جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن النكاح من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن النكاح من سنن ابن ماجه

 

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجه بسنده عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «إِنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَلَيْسَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ المَرْأَةِ الصَّالِحَةِ»([1]). 

* مقصود الحديث:

الحديث الشريف يهـدف لبيان أن المرأة الصالحـة هي أفضل ما يتمتع به في الدنيا، حثًا للرجال من أبناء الأمة على اختيار الزوجة الصالحة عند الزواج.

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث الشريف بجملتين لتحقيق هذا المقصد: الجملة الأولى كتمهيد للشروع في مقصد الحديث (إِنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاعٌ)؛ والجملة الثانية بيان للمقصد (وَلَيْسَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ المَرْأَةِ الصَّالِحَةِ).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر بإنما في الحديث الشريف ممهـدا للشروع فـي مقصـد الحديث، حيث إن الحديث كما ذكر سابقا يقصد لبيان أن المرأة الصالحة هي أفضل ما يتمتع به في الدنيا، والهدف من وراء هذا البيان ترغيب كل رجل من الأمة في حسن اختيار الزوجة التي تؤدي في حياته دورا مهما من كل جوانبها. فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـذكر لنا في هذا التمهيد حقيقة الدنيا، وإنها متاع «قليل لا بقاء لها، فمهما تمتع منها الإنسان، فمتاعـه إلى ذهـاب واضمحلال»([2]). يقـول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إِنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاعٌ)، فقد قصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدنيا على صفـة التمتع، هكـذا يكون أمـر هـذه الدنيا الفانية، ولقد بين لنا ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ هذه الحقيقة في قرآنه الكريم أكثر من مرة، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[الحديد: 20]. ومعظم الناس يسعون للحصول على شيء من ذلك المتاع، فأمر الدنيا هذا واضح مطرد، ويلمح بلفظ (إنما) إلى هذا الوضوح أو الاطراد. والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كرره لنا هنا ليذكّرنا، وليمهد لما يذكر بعد ذلـك من فضل المرأة الصالحة، حثا للأمة على حسن اختيار الزوجة. فكأنـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ما دمتم عارفين بأن أمـر الدنيا لم يكن إلا متاعـا، وأنتم تسعـون للحصول على ذلك، فأنا أخبركـم بأن خير هذا المتاع وأفضله على الإطلاق هو المرأة الصالحة، فابحثوا عنها، «لأنها معينة على أمور الآخرة»([3]). قال ابن الجـوزي ـ رحمـه الله تعالى ـ: «وصلاح المرأة دينهـا، وصاحبة الدين تجتنب الأنجاس والأوساخ، وتحسن أخلاقها، وتصـبر على جفـاء زوجهـا وقلة نفقته، ولا تخونه في ماله، فيطيب لذلك عيشه»([4]). ونقل السيوطي عن القرطبي ـ رحمهما الله تعالى ـ قائلا إن المرأة الصالحـة «فسرت في الحديث بقوله: (التي إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله).»([5]) فأفضلية المرأة الصالحة التي حث عليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تتمثـل في صلاح دينها ونفسها، وفي إصلاح حال زوجها.

وإنما قـدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هـذا البيان أو الحث تذكير الأمـة لحقيقة أمر الدنيا، وقصره على المتاع، لزيادة الحث والترغيب في البحث عن الزوجة الصالحة، «إذ هي أفضل متـاع الدنيـا، فينبغي للعاقل البحث والتنقيب عنها، لتتكامل له الحياة المرضية التي تتصل بالحياة الأبدية، والسعادة السرمدية»([6]). 

وفي هـذا التقديم أو التمهيد دقـق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اختيـار الأسلوب لـه، فوقع اختياره ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أسلوب القصر بإنما الذي يتميز بخصائص ترشحه لهذا المقام مقام الحث والترغيب، إذ فيه دعوى جلاء الأمر ووضوحه، وفيه خفة ورقة تحمل النفوس على الإقبال على ما يرغب فيه.

وقد قصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدنيا على متاع، والمتاع «من التمتع بالشيء: الانتفاع به، وكل ما ينتفع به من عروض الدنيا قليلها وكثيرها فهو متاع»([7]). وقال السندي ـ رحمـه الله تعالى ـ إن المتاع «محل للاستمتاع لا مطلوبة بالذات، فتؤخذ على قدر الحاجـة»([8]). فعلى ذلك يكون القصر قصر موصوف على صفـة، قصر الموصوف (الدنيا) على الصفة (التمتع). وهو قصر حقيقي مبني على المبالغة، إذ قصر أمر الدنيا على صفة التمتع، ونفى عنه غيرها من الصفات، وهذا باعتبار غالبية أمر الدنيا. قال ابن عاشور ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسير قولـه ـ تعالى ـ: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[الحديد: 20]: «والحصر ادعائي باعتبار غالب أحوال الدنيا بالنسبة إلى غالب طالبيها، فكونهـا متاعاً أمـر مطـرد، وكون المتاع مضافاً إلى الغرور أمر غالب بالنسبـة لما عدا الأعمال العائدة على المرء بالفوز في الآخرة»([9]). ومراد هذه المبالغـة هو الحث على الزهد في الدنيا الفانيـة، والترغيب في الآخرة الباقية، ولذا حث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ذلك الأمة على التنقيب عن المرأة الصالحة، لأنها تعينه على حصول السعادة الأبدية في الآخرة الباقية.

