جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الطلاق من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الطلاق من سنن ابن ماجه

 

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجه بسنده عَنْ عُبَادَة بن الوَلِيدِ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، قَـالَ: قُلْتُ لَهَـا: حَدِّثِينِي حَدِيثَـكِ، قَالَتْ: اخْتَلَعْتُ مِنْ زَوْجِـي، ثُمَّ جِئْتُ عُثْمَانَ فَسَألتُ: مَاذَا عَلَيَّ مِنْ العِدَّةِ؟ فَقَالَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْكِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِكِ، فَتَمْكُثِينَ عِنْدَهُ حَتَّى تَحِيضِينَ حَيْضَةً، قَالَتْ: وَإِنَّمَا تَبِعَ فِي ذَلِكَ قَضَاءَ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي مَرْيَمَ المَغَالِيَّةِ،وَكَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ([1]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هـو بيـان حكم شرعي، وهو مدة المختلعة، وأنها حيضة.

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث في قـول الربيع بنت معوذ بن عفراء ـ رضي الله عنها ـ إجابة على طلب عبادة بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ منها للتحديث: (حَدِّثِينِي حَدِيثَكِ). وقـول الربيـع ـ رضي الله عنهـا ـ يتكون من عنصرين أساسيين: العنصر الأول: حكت فيه أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ قضى لها العـدة بمدة حيضة واحدة عندما اختلعت من زوجها، ثم سألت عثمان ـ رضي الله عنه ـ عن حكم العدة (اخْتَلَعْتُ مِنْ زَوْجِي، ثُمَّ جِئْتُ عُثْمَانَ فَسَالتُ: مَـاذَا عَلَيَّ مِنْ العِـدَّةِ؟ فَقَالَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْكِ، إِلَّا أَنْ يَكُـونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِكِ، فَتَمْكُثِينَ عِنْدَهُ حَتَّى تَحِيضِينَ حَيْضَةً.)؛ والعنصر الثانـي: أكـدت على صحـة حكـم عثمان ـ رضي الله عنه ـ، وأنه تبع في ذلك سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (وَإِنَّمَا تَبِـعَ فِي ذَلِـكَ قَضَاءَ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي مَرْيَمَ المَغَالِيَّةِ، وَكَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ.).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر بإنما في العنصر الثاني من قول الربيع ـ رضي الله عنها ـ تأكيدًا لصحة قضاء عثمان ـ رضي الله عنه ـ في حكم عـدة المختلعة، حيث أثبتت فيـه أن عثمان ـ رضي الله عنـه ـ في قضائـه تبع سنـة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ونفت أن يكون تبع فيه غيرها من الأشياء كالهوى مثلًا. وبهذا كأنها أثبتت صحة الحكم بإقامة الأدلـة والبراهين، كأنهـا تقول: إن هـذا الحكم حكم صحيح سليم موافق لسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكيف لا يكون صحيحا؟ وقد تبع الحاكم في حكمه هذا قضاءرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يأتيه باطل، لا من قريب ولا من بعيد.

هذا، وقد اختلف العلماء في عدة المختلعة، فقال الجمهور إن عدتها كعدة المطلقة، ورأى بعضهم أنها حيضة، مستدلًا بهذا الحديث وأمثاله([2]). 

أكدت الربيع ـ رضي الله عنهـا ـ على صحة المذهب الثاني، وثبوته من سنةرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسلوب القصر، ثم زادت تأكيدا من خلال إيراد القصر بطريق (إنما) الذي يفيد وضوح المعنى القصري، فأفادت أن كون عثمان ـ رضي الله عنه ـ تابعًا في حكمه قضاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر معلوم واضح، عرفته هي وغيرها كثير.

والقصر هنـا وقع بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل الصادر من فاعله في قضية معينة (تَبِعَ فِي ذَلِـكَ) على المفعول بـه (قَضَاءَ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي مَرْيَمَ المَغَالِيَّةِ)، وفي التعبير بالجملة الفعلية مع كون الفعل ماضيًا دلالة على حدوث ذلك الفعل وتحققه، فاتباع سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وامتثاله قد ثبتا وتحققا في حكم عثمان ـ رضي الله عنه ـ، فما دام ذلـك ثابتـًا، فلا غبـار على حكمـه، بل إنه حكم صحيح سليم موافق لسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وإيراد الجار والمجرور في الجانبين: (فِي ذَلِـكَ) المتعلـق بالفعل (تَبِعَ)، و(فِي مَرْيَمَ المَغَالِيَّةِ) المتعلـق بالمفعـول (قَضَاءَ رَسُولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ)، لبيان صحة التوافق بين حكم عثمان ـ رضي الله عنه ـ وقضاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لأن اسم الإشارة (ذلك) يشير إشارة واضحة إلى ما سبق ذكره في الحديث من حكم عثمان ـ رضي الله عنه ـ، وهو أن عدة المختلعة حيضة. كذلك كـان قضاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حيث إنـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى بذلك في مريم المغاليّة التي اختلعت من ثابت بن قيس ـ رضي الله عنه ـ([3]). 

