الإدارة في مناطق ظاهر العمر
الإدارة في مناطق ظاهر العمر
كتب الأستاذ الدكتور خالد محمد صافي حول هذا الموضوع في كتابه " ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل في القرن الثاني عشر ( 1689-1775 م) والذي صدر عن دار المقتبس في بيروت سنة 1439هـ-2018 م
فقال :
تقاسم ظاهر العمر في الفترة الأولى (1705 ـ 1730م) الحكم مع إخوته وأعمامه. وكان حكمه في هذه المرحلة حكماً اسمياً صورياً. ولكن شهدت الفترة الثانيـة (1730 ـ 1754م) مرحلـة مـن تـوطيد نفـوذه وسلطتـه داخـل العائلة الزيدانيـة. وقـام بحركـة توسعيـة كبيرة أصبح بموجبها الحاكم المطلـق على كل مناطق الجليل.
وبعد أن قتل ابن عمه محمد العلي في بداية الأربعينات وضم مناطق حكمه له أصبح الزعيم الأول في الأسرة الزيدانية. وبالرغم من أن ظاهراً كان الأصغر بين إخوته إلا أنه أظهر قدرة فائقة في مجالات عديدة أهلته ليصبح حاكماً بارعاً.
وتزوج ظاهر من مجموعة من النساء ذكر ميخائيل الصباغ أن عددهن ست نساء عرف منهن امرأته الأولى وتدعى نفيسة، وهي من دمشق ولم تعقب. وتزوج من أمرأة من الناصرة فأنجبت له ابنه البكر صليبي. ثم تزوج امرأة شامية أخرى تدعى «دهقانة» فولدت له ثلاثة أولاد هم: عثمان، وسعيد وعلي. وولد لظاهر أربعة أولاد آخرون من امرأتين تزوجهن بعد ذلك وينتمين إلى بعض الأسر المتنفذة في البلاد، وهم: أحمد، وصالح، وسعد الدين وعباس، والأخير كان أصغرهم. وبذلك يكون أولاد ظاهر الذكور ثمانية. كما تزوج ظاهر بجاريتين الأولى جركسية توفيت في حياته والثانية كرجية([1]). وبينما ذكر ميخائيل الصباغ أن ظاهراً كان مذكاراً لم ينجب بنات، ذكرت مصادر أخرى أنه أنجب ابنة تزوجها ابن عمها كريم الأيوب الزيداني([2]).
واستقدم ظاهر العمر الشيخ عبد الحليم الشويكي من العلماء البارزين (نشأ في شويكة ودرس في مصر). وقد وصفه المرادي بأنه «كان فريد عصره علماً وأدباً، ولم ير في عصرنا من تلك النواحي أديب فاضل مثله. وكان له أدب وشعر نضير عديم النظير في عصرنا»([3]). وأكرمه ظاهر ورتب له معاشاً وافياً وفوض إليه أمر الفتوى في عكا وجميع البلاد الواقعـة تحت حكمـه. وجعلـه مربياً ومعلماً لأولاده يعلمهم الأداب العربيـة([4]). قـام ظاهـر بعـد استيلائـه على عكا بتنظيم الأمور الإدارية في مناطق حكمه. واستفاد من فترة الهدوء والسلام بينه وبين والي دمشق أسعد باشا العظم لتوطيد أركان حكمه وبسط النظام والأنضباط والأمن. وعندما كبر أولاده أراد ظاهر إشراكهم في الحكم، فأبقى أخاه سعداً حاكماً في دير حنا. وجعل ابنه البكر صليبي حاكماً في طبرية، وأعطى حكم شفاعمرو لابنه عثمان ثم استردها ظاهر منه لخلافات بينهما. ومنح سعيد حكم صفوريه، وأقام علياً حاكماً على صفد. أما أحمد فكان دائماً عند أخيه الأكبر صليبي، ثم حكم دير حنا بعد مقتل عمه سعد أواخر الخمسينات. وانتقل أحمد في بداية السبعينات إلى حكم جبل عجلون، وضُمت دير حنا إلى حكم علي. وجعل ظاهر أخاه يوسف حاكماً على عبلين، وبقى يحكمها حتى وفاته في جمادي الآخرة 1181ﻫ / تشرين 1767م. أما أبناؤه االباقون فكانوا صغارا ولذا لم يعهد إليهم بمهام إدارية. واتخذ ظاهر عكا عاصمة له ومركزاً إدارياً مارس من خلاله الحكم على كل الجليل. وبقى هو الحاكم العام الذي يُرجع إليه في الأمور الإدارية المهمة([5]). وأشار «ماريتي Mariti» أن ظاهراً كان يقيم في الناصرة صيفاً لمدة شهرين أو ثلاثة للاستجمام وممارسة الحكم([6]).