وقع القصر هنا بين أجزاء الجملة الاسمية، حيث قصر المبتدأ (الدُّنْيَا) على خبره (مَتَاعٌ)، واختيرت للقصر الجملـة الاسميـة للدلالـة على الثبوت والدوام، فإن صفـة التمتع ثابتـة وملاصقـة بالدنيا، ومستمرة مع استمرار الدنيا إلى قيـام الساعة بإرادة الله ـ عز وجـل ـ . وفي المقصور (الدُّنْيَا) فن آخر من فنون البلاغة، إذ ليس المراد بالدنيا ذاتها، لأنها عبارة عن الزمن، ولا يوصف بغير صفات الزمن، فلا يوصف بالتمتع، وإنما التمتع يتعلق بما يعمل في الدنيا من الأشياء أو الأعمال، أما الدنيا فهي زمن هذه الأشياء أو الأعمال. فهنا أطلق الزمن، وأريد ما يعمل فيه من الأشياء، فهذا هو مجاز مرسل علاقته الزمانية. قال ابن عاشور ـ رحمه الله تعالى ـ عند تفسير قوله ـ تعالى ـ ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ[الأنعام: 32]: «والمراد بالحياة الأعمال التي يحبّ الإنسان الحياة لأجلهـا، لأنّ الحياة مـدّة وزمن لا يقبل الوصف بغير أوصاف الأزمان من طول أو قصر، وتحديد أو ضدّه، فتعيّن أنّ المرادبالحياة الأعمال المظروفة فيهـا»([10]). وفي استخدام هـذا المجـاز للتعبير عن أعمال الدنيا إبـراز لعنصر زمني، وزيادة تأكيد على أن معظم ما يعمله الإنسان في الدنيا لأجل التمتع المؤقت، فجعـل الدنيـا كأنهـا نفسهـا هي التمتع. وفي ذلك إظهار لحقارة الدنيا، تنفيرا من طول الطمع فيها. قال الطيبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «الظاهر أنـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخـبر أن الاستمتاعات الدنيويـة كلهـا حقيرة لا يعبـأ بها»([11]). وقال المناوي ـ رحمه الله تعالى ـ: «هي مع دناءتها إلى فناء، وإنما خلق ما فيها لأن يستمتع بـه مع حقارته أمدًا قليلًا، ثم ينقضي»([12]). ثم في تنكير المقصور عليه (مَتَاعٌ) إفادة التقليـل والتهوين، إذ إن التمتع في الدنيـا تمتـع قليـل والنفع فيهـا نفع زائل عن قريب([13]). وقال المناوي ـ رحمـه الله تعالى ـ: «والمتاع ما ليس له بقاء»([14]). وهو نقل عن الحرالي ـ رحمهما الله تعالى ـ ([15])قائلا: «وعـبر بلفظ المتاع إفهاما لخستها لكونه من أسماء الجيفة التي إنما هي مثال المضطر على شعوره برفضه عن قرب من مرتجي الفناء عنها»([16]). 

هكذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام الحث والترغيب، فمهد لذلك وقدم عليه، ومن ثم زاد تأكيدا للأمر المرغَّب فيـه، وحمـل المخاطبين عليه إلى حد كبير. هكذا تكون عظمة الإسلام، فإنه يرى أن أعظم متعـة للإنسان في دنياه هي أن يوهب زوجة صالحة، حريصًا على تقوية بناء المجتمع من بنيته الأساسية، وهي حسن اختيار الزوجة، فإن في صلاحها صلاح الأسرة، وفي صلاح الأسرة صلاح المجتمـع، وفي صـلاح المجتمـع صلاح الأمة، وفي صلاح الأمـة نجـاة الآخـرة وسعادتها...

وقد دقـق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اختياره طريق القصر، فأحسن الاختيار، وذلك أن استخدام طريق (إنما) هو الأليق بهذا المقام، لأن القصر هنا جاء كتمهيد لما يذكر بعده من فضل المرأة الصالحة، فما تفيده (إنما) من ادعاء وضوح مضمون هذا القصر يناسب هذا التمهيد، فكأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكّر الأمة هذه الحقيقة الثابتة لأمر الدنيا بأسلوب رقيـق هادئ، مشيرا لهم إلى أنه من المعلوم أن الدنيا مقصورة على المتاع، وأن أفضل متاعها الزوجـة الصالحـة، وبذلك حثهم على البحث عن هذا المتاع، كأنه في الوقت نفسه بيّن سبب هذا البحث، فيكون أكثر استجابة، لأنه قد أقنع به المخاطبين، فبادروا في البحث.