وهـذا القصر قصر موصوف على صفـة، حيث إنـه قصر التبـع على تعلقه وارتباطـه بقضاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وهـو على سبيل القصر الحقيقي التحقيقي، لأنـه أثبت للتبع صفة تعلقه وارتباطه بقضاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ونفى عنه غيرها من الصفـات، كتعلقـه بهـواه أو وهمـه وغـير ذلك من الأشياء التي تخالف سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام بيان الحكم الشرعي، فأكد على صحة الحكم وثبوته من سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

واستخدام (إنما) هو الأليـق بهـذا المقام، وذلك أن فيها إشارة إلى أن كون عثمان ـ رضي الله عنـه ـ تابعـا في حكمه قضاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر واضح، هذا هو المناسب لسياق ورود هذا القصر، فإنه جاء لتأكيد صحة حكم عثمان ـ رضي الله عنه ـ وتعليلها. ثم الأمر بذاته واضح، لأن الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ يحرصون كل الحرص على اتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل شيء، أقواله وأفعاله، فضلًا عن ذلك، فإن الصحابي هنا ليس كأي صحابي، بل هو من أجلّ أصحابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومنخلفائه الراشدين، فهل بعد ذلك يُشكّ في اتباعه سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟!

*  *  *

روى ابن ماجه بسنده عن عائِشَةَ، أنَّ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِنَّمَا آلَى، لِأنَّ زَيْنَبَ رَدَّتْ عليه هَدِيَّتَهُ، فقالتْ عائشةُ: لَقَدْ أَقْمَأَتْكَ، فَغَضِبَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَآلَى مِنْهُنَّ([4]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هو بيان سبب إيلاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نسائه. قال ابن الأثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «وحديث أنس ـ رضي الله عنه ـ (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ آلَى من نسائه شهرًا) أي حَلَف لا يدخل عليهنّ، وإنما عدّاه ب(مِن) حملًا على المعنى وهو الامتناع من الدخول، وهو يتعدّى بـ (مِن). وللإيلاء في الفقه أحكام تخصه لا يُسمى إيلاء دونهـا»([5]). والإيلاء في الشرع: «الحلـف ـ بالله ـ تعالى ـ أو بصفة من صفاته أو بنذر أو تعليق طلاق ـ على ترك قربان زوجته مدة مخصوصة»([6]). وهـذه المـدة أربعـة أشهـر فأكثر. فالمراد بالإيلاء في الحديث معنـاه اللغوي وهو الحلف، لا معناه الشرعي، لأن مـدة إيلائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت شهـرا كما ورد في بعض الروايات([7]). 

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث بجملة قصرية طويلة مركبة لتحقيق هذا المقصد، حيث قصر إيلاءه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على كونه بسبب غضبـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما فعلن ما لم يرضه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إِنَّمَا آلَى، لِأنَّ زَيْنَبَ رَدَّتْ عليه هَدِيَّتَهُ، فقالتْ عائشةُ: لَقَدْ أَقْمَأَتْكَ، فَغَضِبَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَآلَى مِنْهُنَّ.).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

وردت هذه الجملة القصرية بطريق (إنما)، ووقع موقع خبر (أنّ)، إذ الحديث جاء في جملة طويلة مركبة، وهذا الخبر الذي هو مكون من جملة قصرية، كان المقصور فيـه الفعل (آلَى)، أما المقصور عليه فهو مركب من مجموعة جمل معطوف بعضها على بعض، بين فيهـا سبب إيلاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نسائه (لِأنَّ زَيْنَبَ رَدَّتْ عليه هَدِيَّتَهُ، فقالتْ عائشةُ: لَقَدْ أَقْمَأَتْكَ، فَغَضِبَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَآلَى مِنْهُنَّ.).

ففي الحديث قد أكد سبب الإيلاء من خلال بيانه بأسلوب القصر، ثم زاد تأكيدًا من خلال أداء القصر بطريق (إنما) الذي يفيد كأن هذا السبب واضح معلوم للجميع. وإنما احتيج بيان سبب الإيلاء إلى هذا القدر من التأكيد، لأنه من المعروف أن الإيلاء كان يستخدمه العرب في الجاهلية بقصد الإضرار بالزوجة، عن طريق الحلف بترك قربانها السنة فأكثر، ثم يكرر الحلف بانتهاء المدة، ثم جاء الشرع فغيَّر حكمـه([8]). ثم الإيلاء في الحديث ـ وإن لم يكن إيلاء جاهليـًا ولا إيلاء شرعيـًا ـ يشترك معه في معناه اللغوي، فقد يكون هناك من يتوهم أن إيلاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل ذلك الإيلاء الجاهلي أو هذا الإيلاء الشرعي، فسارع الحديث إلى دفع هذا التوهم وإزالته من خلال الأسلوب القوي المؤكد.

