التنظيم المالي في عصر ظاهر العمر الزيداني
التنظيم المالي في عصر ظاهر العمر الزيداني
كتب الأستاذ الدكتور خالد محمد صافي حول هذا الموضوع في كتابه " ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل في القرن الثاني عشر ( 1689-1775 م) والذي صدر عن دار المقتبس في بيروت سنة 1439هـ-2018 م
فقال:
أبقى ظاهر على النظام المالي المتبع في باقي مناطق الدولة العثمانية، إذ شكل نظام الإلتزام الركن الأساسي في النظام المالي الذي اتبعه. وسيتم التطرق أولاً إلى نظام الالتزام المتبع ثم استعراض السياسة الضريبية لظاهر العمر.
أ ـ نظام الالتزام:
عرفت الدولة العثمانية أنظمـة مالية عديدة للجباية منها التيمار والأمانة أو الأمناء. ولكن في أواخـر القـرن السابـع عشر أصبـح نظـام الالتـزام هو الأعم استخداماً. والالتزام مشتق من الفعل التزم، ويستند على بيع ضرائب إقليم واسع لبعض الموظفين الكبار أو الزعماء المحليين. أي أن هؤلاء الملتزمين يدفعون للدولة قبل الجباية ما هو مقدر على الإقليم ثم يقومون هم بجباية الضرائب. وكانت مزايا ذلك واضحة للدولة، فهو يكفل للخزانة مبالغ محددة ويؤمن مورداً ثابتاً وعاجلا للدولة كما يسمح بإعادة النظر بشكل دوري في شروط الالتزام([1]).
وكان نظام الالتزام يسرى في الأصل لمدة سنة واحدة، ولكنه اتخذ أواخر القرن السابع عشر الميلادي شكلاً آخراً إذ صدرت أوامر الدولة في سنة 1104ﻫ/ 1685 ـ 1686م إلى ولاتها في بلاد الشام وباقي ولايات الامبراطورية بأن تكون مقاطعات الالتزام ملكا لذويها مدة حياتهم، وأنه حر في نقل ملكيتها عن طريق البيع. وعرف هذا النظام بنظام المالكانة. وإذا تُوفي ملتزم المالكانة يصبح ما يملكه منحلاً ويعرض للمزايدة العلنية. ويقدم أولاد المُتوفى على غيرهم إذا تساوت القيمة([2]). وأصبحت معظم التزامات أراضي الدولة بحلول القرن الثامن عشر تشغل مدى الحياة([3]).
ويتضمن تأجير المقاطعات من قبل الوالي (الذي أصبح المرجع الرئيسي في أمور الالتزام والجباية) جانبين، الجانب الإداري والجانب المالي. فالإداري يعني منح الوالي سلطة حكومية قوية للملتزم، الذي يصبح صاحب السلطة العليا في منطقة مقاطعته بالنيابة عن الوالي. ولـه الصلاحيـة والحريـة باتخاذ ما رغب من الخطوات التي يجدها ضرورية للحفاظ على القانون والنظام. أما الجانب المالي فيعني نقل مسؤولية جمع الضرائب في المقاطعات إلى الملتزم الذي يتعهد بتحويل هذه الضرائب إلى الوالي سنوياً([4]).
ويتم الالتزام وفق إجراءات تتمثل أولاً بإرسال طلب إلى الوالي لأخذ حق الالتزام على المقاطعة. وفي حال موافقة الوالي فإن ذلك يصبح رسمياً من قبل الوالي عن طريق قيامه بمنح الملتزم الخلعة. ويرفق مع الخلعة رسالة رسمية بالتعيين. وتصدر هذه الرسالة من استانبول ولكن الوالي يضع عليها ختمه قبل تسليمها للملتزم. ويقوم الملتزم بكتابة ضمان بالمبلغ الذي يتعهد بتقديمه عن إيجار المقاطعة. وهذا المبلغ يعرف «بمبلغ بدل التزام» وهو يشمل أموال الميري وأي ضرائب إضافية يتعهد الملتزم بها. وتحدد رسالة التعيين شروط الإلتزام بحيث يصبح ذلك اتفاقية تعاقدية. وفي حال فشل الملتزم في التزامه تلغى هذه الاتفاقية. ويقوم الملتزم بدفع المبلغ المقرر على أقساط خلال السنة المالية التي تبدأ من أذار وحتى نهايـة شباط من السنـة التالية([5]). وتـولى ظاهـر التزام مناطق أبيه سنة 1705م، واستطاع في فترة الثلاثينات والأربعينات السيطرة على مناطق الجليل، واستولى على هذه المناطق بالقوة وبوسائل أخرى ثم أرسل بطلب التزامها كسياسة أمر واقع من أجل إضفاء الشرعية على عمله. وكان طلبه يلبى في ضوء عدم قدرة والي صيدا على منع ذلك([6]).
