النزاع على الحكم داخل العائلة الزيدانية
النزاع على الحكم داخل العائلة الزيدانية
كتب الأستاذ الدكتور خالد محمد صافي حول هذا الموضوع في كتابه " ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل في القرن الثاني عشر ( 1689-1775 م) والذي صدر عن دار المقتبس في بيروت سنة 1439هـ-2018 م
فقال:
استخدم ظاهر أبناءه وإخوته حكاماً على المناطق الخاضعة لحكمه. وجاءت هذه الخطوة بناءً على توقعه بأن ذلك يجعل له ميزة التحرر من الخوف من عدم الإخلاص والولاء. وقد ثبت عملياً أن ذلك خطأ سياسي وإداري وعسكري وقع فيه ظاهر([1]). فقد شهدت العلاقات بين ظاهر وأبنائه بعد عدة سنوات من تعيينهم سلسلة من الخلافات والمشاحنات كان لها عدة أسباب، ويعود السبب الرئيس إلى طمع الأبناء في حكم مناطق أوسع مما منح لهم من قبل أبيهم. وسعى كلٌ منهم إلى الحصول على أكبر نصيب ممكن([2]). وساهم في ازدياد الخلاف كون أبناء ظاهر من عدة أمهات مما أوجد جانباً من التنافس بينهم على الحكم. وكان تفضيل ظاهر لإحدى زوجاته وبالتالي لأولادها دون غيرها من أسباب ازدياد حدة الصراع([3]).
ودعم إذكاء الخصومة بين الأطراف وقوف قوى محلية إلى جانب أبناء ظاهر في ثورتهم مثل عرب الصقر، إذ إن سياسة ظاهر في تزويج أبنائه من أسر الزعماء المحليين لكسب تأييدهم قد جلب إضافة إلى الجوانب الإيجابية جوانب سلبية تمثلت في التفاف هذه الزعامات حول الأبناء الطامحين وبذلك تمزق الولاء لظاهر([4]). كما لاقت هذه التمردات دعم القوى السياسية المجاورة رغبة منها في تمزيق البيت الزيداني من الداخل من أجل القضاء عليه. فوقف والي دمشق عثمان باشا في فترة الستين إلى جانب أبناء ظاهر ضد أبيهم، ودعم ناصيف نصار زعيم المتاولة علياً وعثمان الظاهر ضد أبيهما([5]).
ورأى «فولني» و «لوكروا» أن هناك سبباً آخر للخلافات بين أبناء ظاهر وأبيهم، وهو حقدهم عليه بسبب الثقة التي أولاها لوزيره إبراهيم الصباغ الذي أساء استخدام السلطة وجيرها لصالحه. ورغب الأبناء في طرده بينما تمسك والدهم به([6]).
وبدأت أولى الخلافات بين ظاهر وأبنائه سنتي 1752 ـ 1753م، إذ تمرد عثمان على أبيه وهرب إلى والي دمشق أسعد باشا العظم الذي قام بالإصلاح بينه وبين أبيه كون العلاقة بين أسعد باشا وظاهر كانت حسنة([7]). وتميزت الخلافات في هذه الفترة بأنها كانت على نطاقً ضيق وطغت عليها شهرة ظاهر([8]). وحسد سعد العمر الأخ الأكبر لظاهـر مـا وصل إليـه أخـوه مـن نفـوذ وسلطـة، فأراد الخروج عليه في سنة 1755م، وطمع في أن يصبح شيخاً عوضاً عنه، وراسل عرب الصقر في ذلك، ولكن ظاهراً الذي علم بذلك قام بقتله.واختلفت الروايات في كيفيـة قتلـه. فأشار بعضها إلى اغتيالـه مـن قبـل ابـن أخيـه عثمان بتحريض من أبيه([9]). فيما أشارت روايات أخرى إلى سجن ظاهر له في بئر حتى مات([10]). وأشار «ماريتي» إلى أن ظاهراً قتل عمه وأخاه بسبب كونهما عقبة أمام عظمته الحالية([11]).