فقد قصر في الحديث إيلاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على كونه بسبب غضبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما فعلن مـا لم يرضـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حيث إن زينب ـ رضي الله عنهـا ـ ردت عليه هديته، فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (لَقَدْ أَقْمَأَتْكَ) بمعنى لقد صغّرتك وأذلّتك، أي ما راعت عظيم شأنك([9]). فغضب ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فحلف ألا يقرب منهن شهرا. وغضب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غضب الرحمة، والقصد منه كون ذلك «تأديبا لكلٍ، حتى لا تعود الفاعلة إلى مثله ثانيا، ولا تقتدي بهـا غيرهـا»([10]). هكذا هناك فرق كبير بين إيلائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإيلاء الآخرين.

ووقع القصر بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل الصادر من فاعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المفعـول لـه، قصر (آلَى) على (لِأنَّ زَيْنَبَ رَدَّتْ عليـه هَدِيَّتَهُ، فقالتْ عائشةُ: لَقَـدْ أَقْمَأَتْكَ، فَغَضِبَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَآلَى مِنْهُنَّ.) فالقصر هنـا قصر موصوف على صفـة، قصر إيلائـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو بمثابة الموصوف على صفة كونه بسبب الأشياء المذكورة. وهو من القصر الحقيقي التحقيقي، لأن فيه إثباتًا لإيلائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ السبب المذكور، ونفيا عنه غير ذلك من الأسباب. وهو موافق للواقع والحقيقة، لأن سبب إيلائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقيقة مقصور عليه، ولا يتجاوزه إلى غيره. واختيار الجملة الفعلية مع كون الفعل ماضيا يفيد حدوث هذا الفعل وتحققه، فالإيلاء قد حصل من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكذلك الأفعال الأخرى، وقد حدث ما حدث، وسبب الحدوث المذكور ثابت متحقق.

والمراد من القصر هو تأكيد لسبب إيلاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نسائه، ودفعٌ لما قد يطرأ فيه من توهم.

هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام بيان سبب الأمر، فأكده وقرره، وفي الوقت نفسه دفع ما قد يطرأ عليه من توهم.

وقد وُفّقت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ في اختيارها (إنما) طريقا للتعبير عن هذا القصر، فإن هذا الطريق هو الأليق بهذا المقام، لأن سبب إيلاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نسائه واضح، فعندما أخبرت عنه السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ لا أحد ينكر، لأنهـا ـ رضي الله عنها ـ واحدة من نسائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولا أحد يشك في معرفتها لهذا السبب. وإنما ذكرتـه السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ بأسلوب القصر على سبيل التذكير والتنبيـه، لئـلا يتوهم أن إيلاءه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثـل الإيلاء الجاهلي أو الإيـلاء الشرعي كما سبق ذكره في أثناء التحليل. 

*  *  *

روى ابن ماجه بسنده عن أمّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آلَى مِنْ بَعْضِ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ رَاحَ أَوْ غَدَا. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّمَا مَضَى تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. فَقَالَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ»([11]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هو بيان إيلاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نسائـه، وهو الحلف بألا يقرب منهن شهرا، ثم الدخول عليهن بعد انقضاء المدة.

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث بعنصرين أساسيين: العنصر الأول: تذكير للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما دخل على نسائه بعد انقضاء تسعة وعشرين يومًا من قسمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بعض نسائه ألا يدخل عليهن شهرًا (أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آلَى مِن بعض نسائِه شهرا، فلمّا كان تسعـةً وعشرينَ راحَ أو غـدَا. فقيـل: يا رسول الله! إنما مَضَى تسـعٌ وعشرونَ.)؛ والعنصر الثاني: رد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المذكِّرة، وأخبرها بأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يومًا كما يكون ثلاثين يومًا (الشهر تسع وعشرون).

* أسلـوب القصـر فـي الحديث ـ عناصـر بنائـه ـ وعلاقاتـه بغيره مـن عناصـر الحديث:

ورد أسلوب القصر بإنـما في العنصر الأول لتذكـير النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإيلائـه، خشيـة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكون نسيـه، وذلـك أنـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ آلى، أى أقسم ألا يدخل على نسائه شهرا بسبب غضبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بعضهن، قاصدًا تأديب كلٍ منهن حتى لا تعود الفاعلـة إلى مثله ثانيًا ولا تقتدي بها غيرها،كما عرفنا في الحديث السابق من هذا الباب. ثم عندما دخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد مضي تسعة وعشرين يومًا، ظنت إحداهن أنـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نسي المدة، وظن أنها قد تمت المدة، ومضى ثلاثون يومًا، لأنها تظـن أن الشهر يكـون ثلاثين يومًا. فسارعت إلى تذكـير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فتقـول: (يا رسول الله! إنما مَضَى تسعٌ وعشرونَ) مستعملة في كلامها أسلوب القصر، فمن جانب خفي نفت إتمام المـدة، نفت أن يكون قـد مضى ثلاثون يومًا. وهذا النفي جـاء من ثنايا القصر الذي بني أساسا على إثبات شيء لشيء، ونفيه عن غيره. ثم دققت في اختيـار الطريق لأداء هذا النفي الضمني الخفي، فاختارت طريق (إنما) الذي يتناسب مع مثـل هـذا الموقف أو المقام، بما فيه من خصائص الرقة والخفة، والكلام موجه به إلى سيد المرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأحب الناس إليهن وإلى الأمة كلها، فكيف يقـدر أي واحد أن يُعليَ عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صوتـه، وخاصـة أن المتكلمة هنا أم المؤمنين، ومن أفضل نساء العالم، فقد أدبها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن تأديب.

وهكذا يكون القصد من القصر هنا تذكير المخاطب وتنبيهه بأسلوب رقيق مؤدب. ففيه أثبت المضي لتسع وعشرين يومًا، ونفاه عن الشهر، وهو ثلاثون يومًا على ما ظنت المتكلمة. فهذا القصر قصر صفـة على موصوف، لأن القصر وقع بينأجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل على فاعلـه، فهذا الفعل (مَضَى) كصفة، وذلك الفاعل (تسعٌ وعشرونَ) كموصوف لها، بمعنى أن صفة المضي ثابت لتسع وعشرين يومًا، وليس ثابتا لثلاثين يومًا، وتبعًا لذلك أن الشهر لم يكمل بعد على ظـن المتكلمـة. وهي بظنها هذا تظن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدخوله عليهن كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعتقد أن الذي مضى ثلاثون يومًا، لا تسع وعشرون يومًا فقط، فقصدت لقلب هذا الاعتقاد، فقصرت المضي على تسع وعشرين، ونفته عن ثلاثين. ومن هنا وضح لنا أن هذا القصر قصر إضافي، وهو قصر قلب. وفي اختيار الجملة الفعلية لهذا القصر مع كون الفعل ماضيا يفيد حدوث هذا الفعل وتحققه، الذي حدث وتحقق مضيه هو تسع وعشرون يومًا، ولم يتحقق مضي ثلاثين يومًا.

لما رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن المتكلمة المذكرة أخطأت الفهـم، وظنت أن الشهر هو ثلاثون يومًا فقط، صحـح ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهـا فهمهـا، وبين للجميع أن الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا كما يكون ثلاثين يومًا.

هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام التذكير للأمر والتنبيه عليه، فأكد الأمر المذكر له والمنبه عليه، ثم من خلال رد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا التذكير أو التنبيه وضح الأمر، وتحقق القصد، وتمكّن من النفوس فضل تمكّن، وهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حلف ألا يقرب من نسائه شهرا، ثم دخل عليهن بعد انقضاء المدة، وما فعل ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل ذلـك إلا لتأديبهن أحسن تأديب، وفي الوقت نفسه علّم الأمة مشروعية هذا النوع من التأديب متى احتاج الأمر إلى ذلك.

وبالتحليل الذي مضى تبين لنـا أن استخدام (إنما) هو الأليـق بهـذا المقام، ولو استخدم غيرها من طرق القصر مثل (النفي والاستثناء) لاختل المعنى، لأن مضمون القصر واضح لا يحتاج إثباته إلى ما في مثل طريق (النفي والاستثناء) من قوة التأكيد. بالإضافة إلى ذلك فإن مثل ذلك الطريق يفقد ما تفيده (إنما) من الخفةوالرقـة التي تناسب الحوار مع سيد المرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أثناء التحليل.

*  *  *

روى ابـن ماجـه بسنـده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَـالَ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا يُقَالُ لَـهُ: مُغِيثٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا وَيَبْكِي وَدُمُوعُـهُ تَسِيلُ عَلَى خَـدِّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِلْعَبَّاسِ: «يَا عَبَّاسُ! أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُـبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًـا؟» فَقَـالَ لَهَـا النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لَـوْ رَاجَعْتِيـهِ، فَإِنَّـهُ أَبُـو وَلَدِكِ»، قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «إِنَّمَا أَشْفَعُ»، قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ([12]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هو بيان ثبوت الخيار للأمة التي كانت تحت العبد إذا أعتقت في نفسهـا، وهذا محـل اتفاق بين العلماء، واختلفوا فيما إذا كانت تحت الحر([13]). 

