مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الكفارات من سنن ابن ماجه
مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن الكفارات من سنن ابن ماجه
كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)
فقال:
روى ابن ماجه بسنده عنِ ابنِ عُمَرَ، قال: قال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنَّمَا الحَلِفُ حِنْثٌ أو نَدَمٌ»([1]).
* مقصود الحديث:
المقصود من الحديث الشريف هو النهي عن الحلف من غير ضرورة.
* عناصر بناء الحديث:
ورد الحديث الشريف بجملة قصرية موجزة تؤكد النتيجة السيئة للحلف (إنَّمَا الحَلِفُ حِنْثٌ أو نَدَمٌ) تنفيرا للأمة من الحلف من غير ضرورة.
* أسلوب القصر في الحديث وعناصر بنائه:
أورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلامه بأسلوب القصر بإنما تأكيدًا لنتيجة الحلف السيئة، وهـذا التأكيد نظـرا لخطورة كثرة الحلـف في حياة المجتمع، فإن كثيرا من الناس يكثرون من الحلف لتصديق الكذب أو للغضب، وقد حذر الله ـ تعالى ـ من ذلك في قوله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّـهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ﴾[البقرة: 224]، وبين رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطورتهـا في كثير من أحاديثـه، منها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ»([2]). وهنا في الحديث الذي نحن بصدده زاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيانه وتأكيده لها، فجاء ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكلامـه في أسلوب من أساليب التأكيد، وهـو أسلوب القصر، غير أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يورده فـي أي طريق من طرق القصر، بـل دقّق في اختياره للطريق، ووقع اختياره على طريق (إنما) خاصة من بين طـرق القصر، فقال: (إنَّمَا الحَلِفُ حِنْثٌ أو نَدَمٌ)، وبذلك بالغ تأكيده لها، حيث أشار ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خلاله إلى أن تلك الخطورة واضحـة جليـة لا تخفـى على العاقـل، فينبغي على المسلم الاحتراز عن كثرة الحلف.
قال المناوي ـ رحمه الله تعالى ـ: «فحـق المسلم أن يتحاشى من الحلف، فإن اضطر سلـك سبيل التعريض، وإن بدر منه سهو يتبعه بالاستثناء. وقيل: العاقل إذا تكلم أتبع كلامه ندمًا، والأحمق إذا تكلم أتبع كلامـه حلفًا. وعلامة الكاذب جوده بيمينه بغير مستحلف كما قال بعضهم:
وَفي اليَمينِ عَلى ما أنْتَ وَاعِدُهُ | مَا دَلّ أنّكَ في الميعادِ مُتّهَمُ »([3]) |
فهنا كما رأينا في أسلوب القصر تحذيرًا بليغًـا من كثـرة الحلف، وحثًا كبيرًا على الاحتراز منها، وفي هذا ما فيه من دلالة واضحة على رحمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الواسعة لأمته، ورأفته الأبوية عليهم، إذ إنه يحرص كل الحرص على مصلحة أمته، فنبههم وحذرهم مما يجلب عليهم سوء العاقبة من خلال كلامه الجامع وأسلوبه الهادف الرقيق، كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأخذ بأيديهم، ويوصلهم إلى طريق أقوم.
فقـد قصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كلامـه الحلـف على الحنث أو النـدم، والحنث «الخُلْفُ في اليمين، ونَقْضُها والنَّكْثُ فيهـا، وهو من الحِنْثِ: الإثم والمعصية»([4]). أما الندم فكما قال الإمام الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ: «توجع القلب عند شعوره بفـوات المحبوب، وعلامته طول الحسرة والحزن وانسكاب الدمع وطول البكاء والفكر»([5]). فأثبت لنتيجة الحلف واحدة من الصفتين: إما حنثا، وإما ندمًا. وذلك أن نتيجـة الحلـف في الغالب لا تخلـو من هاتين الصفتين، «لأن اللسان في حالة الغضب يسبق غالبًا على الحلـف على أمـر ضروري من الأكل والشرب أو تحريم حلال غيرهما، فإذا أصر على ذلك ولم يطق تحمله ندم، وإن لم يصر ونقض الحلف أثـم، فإما أن يتداركه بالكفارة فهو أيضًا ندامة، لأنه صرف المال بلا غرض ديني أو دنيوي، وإنما مآله إزالة الإثـم ولو كان لم يحلـف ما أثم وأهان لا يكفر فيبقى تحريمه»([6]). وقـال المناوي ـ رحمـه الله تعالى ـ: «(إنما الحلف حنث أو ندم) أي إذا حلفت حنثت أو فعلت ما لا تريده كراهة للحنث فتندم، أو المراد إن كانت صادقة ندم أو كاذبة حنث»([7]).