*  *  *

روى ابن ماجه بسنده عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَتَانِي عَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَفْلَحُ بْنُ أَبِي قُعَيْسٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ، بَعْدَ مَا ضُرِبَ الحِجَابُ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ: «إِنَّهُ عَمُّكِ فَأْذَنِي لَهُ». فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي المَرْأَةُوَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ؟ قَالَ: «تَرِبَتْ يَدَاكِ أَوْ يَمِينُكِ».

وفي رواية أخرى: قَالَتْ: جَـاءَ عَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَقَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ عَمُّكِ». فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي المَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ، قَالَ: «إِنَّهُ عَمُّكِ، فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ»([17]). 

* مقصود الحديث:

الحديث يهدف لبيان الحكم الشرعي، وهو أن حرمة الرضاع تنشر من جهـة زوج المرضعـة كما تنشر من جهة المرضعة، لأن منه تولد اللبن، فيصير الرضيع ولدا لزوج المرضعة، وأولاد الزوج إخوة الرضيع وأخواته، ويكون إخوة الزوج أعمام الرضيع... فبإثبات هذه الحرمة، يبيح الشرع من ولوج الرجال على ذوات المحارم من الرضاع مثل ما يبيح من النسب، وبهذا قال جمهور العلماء، وذهب بعض العلماء إلى أن هذه الحرمة لا تثبت من جهة الزوج([18]). 

* عناصر بناء الحديث:

ولتحقيق هذا المقصد ورد الحديث على شكل الحوار الجاري بين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأم المؤمنين السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ، حكت ـ رضي الله عنها ـ لنا هذا الحـوار: أن عمهـا من الرضاعة أفلح ـ رضي الله عنه ـ يستأذن على الدخول عليها ـ رضي الله عنها ـ، فأبت الإذن ظنا منها أن الحرمة تثبت من جهة المرضعة، لا من جهة زوج المرضعة. ثم دخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقال لها: (إِنَّهُ عَمُّكِ فَأْذَنِي لَهُ)، أو (فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ عَمُّـكِ). ثم قالت السيـدة عائشـة ـ رضي الله عنها ـ معترضة: (إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي المَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ)، تحتـج ـ رضي الله عنها ـ بقولها على أن الحرمة لا تثبت من جهة زوج المرضعة. فأكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها أن الحرمة تثبت، وأن أفلح عمها، وأمرها بإدخاله: (إِنَّهُ عَمُّكِ، فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ). أو حثها على ذلك: (تَرِبَتْ يَدَاكِ أَوْ يَمِينُكِ).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر في قول السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ الذي اعترضت به على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حيث إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرها بإدخال عمها أفلح ـ رضي الله عنه ـ الذي يستأذن منها للدخول عليها. أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل الأمر بثبوت الحرمة بين السيدة عائشة وأفلح ـ رضي الله عنهما ـ: (إِنَّهُ عَمُّكِ)، ثم أمرها بإعطائه الإذن في الدخـول: (فَأْذَنِي لَهُ)، أو أكـد هـذا الثبوت من خلال أسلوب الالتفات([19])، حيث أوقع الظاهر موقع المضمر: (فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ عَمُّكِ)، لأن مقتضى الظاهـر أن يقال: «فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ» اكتفاء بالضمير المستتر في الفعل، والعائد على أفلح ـ رضي الله عنه ـ، فإن سياق الحوار دال عليه.

إنما أكـد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكل هذا لأن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أبت الإذن لأفلـح ـ رضي الله عنه ـ، وهذا الإباء يدل على أنها أنكرت ثبوت الحرمة من جهة الرجل، أو على الأقل تشك في ذلك، فإزالة هذا الإنكار أو الشك تحتاج إلى شيء من التأكيد، لذلك أكد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلامه.

وإنما شكت أو أنكرت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ ثبوت هذه الحرمة، لأن المستأذن هو أفلح ـ رضي الله عنه ـ . والمشهور عند علماء الحديث أن أبا قعيس هو زوج مرضعـة السيدة عائشـة ـ رضي الله عنهم ـ، وأفلـح أخوه، فيكون أبو قعيس أبا للسيدة عائشة رضاعـة ـ رضي الله عنهم ـ، ويكـون أخوه أفلح عمّا لها رضاعة([20]). وقال الطيبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «لكن قولها (إنما أرضعتني المرأة) يبين أن الرجل بمنزلة أبيها، فدعاه العم، هذا ما يعطيه ظاهر اللفظ»([21]). فكأن السيدة عائشة ـ رضي الله عنهـا ـ ظنت أن أحكام الرضاع تثبت بين الرضيع والمرضعة المرأة، وأنها لا تسري إلى الرجال، فالحرمة من الرضاعة تنشر من جهة المرأة لا من جهة الرجل، لأن اللبن من المرأة لا من الرجل([22]). 