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث أساسـا على شكـل الحـوار الجـاري بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبريرة ـ رضي الله عنها ـ، مع ما سبقه من قول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ذكر فيه سياق ورود الحديث الشريف (كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا وَيَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى خَدِّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِلْعَبَّاسِ: «يَا عَبَّاسُ! أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟»). والحوار الجاري بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبريرة بدأ بشفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زوج بريرة، لأجل أن تعود بريرة إلى عصمته، فاقترح لهـا مراجعـة الزوج (لَوْ رَاجَعْتِيهِ، فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ)، ثم سألتـه أهذا الاقتراح يكـون أمرا بوجوب المراجعـة؟ (يَا رَسُولَ الله! تَأْمُرُنِي؟)، ثم نفى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كون ذلك أمرًا (إِنَّمَا أَشْفَعُ)، فاستقرت بريرة على اختيارها، ولم تراجعه (لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلـوب القصـر بإنـما فـي الحـوار الجاري بين النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبريـرة ـ رضي الله عنهـا ـ، ووقـع في قـول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي نفـى فيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكون اقتراحه لها أمـرا (إِنَّمَا أَشْفَعُ)، وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما رأى أثر الحب الشديد من مغيث لزوجته بريرة، وهذا ما رأينا في قول ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْـهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا وَيَبْكِي وَدُمُوعُـهُ تَسِيلُ عَلَى خَدِّهِ)، وهـذا الحـب جعـل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتعجب من حالهما (يَا عَبَّاسُ! أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟) وذلك كما قالوا «أن الغالب في العادة أن المحب لا يكون إلا محبوبا وبالعكس»([14]) .

وحرصا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بقاء هذا الحب بين هذين الزوجين، فيقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شافعـا في زوج بريرة الذي يشتد حبه لها، لأجل أن تعود بريرة إلى عصمته: (لَوْ رَاجَعْتِيهِ، فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ). وكـان لحرصـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشديـد على ذلك، ظنت بريرة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرها بالمراجعة، فسألت: (يَا رَسُولَ الله! تَأْمُرُنِي؟).

قال الطيبي ـ رحمه الله تعالى ـفي وجه دلالة قوله: (لو راجعته) على الأمر: «ذهبت إلى أنها امتناعية على معنى لو راجعته لكان خيرًا لك، وأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جازم كالأمر، فأجاب ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن (لو) بمعنى التمني، أي: أود رجوعك وأستشفع إليك»([15]). وقـال القـاري ـ رحمـه الله تعالى ـ: «و(لـو) للتمني أو الشرط محذوف الجزاء، أي: لكان لك ثوابًا ولكان أولى، وفيه معنى الأمر»([16]). 

وهنا جاء قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإزالة هذا الظن أو الفهم الخاطئ، يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إِنَّمَا أَشْفَعُ)، أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله من خلال أسلوب القصر ليقرر أن قوله السابق كان على سبيل الشفاعة لا على سبيل الأمر، ثم زاد تأكيده باختيار طريق (إنما) لهذا القصر، كأنه يوحي إلى أن المعنى المفهوم من القصر معلوم واضح، وبذلك علمها وعلم الأمة كلها أن الخيار للأَمَة إذا أعتقت، ولا لأحد إجبارها في ذلك.

والقصر هنا فيه حذف، حيث حـذف فيـه المقصور، لأنه إن أجرينا القصر على ظاهره، ليكون القصر هنا واقعا بين أجزاء الجملـة الفعلية، فقصر الفعل على الضمير المستتر العائـد إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيكون قصر الشفاعة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ونفاها عن غيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لأن المقصور عليه في القصر بـ (إنما) يكون جزءًا مؤخرًا مستقلًا، وهو هنـا الضمير المستتر. وهـذا المعنى لا يصح في سياق الحديث الذي هـو في مقـام الرد على السؤال الذي يسـأل عن مـراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوله (لَوْ رَاجَعْتِيهِ، فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ). فمدار الحديث هو في هذه الجزئية لا يكون عمن يشفع، فضلا عن أن السائلـة لم تكن تعـرف أن مراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هـو الشفاعـة، فكيف يوجه السؤال إلى صاحب الشفاعـة؟ فمن هنا نرى أن فيه حذفا لا بد من تقديره حتى يتناسب مفهوم القصر مع سياقه. ويمكن أن يقدر هذا المحذوف بالضمير: أنا، فيكـون الكلام على تقدير: إنما أنا أشفـع. وهـذا واضح، فقد ورد هكذا فيما أخرجه البخاري([17]). وبهذا يكون القصر عكس القصر السابق، فيكون قصر المبتدأ على خبره، قصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه على صفة الشفاعة على طريق قصر الموصوف على الصفـة، فأثبت لنفسه صفـة الشفاعـة، ونفى صفة الأمر. وهذا بالنسبة لهذه القضيـة، وبالنسبـة لمقصـود كلامـه السابـق، لأن السائلـة شكـت أو ظنـت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقصد بكلامه (لَوْ رَاجَعْتِيهِ، فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ) أن عليها وجوب المراجعة، فكأن ذلك أمر منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