ومن هنا وضح لنا أن القصر هنا قصر موصوف على صفـة، قصر الموصوف (الحلف) على صفتي (الحنث والندم)، وذلك على سبيل القصر الحقيقي المبني على المبالغـة، لأن كـون مـآل الحلـف هذين الأمرين مبني على حكـم الغالبية، إذ من الحلف ما لا يكون مآله هكذا، بل يكون خيرا كالحلف في طاعة الله ـ تعالى ـ والحث على الخـير، واليمين الصادقة في الدعاوى، أو فيما دعت إليها حاجة كتوكيد كلام وتعظيم أمر. فهنا أثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمآل الحلف الصفتين المذكورتين، ونفى عنه غيرهما من الصفات على سبيل المبالغة والـتأكيد لخطورة كثرة الحلف، فإنها تفضي غالبًا إلى الأمرين: الحنث أو الندم.
وقد زاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأكيده من خلال إشراك أسلوب القصر فنا آخر من فنون البلاغة، وهو المجاز العقلي([8])، حيث أسند كلًا من الحنث والندم إلى الحلف، والحلف لم يكن هو نفسه الحنث أو الندم، وإنما هو سببهما، فالذي حلف يحنث أو ينـدم بسبب حلفـه. وفي هذا التعبير المجازي مبالغة في تأكيد خطورة كثرة الحلف، حتى كأن هـذا الحلف هو نفسه الحنث أو الندم، بالإضافة إلى ما فيه من إيجاز في العبارة.
والقصر هنـا وقـع بين أجزاء الجملة الاسمية، فقصر المبتدأ (الحلف) على خبره (حِنْث أو نَدَم)، والجملة الاسمية تدل على ثبوت هذا الحكم واستمراره، فإن كثرة الحلف دائمًا تكون سبب الحنث أو الندم، ولا خير فيه إلا إذا كان ضروريا.
هكـذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنـا في مقام التحذير والإرشـاد، فحذر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمة من سوء عاقبة الحلف لغير ضرورة، وأكد خطورته، مما حملهم على اجتنابـه، والالتزام بالصدق والصراحـة في حياتهم ومعاملاتهم، حتى يكون المجتمع الإسلامي مجتمعًا راقية حياته نقيًا جوه صادقًا أبناؤه.
وبالتحليل الذي مضى تبين لنا أن استخدام (إنما) هنا هو الأليق بهذا المقام، ولو استخدم طريق قصر غيرها، مثل (النفي والاستثناء)، لذهب ما رأيناه في طريق (إنما) سابقا من المبالغة في تنفير الأمة من كثرة الحلف من غير ضرورة.
* * *
روى ابن ماجـه بسنده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، قَـالَ: قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّمَا اليَمِينُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ»([9]).
* مقصود الحديث:
المقصود من الحديث الشريف هو بيان حكـم التوريـة في الحلف، وأن من استحلف غيره على شئ ونوى الحالف، فالعبرة بنية المستحلف لا الحالف([10]).
* عناصر بناء الحديث:
ورد الحديث الشريف بجملة قصرية موجزة (إِنَّمَا اليَمِينُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ) تؤكد الحكم المذكور.
