جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن المساجد والجماعات من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن المساجد والجماعات من سنن ابن ماجه

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجه بسنده عَنْ أبي سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ دَعَا إِلَى الجَمَلِ الأَحْمَرِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لَا وَجَدْتَهُ، إِنَّمَابُنِيَتْ المَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ»([1]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هو النهـي عن إنشاد([2])الضوال في المساجد لما فيه من إزعاج وتفويت لوظيفة المساجد المقدسة([3]). 

* عناصر بناء الحديث:

وقد ورد الحديث الشريف بجملتين في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مع ما سبق عليه من قول أبي سليمان بن بريدة ـ  رضي الله عنه ـ  ذكر فيه سبب ورود الحديث، حيث قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرجل كان ينشد جمله الأحمر في المسجد. دعا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيجملته الأولى على الرجل الذي ينشـد جملـه في المسجد (لَا وَجَدْتَهُ)؛ ثم بين في الجملة الثانية أن الضـوال لا تُنشـد في المسجد، لأنه لم يُبن لإنشـاد الضـوال (إِنَّمَا بُنِيَتْ المَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر بإنما المتمثل في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إِنَّمَا بُنِيَتْ المَسَاجِدُ لِمَابُنِيَتْ لَهُ) تأكيدا لمقصد الحديث وتعليلا له. وقد سبقت جملة القصر بجملة إنشائية موجزة: (لَا وَجَدْتَهُ)، و(لا) هنا يحتمل أن تكون نافية، وأن تكون ناهية، فعلى الاحتمال الأول يكون قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (وَجَدْتَهُ) مع (لا) دعاءً على المخاطب بألا يجد ضالته، والغرض من هذا الدعاء هو تحذير المخاطب بل الأمة كلهم من مثل ذلك الفعل الذي لا يليق في بيت الله الطاهر، ونهيهم عن ذلك. وعلى الاحتمال الثاني يكون قولـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (لَا وَجَدْتَهُ) مكونـا من جملتين: الأولى منهـا لنهـي الإنشاد، فحذفالفعل وأبقى (لا) الناهية، والأصل: لا تنشد؛ والثانية منها دعاء للمخاطب بوجدانه ضالته. قال السندي ـ رحمه الله تعالى ـ: «قوله (لا وجدته) يحتمل أنه دعاء عليه، فكلمة (لا) لنفي الماضي، ودخولها على الماضي بلا تكرار في الدعاء جائز، وفي غير الدعاء: الغالب هو التكرار، كقوله تعالى: ﴿ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى[القيامة: 31]. ويحتمل أن (لا) ناهية، أي: لا تنشد. وقوله (وجدته) دعاء لإظهار أن النهي منه نصح لـه، إذ الداعي بخير لا ينهى إلا نصحـا، لكن اللائـق حينئـذ الفصـل بأن يقال: لا ووجدته، لأن تركه يوهم، إلا أن يقال: الموضع زجر فلا يدع بتركه الإيهام، لكونه إيهام شيء هـو آكد في الزجر»([4]). وقال الإمـام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «فهو عقوبة لـه على مخالفته وعصيانه، وينبغي لسامعه أن يقول: لا وجدت، فإن المساجد لم تبن لهـذا. أو يقول: لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له، كما قاله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . والله أعلم»([5]). 

ثم علل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ النهي وأكده من خلال بيان وظيفة المسجد المقدسة، وأنه بني لمـا بني لـه من الأمور المعلومـة من ذكر الله  ـ تعالى ـ وما شابه ذلك من مثل الصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوها، مستعملا في ذلك أسلوب القصر لزيادة التأكيد والتقرير، فقصر بناءه على كونه لأجل وظيفته المقدسة، ونفى عنه غير ذلك من الأشياء أو الأسباب، وتبعا لذلك نفى ما فعل ذلك الرجل، وقرر له أنه ليس مما بني له المسجد، فلا ينبغي إيقاعه فيه.

وإنما احتيج إلى هـذا التأكيـد لأن المخاطب بإنشاده الجمل في المسجد كأنه قد جهـل أو نسي وظيفة المسجـد الشريفة التي بني لأجلها، فمحى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جهله وذكّره ما نسي من خلال هذا الأسلوب المؤكد البليغ.

