جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن اللباس من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن اللباس من سنن ابن ماجه

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجـه بسنـده عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عُمَـرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ مِنْ حَرِيرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! لَوْ ابْتَعْتَ هَذِهِ الحُلَّةَ لِلْوَفْدِ، وَلِيَـوْمِ الجُمُعَـةِ! فَقَالَ رَسُـولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَـذِهِ مَـنْ لَا خَـلَاقَ لَـهُ فِي الآخِرَةِ»([1]). 

* مقصود الحديث:

الحديث يهدف إلى تحريم لبس الحرير على الرجال([2]). 

* عناصر بناء الحديث:

لتحقيق هـذا المقصود جـاء الحديث على شكل الحوار الجاري بين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حيث إن عمر ـ رضي الله عنه ـ قد اقترح للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شراء حلة سيراء([3]) من حرير للبسها عند لقاء الوفد، وفي يوم الجمعة (يَا رَسُولَ الله! لَوْ ابْتَعْتَ هَذِهِ الحُلَّةَ لِلْوَفْدِ، وَلِيَوْمِ الجُمُعَةِ!)؛ فرد عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه لا يليق بشأن المؤمنين لبسها (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

أورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رده بأسلوب القصر بإنما (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَـذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ) تأكيدا على أنه لا يجوز للرجال المؤمنين لبسها، وإشارة إلى أن لبسها شان شـأن المؤمنين، فإنهم أصحاب الخلـق الكرام، ولهم الرجولة، فلا يتشبهون بالنساء؛ وهم متواضعون، فلا يظهر فيهم أثر التكبر والخيلاء([4]). وأن لبسها يحرم من لبسها في الآخرة، حيث إن الذين يلبسونها هم من لا خلاق([5]) لهم في الآخرة، فكيف يلبسها المؤمنون الذين أكبر همهم حياة الآخرة وسعادتها.

قال الإمام النـووي ـ رحمـه الله تعالى ـ: «قولـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ) قيل: معناه من لا نصيب له في الآخرة، وقيل: من لا حرمة لـه؛ وقيل: من لا ديـن لـه. فعلى الأول يكون محمولا على الكفار، وعلى القولين الأخيرين يتناول المسلم والكافر. والله أعلم»([6]). 

عمر ـ رضي الله عنه ـ اقترح للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شراءها، وذلك لشدة حبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحرصـه على أن يظهـر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمام الناس في أفخم صورة، غير أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تواضع للأمة، فلم يشترها، بل أشار إلى أن لبسها لا يليق بشأن المؤمنين في الدنيا، إذ إنها للكفار في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، مؤكدا لذلك بأسلوب القصر، حيث قصر لبسها على من لا نصيب له في الآخرة، تهديدا للابسيها وتعريضًا لهم بأن ليس لهم أي نصيب في الآخرة.

وقد زاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأكيـده على ذلـك من خـلال إيراده أسلوب القصر بطريق (إنما)، إشارة إلى أن كون لبس الحرير لمن لا خلاق له في الآخرة أمر معلوم واضح، وإن تجاهله المخاطب لأمر ما، كأن عمر ـ رضي الله عنه ـ نسي ذلك لشدة حبـه النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحرصه على أن يظهـر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمـام الناس في أفخـم ملابسه وأجملها، حتى جعله يقترح للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شراء تلك الحلة.

وقـع القصر هنـا بين أجزاء الجملة الفعليـة، حيث قصر الفعل الواقع علىمفعوله (يلبس هذه) على فاعله (من لا خلاق له في الآخرة)، ويكون القصر قصر صفة على موصوف، إذ الفعل مع مفعولـه كالصفة لفاعله، فأثبت صفة (لبسها) للفاعل الموصوف المذكور (من لا خلاق لـه في الآخرة)، ونفاها عن غيره. وهذا النفي على عمومه، إذ أثبت فيه اللبس لمن لا نصيب له في الآخرة، ونفاه عن كل من عداهم. غير أن ذلك مبني على المبالغة في التهديد والوعيد للرجال على لبس الحرير في الدنيا لما في ذلك من تشبه بالنساء أو المشركين، وكذلك لما فيه من ظاهرة التكبروالخيلاء. قال الباجي ـ رحمه الله ـ: «وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة) واضح في تحريمه والوعيد الشديد على لباسه»([7]). 

فيبدو أن هـذا القصر مـن قبيـل القصـر الحقيقي المبنـي على المبالغـة، أي الادعائي، فكأنه لكثرة لبسه ممن لا حظ لهم في الآخرة من الكفار والمشركين، جعل لبسـه مقصـورًا على هؤلاء، ولم يعتـد بلبس من لـه حظ في الآخرة من النساء أو العاصي بلبسه التائب إلى الله ـ عز وجل ـ .