* أسلوب القصر في الحديث وعناصر بنائه:
وقد بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحكم المذكور بأسلوب التأكيد أسلوب القصر بإنما، وذلـك أن من شأن النفوس أنها تتوهم أن الحلف يكون على اعتبار نيـة الحالف، فإنما الأعمال بالنيات. حقا إن الأمر كذلك، غير أنه لم يكن في كل الأحوال كذلك، ولم يكن التعميم المطلـق مرادا في كل الأحوال. ومن الحلـف ما لا يكون باعتبار نية الحالف، وذلك إذا كان الحلـف باستحلاف القاضي، فإنـه حينئذ باعتبار نيـة المستحلف وهـو القاضي لا نيـة الحالف، فلا عـبرة لما نـواه الحالف، فـلا تنفعـه التورية([11])، لأن في تورية الحالف في حلفه، واستخدامه ألفاظًا لها ظاهر معنى وخفي معنى، وإرادة الخفي منها عند الحلف، خداعا للحاكم وضرًا بالعدالة، وفيها تضييع لحقوق الآخرين، وبخاصة إذا كان اليمين بديلا عن البينة أمام القاضي([12]). ولهذا أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأمة أن العبرة في الحلف في هذه الحالة بنية المستحلف الذي طلب الحلف، لا بما وراه الحالف في قلبه من نية، فجاء كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسلوب القصر لتأكيد هذا الحكم، وإزالة ما في بعض النفوس من الوهم حول القضية.
فقد قصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كلامه اليمين على كونه واقعًا على نية المستحلف، ولا يتعـداه إلى غـيره، فـلا يكون واقعـًا على نيـة الحالف كما يتوهم، فيكون هذا القصر من قبيل القصر الإضافي للقلب، إذ إنه يقصد به قلب ما قد يتوهمه البعض من أن اليمين يكون على نية الحالف باعتبار أن الأعمال بالنيات، فنفى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الوهم المقدر، مؤكدا على أن اليمين مقصور على نية طالب الحلف، لا يتعداه إلى نية الحالف، وزاد تأكيده من خـلال إيراد القصر بطريـق (إنما)، إشارة إلى أن كون اليمين على نية المستحلف أمر معلوم واضح لدى الجميع.
وهـذا القصر قصر موصوف على صفـة، قصر الموصوف اليمين على صفة كونه واقعًا على نية المستحلف، ونفى عنه صفة كونه واقعًا على نية الحالف. والقصر وقع بين أجزاء الجملـة الاسمية، حيث قصر المبتدأ (اليمين) على الجار والمجرور المتعلقين بخبر المبتدأ المحـذوف (عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ)، ويمكـن تقديـر المحذوف بـ (واقع) أو ما شاكل ذلك. وفي أداء القصر بالجملة الاسمية دلالة على ثبوت هذا الحكم واستمراره، فالعبرة في اليمين دائما تكون بنية المستحلف، والمستحلف هو الذي طلـب الحلف، وقد وضح العلماء المستحلف المراد به في الحديث، فبعضهم خصصوه بالقاضي أو نائبه، فيرون أن الحلف على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفـه القاضي أو نائبـه في دعوى توجه عليها([13]). وقال القاري ـ رحمه الله تعالى ـ: «أي إذا كان مستحقًا للتحليف، والمعنى أن النظر والاعتبار في اليمين علىنية طالب الحلف، فإن أضمر الحالف تأويلًا على غير نية المستحلف لم يستخلص من الحنث. وبه قال أحمد»([14]).
هكذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنـا في مقام بيان الحكم في مسألـة توريـة الحالف في حلفـه، فأكد على أن العبرة فيها بنية طالب الحلف، لا ما وراه الحالف في نفسه، وذلك حفظا للحقوق، وسدا لباب الخداع، وتحقيقا للعدالة. غير أن في المسألـة تفاصيل مبسوطـة في كتـب الشروح والفقـه لا داعـي لنقلها هاهنـا([15]). والخلاصة كما قال القاري ـ رحمه الله تعالى ـ: «فإن العبرة في اليمين بقصد المستحلف إن كان مستحقًا لها، وإلا فالعبرة بقصد الحالف، فله التورية، هذا خلاصة كلام علمائنا من الشراح رحمهم الله»([16]).
ومن خلال التحليل السابق نجد أن استخدام (إنما) هو الأليق بهذا المقام، لأن فيهـا مـا فيهـا مـن دلالـة على وضـوح هـذا الحكم كـما سبقت الإشارة إلى ذلـك، وهـذا النوع من المبالغة آكـد من التأكيد المباشر في مثل استخدام (النفي والاستثناء).
* * *
روى ابن ماجـه بسنـده عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، قَـالَ: نَهَى رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ: «إِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ اللَّئِيمِ»([17]).