واستفحلت الخلافات بين ظاهر العمر وأبنائه في فترة الستينات. فثار علي في سنة 1762م على أبيه ودعمه أخوته من أمه، وقد أيد علياً كلٌ من عثمان الكرجي والي دمشق وناصيف نصار زعيم المتاولة. وانتهت هذه الثورة بالمصالحة بينهما، ومنح ظاهر علياً قرية دير القاسي([12]). وثار عثمان على أبيه سنة 1765م بسبب حقده علىالامتيازات التي نالها علي. وتلقى عثمان الدعم من دروز صفد وعرب الصقر. وتمكن ظاهر من القبض على عثمان وسجنه ستة أشهر ثم وضعه تحت الإقامـة الجبريـة، ولكن عثمان هـرب إلـى المتاولـة، حيث دعمـه الشيخ ناصيف، وشن عدة هجمات لمدة سنة تقريباً على مناطق أبيه([13]). ثم لجأ عثمان إلى جبل لبنان لدى الأمير منصور، فقام الأمير منصور الشهابي الذي كان على علاقة ود بظاهر بالإيعاز إلى شيوخ المتاولة والدروز بالإصلاح بين ظاهر وابنه في سنة 1766م([14]). وأُعيد عثمان إلى حكم شفاعمرو بعد تصالحه مع أبيه([15]). وتمرد في سنة 1767م علي وسعيد على أبيهما مطالبين بإضافة مناطق جديدة إلى حكمهما. وذُكر أن عثمان باشا الكرجي حرضهما على أبيهما. وبعد أشهر تصالح ظاهر مع أبنائه([16]). ولم يمنع ذلك من تمرد آخر لعلي في سنة 1770م. وقد ساند المتاولة ظاهر العمر في حصار ابنه علي في صفد ولم يرفع الحصار إلا بعد ورود أخبار لظاهر بإعطاء الباب العالي الإذن لعثمان باشا الكرجي بالقضاء عليه، فتصالح ظاهر مع ابنه وجمع أبناءه لمواجهة الخطر القادم([17]).
وتجددت تمردات أبناء ظاهر ضد أبيهم في سنة 1773م مطالبين بمناطق جديدة، مستغلين الهدوء الذي أعقب انتصاره على أعدائه فطالب علي بقرية دير حنا، وطالب سعيد بقريتى طرعان وحطين ووقع القتال بين ظاهر يسانده ابنه عثمان وبين علي و سعيد، وقتل فى المعركة الكنج بن عثمان برصاصة من عمه سعيد في رجب 1187ﻫ/ أيلول 1773م([18]).
وحاول ظاهر تبرير عدم إعطاء أبنائه ما يريدون من قرى ومدن، بأن جميع البلاد تفرقت بينه وبينهم مالاً ورجالاً. ولم يبق معه منها إلا القليل، وأمامه حروب يجب أن يستعد لها ويحتاج للقيام بها إلى أموالٍ كثيرة. كما أنه أراد منهم التعود على شظف العيش والابتعاد عن البذخ والترف. وكان ظاهر في معظم الأحيان يستجيب لأبنائه من أجل كسب ودهم ووقوفهم إلى جانبه([19]).
وسادت الخلافات بين ظاهر العمر وأبنائه طيلة سنة 1774م بسبب شروط الصلح التي وقعت بين ظاهر وبين عثمان باشا المصري، فاستاء أبناؤه استياءً شديداً، وزاد من ذلك أن هذه الخطوة قد اتخذت بدون مشاركتهم في اتخاذ القرار. وشعروا أنه شيء مخزٍ أن يعودوا ملتزمي ضرائب. وأن الباب العالي لم يمنح أياً منهم لقب والدهم. ولذلك تمردوا على أبيهم فذهب علي إلى الخليل وتراجع سعيد إلى نابلس وعثمان ذهب إلى عرب الصقر([20]). واشتد التنافس في هذه الفترة بين علي وعثمان على السلطة بعد وفاة الأخ الأكبر صليبي في معركة الصالحية في نيسان 1773م([21]). واستعجل الأبناء وفاة أبيهم واحتجوا بكبره في السن لوراثة الحكم منه فعلي الذي ناهز السبعين عاماً أخذ يحسد والده ويريد أن يكون سيد عكا ويخلص من الوصاية الأبوية([22]). ولذلك استيقظت مطامع علي الظاهر مع قدوم أبي الذهب للقضاء على أبيه والاستيلاء على مناطقه. وتآمر علي مع أبي الذهب وتبادل معه الرسائل. وأخذ يحرض اخوته ضد أبيهم. وأمام تخاذل الأبناء والحلفاء اضطر ظاهر إلى الهرب من عكا([23])، وكان ذلك بمثابة ذروة التفسخ في الأسرة الزيدانية بتواطؤ الأبناء مع عدو خارجي للقضاء على أبيهم. ولكن ذلك لم يمنع إعادة التفاف الأبناء وأبيهم معاً ضد الجيش البري والبحري الذي أرسلته الدولة العثمانية للقضاء على ظاهر في آب 1775م.
ويرى «كوهين» أن إحدى مميزات هذه الخلافات أنها بدت وكأن كلا الطرفين ظاهر وأبناءه قد اتبعوا مجموعة ثابتة ومحددة من القواعد، ونشبت بأقل قدر من القوة والشدة الدموية. وأن كليهما نظر إلى هذه الخلافات نظرة تسامح أكثر من كونها خلافات دموية قاتلة. وكانت هذه النزاعات تنتهي بالمصالحة والوحدة أثناء التعرض لتهديد خارجي([24]). أما «فولني» فقد وجه انتقاداً لإدارة ظاهر بسبب قيامه بتقسيم المناطق الخاضعة له بين أولاده. ورأى أن التنازلات المبكرة التي قام بها لأبنائه أدت إلى إحداث الفوضى والاضطراب بحيث منعت تحسين الزراعة، وأفقرت الموارد، وقسمت قواته العسكرية، ومهدت لسقوطه هو وحكومته([25]).