جاري التحميل

مواقع إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن فضل العلم والعلماء من سنن ابن ماجه

مواقع  إنما وأسرارها في أبواب الحديث عن فضل العلم والعلماء من سنن ابن ماجه

كتب عن هذا الموضوع الكاتب الصيني ماشياومينغ في كتاب ( إنما وأسرارها البلاغية في سنن ابن ماجه ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقال:

روى ابن ماجه بسنده عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَأَتَاهُ رَجُـلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! أَتَيْتُـكَ مِـنْ المَدِينَـةِ ـ مَدِينَـةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ـ لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنْ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكَ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَلَا جَـاءَ بِكَ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُـولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ الله لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًـا لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ العِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَـهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، حَتَّى الحِيتَانُ فِي المَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، إِنَّ العُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ،فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»([1]).

* مقصود الحديث:

الحديث الشريف يقصد بيان فضـل تحصيل العلم وفضل صاحبه، وتأكيد ذلك. إذ العلم تقوم به حياة الإنسان الدنيوية والأخروية، وله ولتحصيله ولصاحبه منزلة سامية في الاسـلام، لأنـه «هو السبيل لمعرفة الله ـ تعالى ـ وأسمائه وصفاته، وما فرض الله ـ تعالى ـ على عباده وما أحلّ وما حرّم... معرفـة كل هذا حقالمعرفة. فإذا حُرِم المرء العلم وصرفـه هـواه والشيطان عن طلبـه وتحصيله، بقي جاهلا، وسهل على شياطين الإنس والجن إضلاله. فبالعلم يعرف المرء ربه فيعبده ويطيعه، ويستقيـم على أمره، وبالجهل يضل ويزيغ ويعبد الشيطان»([2]). قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر: 28].

والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين وأكد للأمة في هذا الحديث الشريف فضل العلم وصاحبه حثا لهم على تحصيله وتعليمه، وترغيبًا في الاجتهاد للعلم.

* عناصر بناء الحديث:

وقـد ورد الحديث بثماني جمـل شريفة لتحقيق هذا المقصد الغالي، بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأولى منها أنه من دخل طريقًا يطلب فيه علمًا، وفقه الله ـ تعالى ـ وسهل له طريقًا موصلًا إلى الجنة رضا منه ـ سبحانه وتعالى ـ بما يصنع طالب العلم (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ الله لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ)؛ وفي الثانية والثالثة أكد هذا الفضل حيث إن الكون كله ليتجاوب في الرضى عن طالب العلم، فالملائكة الكـرام التي كرمهـا الله ـ تعالى ـ تعرف لـه قدره وتعظم حقـه، فتضـع أجنحتها وتتواضع له بالدعاء والاستغفار، بل كل من في السماوات والأرض حتى الحيتانفي البحر يتولونه ويستغفرون له (وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ العِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَـهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، حَتَّى الحِيتَـانُ فِي المَاءِ)؛ وفي الرابعـة أوضح فضل العالم على العابد من خلال التشبيه الرائع (وَإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلَى العَابِـدِ كَفَضْلِ القَمَـرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ)؛ وفي الخامسة أثبت شرفـًا عظيمًا للعلماء حيث قصر ورثة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ على العلماء خاصة (إِنَّ العُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)؛ ثم أكد في السادسة والسابعة أن الذي ورثه العلماء من الأنبياء ـ عليهـم الصلاة والسلام ـ لم يكن إلا العلم الجليل النافع، لا متاع الدنيا الفانية (إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ)؛ وفي الأخير أكد أنه من أخذ العلم الذي هو ميراث الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ، أخذ نصيبا تاما، ولا نصيب أوفر منه (فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ).

هذا وقد سبق بيان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا حوار دار بين كثير بن قيس وأبي الدرداء ـ رضي الله عنهما ـ، فيه ما فيه من دلالة واضحة على مناسبة هذا الحديث الشريف أو علو منزلته.

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

وقع أسلوب القصر بإنما المتمثل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (وإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ) في الحديث تأكيدا لإثبات أن الميراث الذي ورثه العلماء من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ هو العلم لا المال. حيث إنه قد سبق بجمل أكد فيها أولا فضل طلب العلم والعالم: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ الله لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ العِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، حَتَّى الحِيتَانُ فِي المَاءِ).