كانت المناطق التي التزمها ظاهر في فترة حكمه الأولى 1705 ـ 1730م موزعة بين ظاهر العمر وأخويه سعد وحمزة وعمه علي الزيداني. وأثناء فترة الثلاثين والأربعين قام ظاهر بتعيين ملتزمين تحت مسؤوليته لجمع مال الإلتزام من المدن والقرى الخاضعة له، وكل قرية مسؤولة عن جمع مبلغ معين. وداخل القرية يقسم المبلغ المستحق على سكان هذه القرية من قبل شيخ القرية. وقام ظاهر بعد أن كبر أبناؤه بتعيينهم ملتزمين في مناطق حكمه إلى جانب استعانته بزعماء القوى المحلية ملتزمين لديه([7]).
ومارس التجار الفرنسيون دور الوسيط في التزام الميرى بين والي صيدا وظاهر في المراحل الأولى لحكمه، فقام أحد التجار الفرنسيين ويدعى «موسو روسو» القاطن في مدينة عكا بدفع مال الميرى عن مناطق الظاهر لمدة سبع سنوات في الفترة بين نهاية الثلاثينات وحتى منتصف الأربعينات إلى والي صيدا مقابل أخذ محاصيل تجارية من ظاهر العمر. ويبدو من المصادر الفرنسية أن هذا التاجر الفرنسي قد عمل لدى نائب القنصل الفرنسي في عكا في ذلك الوقت «جوزيف بلانك Joseph Blance» الذي تعاقد مع ظاهر العمر بتشجيع قنصل فرنسا في صيدا الذي كان له مصالح استثمارية في ذلك على دفع مال الميري عنه مقابل محاصيل القمح والقطن التي تنتج في مناطقه([8]). وعبر عبود الصباغ عن ذلك بقوله «وكان كامل مايطلع في بلاده من قطن وغلال كان يورد لهم (للفرنسيين)([9]).
وبلغ مال الميرى المستحق على نواحي صفد خلال فترة حكم ظاهر 93 ألف قرش، ويشكل نسبة 40. 6. / 0 من المبلغ الإجمالي المقرر على ولاية صيدا والبالغ 228. 871 قرش([10]). وكان ظاهر حريصاً في بداية حكمه على دفع مال الميرى المقرر إلى جانب الضرائب الإضافية التي اتخذت أسماء مختلفة، ولكن بعد أن أصبح قوياً فأنه أكتفى بدفع مال الميرى ومنع العوائد الاضافية عن والي صيدا. وحافظ على دفع الحد الأدنى المطلوب رغبة منه في الإبقاء على علاقته مع مسؤوله الإسميّ (والي صيدا) الذي لم يستطع فعل شيء لمعالجة ذلك([11]). وشهدت فتـرة حكـم ظاهـر حتـى أواخـر الستين بـعض التأخـر أحياناً في دفع مستحقات مـال الميـري بسبب أزمات ماليـة واجهتـه أو ادعـى وجودها. فقد تعرضت بلاد الشام في الفترة بين 5 ربيع الأول 1173ﻫ/ 28 تشرين الأول 1759م و 5 ـ 6 ربيع الثاني/ 26 ـ 27 تشرين الثاني إلى سلسلة من الزلازل الأرضية العنيفة التي أحدثت دماراً هائلاً لا سيما في مناطق الجليل فقتل أكثر سكان صفد ووقع قتلى وأضرار كبيرة في عكا وطبريا ودير حنا وحيفا وغيرها. وأعقب ذلك انتشار الطاعون الذي أفنى الآلاف([12]). وواجهت البلاد ضائقة مالية، فقام والي صيدا بإنقاص مال الميرى المقرر على بلاد صفد وبيروت وبلاد بشارة، وبلغت نسبة الانخفاض في مال ميرى صيدا 10. / . من مال الميرى المقرر، ولكن الباب العالي رفض أن يقر هذه المنحة مدعياً أنها تنافي وتعارض القرآن والعرف السائد. وقام بإرسال مبعوث لجمع المبلغ المستحق([13]). وصدر فرمان عن الباب العالي في أواخر محرم / بدايةأيلول 1760م أشير فيه إلى الأمراء الشهابيين وظاهر العمر باعتبارهم ملتزمين فشلوا في تسديد التزاماتهم المالية إلى الوالي في بعض الأوقات. ومع ذلك فإنه استمر تثبيتهم كملتزمين كل سنة([14]).