وهذا القصر مثل القصر الواقع في حديث منع التبول في المسجد: «إِنَّ هَذَا المَسْجِدَ لَا يُبَالُ فِيهِ، وَإِنَّمَا بُنِيَ لِذِكْرِ الله وَلِلصَّلَاةِ»([6]). والذي سبق التحليل له في المبحث الأول من هذا الفصل، غير أن القصر هنا جاء فيه المجرور المبينة فيه وظيفة المسجد باسم الموصول: (إِنَّمَا بُنِيَتْ المَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ)، وذلك لوضوحه مما سبق بيانه في كتاب الله ـ تعالى ـ أو سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام إنكار المنكر وتنبيه غفلة الغافل، فتظاهر بعناصره على بيان خطأ المخطئين، وغفلة الغافلين، مما حملهم على التصويب للخطإ والاستيقاظ من الغفلة.

وقد اختار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا القصر طريق (إنما) خاصة من بين طرق القصر الأخرى، وهو الأنسب لهذا المقام، وذلك أن مفهوم هذه الجملة القصرية بدهي لا يحتاج إثباتـه إلى ما في مثـل (النفي والاستثناء) من قوة التأكيد، إذ كل مبني لم يبن إلا لما بني لـه، بل كل شيء في الدنيا لم يوجد إلا لمـا وجد له. كذلك المسجد، فإن الغرض من بنائه عبادة الله ـ عز وجل ـ فيـه، فقد صرح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك في قولـه: «وَإِنَّمَا بُنِيَ لِذِكْـرِ الله وَلِلصَّلَاةِ»([7]). وهنـا ذكّـر النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المخاطب هذه الحقيقة، لتنبيهه وحمله على اجتناب ما لا يليق بشأن المسجد وغرضه، فيترك إنشاد الضوال فيه. وفي هذا ما فيه من تأنيب لذلك الرجـل، وتنبيه لغفلته وسوء أدبه مـع المسجـد الذي ينبغي على المسلـم ألا يأتيـه إلا من أجـل العبـادة وبنيّة خالصة لها.

*  *  *

روى ابـن ماجـه بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُـولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسَاجِدَ، فَاشْهَدُوا له بِالإِيمَانِ، قال الله ـ تَعَالَى ـ: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّـهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ الآية»([8]).

* مقصود الحديث:

الحديث يهدف لبيان فضل لزوم صلاة الجماعة في المسجد، وأن الذي يلتزم بذلك هو من المؤمنين المخلصين المقطوع بإيمانهم.

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديـث بجملتين لتحقيق هـذا المقصد، أورد النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجملة الأولى بأسلوب الشرط طلب فيها من الأمة أن يشهدوا لمن يعتاد المساجد بالإيمان (إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسَاجِدَ فَاشْهَـدُوا لـه بِالإِيمَانِ)؛ ثم استشهد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجملة الثانية بقول الله ـ تعالى ـ للدلالـة على وجه قطع الإيمان لمن يعتاد المساجد (قال الله ـ تَعَالَى ـ: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّـهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ الآية).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

جاء أسلوب القصر بإنما هنا في قول الله ـ تعالى ـ: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّـهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ، استشهد به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمقصد الحديث: فضل لزوم المساجد لصلاة الجماعـة فيها، وهو أن الملتزم مقطوع بإيمانه، حيث طلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأمة في الجملة السابقة القطع بالإيمان لمن يعتاد المساجد ويتعلق قلبه بها: (إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسَاجِدَ، فَاشْهَدُوا له بِالإِيمَانِ.) أي: إذا علمتم الرجـل يعتاد المساجد بمعاودته إلى المساجد مرة بعـد أخرى لإقامة الصلاة فيها، ويكون قلبه متعلقاً بها منذ خروجه منها إلى أن يعود إليها، وذلك علامة شدة حبه لها وملازمة الجماعة فيها، فاشهدوا واقطعوا له بالإيمان([9]). 