وهنا يبدو أن هذا القصر قصر إضافي، ثم إنه يحتمل أن يكون قصر تعيين، وذلك باعتبار أن المخاطبة بريرة ـ رضي الله عنها ـ ترددت وشكت في فهم مقصود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (لَوْ رَاجَعْتِيهِ، فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ)، فلم تتعين أ يقصد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمر بوجوب المراجعة أم التمني والشفاعة؟ فسألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طالبـة منـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ التعيين: (يَا رَسُولَ الله! تَأْمُرُنِي؟)، قال القاري ـ رحمه الله تعالى ـ: «بحذف الاستفهام، أي: أتأمرني بمراجعته وجوبًا؟»([18])فعيّن ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهـا أن ذلك كان على سبيل الشفاعة، وذلـك من خلال قصره ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه على صفـة الشفاعة، ونفيه عن نفسه صفة الأمر. كأن هذا هو الظاهر. ويحتمل أن يكون قصر قلب، وذلك باعتبار أن بريرة ـ رضي الله عنها ـ عندما سمعت قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (لَوْ رَاجَعْتِيهِ، فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ)، ظنت أن ذلـك أمر منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها بوجوب المراجعة، لأنها بشدة احترامها واستعظامها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واثقة بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينبغي أن يكون آمرًا، له الأمر على الإطلاق، ولا يكون شافعًا، خاصة أنه هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أما هي فأمَة. ومع ذلك نراها طرحت سؤالا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (يَا رَسُولَ الله! تَأْمُرُنِي؟)، كأنها تريد تقرير ظنها، وفي الوقت نفسه تظهر ما في نفسها من رغبة في الفراق. وهي حذفت أداة الاستفهام، وفي هذا الحذف إشارة إلى أنها قد اعتقدت أن ذلـك أمر، فلم تخرج كلامها على شكـل السؤال، بل أظهرته في ثياب الخـبر. فأكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهـا مقصوده من كلامـه، نافيـا أن يكون ذلك أمرًا منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مثبتا أن ذلك شفاعة منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زوجها، فلها الخيار في نفسها، إن شاءت فارقت، وإن شاءت راجعت. وفي النهاية اختـارت بريرة ـ رضي الله عنهـا ـ الفـراق، ولم يتعرض لهـا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليعلـم الجميع أنه ليس لأحد إجبار صاحب الأمر في ذلك. قال ـ تعالى ـ: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا[البقرة: 228]. 

هكـذا يظهـر لنـا مـن خـلال فعلـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الهـادف وقوله المتواضع مدى رأفته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمته، ومدى تواضعه لهم، لا يفرق بين أحد منهم، فـ ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات: 13].

هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام الاستشفاع والمصالحة، فأكد أنالاستشفاع ليس الأمر، فللمستشفع منه خيار بين قبول الشفاعة ورفضه. وبذلك علم الأمة أن الأمة إذا أعتقت لها حق الخيار في نفسها، وللغير حق الاستشفاع أو المصالحة، وأنها من مكارم الأخلاق السنية، ولكن ليس له حق الإجبار والإكراه، وليس علـى الأمـة وجوب لقبـول الشفاعـة، وليس للمستشفع مؤاخـذة علـى امتناعها([19]). 

وقد وفق ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اختيـار (إنما) طريقا لهـذا القصر، فإنها تؤدي هنا دورًا لا يمكن أن تؤديه غيرها من الطرق، وذلك أن فيها ما ليس في غيرها من المبالغة في نفي إكراه الحرة، وهذه المبالغة جاءت من خلال ما تفيده (إنما) من ادعاء وضوح مضمون القصر، وهو كون قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبريرة ـ رضي الله عنها ـ على سبيل الشفاعة، كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشار بهذا القصر إلى أنه لا ينبغي أن يجهل أحد أن مثلقوله لا يكون إلا على سبيل الشفاعة، لأنه ليس لأحد إجبار الحرة، حتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس له ذلك، فضلًا عن عامة الناس!

*  *  *

روى ابن ماجـه بسنده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّ سَيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، قَالَ: فَصَعِدَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ  المِنْبَرَ فَقَـالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا؟ إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ»([20]). 

* مقصود الحديث:

الحديث يهدف إلى بيان أن حـق الطلاق في يد الزوج، وليس لأحد إجبار الآخر على طلاق الزوجة حتى المولى، فليس له أن يطلق زوجة عبده.

