جاري التحميل

علاقة ظاهر العمر بحكام مصر

الموضوعات

التحالف بين ظاهر العمر وعلي بك الكبير

 

كتب الأستاذ الدكتور خالد محمد صافي حول هذا الموضوع في كتابه " ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل في القرن الثاني عشر ( 1689-1775 م) والذي صدر عن دار المقتبس في بيروت سنة   1439هـ-2018 م

فقال:

جاء تعيين الباب العالي لدرويش باشا على ولاية صيدا في أيلول 1770م بداية لمرحلة جديدة من صراع القوى السياسية في بلاد الشام، إذ تبع هذا التعيين إدخال اتفاقية التحالف بين ظاهر العمر وعلي بك الكبير قائمقام مصر حيز التنفيذ. وكانت السياسة العدائية التي اتبعها عثمان باشا الكرجي وإلى دمشق ضد ظاهر العمر سبباً في بحث الأخير عن تحالفات يحقق بموجبها نوعاً من توازن القوى بين الطرفين، فحالف المتاولة سنة 1767م، ثم اتجهت أنظاره إلى مصر حيث التقت أهدافه مع أهداف علي بك الكبير قائمقامها. وعلي بيك الكبير في الأصل مملـوك شركسي مـن منطقـة القفقاس، بـرز في مصـر في خدمة أستاذه إبراهيم كاخيا القازد غلي الذي عينه خزنداراً له أي المسؤول عن أمواله الخاصة. ثم تدرج في مراتب الشهرة فأصبح سنجقاً ثم شيخ بلد وأميراً للحاج. وشهدت فترة الستين صراعاً بين علي بك وبين منافسيه وأشهرهم «حسين بك كشكش» وهو شيخ بلد أنذاك. وتمكن علي بك في الفترة بين 1767 ـ 1769م من التغلب على جميع أعدائه في مصر بما في ذلك الشيخ همام شيخ قبيلة الهوارة القوية في الصعيد وذلك عن طريق القتل أو النفي. وكان قائد قوات علي بك في هذا الصراع مملوكهُ محمد بك أبو الذهب([1]).

وسيطر علي بك على مقاليد الحكم في مصر، وأصبح الحاكم الفعلي بعد أن طرد محمد باشا والي الباب العالي على مصر. ثم دس السم للوالي «كور أحمد باشا» الذي أرسله الباب العالي في أواخر ذي الحجة 1182ﻫ/ نيسان 1768م. وأخيراً طرد علي بك الوالي الجديد عثمان باشا الكلحي([2]). وتوقف عن استقبال ولاة الباب العالي إلى مصر. كما أصدر عملة نقدية جديدة ذكر عليها اسمه بجانب اسم السلطان وتوقف عن دفع مال الميري إلى الدولة([3]). وبذلك شارك علي بك السلطان في امتيازات السلطة وشعاراتها([4]). وبالرغم من أن نفوذ السلطان العثماني أصبح سطحياً في مصر، إلا أن علي بك لم يعلن انفصاله عن السلطان واستمر يتمتع بلقب شيخ بلد وقائمقام. ورفض أن يخطب له بعد السلطان في الخطبة لعدم رغبته في مشاركة السلطان بها. كما أن إبقاء اسم السلطان على قطع النقود الجديدة كان اعترافاً بتبعيته للسلطان، فقد أدرك علي بك أن انفصاله عن السلطان العثماني سيسبب له مشكلات كبيرة، فالسلطان العثماني مهما بلغ ضعفه كان يعتبر زعيم المسلمين وأى انفصال عنه أو ثورة عليه لا يمكن أن يتقبلها المسلمون بسهولة([5]).

وتختلف الروايات حول بداية اتصال ظاهر بعلي بك الكبير وكيفيته. فبعض المؤرخين يرجع بداية معرفة ظاهر بعلي بك إلى سنة 1766م عندما نفي علي بك أثنـاء صراعـه مـع منافسيه إلى غـزة سنـة 1766م. إذ قام ظاهر بإيوائه وإكرامه، واستشف نيات علي بك في أثناء إقامته عنده([6]). ولكن لا يعقل أن اتفاقاً أو تحالفاً قد عقد بينهما آنئذ لأن علي بك كان مجرد لاجئ، ولم يكن متأكداً من سيطرته في المستقبل في مصر. وعلى هذا فلم يكن في وضع يسمح له بالتأثير على ظاهر. كما أن ظاهراً لم يكن آنذاك مضطراً من الناحية العسكرية للتحالف مع لاجئ وعدو لعثمان باشا لأن ذلك سيغضب والي الشام. وقد اعتاد ظاهر وسكان غزة على رؤية البكوات الهاربين اليهم من مصر، لأن غزة والصعيد هما المكانان المفضلان للجوء الزعماء المنهزمين من القاهرة([7]).