قال الزرقاني ـ رحمه الله تعالى ـ: «(فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إنما يلبس هذه) وفي رواية جرير: إنما يلبس الحرير (من لا خلاق) أي: من لاحظ ولا نصيب (له) من الخير (في الآخرة). وهذا خرج على سبيل التغليظ، وإلا فالمؤمن العاصي لا بد من دخوله الجنـة، فلـه خلاق في الآخرة كما أن عمومـه مخصوص بالرجال لقيام الأدلة([8])على إباحة الحرير للنساء»([9]). 

وقد اختار الجملـة الفعليـة التي فعلهـا مضارع لتجدد اللبس واستمراره.وإتيان المفعول به باسم الإشارة بدلا عن الاسم الظاهر تحقيرا لشأنها، وإشارة إلى أنها لا تليـق بشأن الرجال المسلمين وإن بدت في أعين الناس أنها من أجمل الزينة وأفخمها. وجاء المقصور عليه فاعل الفعل باسم الموصول (من) لبيان سوء عاقبة الرجال الذين يلبسونهـا، حيث إنه ليس لهـم في الآخرة نصيب، فهم يلبسونها في الدنيا، ولا يلبسونها في الآخرة. «وهم آثروه على ما أعده الله في الآخرة لأوليائه، وأحبوا العاجلة»([10]). أما المؤمنون فبالعكس، إنهم يتركونها في الدنيا ليلبسوها في الآخرة. وشتان ما بين الحياتين، إذ الدنيا دار الفناء، والآخرة دار البقاء.

والظاهر من هذا القول أن من لبس الحرير في الدنيا من الرجال والنساء يحرم من ذلك في الآخرة، لأن كلمة (من) تدل على العموم، ويتناول الذكور والإناث، لكن الحديث مخصوص بالرجال لقيـام دلائـل أخرى بإباحتـه للنساء. ثم مسألة الحرمان في الآخرة فيها خلاف، فمن العلماء من حمله على حقيقته، وقال إن لابسه يحرم في الآخرة من لبسه سواء تاب عن ذلك أو لا، جريا على الظاهر. والأكثرون على أنه لا يحرم إذا تاب ومات على توبته([11]). 

قال المناوي ـ رحمـه الله تعالى ـ: «يعني من لا حـظّ ولا نصيب له من لبس الحرير في الآخـرة، فعدم نصيبـه كنايـة عن عـدم دخوله الجنة ﴿ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ[الحج: 23]. وهذا إن استحل، وإلا فهو تهويل وزجر»([12]). 

هكـذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنـا في مقام الـرد والرفض، فرد به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على عمـر ـ رضي الله عنه ـ، ورفض اقتراحـه له بشراء تلك الحلة للبسها. فقد أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له أن لبسها مقصور على من لا خلاق له في الآخرة، فكيف يلبسها من له خلاق في الآخرة، بل كيف يلبسها من له أكبر نصيب في الآخرة؟! وبذلك رفض اقتراح عمر ـ رضي الله عنـه ـ بأسلوب بليـغ، وأقنعـه بذلـك كل الإقناع. وفي الوقت نفسه بين للأمة حرمة لبس الحرير على رجالهم، موضحًا لهم مدى خسارة لابسيها في الآخرة، تهديدا لهم على لبسها، وترغيبا لهم في ترك لبسها في الدنيا الفانية للبسها في الآخرة الباقية.

وبالتحليل الذي سبق تبين لنـا أن استخدام (إنما) هـو الأليـق بهذا المقام، لأن فيها ما ليس في غيرهـا من طرق القصر من المبالغة، وذلك أن في استخدامها ادعاء وضوح كون لبس الحرير لمن لا خلاق له في الآخرة، وفي هذا ما فيه من وعيد شديد للابسيه، وتعريض لهم بألا يكون لهم حظ في الآخرة، بالإضافة إلى تذكير المخاطب إياه، تعليلًا لرفض اقتراحه.

*  *  *

روى ابن ماجـه بسنده عن عَبْدِ الله بْنِ بُرَيْدَةَ، أَنَّ أَبَـاهُ حَدَّثَـهُ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَخْطُـبُ، فَأَقْبَـلَ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَـرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَـانِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَخَذَهُمَـا فَوَضَعَهُمَا فِي حِجْـرِهِ، فَقَـالَ: «صَدَقَ الله وَرَسُولُهُ: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ، رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ». ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ([13]). 

* مقصود الحديث:

الحديث الشريف في ظاهـره جاء لذكر قطع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطبته للحاجة، وبيان أن ذلك يجوز([14])، وفي الوقت نفسه يقصد بيان شفقته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصغار، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرحمة المهداة.