* مقصود الحديث:
المقصود من الحديث الشريف هو النهي عن النذر([18]).
* عناصر بناء الحديث:
ولتحقيـق هـذا المقصد ورد الحديث في كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجملـة قصرية موجزة (إِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ اللَّئِيمِ) مسبَقا بقول عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهماـ المبيَّن فيه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن النذر (نَهَى رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ النَّذْرِ).
* أسلوب القصر في الحديث وعناصر بنائه:
وقـد فصل العلماء القول في مـراد هـذا النهي، فحملـه بعضهم على معنى التأكيد لأمر النذر والحض على الوفاء به والتحذير من التهاون بشأنه بعد إيجابه. قال الخطابي ـ رحمه الله تعالى ـ: «معنى نهيه عن النذر إنما هو تأكيد لأمره وتحذيرالتهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به، إذ كان بالنهي عنه صار معصية، فلا يلزم الوفاء به،وإنما وجـه الحديث أنـه قـد أعلمهم أن ذلـك أمـر لا يجلب لهم في العاجل نفعا، ولا يصرف عنهم ضرًا، ولا يرد شيئًا قضاه الله. يقول: فلا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئًا لم يقدر الله لكم أو تصرفون عن أنفسكم شيئًا جرى القضاء به عليكم، فإذا فعلتم ذلك فأخرجوا عنه بالوفاء، فإن الذي نذرتموه لازم لكم»([19]).
وحمله بعضهم على ظاهر معنى النهي وهو الزجر، وعللوا وجه هذا النهي بأن النـذر يفقـد الانبساط والنشاط للعمـل أو بأنه يجعل العمل كالمعاوضة التي تذهب أجره. قال الإمام المازري ـ رحمه الله تعالى ـ: «ويحتمل عندي أن يكون وجه النهي أن الناذر يأتي القربة مستثقلًا لها لما صارت عليه ضربة لازم، وكل محبوس الاختيار فإنـه لا ينبسط للفعـل ولا ينشـط إليه نشاط مطلق الاختيار»([20]). وقال ـ رحمه الله تعالى ـ: «ويحتمل أيضا أن يكون الناذر لما لم يبذل ما بذل من القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يختار صار ذلك، كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب ويذهب الأجر الثابت للقربة المجردة»([21]).
ثم خص بعض العلماء المنهي عنـه في الحديث بالنذر المقيد الذي يعتقد أنه يغني من القدر بنفسه([22]). بينما خصه البعض الآخر بالقيد، يعني الاعتقاد الفاسد من أن النـذر يغني عن القدر. قال القاري ـ رحمه الله تعالى ـ معلِّلًا عدمَ استقامة كون المنهي عنـه هو النـذر المقيد: «لأنه يترتب عليه ما سبق من أنه يكون معصية لا يجب الوفاء به، والحال أنه ليس كذلك. فالظاهر أن يقال أن المنهي عنه هو القيد أعني الاعتقاد الفاسد من أن النذر يغني عن القدر»([23]).
وعلى هذا فإن أسلوب القصر المتمثل في كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوارد في الحديث (إِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِـهِ مِنْ اللَّئِيمِ) وقـع موقـع التعليل والتأكيد. ثم إن أجرينـا معنى الحديث على القول الأول، وهو كون النهي في الحديث بمعنى التأكيد والتحذير، فيكون هذا القصر تعليـلًا وتأكيدًا لوجوب النذر إذا لم يكن معصية، قال الخطابي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وقـد أجمـع المسلمون على وجوب النـذر إذا لم يكـن معصية، ويؤكده قوله إنه يستخرج به من البخيل، فيثبت بذلك وجوب استخراجه من ماله، ولو كـان غير لازم لم يجـز أن يكـره عليه»([24]). فكأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القصر يؤكد للأمـة: عليكم الوفاء بنذركم، فإن النذر من شأنه أنه يستخرج بسببه من اللئيم، لا أن يغير به قضاء الله ـ تعالى ـ وقدره.