وأصبح ظاهر سنة 1767م مسؤولاً مالياً عن مقاطعات المتاولة في جبل عامل، وبالرغم من أن المسؤولية المالية كانت تستلزم مسؤولية إدارية فإن ظاهراً كان مدركاً لمواقف المتاولة في الاستقلال بشؤونهم، فأحجم عن أي محاولة لفرض سلطته وحكمه عليهم وتركهم يسيرّون أمورهم بأنفسهم([15]).
وتوقف ظاهر عن دفع مال الميرى عن البلاد ابتداءً من سنة 1770م التي دخل فيها في تحدي وصراع مفتوح ضد ولاة الدولة في بلاد الشام وتحالف مع علي بيك قائمقام مصر. وعندما عقد الصلح بين ظاهر العمر وبين عثمان باشا قائد الجيش العثماني في بلاد الشام في كانون الثاني 1774م طالب عثمان باشا المصري من ظاهر دفع مال الميرى المستحق عليه عن السنوات السابقة ومقداره ألف كيس. ومنحه مالكانة إيالة صيدا مقابل أربعمائة وخمسين كيساً سنوياً([16]). ولكن هذا الاتفاق لم ينفذ بسبب تلكؤ الدولة في ذلك وتتابع الأحداث التي أودت في النهاية بحياة ظاهر.
ب ـ الجهاز المالي:
تولى الجهاز الإداري الذي عينه ظاهر الأمور المالية كذلك، فكان عملهم يشمل ضبط حسابات أموال الميرى والضرائب الأخرى المستوفاة. ورأس إبراهيم الصبـاغ الجهـاز الاداري والمالـي وأصبح أمين الخزنـة الذي يضبـط الإيرادات والمصروفات. وقام بالإشراف كذلك على مصروفات ظاهر وأولاده وحريمه([17]). وروى ميخائيـل الصبـاغ بأن ظاهـراً كان يـوزع المال علـى الفقراء، فأمر لأمرأة بكيس (خمسمائة قرش)، وعندما أحضر إبراهيم الصباغ الكيس قال له ظاهر: «كل هذا كيس واحد! فقال له إبراهيم: نعم. فقال له ظاهر: يكفيها منه ربعه أو أدفع لها نصفه الآن والثاني تدفعه لها مرة ثانية. وماعدت أمر بهذا القدر لأني أعرف العدد ولا أعرف المبلغ»([18]). وبالرغم من أن الرواية لا تخلو من مبالغة إلا أنها تشير إلى تسليم ظاهر العمر الأمور المالية لإبراهيم الصباغ تسليماً تاماً. ووصف نقولا فرج سمعان العلاقة المالية بين ظاهر وإبراهيم الصباغ بقوله «ومهما كان يقول له إبراهيم يصدقه وهو كان دائماً يفهمه أن صار له عنده أكثر من سبعمائة كيس وظاهر كان يصدق ذلك»([19]). وأشار «فولني» إلى أن إبراهيم الصباغ أساء استخدام السلطة من أجل اشباع جشعه وبخله، ولم يهمل أي وسيلة حتى لو كانت ظالمة من أجل تكديس المال([20]).
ج ـ السياسة الضريبية لظاهر العمر:
1 ـ ضريبة الميري:
تقوم ضريبة الميري على ضريبة العشر التي ورثتها الدولة العثمانية عن الدول الإسلامية السابقة لها. وكانت أراضي الشام والعراق برمتها خراجية، غير أن الدولة العثمانية جعلتها باستثناء (مقر المدن وبساتين الشام المحدقة بمدينة دمشق، وقسم من بساتين حماة وطرابلس وأراضي جبل لبنان)عشرية. وأوجبت عليها العشر النظامي أي 10. / . من محصولاتها الأرضية من حبوب وخضر وثمار([21]). وهذه الأراضي عرفت بأراضي «ميرى» مختصر «الأراضي الأميرية» وعرفت كذلك بالأراضي السلطانية([22]). واستخدم نظام الالتزام في القرن السابع عشر والثامن عشر لجمع هذه الضريبة. ولكن هذه النسبة الضريبية كانت في الواقع تزيد كثيراً عما هو مقرر. فذكر ميخائيل الصباغ أن عادة البلاد في دفع الميرى كانت تقوم على إعطاء الحاكم (ظاهر العمـر) ربـع الحاصل مـن الغلة في السنة المخصبة، وخمس الحاصل في السنة غير المخصبة. فلما دخلت سنة 1743م وكانت خصبة جداً أمر جميع حكام مناطقه أن يأخذوا من الفلاحين الخمس فقط، ومنع حكام البلاد أن يأخذوا شيء من أهل البلاد زيادة على مال الميرى المقرر لهم، وأقسم بأن من سمع عنه أنه أخذ رشوة ولو نصف قرش من فلاح فلا يسأل إلى رأسه ولا تقبل منه معذرة ولو كان ولده([23]). وذكر «جب» أن الملتزم (مثل ظاهر) كان له سلطة زيادة أو إنقاص الرسوم والضرائب»([24]).