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بثلاث جمل اعتذر فيها من قطعه الخطبة الذي ذكره راوي الحديث (رَأَيْتُ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَخْطُبُ، فَأَقْبَلَ حَسَنٌوَحُسَيْنٌ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَـرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَخَذَهُمَـا فَوَضَعَهُمَا فِي حِجْرِهِ.): الأولى منها كالتمهيد لاعتذاره (صَدَقَ الله وَرَسُولُهُ: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)، ثم صرح في الثانيـة والثالثـة سبب قطعـه (رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَـمْ أَصْبِرْ).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلـوب القصـر بإنما في قـول الله ـ تعالى ـ ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ الذي جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا تمهيدًا لاعتذاره من قطعه الخطبة عندما رأى إقبال الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ يعثران ويقومان.

وكأن قطعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخطبـة لشـدة حبـه لهما وكمال رأفتـه عليهما كما صرح في قوله (رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ)، وقد وضـع فيـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه ـ سبحانه وتعالى ـ هـذه الصفـات الجليلـة، وقـرر للنـاس بذلك: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ[التوبة: 128].

وإنما كانت الأموال والأولاد فتنـة «لأنها اختبـار من الله ـ تعالى ـ لعبـاده، ليظهر من يشغله ذلك عن الطاعة فتكون نقمة عليه، ومن لا تشغله فتكون نعمة عليه، فمن رجع إلى الله ـ تعالى ـ، ولم يشتغل بمالـه وولده وجاهد نفسه، فقد فاز، ومن اشتغـل بهما فقـد هلـك. ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم من الاشتغال بغير الله ـ تعالى ـ، فيكون المراد بالفتنة هنا مجرد ميل لا يشغله عن الله ـ تعالى ـ .»([15])وهـو ـ صلى الله عليه وسلم ـ أراد بما فعلـه تعليم الأمـة جواز قطع الخطبة للحاجة، وبإيراد الآية تمهيدا لاعتذاره وتذكيرا للأمة بفتنة الأموال والأولاد.

قال الحافظ ولي الدين ـ رضي الله عنه ـ: «إن قلت: ظاهر الحديث أن قطع الخطبـة والنزول لأخذهما فتنـة دعى إليهـا محبـة الأولاد، وكـان الأرجح تركـه والاستمرار في الخطبة، وهذا لا يليق بحال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإنه لا يقطعه عن العبادة أمر دنيوي، ولا يفعـل إلا مـا هو الأرجح والأكمل؟ قلت: قد بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جواز مثل ذلك بفعله، فكان راجحا في حقه لتضمنه بيان الشريعة التي أرسل بها، وإن كـان مرجوحـا في حق غيره لخلوه عن البيان وكونه ناشئا عن إيثار مصلحة الأولاد على القيـام بحق العبادة، ونبـه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بما ذكره في ذلك على حال غيره في ذلك لا على حـال نفسه، فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يفعل ذلك إلا لمصلحة راجحة على مصلحة الخطبة، وبتقدير أن يكون لمصلحة مرجوحة،فذلك الفعل في حقه راجح على الترك لكونه بين به جواز تقديم المصلحة المرجوحة على الأمر الراجح الذي هو فيه. والله أعلم»([16]). 

والقصر في سياق القرآن الكريم جاء مرة للتحذير من فتنة الأزواج والأموال والأولاد، وأخرى للتحذير من الخيانة([17]). أورده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا لمناسبة ما وقع فيه لمفهوم الآية، حيث إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطع خطبتـه عندما رأى إقبال الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ يعثران ويقومان، وذلك لشدة حبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهما. فحبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهما أدى إلى قطعه الخطبة، فكأن هذا الحب فتنة، والفتنة هي الاختبار والامتحان.

«والمراد بالفتنـة هنا: ما يفتن الإنسان ويشغلـه ويلهيـه عـن المداومـة على طاعة الله ـ تعالى ـ . أي: إن أموالكم وأولادكم ـ أيها المؤمنون ـ على رأس الأمور التي تؤدى المبالغةُ والمغالاةُ في الاشتغال بها، إلى التقصير في طاعة الله ـ تعالى ـ، وإلىمخالفة أمـره. والإخبار عنهم بأنهم (فِتْنَةٌ) للمبالغة، والمراد أنهم سبب للفتنة أي: لما يُشغِل عن رضاء الله وطاعتـه، إذا ما جاوز الإنسان الحد المشروع فى الاشتغال بهما»([18]). 