فالعلم هو طريق موصِّل إلى الجنة، لأنه سبب دخولها. قال الخطابي ـ رحمه الله تعالى ـ: «قولـه (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم) يتأول على وجوه: أحدها: أن يكون وضعها الأجنحة بمعنى التواضع والخشوع تعظيماً لحقه وتوقيراً لعلمـه، كقولـه ـ تعالى ـ: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ[الإسراء: 24]. وقيـل: وضع الجنـاح معناه الكف عن الطيران للنزول عنده، كقوله (ما من قوم يذكرون الله إلاّ حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمـة). وقيل: معناه بسط الجناح وفرشها لطالب العلم لتحمله عليها، فتبلغـه حيث يؤمّـه ويقصده من البقاع في طلبه، ومعناه المعونـة وتيسير السعي له في طلب العلم. والله أعلم. وقيل في قوله (وتستغفر له الحيتان في جوف المـاء) إن الله قـد قيض للحيتان وغيرها من أنواع الحيوان بالعلم على ألسنة العلماء أنواعاً من المنافع والمصالح والأرفاق، فهم الذين بينوا الحكم فيها فيما يحل ويحـرم منهـا، وأرشدوا إلى المصلحـة في بابها، وأوصوا بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها، فألهمها الله الاستغفار للعلماء مجازاة على حسنصنيعهم بها وشفقتهم عليها»([3]).

وقال السندي ـ رحمـه الله تعالى ـ: «(سَهَّلَ الله له) هو إما كناية عن التوفيق للخيرات في الدنيـا، أو عن إدخـال الجنـة بلا تعب في الآخـرة... قولـه (لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا) يحتمل أن يكـون على حقيقته وإن لم يشاهد، أي: لتضعها لتكون وطاء له إذا مشى، أو تكفّ أجنحتها عن الطيران وتنزل لسماع العلم. وأن يكون مجازا عن التواضع تعظيما لِحقـه ومحبةً للعلم»([4]). وفي كـل ذلـك ما لا يخفى من تأكيد لفضل العلم وفضل تحصيله.

ثم زاد بيان فضل العالم أكثـر وضوحا من خلال التشبيه الرائع حيث شبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضل العالم على العابد بفضل القمر على سائر الكواكب في نهاية النور وغاية الظهور: (وَإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَـرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ). وذلك أن الفرق بين القمر وسائر الكواكب واضح جلي يحس به كل واحد، حيثإن الكواكب لهـا ضوء ولكنـه ضعيف أمام ضـوء القمـر الذي يُنير للسائرين في الليل دروبهم، فالقمـر أفضل منها. كذلك الفرق بين العالم والعابد، فالعالم شأنه كشأن القمـر، نوره نـور العلم، يتعدى إلى غيره، حيث إنه يشتغل بالعلم ويتعلم ويعلِّم ويرشد ويوجِّه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فبعلمه يبصِّر السالكين إلى الله ـ تعالى ـ بمزالـق السـير، فيَسلَم لهـم سيرُهـم، ولا يقطع الشيطان عليهم طريقَهم. أمـا العابـد فشأنـه كشـأن الكواكب، وذلـك أن العابـد نفعـه مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره، فالذي يصلي ويكثر من الصلاة مثلا، صلاته له إذا قبلت، ولا أحد يشاركه في صلاته. قال السندي ـ رحمه الله تعالى ـ: «فإن كمال العلم كماليتعدى آثاره إلى الغـير، وكمال العبادة كـمال غـير متعـدٍ آثاره، فشابه الأول بنور القمر، والثاني بنـور سائر الكواكب»([5]) . وقد اختار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هـذا التشبيه القمر خاصة تنبيها «على أن كمال العلم ليس للعالم من ذاته، بل تلقـاه عـن النبي ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ كنور القمر، فإنه مستفاد من نور الشمس»([6])، فعلمهم ليس لهـم من ذاتهـم، بل متلقي عن خـير المعلمين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو شمس العلم والدين.

وبعـد هـذا التوضيح أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضل العلماء مرة أخرى من خلال قصر ورثة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ عليهم خاصة: (إِنَّ العُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)، فقصر ورثـة الأنبياء ـ عليهـم الصلاة والسلام ـ على العلماء من خلال استعمال ضمير الفصل، قصر الصفة على الموصوفين، فإرث تركة الأنبياء ـ عليهمالصلاة والسلام ـ ثابت للعلماء، ولا يتعداهم إلى غيرهـم. فالعلماء يتشرفون بهذا الفضل العظيم من قبل الله ـ تعالى ـ الذي يختص برحمته من يشاء من عباده.

هـذا، «والعالم المفضَّل لم يكن عاطـلًا عن العمل، ولا العابد المفضّل عليه عن العلم، بل إن علم ذلـك غالب على عملـه، وعمـل هـذا غالب على علمـه، ولذلك جُعل العلماءُ ورّاث الأنبياء الذين فازوا بالحسنيين العلم والعمل، وحازوا الفضيلتين: الكمال والتكميل، وهذا طريقـة العارفين بالله، وسبيل السائرين إلى الله»([7]). 