ولكن إلى أي مدى كان تطبيق ذلك من قبل أبناء ظاهر والحكام الآخرين. «ففولني» نوه بأن أبناء ظاهر رأوا في أنفسهم أبناء أمير عظيم، فأملوا في إعالة ونفقة تلائم هذا الوضع. ولذا فان مستحقاتهـم أصبحت أقل من نفقاتهـم، فظلموا واضطهدوا رعاياهـم الذين رفعوا الشكوى لظاهـر فقام بتأنيب وتوبيخ أبنائه. وذكرت المصادر اليهـودية أن يهـود صفد، تعرضوا إلى ابتزاز علي الظاهـر مما دفع العديد منهـم الى مغادرة صفد والانتقال إلى طبرية التى أبدى حاكمهـا صليبي سياسة إيجابية نحو اليهـود([25]). كما أن أهالي شفا عمرو شكوا لظاهـر من ابنه عثمان فقرر إعطاءه منطقـة أخـرى بدلاً منها([26]). وقال «ماريتي»: إن ظاهـراً أعطى التزام شفـا عمـرو لأحد الأشخاص الذي ينتمـي إلـى إحدى العائلات المسيحية الكبرى فيهـا ومنحه لقب الشيخ([27]). وأشارت المصادر المعاصرة لظاهـر إلى عدم تعسفه في جمع الضرائب من الفلاحين، فإذا انكسر مال الميري عن ظاهر أو وقع في متاعب مالية فإنه لا يتعسف على الطبقات الفقيرة لرعيته. وهو يفضل طلب مال الميري من كبار الأعيان في حاشيته عن طريق القروض الذي يقوم بدفعها عندما تتعزز موارده المالية([28]). وكان اقتراضه يتجه في الغالب إلى إبراهيم الصباغ الذي كدس ثروة طائلة. فذكر عبود الصباغ «لأن ابراهيم الصباغ كان عنده مال كثير، فإذا أن البلاد ماطلع بها مايوفى مال الميري عن الفلاحين. فكان هو يعطى مال الميري للدولة. ويكفي ظاهر بكل مايحتاحه ولايضايق على الفلاحين ولو مهما انكسر عليهم لايزفتهم (ربما لا يوبخهم أو يرهقهم أو يسجنهم) بـل كان يعطـي مـن عنده ويصبـر علـى الفلاحين لثاني سنة»([29]).
وقال كرد علي: «كانت الشكوى قليلة من إدارة ظاهر العمر، فإن ما جمعه في أربعين سنة قد جمع غيره من حكام الأقاليم مثله في مدة قليلة»([30]). ويبدو ذلك واضحاً عند مقارنة ظاهر مع عبده باشا والي حلب (1193ﻫ/ 1779م) الذي استطاع في خمسة عشر شهراً جمع أكثر من أربعة ملايين فرنك (160 ألف جنيه إنجليزي) إذ فرض الضرائب على كل تجارة حتى من نُدل المقاهي على الغلايين التي يقدمونها للزبائن([31]). كما أن الجزار الذي حكم مناطق ظاهر بعد وفاته فرض ضرائب جديدة وشاقة على البلاد لم تكن قد جرت حتى ذلك الوقت، وصار يأخذ عوائد من القرى والبلاد بأنواع شتى حتى عن التبن والدجاج([32]). وعلى الـرغم مـن السياسة الماليـة المعتدلـة لظاهر فـإن فرماناً عثمانياً صدر في 8 شعبان 1175ﻫ/ 4 آذار 1762م أعلن فيه الباب العالي أن الملتزمين في جبل الشوف وظاهر العمر يستخلصون من مقاطعاتهم أضعاف المبلغ الذي يدفعونه بدل التزام([33]). وقال «ماريتي»: «ويُشار إلى ظاهر كسيد غني»([34]). وسعى ظاهر العمر إلى تحسين الجباية المالية من خلال قيامه بفرض الأمن على الطرقات، ومنع تعديات البدو على القرى، وإلغاء العوائد التي اعتادوا فرضها على الطرقات والقرى. وساهم ذلك في ازدهار وضع الفلاح، وزاد من قدرته على دفع ضريبة الميري المقررة. كما أن تشجيع ظاهر العمر للمسلمين، والمسيحيين، واليهود بالهجرة إلى مناطقه ساعد على زيادة جباية الأموال من هذه المناطق، فحقق ظاهر العمر الربح من فائض الزيارة في جمع أموال الميري وغيرها مقارنة بمبلغ مال الميري المحدد من قبل الدولة الذي زاد زيادة طفيفة في القرن الثامن عشر([35]).