قال الإمام الشعراوي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وما دامت الأموال والأولاد فتنة، فلا بد أن نفهـم الأمـر على حقيقته، فالفتنـة ليست مذمومة في ذاتها، لأن معناها اختبار وامتحان، وقـد يمـر الإنسان بالفتنـة، وينجح. كأن يكـون عنده الأموال والأولاد، وهم فتنـة بالفعل فلا يغـره المال بل إنه استعمله في الخير، والأولاد لم يصيبوه بالغرور، بل علمهم حمل منهج الله، وجعلهم ينشأون على النماذج السلوكية في الدين. لذلك فساعة يسمع الإنسان أي أمر فيه فتنة فلا يظن أنها أمر سيّء، بل عليه أن يتذكر أن الفتنة هي اختبار وابتلاء وامتحان، وعلى الإنسان أن ينجح مع هذه الفتنة، فالفتنة إنما تضر من يخفق ويضعف عند مواجهتها»([19]). 

وهنا جعل نفس (الأموال والأولاد) فتنة للتأكيد والمبالغة في عظمة فتنتهم، وهم من أقوى أسباب إيقاع الإنسان في الفتنة. قال الزمخشري ـ رحمه الله تعالى ـ: «جعل الأموال والأولاد فتنة، لأنهم سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب، أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده»([20]). 

وقال أبو حيان ـ رحمه الله تعالى ـ: «(إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ): أي بلاء ومحنة، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة، ولا بلاء أعظم منهما»([21]). 

وقال ابن عاشور ـ رحمه الله تعالى ـ: «وجُعل نفس (الأموال والأولاد) فتنة لكثرة حدوث فتنـة المرء من جراء أحوالهما، مبالغة في التحذير من تلك الأحوال وما ينشأ عنها، فكأن وجود الأموال والأولاد نفس الفتنة»([22]). وقال ـ رحمه الله تعالى ـ في موضع آخر: «والإِخبار ب(فتنة) للمبالغة. والمراد: أنهم سبب فتنة سواء سَعَوْا في فعل الفَتْن أم لم يسعوا، فإن الشغل بالمال والعناية بالأولاد فيه فتنة»([23]). 

نعم، إن الأموال والأولاد من أكـبر الفتنة، ولقد صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال: «الوَلَدُ ثَمَرَةُ القَلْبِ، وَإِنَّهُ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ»([24]). 

ثم زاد الله ـ تعالى ـ تأكيد خطورة فتنة الأموال والأولاد، ومبالغة في التحذير منها، فعبر عن كون الأموال والأولاد فتنة بأسلوب القصر، قال ابن عاشور ـ رحمه الله تعالى ـ: «وجيء في الإخبار عن كون الأموال والأولاد فتنة بطريق القصر قصراً ادعائياً لقصد المبالغة في إثبات أنهم فتنة»([25]).

ولم يكتـف بهذا الحـد من المبالغـة والتأكيد فحسب، بل زاد أكثـر مبالغـة وتأكيدا مـرة أخرى من خلال اختيار طريق (إنما) لهذا القصر، إشارة إلى أن كون الأموال والأولاد فتنة أمر واضح يدركه من يعقل ويتفكر فيما جرى حوله. وكيف لا يكون واضحًا لـه؟ وكم من فتنة وقعت بسبب الحرص على جمع الأموال! وما أكثر الناس الذين لم يشبعوا ولن يشبعوا من ذلك، وهم لم يفعلوا ذلك إلا لأجل ترك الأموال لأولادهم بعد مماتهم.

القصر هنـا وقع بين أجـزاء الجملـة الاسميـة حيث قصر المبتدأ (أموالكم وأولادكم) على خبره (فتنة). وفي التعبير بالجملة الاسمية ما لا يخفى من دلالة على الثبوت والدوام، فلفتنـة الأموال والأولاد نصيب من صفـة الدوام والاستمرار إلى حـد كبير. وهذا القصر قصر موصوف على صفـة، قصر الموصوف (أموالكم وأولادكم) على صفة (فتنة)، وذلك على سبيل القصر الحقيقي المبني على المبالغة، لأنـه أثبت للموصوف (أموالكم وأولادكم) صفـة (فتنة)، ونفى عنه غيرها من الصفات على وجه العموم، والواقع أن للأموال والأولاد صفاتٍ كثيرةً غير هذه الصفة المقصور عليها. ومع ذلك فإنه في الآية قد قصرهم على صفة واحدة وهي صفة الفتنـة، وذلـك للمبالغة في إثبات هذه الصفة لهم وإبرازها، وللتأكيد على عظمتها وخطورتها. فكأن هذه الصفـة لعظمتها وبروزها وخطورتها هي الصفة الثابتة لهـم، وقد أخفت غيرهـا من الصفات، فكأن تلـك الصفات بجانب هذه الصفة لا يعتد بها، فكأنها لم تكن.

