جاري التحميل

الزراعة في عصر ظاهر العمر الزيداني

الموضوعات

الزراعة في عصر ظاهر العمر الزيداني

كتب الأستاذ الدكتور خالد محمد صافي حول هذا الموضوع في كتابه " ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل في القرن الثاني عشر ( 1689-1775 م) والذي صدر عن دار المقتبس في بيروت سنة   1439هـ-2018 م

فقال:

 

سلك ظاهر العمر طريقاً يخالف نموذج السلب والغزو البدوي، وعمل على جعل سلطته ثابتة ومستقرة ولذلك سعى إلى تأسيسها على ازدهار اقتصادي([1])، وأبدى اهتماماً كبيراً بالزراعة، واعتبر أن نهوض الزراعة يعني نهوض اقتصاد البلاد الذي يعتمد عليها بالدرجة الأولى، ولذلك اتخذ الخطوات الضرورية لإنعاش الأوضاع الزراعية في مناطق حكمه.

أ ـ الخطوات التي اتخذها ظاهر العمر لإنعاش الزراعة:

1 ـ كانت غـارات البـدو علـى الأراضي الزراعيـة وتعسُّفهم على الفلاح خطراً ماثلاً، وجعل ذلك مناطق جنوب غرب بلاد الشام من أشد المناطق خراباً فيها، وأصبحت غارات البدو بسبب ضعف السلطة المركزية أشد جرآة، وأوفر عدداً مما اضطر مدناً وقرى إلى دفع المال للقبائل البدوية المجاورة مقابل حمايتها أو وقف هجمات هذه القبائل عليها في محاولة لتأمين محصولاتها ومواشيها. كما اضطر الفلاحون في المناطق المهددة بهجمات البدو إلى بذر البذور والبنادق في أيديهم، وجني المحصول قبل اكتمال نضجه وإخفائه في مخابيء تحت الأرض([2]). وقال «فولني» حول ذلك: «إن تعديات البدو جعلت بينهم وبين الفلاحين تباعداً تستحكم معه العداوة»([3]). فسعى ظاهر العمر أمام هذا الواقع إلى توطيد الأمن والنظام في مناطقه، ومنع العوائد التي يفرضها البدو على القرى. وقاوم بشدة قطعهم للطرق وحملاتهم على القرى، وأبعد القبائل البدوية من سهل عكا والمناطق المجاورة للمدينة، كما منعهم من الإقتراب من الطرق الرئيسة. وقد ساهم ذلك في شعور الفلاحين بالأمان مما دفعهم إلى المكوث في حقولهم وفلاحتهـا دون خـوف([4]). وأدى استتباب الأمـن إلـى عـودة الفلاحين الذين هجروا أراضيهم خوفاً من هجمات البدو([5]).

2 ـ شجع ظاهر الهجرة إلى بلاده، فهو لم يكتف بأعداد الذين قدموا إثر علمهم بتوطيده للأمن في مناطق حكمه و التسامح الديني الذي اتسم به بل وجه دعوات لليهود والمسيحيين والمسلمين داخل بلاده وخارجها للقدوم إلى مناطق حكمه. فقدمت إلى البلاد جاليات يهودية وقبرصية إضافة للأعداد الكبيرة التي قدمت من المسلمين والمسيحيين من مناطق بلاد الشام([6]). وعبر فولني عن ذلك بقوله: «لجأ المزارعون المسلمون والمسيحيون من كل مكان يتعرضون فيه للسلب والنهب والمضايقة إلى مناطق ظاهر بأعداد كبيرة»([7]) وقال كردعلي: «فوفق (ظاهر) إلى توطيد الأمن في الأقاليم فكان المسيحيون والمسلمون يهرعون إلى أرضه من جميع أطراف الشام لينعموا فيها بالراحة والتساهل الديني»([8]). وأدى ازدياد سكان مناطق ظاهر العمر إلى إعمار القرى والمدن وفلاحة الأراضي الزراعية، وشجعهم على ذلك خصوبة أراضى الجليل وكثرة مائها([9]).