ثم أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الفضل العظيم من خـلال الاستشهاد بقـول الله ـ تعالى ـ: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّـهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ، وهذا الاستشهاد كالتعليل لوجه قطع الإيمان لمن يعتـاد المساجد ويتعلق قلبه بها، لأن الآية جاءت بأسلوب القصر، حيـث قصـر عـمارة المساجد على المتصف بكـل ما يذكر في جملة الصلة لاسم الموصول (من) كما أومأ إليه لفظ (الآية) في الحديث. والآية بكاملها هي: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّـهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ[التوبة: 18]. قصر فيها عمارة المساجد على أهل الإيمان الذين آمنوا بالله واليوم الآخر بقلوبهم إيماناً حقاً، وعملوا ما يؤمرون بجوارحهم وإخلاص نيتهم، وأخلصوا لله ـ سبحانه وتعالى ـ الخشية دون سواه. وهنا كأن ظاهر الآية يوهم أن الإيمان بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يدخل ضمن تلك الصفات المتحلي بها عمّار المساجـد، فقد أزال الإمام الزمخشري ـ رحمه الله تعالى ـ هذا الإيهام حينما قال: «لما علم وشهر أن الإيمان بالله ـ تعالى ـ قرينته الإيمان بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين، كأنهما شـيء واحد عير منفك أحدهما عن صاحبه، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله ـ تعالى ـ الإيمان بالرسول ـ عليـه الصلاة والسـلام ـ . وقيل: دلّ عليـه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة»([10]). 

وقال الإمام الشعراوي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وهذا القول يحمل في مضمونه إيماناً برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لأن الله يقول بعدها: ﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وإقامة الصلاة لا تصـح منهـم إلا إذا آمنوا برسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فهو الذي قال لنـا إنهـا خمس، وهو الذي علّمنا كيف نؤديها وماذا نقول فيها، وهو الذي نشهد له ونحن نصلي، فـي الإقامـة وفي التشهد، إذن فساعـة نقيـم الصـلاة لا بـد أن نكـون مـؤمنين برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ... وانظر إلى دقة القرآن الكريم وعظمته، فقد جمع في آية واحدةبين الإيمان بالله واليوم الآخر والصلاة والزكاة، ولم يأت فيها ذكر الإيمان بالرسول، لأنه مسألة مطوية في أركان الإيمان»([11]). 

«ومجيء صيغـة القصر فيهـا مؤذن بأنّ المقصود إقصاء فِرق أخرى عن أن يعمروا مساجد الله، غير المشركين الذين كان إقصاؤهم بالصريح، فتعيّن أن يكون المراد من الموصول وصلتـه خصوص المسلمين، لأنّ مجموع الصفات المذكورة في الصلـة لا يثبت لغيرهـم، فاليهـود والنصارى آمنوا بالله واليـوم الآخر لكنّهم لم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة، لأنّ المقصود بالصلاة والزكاة العبادتان المعهودتان بهذين الاسمين والمفروضتان في الإسلام، ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ: ﴿ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ﴿٤٣﴾ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ[المدثر: 43 ـ 44] كنايـة عن أن لم يكونـوا مسلمين»([12]). 

جاءت الآيـة بطريق (إنما) للدلالة على أن قصر عمارة المساجـد على أهـلالإيمان أمر معلوم، لأن عمارة المساجد لا تكون إلا بالطاعة والعمل الصالح، وإن المساجد بنيت لذكـر الله ـ تعالى ـ وللصلاة، فكيف يعقل أن تكون عمارتها لغير من يخلص الإيمان والعبادة لله ـ تعالى ـ .

والآيـة في سياقهـا القرآني جاءت لتأكيـد نفي عمارة المشركين للمساجد، حيث سبقها النفي الصريح لعمارة المشركين لمساجد الله ـ سبحانه وتعالى ـ: ﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّـهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ۚ أُولَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ[التوبـة: 17]. لأن أولئك ليس لهـم إيمان حقيقي يؤهلهم لذلـك. وأكـد ذلـك من خلال الآية القصرية التي جاءت كالتعليل للنفي السابق أو البيان له، كأنه ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: ليست للمشركين أهلية لعمارة مساجد الله ـ تعالى ـ، لأنـه من المعلوم أن عمارتهـا لم تكن إلا للذين يؤمنون بالله وباليوم الآخر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويتقون الله ـ تعالى ـ حق تقاتـه. وهـذه الصفات لم يتصف بها إلا المؤمنون المخلصون، والمشركون لم يقتربوا من أي صفة من هذه الصفات العظيمة، وتبعا لذلك فإن عمارة مساجد الله ـ تعالى ـ مقصورة على المؤمنين، ولا تتجاوزهم إلى المشركين. ووجه اعتبار الآية بيانا للنفي السابق هو أنه لما نفى أهلية عمارة المشركين لمساجد الله، أثار ذلك فيالنفوس سؤالا: فمن هم أهل ذلـك؟ فجاءت الآيـة كإجابة على السؤال المثـار. ولذلـك لم تعطف الآية على ما قبلها بالواو، لأن كلا من المعلِل والمعلَل كشيء واحد، أو المبيِن والمبيَن كشيء واحـد، أو المؤكِد والمؤكَـد كشيء واحد، لا يحتاج إلى عاطف بينهما، لأن بينهما اتصالا وثيقا داخليا يغني عن الاتصال الخارجي. وهذا ما يسمى عند البلاغيين باسم «كمال الاتصال».