قال ابن عاشـور ـ رحمـه الله تعالى ـ: «والقصر المستفـاد مـن (إنما) قصـر موصوف على صفة، أي: ليست أموالكم وأولادكـم إلا فتنةً. وهو قصر ادعائي للمبالغة في كثرة ملازمـة هذه الصفة للموصوف، إذ يندُر أن تخلو أفرادُ هذين النوعين، وهما أموال المسلمين وأولادهم عن الاتصاف بالفتنة لمن يتلبس بهما»([26]). وقـال ـ رحمـه الله تعالى ـ: «وعطـف الأولاد على الأموال لاستيفاء أقوى دواعي الخيانة([27])، فإن غـرض جمهـور الناس في جمـع الأموال أن يتركوهـا لأبنائهـم من بعدهم»([28]). 

وقال أبـو حيـان ـ رحمـه الله تعالى ـ: «وقدمت الأموال على الأولاد لأنهـا أعظم فتنة»([29]). وما أكثر الناس الذين يهلكون للطمع في جمع الأموال!

وتعريف المقصور بالإضافة إلى الضمير (أموالكم وأولادكم)، لأن الأموال تكون فتنـة لأصحابها الذين يجمعونهـا حرصـًا وطمعـًا، والأولاد يكونون فتنـة لآبائهم وأمهاتهم الذين يحبونهـم حبـًا عظيمًا، حتى يجعـل هـذا الحب كثيرا منهم راسبين في الاختبار والامتحان بأولادهم. وتنكير المقصور عليـه (فتنـة) لتهويل خطورتها، كأنها تصل إلى حد لا يدرك، فترك تعريفَها ووصفها ليتخيل المخاطبونفي ذلك، ويذهبون فيه كل مذاهب تخطر على بالهم.

هكذا تظاهـر أسلوب القصر بعناصره على إثبـات صفـة الفتنـة للأموال والأولاد، وعلى تهويل خطورة هذه الفتنة، تحذيـرا لبني آدم الوقوع فيهـا. أورده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا في مقـام الاعتذار، تمهيـدًا لاعتذاره من قطع الخطبة على الجماعة بسبب حفيديه المحبوبين الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ، وتذكيرا للأمة بتلك الفتنة البالغة الخطورة التي حذر الله ـ تعالى ـ منها عباده. 

ومن خلال التحليل السابق تبين لنـا أن استخدام (إنما) هو الأنسب، لأن القصر في سياقه القرآني جاء للتحذير كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أثناء التحليل، وما تفيده (إنما) من وضوح مضمون القصر يناسب هذا السياق، ففي هذا الوضوح زيادة المبالغـة في هذا التحذير. ولو استخدم غيرهـا من طرق القصر مثل (النفي والاستثناء) لذهبت هذه المبالغة.

*  *  *

روى ابن ماجـه بسنـده عَنْ مَيْمُونَةَ، أَنَّ شَـاةً لِمَوْلَاةِ مَيْمُونَةَ مَرَّ بِهَـا ـ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ـ قَدْ أُعْطِيَتْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ مَيْتَةً، فَقَالَ: «هَلَّا أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ؟» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله! إِنَّهَا مَيْتَةٌ. قَالَ: «إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا»([30]). 

* مقصود الحديث:

الحديث يقصد بيـان حكم الانتفاع بإهاب الميتة([31])، وأنه يجوز الانتفاع به لكن بشرط دباغه([32]). 

* عناصر بناء الحديث:

لتحقيق هذا المقصد، جاء الحديث على شكل الحوار الجاري بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعض أصحابه ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ . وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مر بشاة ميتة لمولاة ميمونـة (أَنَّ شَاةً لِمَوْلَاةِ مَيْمُونَةَ مَرَّ بِهَـا ـ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ـ قَـدْ أُعْطِيَتْهَـا مِنَ الصَّدَقَةِ مَيْتَةً)، فعـرض ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهـم وحضهم على الانتفـاع بإهابهـا بعـد دباغـه (هَلَّا أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِـهِ)، غير أنهم تعجبوا من ذلك، ونبهوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن الشـاة ميتة (يَا رَسُولَ الله! إِنَّهَا مَيْتَةٌ.)، فـرد عليهـم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأزال تعجبهم وقرر لهم أن الذي حُرِّم هو أكل الميتة لا الانتفاع بإهابها (إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر بإنما في قـول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا) الـذي رد بـه على أولئك الذين تعجبـوا من عرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهـم الانتفاع بإهـاب الميتة (هَلَّا أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ)، ووقع موقع التأكيد لجواز الانتفاع بإهاب الميتة وتعليله. وإنما احتيج إلى هذا التأكيد لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما عرض لهم الانتفاع بإهاب الميتة، تعجبوا من ذلك وأكدوا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الشاة ميتة (يَا رَسُولَ الله! إِنَّهَا مَيْتَةٌ.) ظنا منهم أن التحريم في قول الله ـ تعالى ـ ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...[المائدة: 3] شامل لكل أجزاء الميتة.