ثم بين النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن المـيراث الـذي يرثـه العلماء من الأنبياء ـ عليهـم الصلاة والسلام ـ هو العلم لا المال: (إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ)، وذلـك لأنـه عندما أثبت وخص العلماء بورثـة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قد يظهر التساؤل: ما الذي يرثون من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ؟ أو يتوهم أنهـم يرثون شيئا من متاع الدنيا. فرد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين أن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لم يورثوا دينـارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم. وهنـا خص الدينار والدرهـم بالذكـر، «لأنهـما أغلب أنواع متاع الدنيا»([8]). ثم تنكيرهما للتقليل، وزيادة (لا) بينهـما لـتأكيد النفـي، وإفـادة المبالغـة. إن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لم يتركوا شيئا من متاع الدنيا ليرثه الأقارب، لا كثيرًا ولا قليلًا. قال القاري ـ رحمه الله تعالى ـ: «وذلك إشارة إلى رذالة الدنيا، وأنهم لم يأخذوا منها إلا بقدر ضرورتهم، فلم يورِّثوا شيئًا منها لئلا يُتوهم أنهم كانوا يطلبون شيئـًا منهـا يورث عنهـم على أن جماعـة قالـوا: إنهم كانـوا لا يملكون مبالغة في تنزههم عنها»([9]).

وبهذا النفي مهّد لإتيان القصر إثره، لأنه من خلال هذا النفي الصريح تفهم العقول اليقظة أن الذي تركه الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ هو العلم لا متاع الدنيـا. فجـاء القصر هنـا بطريق (إنما) إثباتا لهذا المفهوم، وتأكيدا للنفي السابق. فقصر الفعـل الصادر من فاعلـه وهو توريث الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ على كونـه متعلقـا بالعلم، ونفى عنـه كونـه متعلقـًا بشيء من الدنيا. هذا القصر بمثابة تأكيد للجملة السابقة عليه وبيان له. وجملة التأكيد أو البيان وثيقة الصلة مع جملة المؤكَّد أو المبيَّن، لأنهما كشيء واحد. ولهذا لا تعطف إحداهما على الأخرى بالواو، لأن الواو تقتضي المغايرة. وبهذا السبب ترك العطف في الجملتين السابقتين على هذه الجملة القصرية، وهذا ما يسمى عند البلاغيين باسم «كمال الاتصال»([10]). ومع ذلك فقد عطفت هنا جملة القصر بالواو على ما قبلها، وفي هذا إشارة إلى فرق شاسع بين ميراث متاع الدنيا وميراث العلم. 

ثم أتبع أسلوب القصر بجملة شرطية أكد فيها فضل ذلك الميراث النبوي ميراث العلم الجليل النافـع: (فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ). فشرف عظيم للعلماء أن يوصفوا بأنهم ورثة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ، لا يرث الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ إلا العلماء، والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لا يورث عنهم شيء من المال، لأنهم لم يرسلوا لجمع المـال، وتركه لأقاربهم الوارثين، بل الميراث الذي تركـوه هو العلـم، ونعم الميراث! وميراثهم هذا واسع ومبذول لكل أحد، وليس للأقارب دون غيرهـم، ولا لأحد دون أحـد، وإنما هو لكل أحد مبذول. ومن أراد أن يحصل العلـم فالباب مفتوح، والطريق سالك، فما عليه إلا أن يقدم ويحرص على أن يحصل على نصيب من هذا الميراث الذي هو ميراث النبوة. وفي هذا ما فيه من حث لأبناء الأمـة كلهم على تحصيل العلم الذي تستقيم به حياتهم الدنيوية والأخروية. ولما كان كل مورِّث ينتقل ميراثه إلى ورثته إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده، ولم يكن بعد الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء، كانوا أحق الناس بميراثهم. فالعلماء أقرب الناس إلي الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ، فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى المورِّث. والعلماء هـم الذين يرثون مـيراث الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ، أحسن وأعظـم الميراث على الإطلاق، ويحافظون عليـه، ويعنون بـه، وينشرونـه ويبذلونه ويعملون بما فيه، ويدعون الناس إلى العمل بما فيه، هذا هو شأن العلماء الذين ورثـوا العلـم من الأنبياء ـ عليهـم الصلاة والسلام ـ، وورثـوا العمل كما يعمل الأنبياء ـ عليهـم الصلاة والسلام ـ، وورثـوا الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ، وورثوا هداية الخلق ودلالتهـم على شريعـة الله ـ عز وجل ـ . هكذا العلم أعظم ميراث تركه الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ، فمن أخـذه أخـذ بنصيب وافر كثير، ولا حظ أوفر منه. ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من آخذيه.

هذا هو سـر جعـل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العلماء ورثة الأنبياء، وسر إتيانـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقضية الإرث في بيان فضل العلـم والعلماء والحث على تحصيلـه. إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نعم المبين! ثم ما أعظم الميراث! وما أشرف الورثة! 