وأرجع ميخائيل الصباغ سبب الإتصال بين علي بك وظاهر العمر إلى قيام علي بك بنفي معلم دواوين مصر (ميخائيل الجمل) بسبب رفضه مساندة علي بك أثناء هروبه ولجوئه إلى الصعيد عام 1766م. فقام علي بك بعد استرداده السلطة عام 1767م بتعيين ميخائيل فخر معلم دواوين مصر بدلاً منه. ولجأ ميخائيل الجمل إلى إبراهيم الصباغ كاتب ظاهر العمر في عكا لأنهما يتبعان نفس الطائفة الدينية (الملكيين الكاثوليك). ومكث ميخائيل الجمل فترة لم يحددها ميخائيل الصباغ مما يجعلنا لا نستطيع تحديد بداية العلاقة بين ظاهر وعلي بك. واستغل ظاهر العمر هذا الحادث فأجرى مراسلات مع علي بك ليخطب وده ويستعين به على عثمان باشا. وتوسط ظاهر العمر لميخائيل الجمل لدى علي بك، وأرسل له هدية من دروع وخيل وسيوف مع ميخائيل الجمل تعبيراً عن حبه والاخلاص له. وقد قبل علي بك الهدية، وأعاد ميخائيل الجمل إلى منصبه، وأرسل لظاهر يعرض عليه نجدته ضد عثمان باشا([8]).

أما عبود الصباغ فأشار في روايته إلى أن بداية الاتصال تمت بعد تعيين درويش باشا والياً على صيدا، وأن سبب الاتصال وكيفيته يرجع إلى إرسال ميخائيل فخر معلم دواوين مصر رسالة بأمر علي بك إلى إبراهيم الصباغ كاتب ظاهر العمر يطلب شراء دروع، ولكن ظاهراً رفض بيعها بادعاء أنه ليس تاجراً، وأنه على استعداد لإهدائها إلى علي بك، ففرح علي بك بذلك. وأرسل ظاهر خمسة وسبعين درعاً إلى علي بك وأعلمه بترحيبه بصداقته. وطلب منه السماح لأحد موفديه جلب مغاربه من مصر لمحاربة عثمان باشا. ورد عليه علي بك «أنني قد قبلت ما أرسلته بكل محبة، وذكرتم لنا بأنه حاصل لكم تعب من قبل عثمان باشا. وأنكم مرسلون رجلاً من أتباعكم لاجلما (لأجل ما) يعين مغاربة عسكر لتحاربوا بهم عثمان باشا. فأنا قد اتخذتك بمقام والدي ومن كان عدوك فهو عدوي ولازم لنا أن نبلغ جهدنا في كلما يلزم (كل ما يلزم) لصيانتك ولمعرفتنا أن عدوكم كبير. فلزم حال وصول مكتوبكم اصدرنا أمرنا الشريفة (أوامرنا الشريفة) توجه (توجيه) تجريدة إلى عندكم»([9]). ومن الصعب القول: إن الإتصال بين علي بك وظاهر العمر قد تم بعد تعيين درويش باشا على ولاية صيدا كما في رواية عبود الصباغ، إذ أن حملة إسماعيل بك التي أرسلها على بك إلى بلاد الشام قد أرسلت في تشرين الثاني 1770م بينما عُين درويش باشا في أيلول 1770م، ومدة شهرين غير كافية لإقامة اتصال وإجراء تحالف وتجهيز حملة. وأشارت التقارير القنصلية الفرنسية في مصر إلى قيام القنصل الفرنسي في مصر «داميرات D’Amirate» باصدار أمر في شباط 1770م إلى نائب القنصل في عكا بأن يدفع للشيخ ظاهر العمر عشرة آلاف قرش على حساب علي بك من اجل تجنيد قوات له. وبالتالي فإن المرجح أن بداية التحالف بينهما تعود إلى هذه الفترة([10]).