كأنهـم برد فعلهم هـذا ينكرون جواز الانتفاع بإهاب الميتة، بل يرون أن ذلك حرام كما أن أكل الميتة حرام. وقد أوردوا كلامهم مؤكـدًا مـع أن المخاطب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عالم بالخبر، عالم بأن الشـاة ميتـة، وذلـك لتنبيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لأنهم ظنوا أن عرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم الانتفاع بجلد الشاة بعد دباغه كان لأجل نسيانهـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الشـاة ميتـة، وكأنهم بهذا قد أقامـوا الحجـة على تحريم الانتفاع. هكذا يتجلى في كلامهم حسن مراجعتهم، وبلاغتهم في الخطاب، لأنهم جمعوا معاني كثيرة في كلمة واحدة، وهي قولهم: (إِنَّهَا مَيْتَةٌ). فكأنهم قالوا: كيف تأمرنا بالانتفاع بها وقد حرمت علينا؟ فبين لهم وجه التحريم([33]). 

وبقـدر مبالغتهم في قولهم وظنهم جـاء رد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسلوب أبلغ من ذلك وآكد منه، نافيًا ذلك الظن ومقررا جواز الانتفاع (إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا).

ومن بلاغته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أورد أسلوب القصر بطريق (إنما) الذي يفيد وضوح مفهوم القصر لدى المخاطبين مع أنهم هنا في مقام الإنكار أو الجهل به، تأكيدا على جواز الانتفاع بإهاب الميتـة، فإن من الواضح المعلوم أن التحريم في الميتـة يتعلق بأكلها فقـط، ولا يتعـداه إلى الانتفاع بإهابهـا بعـد دباغـه، لأن الأكل هو معظم ما يقصد بها، وهو المتبادر إلى الفهم. قال ابن عاشور ـ رحمه الله تعالى ـ عند تفسير قـول الله ـ تعالى ـ ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...[المائـدة: 3]: «ومعنـى تحريـم هـذه المذكورات تحريـم أكلهـا، لأنَّه المقصود من مجموع هـذه المذكورات هنـا، وهـي أحوال من أحوال الأنعام تقتضي تحريم أكلها»([34]). ثم «إن الشريعة السمحة التي تحل الطيبات وتحرم الخبائث، تدعو إلى الانتفاع بكل ما يمكن الانتفاع به، فليس معنى خبثـه وتحريم أكله تحريم الاستفادة منه، ليس معنى تحريم أكل الميتة إبطال جميع منافعها، وإنما الذي حرم أكلها، محافظة على صحة الإنسان من خبث لحمها، أما الانتفاع بجلدها بعد الدبغ فعمل مشروع»([35]). ففي الآية المذكورة إيجاز الحذف، إذ يقدر فيها (أكل الميتة أو تناولها)، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأن الحكم الشرعي إنما يتعلق بالأفعال دون الأجرام. فيدل على هذا الحذف العقل، ويدل على تعيين المحذوف المقصود الأظهر، لأن المقصود الأظهر منها تناولها([36]). 

القصر هنا وقع بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل المبني للمجهول (حُرِّمَ) على نائب فاعله (أَكْلُهَا). الضمير المضاف إليـه في المقصور عليه يعود إلى الميتـة. والتعبير بالجملة الفعلية مع كون فعله ماضيا لأن هذا التحريم قد حدث وتـم، ثم بناؤه للمجهول للعلم بفاعله الحقيقي، لأن تحريم الشيء أو تحليله لم يكن إلا من حق الشارع الحقيقي الله ـ عز وجـل ـ . وقد أشار الإمام الشعراوي ـ رحمه الله تعالى ـ في مثل هذا إلى نكتة، حيث قال ـ رحمه الله تعالى ـ: «ونلحظ أن البداية فعل مبني للمجهول، على الرغم من أن الفاعل في التحريم واضح وهو الله. ولم يقتحم ـ سبحانه ـ على أحد، فالإنسان نفسه اشترك في العقد الإيماني مع ربِّه، فألزمه ـ سبحانه ـ والعبد من جانبـه التزم، لذلك يقول الحق: (حرمت)، حرمها ـ سبحانه ـ كإله، وشاركه في ذلك العبد الذي آمن بالله إلها»([37]). 