وقد أكدت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ إنكارها من خلال التعليل في قولهـا (إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي المَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ)، فكأنها تقول: إنه لا حرمة بيننا لأن الرضاعة حصلت لي من جهة المرأة لا من جهة الرجل، والتي أرضعتني هي امرأة أخـي هـذا الرجل، لا أخوه حتى يكون عمي، فكيف تثبت الحرمة؟([23])ثم زادت ـ رضي الله عنها ـ تأكيدها عن طريق إيراد التعليل بأسلوب القصر، حيث قصر الإرضاع لها على كونه صادرا من المرأة التي هي امرأة أخي أفلح ـ رضي الله عنه ـ، ونفت صدور هذا الفعل من الرجل الذي هو أخو أفلح ـ رضي الله عنهما ـ، وأكدت هذا النفي، إذ نفت مرتين، نفي ضمني مرة، ونفي صريح أخرى، والأولى تنطوي تحت جملـة القصر: (إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي المَرْأَةُ)، والثانيـة تنجلي في قولهـا: (وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ). فهذه الجملة النافية جاءت لتأكيد مفهوم الجملة القصرية، غير أنها مع ذلـك عطفت بينهما بالواو التي تفيد التغايـر، وذلك للإشارة إلى ما بينهما من فرق واضح، حيث إنه ـ على ما تظن ـ في الحالة الأولى تثبت حرمة الرضاعة، وفي الحالة الثانية لا تثبت، فتثبت أحكام الرضاعة من جهة المرأة، ولا تثبت من جهة الرجل.

ثم كـأن في تعبيرها بأسلوب القصر شيئا من التعجب، تتعجب من ثبوت الحرمـة من جهـة الرجـل وتستغرب. قـال الباجي ـ رحمـه الله تعالى ـ: «وقولهـا (يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل) على معنى التثبت وإبداء كل شبهة في النفس يعرض فيها، لأنها أعلمته بما لم يكن عنده من ذلك»([24]). 

وقال السبكي ـ رحمه الله تعالى ـ في ذلك: «وهذا استغراب من السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ، واستبعاد أن يكون الرضاع مؤثرا من جهة زوج المرضعة»([25]). 

هكـذا أظهرت السيدة عائشة ـ رضي الله عنهـا ـ بكل وسائلها ما يتردد في ذهنها من شك أو إنكـار حـول ثبوت أحكام الرضاعـة من جهة الرجل أو عدم ثبوتها.

ونظرا لكل هـذه التأكيدات من قبل السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ، رد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها، وأزال شكها وإنكارها أيضا بأسلوب مؤكد مؤثر، فأكد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها مـرة أخـرى أن الحرمة ثابتة، وأن أفلح ـ رضي الله عنه ـ عمهـا من الرضاعة، وأمرها بإدخالها: (إِنَّهُ عَمُّكِ، فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ)، أو حثهـا على ذلك: (تَرِبَتْ يَدَاكِ أَوْ يَمِينُكِ). قال الطيبي ـ رحمه الله تعالى ـ في قولـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (تَرِبَتْ يَدَاكِ أَوْ يَمِينُكِ) إن «هـذا وأمثالـه وإن كان دعاء في أصلـه، إلا أن العرب تستعملهـا لمعـان أخر كالمعاتبـة والإنكار والتعجب وتعظيم الأمـر والحـث على الشيء، وهـو المراد به هاهنا»([26]). وقال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «والأصح الأقوى الذى عليه المحققون في معناه أنها كلمـة أصلهـا: افتقرت، ولكن العرب اعتادت استعماله غير قاصدة حقيقـة معناهـا الأصلي، فيذكرون: تربت يداك وقاتلـه الله ما أشجعـه ولا أم له ولا أب لك وثكلته أمه وويل أمه، وما أشبه هذا من ألفاظهم، يقولونها عند إنكار الشيء أو الزجـر عنـه أو الذم عليه أو استعظامـه أو الحث عليه أو الإعجاب به، والله أعلم»([27]). 

وبهذا أزال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يتردد في ذهنها من الشك والإنكار، فهي «تحققتأن ما اعترض في نفسها من الشبهة ليس بشيء، ولا يتعلق به حكم، وثبت بذلك أن تحريم الرضاع يتعلق بِجَنْبَةِ([28])زوج المرضعـة كما يتعلق بجنبـة المرضعـة»([29]). وبهذا البيان تمسك الجمهور، وذهبوا إلى أن أحكام الرضاعة تثبت من جهة الرجل كما تثبت من جهـة المرأة، لأن سبب اللبن هو مـاء الرجل والمرأة معًا، فوجب أن يكون الرضاع منهما([30]). 