3 ـ اتبع ظاهر العمر سياسة ضريبية معتدلة تجاه الفلاحين. فكانت عادة البلاد في دفع مال الميري أن يعطوا الحاكم الربع في السنة الخصبة والخمس في السنة غير الخصبة. وجاءت سنة 1743 خصبة جداً فأمر ظاهر العمر حكام بلاده بأن يقنعوا من الفلاحين بالخمس وقال لهم: «متى أخصب الفلاح أخصبت أرضه وأخصبت البلاد كلها معه. وقد طالما ظلم الفلاحين من قبل، وكفاني غنى أن أراهم أغنياء في بلادي. فاستغنى الفلاحون في تلك السنة واغتبطوا به جداً. ومنـع حكام بـلاده من أخـذ رشوة مـن الفلاحيـن. وهددهم بالقتـل إن فعلوا ذلك([10]). ولم يقم ظاهر بإرهاق الفلاحين أو استخدام القوة ضدهم، وفي حال انكسار مال الميري عليهم كان يؤجل أخذه إلى السنة التالية([11]). وجاءت سياسة ظاهر هذه لإدراكه أن أي ضغط على الفلاحين يدفعهم إلى إهمال أراضيهم وهجرة قراهم. ولذلك لم يُخضع فلاحي مناطقه إلى ابتزاز مفرط([12]). وعند مقارنة سياسة ظاهر بسياسة خليفته أحمد باشا الجزار نجد الفارق كبيراً، ففي عهد الجزار تعرض الفلاحون للتعسف والظلم مما أدى إلى هجرتهم من أراضيهم وهربوا من قراهم. وعند وفاة الجزار سجلـت قـرى علـى أنهـا قـرى مهجورة. وأصبح ربع الأراضي التي زرعت في عهد ظاهر مهجورة([13]). وبالتالي شكلت سياسة ظاهر نموذجاً مختلفاً عما سبقه وما تلاه. وقد وصف الرحالة «ماريتي» الذي زار مناطق ظاهر في عهده بأن الفلاحين يتمتعون بوضعٍ سارٍ مرضٍ([14]).

4 ـ أبدى ظاهر تشجيعاً كبيراً لاستغلال الأراضي الزراعية، فعهد للجالية القبرصية التي قدمت إلى بلاده هرباً من ظلم حاكم قبرص بقطعة أرض قرب أسوار عكا، ونجحوا في تحويلها إلى حدائق زاهرة، وطبقوا فيها نظام الدورة الزراعية([15]). وسعى ظاهر إلى إيجاد حلول للمستنقعات الموجودة في السهول حول مدينة عكا، تلك المستنقعات التي وصفها «فولني» بأنها مصدر أبخرة عفنة، وحشرات ضارة، وأمراض عديدة لاسيما في فصل الصيف. فأعلن ظاهر أن كل من يجفف ويزرع مستنقعاً يحق له امتلاكه([16]). واستطاع من خلال ذلك القضاء على المستنقعات العفنة وزيادة رقعة الأراضي الزراعية.

5 ـ قدم ظاهر القروض إلى الفلاحين، فأمر كل حكام بلاده أن يقرضوا الفلاحين الذين لا يستطيعون زراعة أراضيهم لعدم توافر المال اللازم، وأن يصبروا عليهم حتى تتحسن أحوالهم([17]). واستثمر إبراهيم الصباغ بعض ماله في الزراعة. فكان يشارك الفلاحين الذين لا يملكون رأس المال، ويقدم لهم المال اللازم مقابل مشاركتهم في المحصول([18]).

6 ـ جند ظاهر فرقة من المرتزقة المغاربة لتعمل على حفظ الأمن والنظام وحماية القلاع والمدن. وأراد من ذلك تفرغ أبناء البلاد للعمل الزراعي في أوقات السلم والهدوء. وعمل قدر الإمكان على تأجيل حملاته العسكرية حتى انتهاء الموسم الزراعي ليترك المجال لجنوده من الفلاحين القيام بأعباء الموسم من فلاحة الأرض وجمع المحصول([19]).