وأدت أسباب عديدة بعلي بك إلى التحالف مع ظاهر العمر، فذكرت المصادر الخلاف الشخصي بين علي بك وعثمان باشا في الحجاز أثناء قيادة كل منهما لقافلة الحاج الخاصه ببلده في سنة 1764م([11]). وازداد الخلاف بعد ذلك بتحريض عثمان باشا لأعداء علي بك في مصر ضده. وعندما هرب علي بك في أواخر رمضان 1179ﻫ/ بداية آذار 1766م إلى غزة، أمر عثمان باشا متسلمه هناك بطرده فعاد علي بك إلى الصعيد([12]). وفي شوال 1182ﻫ / شباط 1769م اشتكى علي بك إلى السلطان ضد عثمان باشا متهماً إياه بايواء المصريين الفارين وطالب بعزله. ويشير ذلك إلى اهتمام علي بك المتزايد بالأمور الشامية([13]). وربما قصد من ذلك تهيئة الأجواء لمخططاته. ولكن السبب الرئيسي لتحالف علي بك مع ظاهر العمر وإرسال حملاته إلى الشام هو سعي علي بك إلى ضم بلاد الشام إلى ملكه، بعد أن وطد نفوذه في مصر كما أورد الجبرتي بقوله: «وبعد أن خلص له الإقليم المصري من الإسكندرية إلى أسوان» أخذ علي بك يفكر في التوسع خارج مصر ليعيد مجد سلطنة المماليك التي كانت قبل قدوم العثمانيين إلى مصر، فعُرف عنه قوله لبعض خاصته: «إن ملوك مصر كانوا مثلنا مماليك الاكراد مثل السلطان بيبرس والسطان قلاوون وأولادهم… وهؤلاء العثمانية أخذوها بالتغلب ونفاق أهلها» ويشير هذا القول بما في ضميره وسريرته([14]). وفي ذلك قال عبود الصباغ: «إن علي بك كان مراده أن يأخذ بلاد الشام لحد أنطاكيه لحدود ما كانت حاكمه دولة الشراكسة بمصر»([15]).

والتقت على هذا النحو أهداف كل من ظاهر وعلي بك في القضاء على عثمان باشا الكرجي وحلفائه بحيث يضمن ذلك التفوق وتوطيد النفوذ لظاهر علي المناطق التي يسيطر عليها، وإزالة الخطر الذي يتهدده. فيما يضمن ذلك لعلي بك تحقيق أهدافه في الاستيلاء على بلاد الشام وتأمين مصر من الشرق. وفي ذلك قال محمد رفعت رمضان: «من الواضح أن عمل علي بك هذا كان مشروعاً للتوسع يرمي من ورائه إلى غرضين أساسيين. أولهما؛ تأمين أملاك حليفه ظاهر إذ هي باب مصر الشمالي الشرقي. وثانيهما: القضاء على قوة باشا دمشق وغيره من الباشوات العثمانيين الذين تحرضهم الدولة على القضاء عليه في مصر. فقام بتلك الحملات الدفاعية التي اتخذت شكلاً هجومياً لكي يقيم حول نفوذه بمصر سياج أمان دائم»([16]). وكانت الظروف مهيأة للأعمال المشتركة لعلي بك وظاهر العمر، فالدولة العثمانية منشغله في حربها مع روسيا (1768 ـ 1774م)([17]). وقال «شارلز روكس  Charless Roux» حول ذلك: «إن ظاهراً وعلي بك قد وجدا في انشغال تركيا بحربها ضد روسيا فرصة لتقوية نفوذهما»([18]) ومما شجع علي بك أيضاً ما لمسه أثناء هروبه إلى غزة سنة 1766م من سخط أهالي جنوب غرب بلاد الشام على سياسة عثمان باشا الكرجي نحوهم، وتعسفه في جمع الضرائب. هذا السخط الذي تحول إلى ثورات قامت في غزة والرملة ويافا ضد عثمان باشا الكرجي في الفترة بين 1767 ـ 1769م وتعرضت للقمع من قبله. وقد أثرت هذه الثورات في تحديد موقف السكان من الحملات المصرية على بلاد الشام([19]) فقد حاول علي بك استغلال سخط أهالي هذه المناطق وتمردهم ضد سياسة عثمان باشا الكرجي فوجه نداءاً أثناء حملته أدعى فيه أنه جاء لإنقاذهم، وذكر فيه «هذا الفرمان الشريف صدر من ديوان مصر القاهرة… علي بك أمير الحاج سابقاً وقيم مقام مصر القاهرة حالاً… إلى حضرة العلما (العلماء) العالمين والفقهاء والمفتين … والخاص والـعام مـن أهالـي دمشق الشام … قـد علمتم ما صنعه عثمان باشا في أرضكم من الظلم والجهاله … فبادرنا لسوء أعماله بالنقض … وأردنا نطهر منه تلك الأراضي نصرة للدين وغيرةً على المسلمين … وقد استفتينا المذاهب الأربعة … ووجهنا الفوارس والأبطال ليردوا الظالم ويستردوا المظالم»([20]). وليس بغريب أن ينصب الفاتح نفسه مدافعاً عن حقوق السكان المحليين ليكسب تأييدهم. ولكن هل يعقل أن يكون علي بك قد أرسل آلاف الجنود إلى الشام وتكبد كل هذه الجهود ليطرد عثمان باشا كما أدعى في بيانه؟ إن ذلك ليس سوى دعاية ليكسب إلى جانبه عطف سكان بلاد الشام المضطهدين من عثمان باشا. ولإضفاء بعض الشرعية على عمله لتلافي ظهوره بمظهر الثائر على السلطان([21]).