وهذا القصر قصر صفة على موصوف، قصر الصفة (الحرمة) على الموصوف (أكل الميتـة). وهـو من قبيل القصر الإضافي للإفراد، حيث إنه جاء ردا على ظن المخاطبين، إذ إنهـم بتأكيدهـم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كـون الشاة ميتـة قـد ظنوا أنـه يحرم الانتفاع بجلد الميتة بعد دباغه، كما يحرم أكل الميتة، لأنهم نبهوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأكدوا له أن الشاة ميتة عندما عرض لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحضهم على الانتفاع بجلدها بعد دباغه، مشيرين بذلك إلى ظنهم، وهو تحريم الميتة الشامل لجميع أجزائها، فيحرم الانتفاع بجلدها كما يحرم أكل لحمها. فـرد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ظنهم غير المستقيم، فأفرد الحرمـة لأكل الميتـة، ونفى الحرمـة عن الانتفاع بجلدهـا بعد دباغـه. قال صاحب فتح المنعـم ـ رحمه الله تعالى ـ: «والقصر إضافي، وهـو قصـر إفراد، لأن المخاطبين كانوا يعتقدون حرمة الأكل والانتفاع»([38]). 

هذا هو ظاهر الحديث، والمناسب لسياق ورود الحديث، غير أن أبا العباس القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ قال: «قوله (إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا) خرج على الغالب مما تراد اللحوم لـه، وإلا فقد حُرِّم حملها في الصلاة وبيعها واستعمالها وغير ذلك مما يحرم من النجاسات. والله أعلم»([39]). وقولـه هـذا يشير إلى أنه يرى أن القصر هنا قصر حقيقي، فالنفي فيـه على وجـه العموم، يشمل ما عدا الأكل. فكأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثبت صفة الحرمة لأكل الميتة، ونفاها عن جميع ما عداه، بما يدخل في ذلك الانتفاع بجلدها بعـد دباغـه. وعلى هذا لاحظ أبو العباس القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ أن الواقع لا يطابق ذلك، لأن الحرمـة لا تقتصر على أكلها فقط، بل تتعداه إلى غيره، كحملهـا في الصلاة وبيعها واستعمالهـا وغير ذلك مما يحرم من النجاسات. فقال ـ رحمه الله تعالى ـ إن القصر «خرج على الغالب مما تراد اللحوم له»، بمعنى أن هذا القصر مبني على الغالبية. 

وهكذا «قد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلًا عمليًا يضع القول عند العمل، وينتهز الفرصة والواقعة ليبين للأمـة شريعتها الغراء، ويطبقها في بيته قبل أن يطالب بها الآخرين»([40]). 

هكذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام الرد والاحتجاج، فرد به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مخاطبيه ظنهم غير الصواب، مقـررا لهـم الرأي السديـد في القضيـة. وبذلـك بين لهم وللأمة أجمعين بكل وضوح وتأكيد أن الانتفاع بإهاب الميتة بعد دباغه جائز شرعًا، لأن التحريم يتعلق بأكلهـا فقط، فلا يدخل في دائرة التحريم الانتفاع بإهابها بعد الدباغ. والدباغ طهور له كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ([41]). 

واستخدام (إنما) هو الأنسب لهذا المقام، لأن فيها إشارة إلى وضوح مضمون القصر، وهـذا الوضوح يناسب غرض مجيء هذا القصر، وهو تقرير للمخاطبين جواز الانتفاع بإهاب الميتة وتعليل لذلـك، إزالة ما في نفوسهم من التردد حول هذا الحكم، وإقناعًا لهم به. ووجه هذا الوضوح قد سبقت الإشارة إليه في أثناء التحليل. 

 

p p  p

 



([1])   سنن ابن ماجه: كتاب اللباس باب كراهية لبس الحرير، حديث رقم: 3591.

([2])   وقد فصل ابن بطال ـ رحمه الله تعالى ـ أقوال العلماء في حكم لبس الحرير، وملخصه: أن منهـم من يرى حرمته على وجـه العموم وفي كـل الأحوال، حتى يحرم على النساء؛ ومنهم من قـال بتحليلـه، ورأى أن أخبار النهي منسوخـة؛ ومنهم مـن رأى أن النهي للكراهـة لا للتحريـم؛ ومنهـم من قال بخصوص التحريم، فالحرمة على الرجال دون النساء، وفي الحرير المصمت؛ ومنهـم من خـص التحريم بحالة غير لقاء العدو، ورأى تحليلـه عنـد لقـاء العدو. والظاهر أن القـول بخصوص التحريم أقـرب إلى الصواب. وهذا الحديث يحمـل عليـه، فمقصوده تحريـم الحرير المصمت على الرجـال فـي غـير حال المرض والحرب، لغير ضرورة دعتـه إلى لبسه تكـبرا واختيالا، ومن يفعـل ذلـك فإنـه لا يلبسـه في الآخرة. ينظر: شرح ابن بطـال على صحيح البخاري: ج9 ص106 وما بعدها.