وحاول ظاهر ترك هيكل السلطة التقليدية في المنطقة سليماً كلما كان ذلك ممكناً، بحيث يضمن جمع الضرائب والمحافظة على القانون والنظام في المناطق التابعة له، وأشرك بعض الزعماء المحليين في السلطة، وفرض عليهم التعهد له بالولاء والإخلاص. وأصبحوا في الواقع أتباعاً له، ومارسوا السلطة باسمه. وهكذا فإن شيوخ عائلة حسين تركوا ليحكموا في ناحية سهل عكا. فبقى صالح ابن أحمد حسين حاكماً على قلعة جدين حتى وفاته في رجب 1184ﻫ/ تشرين الأول 1770م. واستخدم ظاهر شيوخ عائلة نافع وعائلات أخرى في النواحي المجاورة لصفد والجيرة طيلة فترة حكمه([7]). وعين أثناء حركته التوسعية الأخيرة في بداية السبعينات آغا مغاربته «أحمد آغا الدنكزلي» حاكماً على صيدا في تشرين الثاني 1771م. وجعل ابن عمه كريم الأيوب حاكماً على يافا وغزة والرملة([8]). وبذلك تميزت إدارة ظاهر بأنها إدارة محلية اعتمد فيها أساساً على العنصر المحلي، وشكلت عائلـة الزيادنـة وبالذات أبنـاء ظاهـر وإخوتـه وأبناء عمومته العنصر الرئيسي في الإدارة([9]). واتسم حكم ظاهر أيضاً بالقبلية، فهو يشبه الحكم القبلي من حيث تصـرف ظاهـر كزعيم عائلـي وشيخ قبيلـة([10]). وسعى ظاهر إلى إقامة إدارة مركزيـة تحـت سلطتـه حيـث كان المرجـع الأخيـر فـي السلطـة السياسية والعسكرية([11]). كما امتاز حكمه بالعدل والتسامح الديني([12]). وقد وصف «ماريتي» ذلك بقوله: «إن ظاهراً يحكم رعيته بالعدل»([13]). ووصف كرد علي ظاهر العمر بقوله: «وكان عادلاً في الرعية، وسار معهم سيرة مرضية»([14]). وأمر ظاهر حكام مناطقـه «بعدل الله والرحمـة في الرعيـة وتأميـن الطرقات»([15]). ووطـد الأمـن في مناطق حكمه، ومنع تعديات البدو على الطرق والقرى([16]). فقد أدرك أن الأمن والاستقرار هما عماد الحياة الاقتصادية والسياسية التي ينشدها، ولذلك طلب من حكام مناطقه أن يفرضوا الأمن في الطرقات. وأعلن أن كل عابر ينهب في منطقته، يغرم حاكم المنطقة من ماله مقدار ما نهب العابر([17]). وقد ذكر ميخائيل الصباغ أن المرأة إذا سافرت وعلى كفهـا الذهب لا يعترضها أحـد فـي الطـرق ولا تخاف على نفسها أمراً([18]).
وصف «فولني» إدارة ظاهر بأنها غير منتظمة([19]). ولكن «فولني» الذي قال بأنه يحكم على كل ما رآه وسمعه أثناء رحلاته حسب المعايير التي اعتاد عليها في أوروبـا، حكم علـى إدارة ظاهـر مـن خلال ذلك. ولكن هذه المقارنة ليست عادلة. فظروف المنطقة التي تحت حكم ظاهر يجب أن تقارن مع الظروف في منطقته نفسها تحت أنظمة حكم سابقه أو مع أنظمة الولايات المجاورة وليس مع تلك السائدة في أوروبا، وعندئذ سيلاحظ أن الكثير من إنجازات ظاهر كانت في الحقيقة استثنائية ولافتة للنظر. وأن ظاهراً حافظ على تلك الإنجازات، وعلى المركزية في الحكم حتى أيامه الأخيرة([20]).
([5]) ميخائيل الصباغ ـ تاريخ الشيخ ظاهر العمر، ص51، 72، 94. عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص10ظ. معمر ـ ظاهر العمر، ص 103 ـ 104. Cohen ـ Palestine ,P. 17. Mariti ـ Travels , II ,P. P. 158,159,172.
([7]) الركيني ـ جبل عامل في قرن، العرفان، مجلد 27، ج9، 1938، ص815.
Cohen ـ Palestine, P. P. 83 ـ 85.
([8]) ميخائيل الصباغ ـ تاريخ الشيخ ظاهر العمر، ص105. الشهابي ـ لبنان، ج1، ص92.
Volney ـ Travels , II , P. 114.
([9]) جودة ـ حركة الشيخ ظاهر العمر الزيداني حاكم عكا والجليل 1690 ـ 1775، المؤتمر الخامس للجنة الدولية لدراسات ماقبل الفترة العثمانية والفترة العثمانية (الولايات العربية ومصادر وثائقها في العهد العثماني )، تونس، 1984، ص147.