وعلق شيفاليه «دي توليس De Taules» قنصل فرنسا في صيدا على ذلك بقوله: «إن سلوك هذين المتمردين (ظاهر العمر وعلي بك) هو نتيجة مخطط أكثر اتساعاً. وهما يناصبان العداء كل والٍ يمكنه أن يقف حائلاً دون أطماعهما ومشاريعهما»([22]).

وقد حرص كل من علي بك وظاهر علي إبراز عمليهما وكأنه موجه ضد عثمان باشا الكرجي والي الشام وليس السلطان العثماني. وإن الخلاف هو مع عثمان باشا وليس السلطان العثماني نفسه([23]).

وأرسل ظاهـر رسالـة إلى البـاب العالـي في 2 محرم 1185ﻫ/ 17 نيسان 1771م ذكر فيها أن تحالفـه مـع علـي بـك هـو إجراء دفاعـي أُجبـر على اتخاذه لمواجهة سياسة عثمان باشا الكرجي الاستفزازية والعدائية. وأن هذا يجب ألا يفسر بأي حال على أنه تحد للسلطان([24]). وهذا يبرز حرص ظاهر علي عدم الظهور بمظهر الخارج على السلطان والداخل في صراع مفتوح معه.

اشتد تهديد عثمان باشا الكرجي لظاهر بعد تعيين ابنه درويش باشا والياً على صيدا في أيلول 1770م، وبرز واضحاً أن الصدام بين الطرفين قد أصبح وشيكاً. فقد بدا أن عثمان باشا سوف يحمي وجود ابنه باعتباره والياً على صيدا، وسيستغل ذلك لإحكام الطـوق علـى ظاهـر العمـر. فبدأ ظاهـر بتحصين عكا وحشد قواتـه وتعبئتها، وأجرى صلحاً مـع أبنائـه لمواجهـة الخطر الخارجي([25]). وأتم ظاهـر العمـر اتصالاتـه مـع علـي بـك بخصوص قدوم القوات المصرية، وانتشرت الشائعات في صيدا حـول غزو مرتقب مـن قبـل علي بك لغزه([26]). وبذلك انقسمت بلاد الشام إلى حزبين كبيرين يتنازعان السلطة والنفوذ. الأول حزب العثمانيون ورأسه عثمان باشا الكرجي وزير دمشق واتباعة باشوات الدولة في صيدا وطرابلس وكلس وحلب وبغداد والموصل وغيرها. والحزب الثاني زعيمه الشيخ ظاهر والمتاولة في جبل عامل ويناصره علي بك الكبير بمماليكه في مصر([27]). وقد سمى «دراغون Dragon» النائب التجاري الفرنسي في صيدا هذا التحالف الثلاثي بين حاكم مصر وحاكم عكا ومشايخ جبل عامل بأنه «تحالف كونفدرالي Confederation»، وذلك في رسالة منه إلى الدوق «ديو غويون Duc D, Aigullon» الوزير وسكرتير الدولة الفرنسية مؤرخة في 2 أيار 1771م([28]).

ب ـ الحملات المصرية على بلاد الشام:

انفرد الجبرتي بذكر قيام علي بك في منتصف رجب 1184ﻫ/ أوائل تشرين الثاني 1770م بإرسال تجريدة استطلاعية لتأمين الطريق بين غزة ومصر بقيادة عبد الرحمن آغا، فقامت التجريدة. بمهمتها بتطهير الطريق من العربان، وتم قتل سليط([29]) شيخ عربان غزة وإخوته وأولاده. إذ كان وجودهم يشكل خطراً يهدد خط تموين الحملة([30]).

وأرسل علي بك في الشهر نفسه (رجب) حملة بقيادة إسماعيل بك على أن يكون قائداً للحملة وتحت إمرة ظاهر العمر([31]). وتبع الحملة تجريدة بحرية من دمياط في نهاية رجب 1184ﻫ/ منتصف تشرين الثاني 1770م. ثم لحقت بهما تجريدة برية في ذي القعدة/ شباط 1771م([32]).