* عناصر بناء الحديث:

ولتحقيق هذا المقصد ورد الحديث في كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعنصرين أساسيين مـع مـا سبقـه من قـول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ بين فيه سبب ورود الحديث الشريف: (أَتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّ سَيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَـا، قَالَ: فَصَعِـدَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المِنْبَرَ). العنصر الأول من كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتمثل في إنكـاره وتوبيخه لما فعلـه بعض الناس من تفريق بين عبده وزوجة عبده: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ! مَا بَالُ أَحَدِكُـمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا؟)؛ والعنصر الثاني: تأكيد على أن الطلاق حق للزوج لا لغيره: (إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

وقد ورد هذا العنصر الأخـير من كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسلوب القصر بإنما (إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ) تأكيدا على أن الطلاق بيد الزوج، ومقصور عليه، ولا يتعداه إلى غيره. ثم زاد تأكيـدا من خـلال إيراده ـ صلى الله عليه وسلم ـ القصر بطريق (إنما) خاصة، كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ باختياره هذا الطريق يشير إلى أن كون حق الطلاق بيد الزوج أمر واضح لا يخفى على عاقل يتفكر.

 وإنما أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكل هذه التأكيدات، لأن كلامه جاء في سياق الرد على شكوى الرجل من سيده، حيث إنه يريد التفريق بين هذا الرجـل وزوجته، كما ذكر ابن عبـاس ـ رضي الله عنه ـ في مطلع الحديث (أَتَى النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُـلٌ فَقَـالَ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّ سَيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَـهُ، وَهُوَ يُرِيـدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، قَالَ: فَصَعِدَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَسَلَّمَ المِنْبَرَ.).

جاء رد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولا بنـداء طويـل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ!)، كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد إيقـاظ هؤلاء من غفلتهم البعيـدة، إذ إنهم بفعلهم ذلك أو بإرادة ذلك الفعل قد وقعوا في غفلة عميقة. وبعد هذا التنبيه والإيقاظ، وجّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سؤالا ثقيلا عليهـم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ! مَا بَالُ أَحَدِكُـمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا؟) قاصدا إنكار فعلهم وتوبيخه. انظر كيف يورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلامه، وكيف تنبثق من ثناياه رحمته الواسعة، حتى لمن أنكـر عليـه، هكـذا لا يواجـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحدا بما يكرهه، بل يستر، رحمة له، وحرصا على ألا يحرجه. قالت السيدة عائشة ـ رضيالله تعالى عنها ـ: «كَانَ النَّبِىُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُـلْ: مَا بَالُ فُلاَنٍ يَقُولُ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا؟)»([21]). 

فهنا طرح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سؤاله معرّضًا سـترًا على الفاعـل ورحمـة به، وهذا الاستفهام استفهام إنكاري بمعنى التوبيخ، أي ما حالهم أو شأنهم؟ وقوله (يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَـهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا) وقـع موقـع الحـال لـ (أَحَدِكُمْ([22]) بمعنـى: ما شأن أحدكم في حال كذا؟ وما كان ينبغي له أن يفعل ذلك أو يصممه.

وبعـد ذلك التنبيـه وهذا الإنكار، أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنكاره مرة أخرى من خلال الجملة القصرية الموجزة، فأثبت أن ذلـك التفريـق الذي هـو الطلاق حق للزوج، وليس لغيره. فمجيء هذه الجملة القصرية يكون مؤكدة للإنكار السابق، لأن فيها نفيًا ضمنيًا نفى أن يكون للسيد حق لطلاق زوجة عبده، ثم الإنكار كنوع من النفي، فيكون النفي الضمني في القصر مؤكـدا للنفـي المفهوم من الاستفهام الإنكاري.

وفي هذا القصر أيضا نوع من التعليل للإنكار السابق، لأنه قد يثار في بعض النفوس مع طرح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سؤاله الإنكاري سـؤال آخـر: لم كان هذا الإنكار أو التوبيخ؟ لم لا يكون للسيـد حـق الطلاق، والعبد مملـوك له؟ أو ما شابه ذلك من الأسئلة، فجاءت الجملة القصرية إجابة على هذه الأسئلة مؤكدة لها لإزالة ما في النفوس من التردد والشك (إِنَّمَا الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ).

وعلى الوجهين تكون هذه الجملـة القصرية وثيقة الصلة مع ما قبلها، لأن السؤال والإجابة كشيء واحد، والمؤكِد والمؤكَد كشيء واحد، لذا ترك العطف بينهما بشيء آخر، لأن ما بينهما من شدة الصلة تغنيهما عن ذلك.

ولم يكتـف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تأكيده وتوضيحـه للإنكار بهذا القدر، بل زاد أكثر وضوحا وإقناعا من خلال إدخال القصر فنا آخر من فنون البيان، وهو الكناية. أثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الطـلاق للزوج، لكنـه لم يصرح بذكـر لفظ الزوج، بل لجأ إلى أسلوب الكنايـة، يقـول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (مَنْ أَخَـذَ بِالسَّاقِ)، «كناية عن الجماع، أي: إنما يملك الطلاق من يملـك الجماع، فليس للسيد جبر على عبده إذا انكح أمته»([23]). وقال السندي ـ رحمه الله تعالى ـ: «أي: الطلاق حق الزوج الذي له أن يأخذ بساق المرأة لا حق المولى»([24]). ففي هذه العبارة كنايتان: كناية عن صفة، وهي الجماع، يكنى عنهـا بقولـه (أَخَذَ بِالسَّاقِ)، وهذا مقصود صاحب (الإنجاح) الدهلوي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله السابق. ثم كنايـة عن موصوف، وهو الزوج، يكنى عنه بقوله (مَنْ أَخَـذَ بِالسَّاقِ). وهنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفصاحته الفـذّة عبر بالملزوم عن اللازم، لأن الأخـذ بالساق من مقدمات المعاشرة الزوجيـة، ومن يملك النكاح يستلزم أن يكون زوجا.