وإن كان المراد من النهي ظاهره، فيكون القصر تعليلًا لهذا النهي، كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: لا تنذروا، فإنه بسببه يستخرج من اللئيـم البخيل الذي لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجـل يربي على ما أخرج([25])، و«الذي لا يأتي بهذه الطاعة إلا في مقابلة شفاء مريض ونحوه مما علق النذر عليه»([26])، لا من السخي، لأن السخي «إذا أراد أن يتقرب إلى الله ـ تعالى ـ استعجل فيه، وأتى به في الحال»([27]).
وإن خصصنا المنهي عنه بالنذر المقيد الذي يعتقد أنه يغني من القدر بنفسه أو بهـذا القيـد، فيكون القصر تعليلا للنهي، فكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: لا تنذروا النذر المقيد الذي تعتقدون أنه يغني من القـدر بنفسه، لأنـه ليس للنذر من تغيير قضاء الله ـ تعالى ـ وقدره شيء، وإنما شأنـه أنه يستخرج بـه من اللئيـم. ولا تدخلن في نفوسكم شيئا من الاعتقاد الفاسد من أن النذر يغني عن القدر، فإنه لا يغني من ذلك شيئا، وإنما شأنه أنه يستخرج به من اللئيم.
هكذا جاء أسلوب القصر هنا في مقام النهي والتحذير، فعلل النهي وأكده. وفي هذا التعليل تنفير للأمة مما نهوا عنه، وترغيب لهم في امتثال أوامر الله ـ تعالى ـ ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكل اقتناع وارتضاء.
والقصر هنـا في ظاهـره وقع بين أجـزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل (يُسْتَخْرَجُ) مع الجار والمجرور (بِهِ) على الجار والمجرور (مِنْ اللَّئِيمِ). واللئيم هو الذي جمع الشح ومهانة النفس ودناءة الآباء، وهو الذي فعـل ما يلام عليه. وقد ورد لفظـان آخـران متقاربان بدل اللئيـم في بعض الروايات([28])، وهمـا البخيـل والشحيح. والألفاظ الثلاثة معانيهـا متقاربـة، مع وجود فروق دقيقة. فالبخيل: الشحيح الضنين الذي منـع الحق، وأمسك مـا يقتضي عمـن يستحق؛ الشحيح: الحريص على منع الخير، وهو البخل مع حرص، فهو أشد من البخل. فيكون لفظ اللئيم أعم من البخيل والشحيح. يقال لكل لئيم بخيل أو شحيح، وليس كل بخيل أو شحيح لئيمًا([29]). فهذه الروايات جمعت كل هذه المعاني أو الفروق الدقيقة.
والجار الأول (الباء) في هذه الجملة القصريـة سببية، والثاني (من) ظرفية. ونائب الفاعل الضمير المستتر عائد على ما لم يكن اللئيم البخيل يخرجه، كذا ورد في روايـة مسلم: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنـه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إِنَّ النَّذْرَ لاَ يُقَرِّبُ مِنَ ابْنِ آدَمَ شَيْئًا لَمْ يَكُنِ الله قَدَّرَهُ لَهُ، وَلَكِنِ النَّذْرُ يُوَافِقُ القَدَرَ، فَيُخْرَجُ بِذَلِكَ مِنَ البَخِيلِ مَا لَمْ يَكُنِ البَخِيلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ»([30]). وعلى هذا يكون المقصور هو الفعل مع نائب فاعله والجار والمجرور: (يُسْتَخْرَجُ بِهِ)، والمقصور عليه هو الجار والمجرور (مِنْ اللَّئِيمِ)، لأنه الجزء المؤخر المستقل، فيكون القصر قصر موصوف على صفـة، لأن المقصور المكون من الفعـل وفاعلـه مع الجـار والمجـرور بمثابة الموصوف، والمقصور عليه الذي هو الجار والمجرور الواقع موقع الظرف كالوصف لهذا الموصوف، ويكون المعنى حينئذ: أن الذي يستخرج بسبب النذر يكون من اللئيم البخيل، لا من السخي، فيكون هذا القصر قصرًا إضافيًا، وهو قصر القلب، ليعكس من يعتقد عكس الحكم، فكأن هناك من يظن أن الذي يستخرج بسبب النذر يكون من السخي الكريم، لأن الناذر يخرج ما نذره بسخاء. فرد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا الظن المحتمل، مؤكدا أن الناذر بنذره جعل نفسه من قبيل اللئيم البخيل، لأنه علق بذله على القيد. ففيه تعريض بمن نذر، وجعله من صف اللئيم البخيل تنفيرا له من النذر.