هكـذا دقـق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اختيار الألفـاظ والأساليب والأمثلة للتعبير عن فضل العلم والعلماء، وحث الأمة على تحصيل العلم الذي هو سبيل أهل الجنة، والاستفادة منـه والإفادة بـه. وكـل هذا نظرًا لأهمية العلم البالغة، قال معاذ بن جبـل ـ رضي الله عنـه ـ: «تعلموا العلم، فإن تعلمه حسنة، وطلبه عبادة، وبذله لأهله قربة. والعلم منار سبيل أهل الجنة، والأنيس في الوحشـة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والزين عند الأخلاء، والسلاح على الأعداء. يرفـع الله بـه قومـًا فيجعلهم قادة أئمـة، تقتفى آثارهم، وتقتدى بفعالهم. والعلم حيـاة القلب من الجهل، ومصباح الأبصار من الظلمة، وقوة الأبدان من الضعف؛ يبلغ بالعبد منازل الأخيار، والدرجات العلا في الدنيا والآخرة؛ الفكر فيه يعدل الصيام، ومذكراته القيام، وبه توصل الأرحام، ويعرفالحلال من الحرام»([11]). 

وأسلوب القصـر بإنما كما رأينا أدى في ذلـك دور التأكيـد، قصر الميراث الذي تركه الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ على العلم، والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ اختارهـم الله ـ تعالى ـ، فهـم خـير خلق الله، وتركتهم خـير ميراث، فورثتهم خير الخلق بعدهم.

وقد قصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الأسلوب الذي أكد بـه فضل العلم والعالم ميراث الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ على العلم، ونفى عنه المال الذي يتمثل غالبا في الدينار والدرهم، قصر صفة على موصوف، وهو قصر قلب يقلب فكرة من يظن أن الميراث الذي تركه الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ هو المال لا العلم، إذ من طبيعة النفوس أنه عندما يطلق لفظ التوريث يتوجه فهمها إلى متاع الدنيا أو المال غالبا، فجاء القصر هنا لنفي ذلك الظن الخاطئ، وأثبت أنه هو العلم لا المال أو غيره من متاع الدنيا الفانية.

والقصر هنا وقع بين أجزاء الجملة الفعلية، فقصر الفعل الواقع من الفاعل على مفعوله، فالمقصور هو الفعل الصادر من الفاعلين الذين عاد عليهم واو الجماعة التـي لحقت بالفعـل (وَرَّثُوا)، وهـم الأنبياء ـ عليهـم الصلاة والسلام ـ. وهذا المقصور هنـا كالصفـة إذ هـو بمعنى موروثهم، والمقصور عليـه هـو المفعول به (العلـم)، وهـو كالموصوف للمقصور، فالقصر هنـا قصر صفـة على موصوف، قصر الصفة (ميراث الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ) على الموصوف (العلم)، ونفى عنه المال على سبيل قصر القلب الذي يقصد إلى قلب الظن الخاطئ وعكسه. وفي إيثار التعبير بالفعل الماضي إشارة إلى تحقق هذا الحدث، تحقق توريث الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ للعلماء خير الميراث وهو العلم، ومن ثم قد تحقق فضل العلماء، إذ هـم خـير الورثة لخـير البرية. وفي هذا ما فيه من تعظيم فضل العلم والعلماء، وحـث الأمـة على الحرص والاجتهاد في تحصيله. وفي تعريف المقصور عليـه (العلـم) بأل الجنسية إشـارة إلى أن الـذي تركـه الأنبياء ـ عليهـم الصلاة والسلام ـ والذي هو خير الميراث كل ما يدخل في جنس العلم النافع الذي يرجع نفعه إلى المخلوقات بكل أنواعها بما يدخل فيها غير البشر من الحيوانات والنباتات وغـير ذلـك، ولهـذا تعرف للعالم الملائكـة الكرام التي كرمهـا الله ـ تعالى ـ قدره وتعظم حقـه، فتضـع أجنحتهـا وتتواضع له بالدعاء والاستغفار. بل كل من في السماوات والأرض حتى الحيتان في البحر يتولونه ويستغفرون له: (وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَـا رِضًـا لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ العِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَـهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، حَتَّى الحِيتَانُ فِي المَاءِ). هـذا فضـل كبير من الله ـ تعالى ـ للعلماء. وهو يدل على فضل العلم، وفضل أهله، وفضل مجالس العلم. هكذا كل المخلوقات الكثيرة العلوية والسفلية، السماء بما فيها من ملائكة، والأرض وما فيها من دواب وحيوانات في البر والبحر، كل هذه الكائنات سخرها الله ـ تعالى ـ، فتدعو لطالب العلم وتستغفر وتدعو له، «مجازاة على حسن صنيعه بإلهام من الله ـ تعالى ـ إياهم ذلك. وذلـك لعمـوم نفـع العلـم، فإن مصالح كل شيء ومنافعه منوطة به»([12])، وذلك أن العلم الشرعي فيه الرفق بهذه الحيوانات وهذه الدواب، وكذلك الحث على الإنفاق عليها ممن يكون مالكاً لها، فيصل إليها نفع العالم ونفع طالب العلم، لأنه يظهر الشيء الذي يعم نفعه حتى يصل إلى هذه الدواب، وهذه المخلوقات. ولذلـك قيل: «مـا من شيء من الموجودات حيها وميتها إلا وله مصلحة متعلقة بالعلم»([13]). هذا شيء جليل، وشرف عظيم، وفضل كبير من الله ـ سبحانه وتعالى ـ للمشتغل بالعلم.