2 ـ ضرائب أخرى:
جمع ظاهر العمر ضرائب أخرى في بلاده، فكان هناك دارٌ للجمرك في عكا وأخرى فـي حيفا تفـرض الرسوم علـى السفـن القادمـة. وكانت الرسوم المفروضة على شحن البضائع المصدرة من عكا إلى أوروبا هي الرسوم نفسها المتبعة في باقي أنحاء بلاد الشام. ولتشجيع التجارة فإن ظاهراً قام بخفض رسوم الجمارك. وكان موظف الجمرك الذي أطلق عليه «ماريتي» لقب آغا يشرف على الالتزامات المدفوعة في الميناء. وكانت سلطته تمتد أبعد من ذلك إذ كانت لديه السلطة بطرد من يخالف القوانيين. ويدفع الزائرون القادمون عبر الميناء رسوماً مالية له([36]).
وكان الذميون في مناطق ظاهر يدفعون مال الجزية، وتفرض هذه الضريبة على الرجال القادرين ويعفي منها النساء والقاصرين والعبيد والمجانين والفقراء. وكانت هذه الضريبة تجبى مع الميري وتذهب إلى والي صيدا([37]). وبلغت قيمة هذه الضريبة خمسة قروش عن الشخص ولم يحدث ظاهر أي زيادة في الجزية المدفوعة. فكانت قيمتها مثل باقي مناطق الامبراطورية العثمانية([38]). وتم في حيفا جباية ضريبة من الغرباء الراغبين في زيارة جبل الكرمل قدر «ماريتي» قيمتها بخمس ليرات (Pauls) ايطالية. وأُعفي من هذه الضريبة الأوروبيون المقيمون في حيفا. وقدم ظاهر العمر الحماية لرهبان جبل الكرمل مقابل ضريبة صغيرة تسلم له سنوياً في احتفال يقام لذلك([39]).
وعانت مناطق ظاهر بعض الأزمات المالية خلال فترة حكمه. فشهدت البلاد أزمة مالية سنة 1759م بسبب سلسلة الزلازل التي أصابت البلاد. واشتدت الأزمات المالية في بداية السبعينات نتيجة الحروب التي خاضها ظاهر العمر وحلفاؤه ضد ولاة الدولة العثمانية والشهابيين وأولاده([40]). وساهمت أسباب أخرى في إحداث ذلك، ففي سنة 1773 ـ 1774م حدثت أزمة مالية حادة بسبب قيام محمد بك أبي الذهب حاكم مصر بإلغاء النقود المعدنية التي ضربها علي بك الكبير. إذ بالرغم من إلغائها فقد استمر العمل بها في مناطق ظاهر بعد أن فقدت نصف قيمتها. وحاول ظاهر العمر تشجيع التجار الفرنسيين على عدم رفضها مما شجع المضاربة، وتم تهريب ثمانية آلاف كيس من مصر إلى عكا([41]). وازدادت الأوضاع سوءاً بقدوم أبي الذهب لغزو البلاد في أيار 1775م وإلحاقه الدمار بمناطق ظاهر، وسبَّب ذلك ارتفاعاً حاداً في الأسعار وهجرة السكان لقراهم ومدنهم([42]).
([1]) ليلى الصباغ ـ المجتمع العربي السوري، ص37. الدوري ـ مقدمة في التاريخ، ص119. جب، وبوون ـ المجتمع الإسلامي، ج2، ص88. مانتران ـ تاريخ الدولة العثمانية، ج1، ص543.
([6]) ميخائيل الصباغ ـ تاريخ الشيخ ظاهر العمر، ص35. عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص9ظ ـ 9ب. ـ Travels , II , P. 95. Volney