والقصر هنا وقع بين أجزاء الجملة الفعلية، فقصر الفعل الواقع على المفعول بـه (أرضعتني) على فاعل الفعـل (المرأة)، وهو قصـر صفة على موصوف، قصر الصفة (الإرضاع) على الموصوف (المرأة). وهذا قصر إضافي للقلب، حيث أثبتت صفة الإرضاع للمرأة، ونفيت عن الرجل، كما تدل على ذلك الجملةُ المؤكدة التي جاءت بعد القصر. هـذا، وقد جاء قصر القلب مع أن المخاطب لم يكن يعتقد أن الذي أرضعها هو رجـل، حتى يقلب ذلـك الاعتقاد الخاطئ، وذلك أن وجهة نظر السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قبـل تصحيح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها مبنيّةٌ على أن حكم الرضاع مقصور على المرأة، فالحرمة ثابتة للمرأة فقط، لأن اللبن منها، وبهذاكأنها تظن أن من يرى ثبوت الحرمـة من جهة الرجل، فكأنه قد توهم أن الرجل هو الذي أرضع، فسارعت إلى قلب هذا الوهم فيما تظن، وبهذا أظهرت ما في نفسها من تعجب واستغراب لثبوت الحرمة من جهة الرجل.  

هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام تصحيح الموقف وبيان الحكم، فأكـد الموقف المخالف وقـدم لـه نوعـا من التعليل، مما أحوجت إلى بيان واضح ومؤكد من قبـل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فصحح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الموقـف من قبل السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ، والمصرة عليه، وبين الحكم الصحيح في ذلك بأسلوب مؤكد، وبذلك علّم الأمة هذا الحكم الذي كأن فيه نوعا من الخفاء بالنسبة إلى عامة الناس، غير أنه بعـد هـذا الحوار الهـادف بين سيـد المرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ، أصبح واضحًا جليًا لا خفاء فيه. وهكذا حقق الحديث الشريف مقصده بأسلوبه الحكيم، وكما ورد «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»([31]).

وقد وُفّقت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ في اختيارها (إنما) طريقا للتعبير عن هذا القصر، فإن هذا الطريق هو الأليق بهذا المقام، ولا يناسب استخدام غيره من الطرق في هذا المقام بديلًا عنه، لأن مفهوم القصر هنا أمر بدهي لا يجهله أحد،وهو حصول الرضاعة من جهة المرأة. وإنما ذكرته السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ بأسلوب القصر تعليلًا لموقفها وتأكيدًا له كما وقفنا عنده في أثناء التحليل السابق.وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الطريق لما فيه من خصائص الرقة والخفة يناسب هذا الموقف، موقف الحوار مع أشرف خلق الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما عرفنا مما سبق.

*  *  *

روى ابن ماجه بسنده عَنْ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، يَقُولُ: «إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ المُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلَا آذَنُ لَهُمْ، ثُمَّ لَا آذَنُ لَهُمْ، ثُمَّ لَا آذَنُ لَهُمْ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي، يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا، وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا»([32]). 

* مقصود الحديث:

الحديث يهدف لبيان أن للرجـل الذبّ عن قريبـه للغيرة المحمودة وطلب الإنصاف له([33]).

* عناصر بناء الحديث:

ولتحقيق هـذا المقصد ورد الحديث الشريف بمجموعـة من الجمل يمكن تقسيمها إلى عنصرين رئيسيين: العنصر الأول: نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليا ـ رضي الله عنه ـ عن أن يجمع بين فاطمة وبنت أبي جهل ـ رضي الله عنهما ـ (إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ المُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلَا آذَنُ لَهُمْ، ثُمَّ لَا آذَنُ لَهُمْ، ثُمَّ لَا آذَنُ لَهُمْ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ عَلِيُّ بْـنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّـقَ ابْنَتِي وَيَنْكِـحَ ابْنَتَهُـمْ.)؛ والعنصر الثاني: تعليل لهذا النهي (فَإِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي، يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا، وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا.).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

وقـع أسلوب القصر بإنما في الحديث الشريف موقـع التعليـل، حيث إنـه مسبـوق بالنهـي الضمني عن جمع عليّ ـ رضي الله عنه ـ بين فاطمة وبين بنت أبي جهل ـ رضي الله عنهما ـ، وذلك عندما سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن عليا ـ رضي الله عنه ـ خطب بنت أبي جهـل، رفـض هـذا الزواج، ورفض الإذن لبني هشام بن المغيرة في ذلك([34]). أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رفضه أو نفيه هنا من خلال التكرير: (فَلَا آذَنُ لَهُمْ،