([3])   الحلة: واحدة الحُلل، وهـي برود اليمن، ولا تسمى حلـة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد: إزار ورداء، ولا تكون حلة إلا وهي جديدة تحل من طيها فتلبس؛ السيراء: نوع من البُرُود يخُالطه حرير، سمى سِيَراء لتخطيط فيـه، والثوب المسَيَّر الذى فيـه سَيْر، أي طرائق، أو هـي حريـر مختلف الألوان سميت سيراء لاختلاف ألوانها، أو حرير محض. والظاهر أن هـذه الحلة كانت حريرًا محضًا، وهي سبب التحريم.  ينظر: الفائق في غريب الحديث: مادة (سير)؛ النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (سير)؛ معالم السنن: ج4 ص190؛ المعلم بفوائد مسلم: ج3 ص128 ـ 129؛ شرح النووي على صحيح مسلم: ج14 ص38؛ شرح الكرماني على صحيح البخاري: ج6 ص 11.

([4])   اختلف العلماء في علة نهي لبس الحرير، قيل: لئلا يتشبه بالنساء؛ وقيل: لما فيه من الخيلاء؛ وقيل: لئلا يتشبه بالمشركين. والظاهر أنه لا مانع في الجمع بين هذه العلل. ينظر: المعلم بفوائد مسلم: ج3 ص128؛ إكمال المعلم بفوائد مسلم: ج6 ص575؛ إهداء الديباجة شرح سنن ابن ماجه: ج5 ص25.

([5])   الخلاق: الحـظ والنصيب. ومنـه قولـه ـ عز وجل ـ: ﴿فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ [التوبة: 69] أي: انتفعوا به. وقال ـ تعالى ـ: ﴿ أُولَـٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ[آل عمران: 77]. وهو النصيب الوافـر من الخير خاصـة بالتقدير لصاحبه أن يكون نصيبًا له، لأن اشتقاقه من الخَلْق وهو التقدير، ويجوز أن يكون من الخُلُق، لأنه مما يوجبه الخلق الحسن. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (خلق)؛ الفروق اللغوية: ص187؛ المعلم بفوائد مسلم: ج3 ص129.

([6])   شرح النووي على صحيح مسلم: ج14 ص38.

([7])   المنتقي شرح موطأ مالك: ج9 ص321.

([8])   منها: عن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَرِيرًا بِشِمَالِهِ، وَذَهَبًا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ رَفَعَ بِهِمَا يَدَيْهِ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لإِنَاثِهِمْ.» سنن ابن ماجه: كتاب اللباس باب لبس الحرير والذهب للنساء، حديث رقم: 3595.

([9])   شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك: ج4 ص117.

([10])   شرح ابن بطال على صحيح البخاري: ج6 ص82.

([11])   ينظر: شرح الكرماني على صحيح البخاري: ج6 ص12؛ عمدة القاري: ج6 ص258 ـ  259.

([12])   فيض القدير: ج3 ص10.

([13])   سنن ابن ماجه: كتاب اللباس باب لبس الأحمر للرجال، حديث رقم: 3600.

([14])   من العلماء قال بجواز قطع الخطبة للحاجة، ومنهم من رأى بعدم جوازه. وهذا الحديث من أدلة القائلين بالجواز. ينظر: طرح التثريب في شرح التقريب للحافظ زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي (725 ـ 806ﻫ) ولولده الحافظ ولي الدين أبي زرعة العراقي (762 ـ 826ﻫ): ج3 ص204، دار إحياء التراث العربي بيروت ـ لبنان؛ذخيرة العقبى: ج16 ص262؛ بذل المجهود: ج6 ص114 ـ 115.

([15])   ذخيرة العقبى: ج16 ص261.

([16])   طرح التثريب: ج3 ص205.

([17])   ورد هذا القصـر فـي القرآن الكريم مرتين: مـرة في سورة الأنفـال، في قولـه ـ تعالى ـ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّـهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ[الأنفال: 28] والآية هنا في مقام التحذير من الخيانة؛ ومرة في سورة التغابن، في قوله ـ تعالى ـ:﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّـهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن: 15] والآيـة هنا في سيـاق التحذير من فتنة الأزواج والأموال والأولاد.

([18])   التفسير الوسيط للقرآن الكريم: ج14 ص433.

([19])   تفسير الشعراوي: ج3 ص1693 ـ 1694.

([20])   الكشاف: ج2 ص574.

([21])   تفسير البحر المحيط: ج8 ص276.

([22])   تفسير التحرير والتنوير: ج9 ص325.

([23])   المرجع السابق: ج28 ص286.

([24])   كنز ا

الموضوعات