7 ـ تركت سياسة ظاهر العمر في تشجيع التجارة مردودها الإيجابي على الزراعة، فأدى الطلب المتزايد على القطن والحبوب من قبل التجار الأوروبيين ولاسيما الفرنسين إلى التوسع في زراعة هذين المحصولين([20]). وشجع ظاهر العمر زراعة القطن، ولكن المصادر لا تذكر قيامه بإرغام الفلاحين على زراعة محصول معين، فالفلاح كان حراً في اختيار الحاصلات التي يزرعها دون تدخل. ولكن الفلاحين فـي مناطـق ظاهـر استطاعـوا التكيـف مـع متغيرات السوق، وتوسعوا في زراعة المحاصيل التي تدر ربحاً نقدياً عالياً، فنجد التوسع الكبير في زراعة القطن والإقلال من زراعة الزيتون والتبغ والشعير والخضروات([21]).

أدت سياسة ظاهر إلى نهضة وانتعاش زراعي واسع النطاق في منطقة الجليل، فتحولت السهول والجبال إلى حدائق وبساتين تزخر بأنواع عديدة من المنتجات الزراعية، وشهدت مناطق الجليل طفرة في زراعة القطن، وانتشرت حقول القمح والشعير والذرة في سهل عكا وسهل مرج بن عامر، وكثرت البساتين العامرة بأنواع مختلفة من الفواكه من اللوز، والخوخ، والمشمش، والتين وغيرها([22]). وزرعت النيلة في منطقة بيسان، والأرز في منطقة الحولة([23]). وشق الفلاحون الجداول والقنوات، وأنشأوا أحواضاً لتجميع ماء المطر في المناطق الجبلية مثل جبل طابور.

وقد وصف «ماريتي» منطقة الجليل في عهد ظاهر العمر بقوله: «في هذه اللحظة الذي انقح فيها رحلتي، فإن خيالي يحملني ثانية إلى الجليل، المنطقة المبهجة بواقعها الجميل، وخصوبة تربتها ومياه الينابيع والأنهار فيها، والطرق المظللة بالشجر البري، والخضرة الدائمة لبساتينها حتى منتصف الشتاء تجعل الشخص يقدم على الاعتقاد أن هذا البلد الساحر في ربيع دائم»([24]).

ويعتبر قول «ماريتي» هذا أفضل دليل على ازدهار الزراعة في عهد ظاهر العمر.

ب ـ تراجع الزراعة في السنوات الأخيرة لحكم ظاهر:

ظلت الزراعة مزدهرة في مناطق حكم ظاهر العمر حتى السنوات الخمس الأخيرة من حكمه (1770 ـ 1775)، ففي تلك السنوات شهدت المنطقة حروباً متلاحقة بين ظاهر العمر وحلفائه من جهة وبين جيوش الدولة العثمانية والشهابيين من جهة أخرى، وأصبحت البلاد منطقة عبور لجيوش علي بك القادمة من مصر، ومسرحاً للمعارك. فألحق ذلك اضراراً كبيرة بالزراعة. وزاد في تدهور الزراعة المعارك العديدة التي قامت بين ظاهر العمر وأولاده. فهجر كثير من الفلاحين أراضيهم مما دفع ظاهراً إلى استيراد الغلال من الخارج([25]). وانعكس تراجع التجارة في هذه الفترة سلباً على الزراعة فضعف الحافز لدى الفلاحين لزراعة أراضيهم. وقد وصف تقرير فرنسي من صيدا في عام 1773م الأوضاع في جنوب غرب بلاد الشام بأنها سيئة نتيجة الإضطرابات والحروب التي عمت المنطقة. فالفلاح أصبح جندياً، وزراعة الأرض أُهملت، وتناقصت معظم المنتجات. والقليل من القطن الذي ينتج ارتفعت أسعاره بحدة([26]). وأدى حصار ظاهر وعلي بك لمدينة يافا إلى هلاك البساتين المحيطة بها. وكان علي بك قد أمـر رجالـه بناءً علـى رجاء أهل يافـا أن يتجنبـوا إتـلاف أشجار البرتقال والليمون والرُمان ذات الشهرة العالمية، وان يكتفوا بقطف ثمارها متى شاؤوا. ولما اضطر أهل يافا إلى قطع بعضها لأنضاج خبزهم أمر علي بقطعها جميعاً حتى يحرمهم من تلك الفائدة ويدفعهم إلى التسليم([27]). وأحدث غزو محمد بك أبي الذهب لبلاد ظاهر في آذار 1775م دماراً واسعاً. فأُتلفت المزروعات وهجر سكان البلاد أراضيهم وقراهم فراراً من الموت إثر ارتكاب أبي الذهب مجزرة يافا. وترك ذلك ضرراً كبيراً على الزراعة فشهدت البلاد موجة غلاء فاحش([28]).