ثُمَّ لَا آذَنُ لَهُمْ، ثُمَّ لَا آذَنُ لَهُمْ). وهذا التكرير نوع من أنواع الإطناب،([35])وجاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا لزيادة تأكيد رفضه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الزواج. وإدخال لفظ (ثم) يفيد أن قوة الرفض تزداد مرة بعد مرة، كما يقول الناصح للمنصوح: «أقول لك، ثم أقول لك: لا تفعل» زيادة تأكيد للردع والإنذار، ودلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وأشد([36]). ففيه تنزيل لبعد المرتبـة منزلـة بعـد الزمان، ولكون اللاحق أبلغ وأشد من السابق نزل منزلة المغايرة فعطف، وإلا فالمؤكد لا يعطف على المؤكد لما بينهما من شدة الاتصال. قال الكرماني ـ رحمه الله تعالى ـ: «فإن قلت: لا بد في العطف من المغايرة بين المعطوفين، قلت: الثاني مغاير للأول باعتبار أن فيه تأكيدا ليس في الأول»([37]). وفي هـذا التكرير بالإضافة إلى التأكيد المذكور إشارة إلى تأبيد مـدة منع الإذن، وكأنه أراد رفـع المجاز لاحتمال أن يحمل النفي على مدة بعينها، فقال (ثم لا آذن)، أي: ولو مضت المدة المفروضة تقديرا لا آذن بعدها ثم كذلك أبدا([38]). 

وبعد هذا الرفض المؤكد البليغ، علل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك، فيقول: (فَإِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي، يَرِيبُنِي مَا رَابَهَـا، وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا.) مؤكدا لتعليله بأسلوب القصر، وموضحا له من خلال التشبيه البليغ، ثم زاد بيانا بالجملتين الفعليتين.

وقع القصر هنا بين أجزاء الجملة الاسمية، حيث قصر المبتدأ الضمير العائد إلى فاطمة ـ رضي الله عنها ـ على خبره (بَضْعَةٌ مِنِّي)، وبعبارة أخرى وقع بين طرفي التشبيه، قصر المشبه على المشبه به.

والبَضْعة بالفتح: القطعـة من اللحـم، وقد تكسر، قوله (هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي) أي: أنها جزء منّي، بناء على التشبيه، كما أن القطعة جزء من اللحم، هكذا جاء في النهاية ولسان العـرب([39])، كـأن هـذا يشير إلى أن في الحديث شبـه كـون فاطمـة ـ رضي الله عنها ـ جـزءا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بكون القطعـة جزءا من اللحم. ومثله قال بعض الشراح([40]). 

غير أن الظاهر ـ كما يبدو لى ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شبه فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بقطعـة لحـم من جسمه الكريم، بجامع أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتأذى بما أصيب كل منهما من أذى، فهـو ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتأذى بأي شـيء يؤذى فاطمـة ـ رضـي الله عنهـا ـ كما يتأذى بما أصاب أي جزء من جسمه من أذى. وقد وضّح ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الوجه في الجملتين الفعليتين: (يَرِيبُنِي مَا رَابَهَـا، وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَـا). هـذا هـو مـا وضـح من سياق الحديث.

وعلى هذا قصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المشبه على المشبه به المذكور، ونفى غيره مبالغة في تأكيد هذا التشبيه، ثم زاد تأكيدا لوضوح هذا التشبيه من خلال أداء القصر بطريق (إنما) خاصة. وهذا القصر قصر موصوف على صفة، لأن المشبه به كالصفة للمشبه، فأثبت للمشبه فاطمة ـ رضي الله عنها ـ صفة شبهها قطعة لحم من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ونفى عنها غيرها من الصفات على سبيل المبالغة، فهو قصر حقيقي مبني على المبالغة، لمبالغة هذا التشبيه، وتأكيد مدى حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها ـ رضي الله عنها ـ، وبيان فضلها ومنزلتها ـ رضي الله عنها ـ عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

وكـل هذه التأكيدات وتلـك التوضيحات لتأكيد التعليل لرفضـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزواج عليّ ـ رضي الله عنه ـ على فاطمـة ـ رضي الله عنها ـ، وكيف لا يذبّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمّن هي أحب بناته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأكرمهن عنده!

وقـد علـل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رفضـه بعلتين: الأولى: أن الجمـع يـؤذي فاطمـة ـ رضي الله عنها ـ، فيتأذى حينئذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيهلك من أذاها، فنهى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلـك لكمال شفقتـه على علي وفاطمـة ـ رضي الله عنهما ـ . والثانية: خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة([41]). 

هكـذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنـا في مقام الرفض للشيء، والذبّ عن الشيء، فعلل وقوى الرفض، وأكد عزيمة الذب. وفي الوقت نفسه علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خلال قولـه وفعله أن لكـل واحـد الذب عن قريبه للغيرة المحمودة وطلب الإنصاف له.