ثـم هـذا الميراث للجميع، ليس كالميراث الذي تركـه الميت لأقاربه فقط. والإنسان يسعى من مشرق الأرض إلى مغربها من أجل أن يحصل على مال خلفه أبوه لـه وهو متـاع الدنيـا، فلماذا لا نسعى من مشارق الأرض ومغاربها إلى أخذ العلم الذي هو ميراث من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ . جدير بنا أن نسعى بكل ما نستطيع لأخذ العلم الموروث عن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ . فإن الإنسان الذي يمن الله عليه بالعلم فقد من الله عليه بما هو أعظم من الأموال والبنينوالزوجات والقصور والمراكب وكل شيء.

هكذا تضافر أسلوب القصر بإنما بعناصره مع ما سبقه وما لحقه من عناصر الحديث على توضيح فضل العلم والعلماء وتأكيـد ذلك، حثًا للأمة على الحرص والاجتهاد في تحصيلـه، فإن التقـدم والشـرف والكرامـة والسعادة وكل الخير في العلم.

ومما سبـق من التحليل وضح لنـا أن استخدام طريق (إنما) هو الأليق بهذا المقام، ولا يليق مجيء طريق قصر غيرها فيه، مثل طريق (النفي والاستثناء)، فإن مجيئه هنـا يجعل مضمون القصر مجهولا أو منكَرا أو مشكوكا فيه لدى المخاطب، وهو كون ميراث الأنبياء العلم. وفي الحقيقة أنه أمر واضح لا يقبل الجهل والإنكار أو الشك من المخاطبين، وذلك لأن الأنبياء لم يرسَلوا لجمع المال وتركه لأقاربهم الوارثين، وإنما جاؤوا ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، وهذا لا يتم إلا بالعلم الذي هو وسيلة هـذا الإخراج أو نوره، فالذي استعدوه لهذه المهمة العظيمة هو العلم، آتاه إياهم ربهم العليم الخبير. بالإضافـة إلى ذلك فإن جملـة القصر هنا قد مهد لهـا بما قبلهـا، حيث قـد سبق بنفي صريح، نفي فيه أن يكون ميراث الأنبياء شيئا من متـاع الدنيا (إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا)، وبهذا وضح إلى حد كبير أن ميراثهم هو العلم. وعبر عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسلوب القصر تأكيدًا لفضل العلم وشرفه، وحثًا للمخاطبين بل الأمة كلها على تحصيله.

*  *  *

روى ابن ماجه بسنده عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ بَعْضِ حُجَرِهِ، فَدَخَـلَ المَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِحَلْقَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا يَقْرَأُونَ القُرْآنَ وَيَدْعُونَ الله، وَالأُخْرَى يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كُلٌّ عَلَى خَـيْرٍ، هَؤُلَاءِ يَقْرَأُونَ القُـرْآنَ وَيَدْعُونَ الله، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ يَتَعَلَّمُونَ، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا». فَجَلَسَ مَعَهُمْ([14]). 

* مقصود الحديث:

المقصود من الحديث الشريف هو بيان فضل تعلم العلم وتعليمه وأهميتهما، والترغيب فيهما، فإن التعلـم هـو الطريق الصحيح لاكتساب العلـوم والمعارف، ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[الأنبياء: 7، النحل: 43]، ولا حـياة إلا بالعلم، والعلم لا يكون إلا بالتعلم والتعليم.