وهذا المعنى إنما يستقيم إن ذهبنا إلى القول الذي رأى أن النهي في الحديث على ظاهر معناه، وهو الزجر، سواء كان المنهي عنه النذر المطلق أو النذر المعلق.
أما إذا ذهبنا إلى الرأي الذي يقـول بأن المنهي عنه في الحديث هو الاعتقاد الفاسد من أن النـذر يغني عن القـدر، فإن القصر هنـا لا يستقيم إن أجريناه على ظاهره، إذ لا توافـق بين هـذا المعنى للنهي والمعنى المذكور سابقا للقصر. فلا بد من تقديـر الحـذف في الكلام، ويمكننا أن نقـدر هذا المحذوف بالشأن، ونجعله المقصور، والكلام المذكور بأكمله (يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ اللَّئِيمِ) المقصور عليه، فيكون المعنـى: لا تنـذروا على أنكـم تدركون بالنذر شيئـًا لم يقـدر الله ـ تعالى ـ لكـم أو تصرفون عن أنفسكم شيئا جرى القضاء به عليكم، لأنه ليس للنذر من تغيير قضاء الله ـ تعالى ـ وقدره شيء، وإنما شأنـه أنـه يستخرج به من اللئيم. والقصر حينئذ يكون أيضـًا من القصر الإضافي، وهو قصر قلب، إذ معناه: أن شأن النذر مقصور على كونه استخراجًا به من اللئيـم، لا يتعـداه إلى تغيير لقضاء الله ـ تعالى ـ وقدره كما يتوهمه البعض.
ومن هنـا وضح لنا أن القصر على كل تقديـر واقع موقع التعليل والتأكيد للنهي، سـواء أ كان النهي موجها للنذر المطلق، أو النذر المعلق، أو القيد للنذر. ففي هذا التعليل أو التأكيد تنفير للأمة مما نهوا عنه، وترغيب لهم في امتثال أوامر الله ـ تعالى ـ ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجتناب نواهيهما بكل اقتناع.
هكـذا نهـي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن النـذر حرصـًا على خلـوص الطاعـات من الشوائب، لما أكثـر المسلمون من النذر حتى خيل لبعضهم أن الله ـ تعالى ـ يعطي من أجل النذر، وأن المقدور يتغير من شر إلى خير بسبب النذر، وأصبح المنذور في مخيلتهم كبدل ومقابل للفضل والعطاء([31]).
وبالتحليل الذي مضى تبين لنا أن استخدام (إنما) هنا هو الأليق بهذا المقام، ولو استخدم طريق قصر غيرهـا، مثل (النفي والاستثناء)، لاختل المعنى، وذلك لأن القصر هنـا جـاء لتعليل النهي السابق عليـه، فما تدل عليه (إنما) من وضوح هذا الحكم تناسب هذا التعليل وتقويه، بالإضافة إلى ذلك فإن في استخدام (إنما) هنا يفيد نوعـًا من التعريض، تعريض بأن النازر يدخل في صف اللئيم البخيل. وفي هذا ما فيه من قوة التنفير أو التحذير من النذر المنهي عنه في الحديث.
* * *
([2]) صحيح البخاري: كتـاب البيوع باب يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم، حديث رقم: 2087.
([3]) فيض القدير: ج3 ص417. والبيت من قصيدة المتنبي في مدح سيف الدولة الأمير التي مطلعها:
عُقْبَى اليَمينِ على عُقبَى الوَغَى ندمُ | ماذا يزيدُكَ في إقدامِكَ القَسَمُ |
ينظر: ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح أبي البقاء العكبري: ج4 ص15.
([8]) عرف الخطيب القزويني المجاز العقلي بقوله: «هو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأول.» ينظر: الإيضاح: ص32.
([15]) ينظر: إكمال المعلم: ج5 ص414، شرحا صحيح مسلم: إكمال إكمال المعلم ومكمل إكمال الإكمال: ج4 ص374 ـ 375.
([18]) النذر لغة: الوعد بخـير أو شر، وشرعاً: الوعـد بخير خاصـة. ينظـر: الفقه الإسلامي وأدلته: ج3 ص468.