ومن خلال التحليل الذي مضى تبين لنا أن استخدام (إنما) هو الأليق بهذا المقام، لأن القصر هنـا جـاء لتعليل الحكم، والشيء المعلَّل به ينبغي أن يكون من الأمور الواضحة المعلومة. فهنا تشير (إنما) إلى هذا الوضوح، ولو استخدم غيرها من طرق القصر مثـل (النفي والاستثناء) لاختفى هـذا الوضوح. ثم الأمر بذاته واضح لا ينكر، فالصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ يعرفون جيدا منزلة فاطمة ـ رضي الله عنها ـ عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وإنما أورد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الحقيقة هنا بأسلوب القصر على سبيل التنبيـه والتذكـير لهـم، تعليلا لذبّـه عنهـا، ورفضـه زواج عليّ ـ رضي الله عنه ـ عليها.

*  *  *

روى ابـن ماجـه بسنده عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَـلٍ، قَـالَ: قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لَا تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا إِلَّا قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ الحُورِ العِينِ: لَا تُؤْذِيهِ، قَاتَلَكِ الله! فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكِ دَخِيلٌ أَوْشَكَ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا»([42]). 

* مقصود الحديث:

الحديث يهدف للنهي عن المنكر وهو إيذاء المرأة لزوجها.

* عناصر بناء الحديث:

ولتحقيق هـذا المقصد ورد الحديث الشريف بجملـة طويلة مركبة، وهذه الجملـة أساسًا جملة قصرية قصر فيها الفعل الصادر من فاعله والواقع على مفعوله (تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا) على الحال (قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ الحُورِ العِينِ: لَا تُؤْذِيهِ، قَاتَلَكِ الله! فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكِ دَخِيلٌ أَوْشَكَ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا). 

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

ورد أسلوب القصر بإنما في قول الحور العين الذي هو الحال المقصور عليه في الحديث، ووقع موقع التعليل لنهي الحور العين المرأة عن إيذاء الزوج، حيث إن الحديث جاء بجملة قصرية قصر فيها صاحب الحال على الحال، فقصر المرأة التي تؤذي زوجها في أحوالهـا المختلفـة عند إيذائها لزوجها على حال واحدة هي أنها مدعو عليها ومحذر لها من قبل الحور العين: (قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ الحُورِ العِينِ: لَا تُؤْذِيهِ،قَاتَلَكِ الله! فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكِ دَخِيلٌ أَوْشَكَ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا.) وأكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها لزوم هذه الحال لصاحبها، كأنها جزاء ملازم بالإيذاء. قال سعد الدين التفتازاني ـ رحمه الله تعالى ـ: «وكثيرا ما يقع الحال بعد (إلا) ماضيًا مجردًا عن (قد) و(الواو)، نحو: ما أتيته إلا أتاني. وفي الحديث: (مَا أَيِسَ الشَّيْطَانُ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا أَتَاهُمْ مِنْ قِبَلَ النِّسَاءِ)([43])، وذلك لأنه قصد لزوم تعقيب مضمون ما بعد (إلا) لما قبلها، فأشبه الشرط والجزاء»([44]). فمراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذا القصر هو التحذير من إيذاء المرأة لزوجها.

 وهذا القصر قصر موصوف على صفـة، قصر المرأة التي تؤذي زوجها في أحوالها المختلفة عند إيذائها لزوجها على حال واحدة هي أنها مدعو عليها ومحذر لها من قبل الحور العين، فأثبت لها هذه الصفة، ونفى غيرها من الصفات على سبيل القصر الحقيقي المبني على المبالغـة، تحذيرا من إيذاء المرأة لزوجها. وهذا المقصور عليه الذي هو الصفة التي عبارة عن حال سيئة لمن تؤذي زوجها، ولا تطيعه، هو كجزاء إيذائها. وهذه الحال أو الجزاء تتمثل في أنها مدعو عليها ومحذر لها من قبل الحور العين اللائي هن زوجات زوجها في الجنة.

وقد أورد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الدعاء وذلك التحذير على لسـان الحور العين تأكيدا لتحققهما، مبالغة في تنفير المرأة من إيذاء الزوج. وقول الحور العين يتكون من ثلاثة عناصر: العنصر الأول: نهي صريح عن إيذاء المرأة لزوجها (لَا تُؤْذِيهِ)؛ والعنصر الثاني: دعـاء على المؤذيـة (قَاتَلَـكِ الله) تأكيـدا للنهي السابـق، وتنفيرا للمخاطبة عن المنهي عنـه، قال البكري ـ رحمه الله تعالى ـ: «جملة دعائية، والمراد من المفاعلـة فيـه أصل الفعل، وعبر بها للمبالغـة وأنها لما فعلت ذلك وتعرضت لعقوبة الله صارت كالمقاتلة له ـ تعالى ـ، فعبر بذلك».([45])؛ والعنصر الثالث: تعليل للنهي (فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكِ دَخِيلٌ أَوْشَكَ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا).