* عناصر بناء الحديث:

ورد الحديث بست جمـل شريفـة لتحقيق هـذا المقصود الغالي. وقـد سبق كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتمثل في هذه الجمل الست بقول عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ بيّن فيه مناسبة هذا الحديث الشريف وسبب وروده، حيث رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حلقتين في المسجد: حلقة يقرأ أهلها القرآن الكريم ويذكرون الله ـ تعالى ـ ويدعونه (إحدَاهمـا يَقرَأونَ القرآنَ ويدْعون الله)؛ وحلقـة يتعلمون ويعلّمـون (والأُخْرَى يَتعلّمون ويُعلِّمون). فبين النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جملـه الست أمر هاتين الحلقتين، فقدّر أولا في الأولى منها أهل الحلقتين معا إجمالا (كلٌّ على خيرٍ)، ثم فصّل ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيان شأن أهل كل حلقة على حدة، فبيّن في الجمل الثانية والثالثة والرابعة أمرَ أهل الحلقة الأولى وجزاءَهـم (هؤلاء يقرأونَ القرآنَ ويدعـون الله، فإنْ شـاءَ أَعْطاهـم، وإنْ شاء مَنَعَهم)، وفي الخامسة أوضح شـأن أهـل الحلقـة الثانيـة (وهؤلاء يتعلّمون ويعلّمون)، وفي النهاية أكد فضل الحلقة الثانية بالقول (وإنّما بُعِثْتُ مُعَلِّمًا) والفعل (فجَلَسَ معهم).

* أسلوب القصر في الحديث ـ عناصر بنائه ـ وعلاقاته بغيره من عناصر الحديث:

وقد جاء أسلوب القصر بإنما المتمثل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (وإنّما بُعِثْتُ مُعَلِّمًا) في نهايـة الحديث الشريف تأكيدًا لفضل الحلقـة الثانية، وتبعا لذلك أكد فضل تعلم العلم وتعليمه وأهميتهما، إذ فضل أهل هذه الحلقة متوقف على فضلهما. فقد سبق جملـة القصر هذه بخمس جمـل بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأولى منها إجمالا أن أهل كل من الحلقتين ثابت على عمل خير: (كلٌّ على خيرٍ)، ثم فصل القول في كل منهما على حدة، فبين أن أهل الحلقة الأولى يتعبّدون فيقرأون القرآن ويدعون الله ـ عز وجل ـ راغبين فيما عند الله، فإن شاء أعطاهم ما عنده من الثواب فضلا، وإن شاء منعهم أي إياه عدلا([15])،  إذ لا وجوب عليه ـ تعالى ـ: (هؤلاء يقرأونَ القرآنَ ويدعون الله، فإنْ شاءَ أَعْطاهم، وإنْ شاء مَنَعَهم)، هكـذا بحسب نياتهم يكون العطاء والمنع، والقبول والرد. ثم أوضح أن أهل الحلقة الثانية يشتغلون بالعلم، فيتعلمون العلم أولا، ويعلمون الجاهل ثانيا: (وهؤلاء يتعلّمون ويعلّمون). هكذا عرض لنا جانبين مختلفين ليكون مقارنة واضحة بينهما، وتبعا لذلك يظهر ما لأحدهما من فضل على الآخـر. ثم أكـد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الفضل بجملتـه الأخيرة المستعمل فيها أسلوب القصـر بإنما: (وإنّما بُعِثْتُ مُعَلِّمًا)، حيث قصر فيهـا مهمتـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على التعليـم، والقرآن الكريم قد ذكر هذه المهمة الأساسية لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصراحة، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ[الجمعة: 2].

ثم أتبـع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسلوب القصر هـذا بتأكيد فعلي لفضل أهـل هـذه الحلقة مرة أخرى، حيث جلس معهم لفضلهم، وللإشعار بأنهم منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو منهم، كما قـال الطيبي ـ رحمه الله تعالى ـ ([16]). أو «جلس ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيهم لاحتياجهم إلى التعليم منـه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما أشار إليه بقوله: (بُعِثْتُ مُعَلِّمًا)»([17]). ولعل هذا الأخير هو الأوجـه. وبهذا قـد كـرّم نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتعلِّمين والمعلِّمين، وأشعـر مـرة أخرى بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهم وهم منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ترغيبًا لهم وللأمة أجمعين في التعلّم والتعليم.

وقد قصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مهمته التي بعث بهـا على التعليم، ونفى عنها غيره على سبيـل القصر الحقيقي المبني على المبالغـة، إذ هناك مهمات أخرى بعث بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مثل أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشير ونذير وهكـذا. لكنـه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصر مهمته هنا على التعليم فقط، للإشارة إلى أهمية هـذه المهمة، وأنهـا هي أساس المهمات، وكل من التبشير والإنذار وغير ذلك مبني على أساس التعليم أولا. فلأهمية هذه المهمة وظهورها كأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث بها فقط، وكأن غيرها لا تجدر بالذكر بجانبها، كأن لم تكن أصلا.