  وهنا في الحديث جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذه الآية للاستشهاد على أن الذي يعتاد المساجد ويتعلـق قلبـه بها هو المؤمن المقطوع بإيمانه، لأن هذا الاعتياد للمساجد هو عمارة لها، وقد قصر الله ـ تعالى ـ عمارة المساجد على المؤمنين المخلصين الذين يتصفون بالصفات الجليلة المذكورة في صلـة الموصول من الآيـة المذكورة، وتبعا لذلك فإنه لا محالة أن الذي يعتاد المساجد مؤمن مقطوع بإيمانه.

والآية القصريـة من خلال سياقها القرآني يحتمل أن يكون القصر فيها من قبيل القصر الإضافي، وهـو قصر قلب، قلب اعتقاد المشركين الخاطيء حيث إن الآية نزلت في مقام إبطال افتخار المشركين بتعميرهم المسجد الحرام([13]). فنفى الله ـ سبحانـه وتعالى ـ تحقـق العمارة الحقيقيـة أو لياقتهـا عن المشركين، وأثبت ذلك للمؤمنين المتصفين بتلك الصفات الجليلة. ويحتمل أن يكون القصر هنا من القصر الحقيقي التحقيقي، فأثبت عمارة المساجـد للمؤمنين، ونفاها عن غيرهم، فنفاها عن المشركين بطريق الكناية، لأنهم داخلون في غير المؤمنين. وهذا الأخير أنسب لمقام هذا الحديث الذي يراد به تأكيد فضل عمّار المساجد الذين يعتادونها ويتعلق قلبهم بها، ومن هذا الفضـل العظيم شهـادة النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـلهـم بالإيمان، وطلبـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمة للشهادة. ولتأكيد هـذا الإيمان المخلص استشهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالآية الكريمة، فعلـل لقطـع إيمان عمّار المساجـد بأن الله ـ تعالى ـ قصر عمارة المساجد على المؤمنين المخلصين الذيـن يتصفون بتلـك الصفـات الجليلـة، ونفـاها عـن غيرهم. فالذي يعتاد مساجـد الله، لا محالـة أن يكـون من صـف أولئك المؤمنين المخلصين.  

ووقع القصر بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل الواقع على مفعوله (يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله) على فاعلـه (مَنْ آمَنَ بِالله)، ويكـون القصر قصـر صفـة على موصوف، إذ الفعل مع مفعوله كالصفة لفاعله، فأثبت الصفة (عمارة مساجد الله) للفاعل الموصوف المذكور، ونفاها عن غيره. «والعمارة تتناول رمَّ ما استرمّ منها، وقَمَّها وتنظيفَها، وتنويرَها بالمصابيح، وتعظيمَها، واعتيادَها للعبادة والذكر، ومنالذكـر درس العلـم، بل هـو أجلّـه وأعظمه، وصيانتَها مما لم تُبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث»([14]). واختيار الجملة الفعلية التي فعلها مضارع يدل على أن هذه العمارة التي تشمل في مضمونها إقامة العبادة في المساجد، وإصلاح بنائها، وخدمتها، ونظافتها، واحترامها، وصيانتها عن كل ما لا يتناسب مع الغرض الذى بنيت من أجله، تتجـدد وتستمر حسب المواقيت والمقتضيات. والإتيان بجمـع المسجد (مساجد الله) ليشمل كـل مسجد بني على وجه الأرض لذكـر الله ـ تعالى ـ وللصلاة فيهـا، ثم إضافـة المساجد إلى لفـظ الجلالة لإفادة التشريف والتعظيم لها، وفي ذلك أيضا ما لا يخفى من تشريف لعمّار المساجد. وجاء المقصور عليه فاعل الفعل باسم الموصول (من) لبيان وجه بناء الحكم، أي: بيان وجه استحقاق المؤمنين وأهليتهم لعمارة المساجد، بمعنى أن المؤمنين إنمايستحقون عمارة المساجد لأنهم متصفون بهذه الصفات الجليلة.