ورد أسلوب القصر بإنما في هذا العنصر الأخير من قول الحور العين، ووقع موقـع التعليـل للنهي عن إيذاء المرأة لزوجها (فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكِ دَخِيلٌ)، قال ابن منظور ـ رحمه الله تعالى ـ: «والدَّخِيل: الضيف لدخوله على المَضيف. وفي حديث معـاذ وذكـرِ الحُور العِـين: (لا تُؤذِيـه فإِنما هو دَخِيـلٌ عنـدكِ)، الدَّخِيل الضيف والنَّزيل»([46]). 

فهنا شبه الزوج عند المرأة في الدنيا بضيف عابر بجامع قصر مدة الإقامة. قال الطيبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «قوله (دخيل) هو الضيف والنزيل، يريد أنه كالضيف والنزيـل عليـك، وأنت لست بأهـل لـه على الحقيقـة، لأنـه يفارقك عن قريب، ولا تلتحقين به كرامة له»([47]). 

وقال البكري ـ رحمه الله تعالى ـ: «أي: ضيف ونزيل، وعبرت بذلك لأن مدة المقام بالدنيا وإن طالت فهي يسيرة بالنظر إلى الآخرة التي لا أمد لها، فعبرت بما يعبر به عن قصير الإقامة وهو الضيف»([48]). 

ثم قصر المشبه على المشبه به المذكور، ونفى غيره مبالغة في تأكيد هذا التشبيه، ثم زاد تأكيدا لوضوح هذا التشبيه من خلال أداء القصر بطريق (إنما) خاصة. وكل هذه التأكيدات وتلك التوضيحات لتأكيد التعليل للنهي عن إيذاء الزوج تنفيرا من الإيذاء وترغيبـا في الإحسان. «فإن المرأة إذا آذت الزوج الصالح غضب الله والملائكة وأهل الجنة، والكل يلعنها ولا شك لأنه دخيل عليها وعارية عندها، فكان من الحـق مراعاته لقصر مدة الصحبة وما يلزم من حسن العشرة، فإذا آذته استمرت عليها اللعنة، ولم تعد من الملائكـة ولا من أهـل الجنـة تقريبا، ولعذاب الآخرة أشد وأشقى»([49]). 

هكذا أكـد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث على ضرورة المعاشرة بالمعـروف بين الزوجين، وأنذر الزوجـات المؤذيـات بعذاب شديد، وذلـك نظرا لأهمية حسن المعاشرة بين الزوجين، فإنه هو أساس استقرار حياة الأسرة، أساس استقرار حياة المجتمع والأمة وازدهارها وسعادتها، ولعكسه خطورة بالغة على كل ذلك. فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ»([50]). 

والقصر هنا وقـع بين أجزاء الجملة الاسمية، فقصر المبتدأ (الضمير العائد إلى الزوج) على خبره (دخيل) على سبيل القصر الحقيقي المبني على المبالغة، إذ أثبتت لهذا الزوج صفـة المشابهـة للضيف، ونفيت غيرهـا من الصفات، وذلـك لتأكيد بروز هذه الصفة، فمن هو في صفة الضيف يجب أن يكرَم، وأن لا يؤذى، لأنه عابر عند من نزل عنده، وليس دائـم الإقامـة. وقد بينت هذه الإقامة القصيرة المؤقتة في الجملة اللاحقـة بجملـة القصر هـذه، فقيـل: (أَوْشَكَ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا). قال البكري ـ رحمه الله ـ: «أي: فاحسني إليه، وفي تعبيرها بالدخيل إيماء إلى ذلك، ففي الحديث الشريف: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ).»([51]).

ثم واضح مما سبق أن القصر هنا قصر موصوف على صفة، قصر الزوج على الدخيل، أي صفة المشابهة لضيف عابر لا يطول بقاؤه، فعلى من نزل عنده الحرصعلى حسن المعاملـة معـه، والإحسان إليـه، والاجتناب من أي شكل من أشكال الإيذاء، سواء أكان فعلا أو قولا.

هكذا جاء أسلوب القصر بإنما هنا في مقام التحذير والنهي عن المنكر، فعلل النهي تنفيرا للمرأة من إيذاء الزوج، وحثا لها على معاشرة الزوج بالمعروف. وبهذا كله بين لنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «أن أذية الزوجة لزوجها حرام لا تجوز بحال، إذا تعمدت ذلك، وذلك لأن حق الزوج على زوجته أن تطيعه وتديم البشر له، وتحرص على إرضائه بما يرضي الله ـ تعالى ـ، وأن تجتنب مساخِطه وكل ما يؤذيه مراعاة لحسن العشرة اللازمة بين الزوجين، لا سيما إذا كان الزوج صالحا، فإنه إذا توجهت إليه زوجته بالأذية، تغار عليه زوجته من الحور العين في الجنة، وتنتصر له داعيةً على تلك الزوجة المؤذية، مؤذنةً أنه عندها كالضيف، وذلك لقصر الدنيا وسرعة زوالها، وحقارة شأنهـا، وقلـة متاعها، وهو في حق زوجة الدنيا كذلك إلا أن زوج

الموضوعات