والمراد من قصره ـ صلى الله عليه وسلم ـ مهمتـه على التعليم إشعار بأن أهل الحلقة الثانية الذين يتعلمون ويعلمون منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو منهم، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المعلِّم والمربِّي الأول للعالمين، وهـو خـير المتعلمين، علّمه الله ـ تعالى ـ بلسان جبريل ـ عليه السلام ـ؛ وهو خير المعلمين علّم العالمين أجمعين، علّمهم كل شيء، كبيرَه وصغيرَه... ففي هذا ما فيه من تشريف وتقدير لأهل هذه الحلقة، فكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: أنتم أفضل الحلقتين، غير أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصرح بذلـك، بل سلـك في ذلك سبيل التعريض، تعريض بأن أهل الحلقة الثانية أفضل من الأولى «لكونهم جامعين بين العبادتين، وهمـا الكـمال والتكميـل، فيستحقـون الفضـل علـى جهـة التبجيل»([18]). فكـأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستدل على أفضلية أهل الحلقة الثانية بأنهم يشتغلون بمهمة شريفة بعث ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها. وفي هذا مـا فيـه من الحث والتشجيع على التعلم والتعليم، لأنه ما من أحد إلا وله رغبة وشوق في أن يتشرف بهذا الشرف العظيم. هذا وفي عدم التصريح بذلك أيضًا عناية لشعور أهل الحلقة الأولى الذين يتعبدون، إذ أفضلية الثانيـة لا تدل على أن الأولى لا فضـل لهـم، وإنما تدل على أن الأولى أقـل فضلا بالمقارنـة مع الثانية، إذ نفع عمـل أهـل الأولى مقصور على أنفسهم لا يتعدى إلى غيرهم؛ أما نفـع عمـل الثانيـة متعد، فهم يستفيدون أنفسهم بالعلم، ويفيدون غيرهم به أيضًا. ولهذا قيد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصف جزاء أهل الحلقة الأولى بالمشيئة: (فإنْ شاءَ أَعْطاهم، وإنْ شاء مَنَعَهم)، وأطلق في وصف الحلقـة الثانية: (وهؤلاء يتعلّمون ويعلّمون)([19])، وحـذف ما لهم من عظيم الثواب تاركـًا المجال أمام كل واحد ليسلـك في تخيـل عظمة هذا الثواب طرقًا مختلفة حتى تشمل كل ما يمكن أن يتصوره العقل أو لا يتصوره مـن جزيل الثواب، وتنبيها «على أن إعطاء أولئك مطلوبهـم كالمتحقق»([20]). ثـم ذكـر النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدل ذلـك شرفـا عظيما لهؤلاء، فيقول: (وإنّما بُعِثْتُ مُعَلِّمًا)، وفي كل ذلك إشارة إلى بون بعيد بينهما. ومع هذا الفرق الشاسع لم يصرح بذلك مراعاة لمشاعر أهل الحلقتين، ولهذا قد أجمل القول في بداية حديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كلٌّ على خيرٍ). هكذا يكون سيدنا وحبيبنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهو خير البرية الذي بعث بمكارم الأخلاق، فقد صرح بذلك ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ»([21]). 

 واختار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طريق (إنما) خاصة للتعبير عن هذا القصر إشارة إلى أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث بمهمة التعليم، هذا أمر واضح معروف لكل واحد، وفيه مزيد من الحث على تولي كل واحد لهذه المهمة مهمة التعليم، وعلى التشرف بهذا الشرف العظيم، إذ التعليم هو الجانب الذي ينبـع عنـه كـل خير، ولا يستقيم أي جانب من جوانب الحيـاة سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو عسكرياً أو أخلاقياً إلا به. فالأمة بلا علم يوضح لها جوانب سلوكها، وبلا تربية يعرف كل فرد من أفرادها واجبه، تصبح أمـة فوضوية تصرفاتها غير متوقعة وغير منضبطة، ولكل فرد من أفرادها سلوك يخالف سلـوك الآخـر، وعادات وتصورات تختلف، فلا تكاد أمة تفلح بهذا ولا فرد منها.

ثم القصر هنا وقع بين أجزاء الجملة الفعلية، حيث قصر الفعل الماضي مع نائب فاعلـه (بُعِثْتُ) على حـال نائب الفاعل (مُعَلِّمًا)، قصر موصوف على صفة، لأنـه قصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أحواله المختلفة عندمـا بعثـه الله ـ تعالى ـ للعالمين على حال واحدة وهي التعليم. واختار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجملة الفعلية في التعبير عن هذا القصر مع استعمال الفعل الماضي للإشارة إلى تحقـق هـذا الأمر وهو بعثته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمهمـة التعليم. ثم الفعل مبني للمفعول على التعظيم، لإبراز البعثة وهي المعنية بهذه المهمة تشريفا لها، ليدل على أن هذه البعثة لم تكن إلا بمهمة التعليم. أو كان الباعث معلوم أنه الله ـ سبحانه وتعالى ـ، فلم يذكـر. ثم المقصور عليه وقع حالًا لنائب الفاعل، لإفادة الثبوت والدوام، فالتعليم مهمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، صحبته من أول بعثتـه، بل قبلهـا إلى أن ينتقـل ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جوار ربه ـ عز وجل ـ بل تمتد بعد انتقاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يـوم القيامـة، فإن هناك في كل جيل من الأجيال من يرث هذه المهمة الشريفة، إذ إن العلماء هم ورثة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ .  