([1])   Lammens, H. ـ Zahir Al ـ Omar, E. I. , Vol. iv, Leyden Late, London, 1934, P. 191.

([2])   جب، وبوون ـ المجتمع الاسلامي، ج2، ص99.

([3])   فولني ـ ثلاثة أعوام، ج1، ص244.

([4])   ميخائيل الصباغ ـ تاريخ الشيخ ظاهر العمر، ص35. بازيلي ـ سوريا، ص15 ـ 22.

Mariti ـ Travels, II. P. P.137,157.

([5])   البستاني ـ الشيخ ظاهر العمر، دائرة المعارف العربية، ج11، ص403 ـ 404.

([6])   افيشار ـ طبرية مدينة الفيثارات، ص104 ـ 105. Volney ـ Travels, II, P. 98.

([7])   Volney ـ Travels, II, P. 98.

([8])   كردعلي ـ خطط، ج2، ص288.

([9])   طوطح و خوري ـ جغرافية فلسطين، ص157. Mariti ـ Travels, II, P. P. 169,181.

([10])   ميخائيل الصباغ ـ تاريخ الشيخ ظاهر العمر، ص56.

([11])   عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص14ظ.

([12])   توما ـ فلسطين، ص44. Holt ـ Egypt, P. 124.

([13])   Cohen ـ Palestine, P. P. 200 ـ 203.

([14])   Mariti ـ Travels, II, P. 158.

([15])   بازيلي ـ سوريا، ص 52. Cohen ـ Palestine, P. 131. Volney ـ Travels, II, P. 98.

([16])   Mariti ـ Travels, II, P. 99.

([17])   ميخائيل الصباغ ـ تاريخ الشيخ ظاهر العمر، ص55.

([18])   ميخائيل الصباغ ـ تاريخ ابراهيم الصباغ، ص11ب.

([19])   عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص23ب. ميخائيل الصباغ ـ تاريخ الشيخ ظاهر العمر، ص92.

([20])   عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص8ظ. عيساوي ـ التاريخ الاقتصادي، ص24، 26.

([21])   جب، وبوون ـ المجتمع الاسلامي، ج2، ص 106. عيساوي ـ التاريخ الاقتصادي، ص410، 427.

Cohen ـ Palestine, P. 269.

([22])   Mariti ـ Travels, II, P. 151 ـ 153.

([23])   جب، وبوون ـ المجتمع الاسلامي، ج2، ص105، 108.

([24])   Mariti ـ Travels, II, P. P.151, 184, 194.

([25])   ابن الصديق ـ غرائب، ص93 ـ 94. Volney ـ Travels, II, P. P. 101 133.

([26])   رافق ـ فلسطين في العهد العثماني، ص821.

([27])   رمضان ـ علي بك الكبير، ص189

([28])   ميخائيل الصباغ ـ تاريخ الشيخ ظاهر العمر، ص135، 143، 170

الموضوعات