العلاج لابنها المريض الباقي الوحيد من أهله (عَنْ أُمِّ جُنْدُبٍ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ انْصَرَفَ،وَتَبِعَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمٍ، وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، بِهِ بَلَاءٌ، لَا يَتَكَلَّمُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّ هَذَا ابْنِي وَبَقِيَّةُ أَهْلِي، وَإِنَّ بِهِ بَلَاءً، لَا يَتَكَلَّمُ.)؛ والعنصر الثاني: علاج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفعله المبارك فيه ودعائه المستجاب له (فَقَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ائْتُونِي بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ»، فَأُتِيَ بِمَاءٍ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ، وَمَضْمَضَ فَاهُ ثُمَّ أَعْطَاهَا، فَقَالَ: «اسْقِيهِ مِنْهُ، وَصُبِّي عَلَيْـهِ مِنْـهُ، وَاسْتَشْفِي الله لَهُ».)؛ والعنصر الثالث: حـوار دار بين هـذه المرأة وأم جندب ـ رضي الله عنهما ـ تتجلى فيه بركة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعجزته (قَالَتْ: فَلَقِيتُ المَرْأَةَ، فَقُلْتُ: لَوْ وَهَبْتِ لِي مِنْـهُ! فَقَالَتْ: إِنَّمَا هُوَ لِهَذَا المُبْتَلَى، قَالَتْ: فَلَقِيتُ المَرْأَةَ مِنْ الحَوْلِ، فَسَألتُهَا عَنْ الغُلَامِ فَقَالَتْ: بَرَأَ وَعَقَلَ عَقْلًا لَيْسَ كَعُقُولِ النَّاسِ.).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصـر بإنما في العنصر الثالث من الحديث الشريـف، وهـو الحوار الجاري بين هذه المرأة وأم جندب ـ رضي الله عنهما ـ . ووقـع في قول هذه المرأة (إِنَّمَا هُوَ لِهَذَا المُبْتَلَى)، معتذرة به لرفضها طلب أم جندب ـ رضي الله عنها ـ، حيث إن أمَّ جندب ـ رضي الله عنها ـ طلبت منها أن تهبها من ذلك الماء المبارك فيه (لَوْ وَهَبْتِ لِي مِنْهُ!)، لأن النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ غسل به يديه الشريفتين، ومضمض فاه المبارك (فَغَسَلَ يَدَيْهِ، وَمَضْمَضَ فَاهُ). وحرصا من كل منهما على حصول هذا الماء المبارك فيه والتبرك به، طلبت إحداهما ورفضته أخراهما.

 اعتذرت المرأة بأسلوب القصر هذا لتأكيد عدم استجابتها الطلب، حيث قصرت فيه ذلك الماء على كونه ملكية ابنها المريض، ولم يكن لغيره. وهذا واضح، حيث إنهـا قد طلبتـه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ باسـم ابنها. ولأجل ذلك قد أكدت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حـال ابنهـا، أكدت أنه هو أهلها الوحيد، وقد مات غيره من أهلها جميعا (يَا رَسُولَ الله! إِنَّ هَذَا ابْنِي وَبَقِيَّةُ أَهْلِي)، وأكدت أنه مبتلى بنوع من أنواع المرض (وَإِنَّ بِهِ بَلَاءً لَا يَتَكَلَّمُ). وهذا الإخبـار المؤكد أبلغ من الطلب الصريح، لأن فيه إظهارا لشدة المصيبة ومس الحاجـة؛ وأدعى لاستجابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث رحمة للعالمين، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].

هكذا جـاء أسلوب القصر بإنما في مقـام الرفض والاعتذار. والقصر هنـا وقع بين أجزاء الجملـة الاسميـة حيث قصر المبتـدأ الضمير العائد على ذلك الماء المبارك فيـه بغسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه يديه الشريفتين، ومضمضة فِيـهِ الكريم (هو) على الجـار والمجرور الواقعين موقع خبر المبتدأ (لِهَذَا المُبْتَلَى). وفي التعبير بالجملة الاسميـة ما لا يخفى من دلالـة على الثبوت والدوام، فهـذا المـاء ثابت لهذا الابن المبتلى. وهـذا القصر من قبيل قصر موصوف على صفة، قصر الموصوف الضمير (هو) على صفة كونه (لِهَذَا المُبْتَلَى)، وذلك على سبيل القصر الاضافي للقلب، لأنهاتريد بهـذا القصر إثبات ملكيـة الماء واستحقاقه لابنها، ونفيها عن نفسها اعتذارا لعـدم استجابتهـا طلب المخاطبـة، إذ إن الماء للابن ليس لها حتى تتصرف فيه، واستُشفِعَ لهذا الاعتذار بذكر الابن بوصفه (المُبْتَلَى)، بمعنـى المريض، إذ المريض مبتلى بمرضه، يبتليه الله ـ تعالى ـ بذلك لاستخراج ما عند المبتلَي ومعرفةِ حاله في الصبر والطاعـة والشكـر، والابتـلاء لا يكون إلا بتحميل المكـاره والمشـاق([2]). «والمعروف أن الابتلاء يكون في الخير والشر معًا من غير فـرق بين فعليهم، ومنه قوله ـ تعالى ـ: ﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً[الأنبياء: 35]»([3])فكأنها تقول: معلوم أن هذا الماء المبارك فيه أعطاه النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الابن، وهذا الابن مسكين مبتلى بمرض لا يتكلم، أعطاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الماء لشفـاء المرض بإذن الله ـ تعالى ـ، فكيف أقدر على أن أهب منه لك؟ وكيف تقدرين على أن تأخذي منه؟

كأن المخاطبة بطلبها الماء تعتقد أن الماء لهذه المرأة، فردت عليها المرأة مثبتة أن الماء لابنها المبتلى، ونافية أن يكون لنفسها شيء منه. وهذا مبني على المبالغة في شدة حرصها على شفاء ابنها الوحيد بهذا الماء المبارك.

وفي النهايـة استجاب الرحمن الرحيم دعاء رسولـه الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فشفى الابن المبتلى بهذا الماء المبارك ببركـة رسوله الكريم (بَرَأَ وَعَقَلَ عَقْلًا لَيْسَ كَعُقُولِ النَّاسِ)، وبذلك أظهر على يدي رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ معجزة من المعجزات الدالةعلى صدق نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قـال السندي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وفي الحديث معجزة عظيمة له ـ صلى الله عليه وسلم ـ»([4]). 

ومما سبـق من التحليل تبين لنـا أن استخدام (إنما) هو الأنسب لهذا المقام، لأن مضمون القصر هنا واضح، وهو كون الماء الذي طلبتـه تلك المرأة لابنها كما سبق ذكرناه في أثناء التحليل، وإنما أثبتت تلك المرأة هذه الحقيقة الثابتة الواضحة للمخاطبة هنـا بأسلوب القصر، تذكيرًا لهـا إياهـا، واعتذارًا من عدم استجابتها طلبها، وتعليلًا له بأسلوب رقيق هادئ.

*  *  *

 



([1])   سنن ابن ماجه: كتاب الطب باب النشرة، حديث رقم: 3532.

([2])   ينظر: الفروق اللغوية: ص243 ـ 244.

([3])   النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (بلا).

([4])   شرح السندي على سنن ابن ماجه: ج4 ص 130.

الموضوعات