وهكـذا جـاء أسلوب القصر بإنما هنـا في مقام الحث على التعلم والتعليم والترغيب فيهما، فأكد فضلهما وعرض بأفضلية أهلهما. وقد دقق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اختيـار الألفـاظ والأساليب خاصة أسلوب القصر لتحقيـق الهدف الذي يرمي إليه بهذا الحديث الشريف، فتضافر أسلوب القصر بإنما بعناصره مع غـير ذلـك من مكونات الحديث على هـذا، لتقتـدي الأمـة بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أقوالـه وأفعاله وأخلاقـه وفي كـل شيء، ويتحملوا هـذه المهمـة الشريفـة، فيتعلّمـوا ويعلّمـوا، ويقودوا العالم إلى الأفضل والأرقى.

وبالتحليل الذي مضى تبين لنـا أن استخـدام طريـق (إنما) في هـذا المقـام لتأكيد فضل العلـم وفضل تعلمـه وتعليمـه هو الأنسب، ولا يليق هنا استخدام غيرهـا من طرق القصر، لأن كون بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمهمـة التعليم أمر واضح معلوم، لا يوجد أدنى شك في ذلك من قبل المسلمين، وخاصة أصحابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وكيف يقـع ذلـك منهـم ـ رضوان الله تعالى عليهـم ـ؟! وقد علّمهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل شيء، كبيره وصغيره، شؤون إدارة الدولـة وآداب قضاء الحاجـة! وهم أنفسهم قد سألوه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كل ما يخفى عليهم من الأمور. ولو استخدم طريق (النفي والاستثناء) مثـلا بديـل (إنما) في هـذا المقـام لاختـل المعنى، فأصبح حينئذ كأن المخاطبين يجهلون مهمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه أو ينكرونها أو يشكون فيها. والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أورد كلامه مؤكدا بطريق القصر هنـا لم يكن قصده دفع هذا الجهل أو الإنكار أو الشك، وإزالته، وإنما ليذكرهم هذه الحقيقة الثابتة، حثا لهم على التعلم والتعليم، فإنهم بالتعلم والتعليم يشتغلون شغل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ويتولون مهمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فهل من شرف أكبر من ذلك؟!

 

p p  p

 

 

 

 

 



([1])   سنن ابن ماجه: كتاب المقدمة باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، حديث رقم: 223.

([2])   إهداء الديباجة شرح سنن ابن ماجه لصفاء الضوّي أحمد العدوي: ج1 ص141 ـ 142، مكتبة دار اليقين.

([3])   معالم السنن: ج4 ص183.

([4])   شرح السندي على سنن ابن ماجه: ج1 ص145 ـ 146.

([5])   المرجع السابق: ج1 ص146.

([6])   المرجع السابق: الصفحة نفسها.

([7])   شرح الطيبي على مشكـاة المصابيح المسمى بالكاشف عن حقائـق السنن للإمام الكبير شرف الدين الحسين بن عبد الله بن محمد الطيبي المتوفى سنة 743ﻫ: ج2 ص673. تحقيق ودراسة: عبد الحميد هنداوي، مكتبة نزار مصطفى الباز مكة المكرمة ـ الرياض، الطبعة الأولى 1417ﻫ ـ 1997م.

([8])   مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: ج1 ص429.

([9])   المرجع السابق: الصفحة نفسها.

([10])   كمال الاتصال بين الجملتين يكون لأمور ثلاثة: الأول: أن تكون الثانية مؤكدة للأولى؛ الثاني: أن تكون الثانية بدلا من الأولى؛ الثالث: أن تكون الثانية بيانًا للأولى. ينظر: بغية الإيضاح: ص286 وما بعدها.

([11])   العقد الفريد للفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي المتوفى سنة 328ﻫ: ج2 ص84. تحقيق: دكتور مفيـد محمـد قميحة، دار الكتب العلميـة بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى 1404ﻫ ـ 1983م.

([12])   شرح السندي على سنن ابن ماجه: ج1 ص146.

([13])   مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: ج1 ص428.

([14])   سنن ابن ماجه: كتاب المقدمة باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، حديث رقم: 229.

([15])   ينظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: ج1 ص470.

([16])   ينظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح: ج2 ص706.

([17])   مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: ج1 ص470.

([18])   مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: ج1 ص470.

([19])   ينظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح: ج2 ص706.

([20])   شرح السندي على سنن ابن ماجه: ج1 ص151.

([21])   الحديث من روايـة أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ . ينظـر: السنن البيهقـي الكبرى، كتاب الشهادات باب مكارم الأخلاق ومعاليها. حديث رقم 20782.

الموضوعات