هكذا استشهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالآية القصرية الكريمة لفضل معتادي المساجد، وأنهم مقطوع بإيمانهم، وبهذا تحقق ما يقصد من الحديث، فحث الأمة على التماس ذلك الفضل العظيم، ورغّبهم في لزوم الجماعـة في مساجد الله، فإن الجماعة بركة ورحمة.  

ومن خلال التحليل الذي مضى تبين لنا أن استخدام طريق (إنما) هنا هو الأليق، سواء أكان بسياقه القرآني، أم بمقامه في الحديث، ولو استخدم غيرها من طرق القصر، مثل (النفي والاستثناء)، لاختل المعنى. وذلك لأن هذا الحكم بذاته واضح جلي، لأن عمارة المساجد لا تكون إلا بالطاعة والعمل الصالح، وبالإضافة إلى ذلك فإن هـذا القصر في سياقـه القرآني جاء بعد نفي صريح، نُفيت فيه عن أهل الشرك صلاحيةُ هذه العمارة، وبهذا قرّب مفهوم القصر من النفوس، فناسب أن يعبر عنـه بهذا الطريق الذي يؤكـد ذلـك القرب أو الوضوح. ثم إنـه جاء في مقامه من الحديث للاستشهاد والتعليل، فهذا الطريق هو الأليق بهذا الاستشهاد أو التعليل. 

 

*  *  *

 



([1])   سنن ابن ماجه: كتاب المساجد والجماعات باب النهي عن إنشاد الضوال في المساجد، حديث رقم: 765.

([2])   يقال: نشدت الضالة، فأنا ناشد إذا طلبتها، وأنشدتها فأنا منشد إذا عرفتها، وهو من النشيد: رفع الصوت. النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة (نشد).

([3])   ذكر الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ أن من فوائد هذا الحديث: النهي عن نشد الضالة في المسجد، ويلحق به ما في معناه من البيع والشراء والإجارة ونحوها من العقود، وكراهة رفع الصوت في المسجد. ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم: ج5 ص55.

([4])   شرح السندي على سنن ابن ماجه: ج1 ص422 ـ 423.

([5])   شرح النووي على صحيح مسلم: ج5 ص55 ـ 56.

([6])   سنن ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل، حديث رقم: 529.

([7])   المصدر السابق.

([8])   سنن ابن ماجه: كتاب المساجد والجماعات باب لزوم المساجد وانتظار الصلاة، حديث رقم: 802.

([9])   قال الإمام الطيبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «(فاشهدوا له) أي: اقطعوا له القول بالإيمان، فإن الشهادة قول صدر عم مواطأة القلب على سبيل القطـع.» شـرح الطيبي على مشكـاة المصابيح: ج3 ص943. وعلق السندي ـ رحمه الله تعالى ـ على هذا بقوله: «وهو الموافق للاستشهاد بالآية، لكن يشكل عليه حديث سعد: قال في رجل: إنه مؤمن، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أو مسلم.» رواه في الصحيحين (صحيح البخاري: كتاب الإيمان باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، حديث رقم: 27؛ صحيح مسلم:كتاب الإيمان باب تألّف قلبِ مَن يخاف على إيمانه لضعفه، والنهي عن القطع بالإيمان من غير دليـل قاطع، حديث رقم: 150.)  فإنه يدل على المنع عن الجزم بالإيمان إلا أن يقال: ذلك الرجـل لم يكن ملتزمـا للمساجد، أو يراد بالإيمان هاهنا الإسلام. وفيه أن الجزم بالإسلام لا يحتاج إلى ملازمة المساجد. والأقرب أن المراد بالشهادة الاعتقاد وغلبة الظن.» شرح السندي على سنن ابن ماجه: ج1 ص439. 

([10])   الكشاف: ج3 ص23.

([11])   تفسير الشعراوي: ج8 ص4960 ـ 4961، أخبار اليوم قطاع الثقافة.

([12])   تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: ج10 ص141. الدار التونسية للنشر، تونس 1984.

([13])   ينظر: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للعلامة أبي الفضل شهاب الدين السيـد محمـود الألوسي البغدادي المتوفى سنة 1270ﻫ: ج10 ص64 ـ 65. دار إحياء التراث العربي بيروت ـ لبنان.

([14])   الكشاف: ج3 ص21.

الموضوعات