 وفي هذا التعبير الكنائي إشارة إلى نوع من التعليل أو الاستدلال، وهو أن الطلاق يملكـه من يملك حـق النكـاح، وهو مقصور عليه، لا يتعداه إلى غيره، فلا يملكه من لا يملـك النكـاح. وقـد صرح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الطلاق لا يقع إذا كـان المطلِّق طلَّق شيئًا لا يملكـه وليس في عصمته: (لاَ طَلاَقَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ)([25]). ثم كان تشريع الطلاق رحمة من الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وهو الحاجة إلى الخلاص من تباين الأخلاق، وطروء البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله ـ تعالى ـ، وهو علاج حاسم، وحل نهائي أخير لما استعصى حلـه على الزوجين، بسبب ما يؤدي إلى ذهاب المحبة والمـودة، وتوليـد الكراهية والبغضاء([26]). وهو يتعلـق بمصلحة الزوجين، فالزوج هو الذي يعرف مصلحتهما، وهو يعلـم مدى ضرورة اللجوء إلى هذا الخلاص من عدمه. فكيف يملك غيره في طلاقه هو؟

والقصر هنا وقع بين أجزاء الجملـة الاسميـة، فقصر المبتدأ (الطلاق) على الجار والمجرور المتعلقين بخبر المبتدأ المحذوف (مَنْ أَخَـذَ بِالسَّاقِ)، ودل السياق على هذا المحذوف، ويمكن تقديره: ثابت، أو نحو ذلك، لأن الكلام يدور حول ثبوت الطلاق وعدمه، وفي هذا الحذف من الإيجاز ما لا يخفى. ثم في اختيار الجملة الاسمية دلالة على ثبوت حق الطلاق واستمراره لأهله، فما دام الرجل زوج المرأة الذي لـه حق الجماع، فإن حق الطلاق ثابت لـه مع ثبوت صفـة الزوج له، وتبعا لذلك، فمن ليست له صفـة الزوج، ليس له حق الطلاق، لأن هذا الحق مقصور على من له صفة الزوج، ولا يتعداه إلى غيره ممن ليست له هذه الصفة.

وهذا القصر قصر موصوف على صفة، لأنه قصر الطلاق على ثبوته للزوج، فالطلاق موصوف وصـف بالثبوت. ثم إنه يمكن أن يكون من القصر الإضافي، ولكن من أي نوع من الأنواع الثلاثة للقصر الإضافي؟ وهذا يحتمل أن يكون من قصر القلب، وأن يكون قصر الإفراد، وذلك باعتبار حال ذلك السيد المريد للتفريق بين عبده وزوجته واعتقاده. لأنه بإرادته أو فعله ذلك قد يعتقد بأن طلاق زوجة عبده حقه هو، ولا حق لعبده في ذلك، لأنه مملوك له. فجاء القصر قلبا لهذا الاعتقاد الخاطيء، فعكس الحكم، أثبت ذلك الحق لزوج المرأة، ونفاه عن سيد الزوج. وقد يعتقد السيد بأنه يشترك مع عبده في طلاق زوجة عبده، فله طلاقها كما لعبده الذي هو زوجهـا طلاقهـا، وفي هذه الحالة أتى القصر إفرادا لهذه الشركـة، فأثبت حق الطلاق للزوج، ونفاه عن سيده.

ويمكن أن يكون القصر هنـا من القصر الحقيقي التحقيقي، فأثبت الطلاق للزوج الذي تتعلق به مصلحة الطلاق، ونفاه عن كل من عداه، ومن باب الأولى أن النفي شامل لذلك السيد. ويبدو أن هذا أنسب لسياق الحديث، لأن الحديث وإن كان ورد في حق ذلك العبد المظلوم، غير أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألقى كلامه للجميع، ترهيبا لكل واحد من التفريق بين المرء وزوجه، فناسب أن يشمل النفي لكل من ليست له العلاقة الزوجية مع المرأة المراد طلاقها، سواء أكان سيد زوجها، أو أباه، أو أخاه...     

هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام رد الشكوى ودفع المنكر، فأكد على دفع المنكر وعللـه، وفي الوقت نفسه انتصر للشاكي المظلوم، وحقق المقصود الغالي من الحديث، وهو بيان للأمـة أن الزوج وحده يتولى إيق

الموضوعات