ووصلت الحملة التي يبلغ تعدادها عشرة آلاف إلى غزة في نهاية رجب 1184ﻫ/ منتصف تشرين الثاني 1770م. واستقبلها أهل غزة بالفرح رجالاً ونساءً نقمةً على عثمان باشا الكرجي، ولجأ متسلم غزة إلى مشايخ الخليل([33]). وبعد وصول إسماعيل بك إلى الرملة توجه عثمان باشا الذي كان يقوم بالدورة السنوية في المنطقة لمحاربته. وأوعز عثمان باشا إلى عرب الصقر بقطع الطريق أمام وصول قوات ظاهر العمر للالتقاء بإسماعيل بك. فأرسل ظاهر ابنه عثمان لملاقاة إسماعيل بك. ولكن عثمان لم يتمكن من الوصول بسبب مرابطة عرب الصقر له، فتوجه ظاهر ولم يجد عرب الصقر الذين توجهوا إلى عثمان باشا بعد علمهم بعودة عثمان الظاهر إلى أبيه([34]). والتقت قوات عثمان باشا بفرقة استطلاعية من قوات إسماعيل بك فهزمتها وألقت القبض على خمسين منهم، وتم أخذهم إلى عثمان باشا الذي أمر بقتلهم جميعاً. وأمر بإرسال رؤوسهم إلى استامبول. ثم أرسل عثمان باشا كتاباً إلى إسماعيل بك يستفسر عن سبب مجيئه إلى هنا. فقام إسماعيل بك برد جواب إليه بأنه قدم بأمر علي بك ودعاه للمنازلة([35]). وعندما وصل ظاهر العمر إلى معسكر إسماعيل بك أطلقت المدافع احتفالاً بذلك، وأرسل ظاهر رسولاً إلى عثمان باشا يتهدده قائلاً «إن غُز مصر آتت تساعدني عليك فإن شاء الله غداً صباحاً يكون القتال فانزل الينا برجالك»([36]). وعندما علم عثمان باشا بوصول ظاهر العمر تراجع إلى يافا حيث دخلهافرسانه عنوة([37]). وتراجع عثمان باشا إلى قرية قاقون. وبعد أن يئس من نجدة ابن جرار له ورأى تواطؤ أهالي المنطقة مع العساكر المصرية وظاهر العمر تراجع إلى دمشق مسرعاً بعد أن أصابه الرعب من جيش المصريين وظاهر العمر ولا سيما بعد أن علم بأن حمله مصرية أخرى ستنضم قريباً إلى هذه القوات. وقام عثمان باشا أثناء تراجعه بالتخلص من مدافعه برميها في بئر قرية قاقون حتى تسهل حركة هروبه. ووصل إلى دمشق في 29 شعبان 1184ﻫ/ 19 كانون الأول 1770م([38]). واستولى ظاهر العمر والجيش المصري علـى غـزة والرملـة ويـافا، وتم وضع حاميات فيها. وأعلن إسماعيل بك الغاء ضريبة الميرى في مدينتي الرملة وغزة لمدة أربع سنوات. وكان هدفهُ دعائيا لحمل القرى والمدن على عدم مقاومة الفاتحين. وقد أعلنت عدة قرى من التي أرهقتها مطالب عثمان باشا ولاءها لعلي بك([39]).

تـوجهت قـوات ظاهـر العمـر والعساكر المصريـة من أراضي عكا بقيادة ظاهر العمر وإسماعيـل بـك إلـى أراضي المزيريب، وطلـب الشيخ ظاهر من إسماعيل بك السير إلى دمشق، ولكنه رفض بحجة عدم جواز محاربة زوار البيت الحرام، إذ أن عثمان باشا بعد عودته إلى دمشق بدأ يجهز نفسه للخروج بقافلة الحاج. وطلب إسماعيل بك من ظاهر أن يرسلا إلى عثمان باشا كتاباً يدعوانه إلى القتال. ولكن عثمان باشا رد لهم جواباً تضمن «اني قد قصدت المسير إلى الحاج الشريف بالمحمل المنيف. ولا يمكنني أن أنعاق (أتأخر). وإن كان (كنتم) ترومون محاربة الزوار إلى بيت الله. فنحن استعنا عليكم بالله»ورفض إسماعيل بك محاربة الحجاج. وأشار الشهابي إلى أن رفض إسماعيل محاربة الحاج ليس ناجماً عن الخوف من غضب الله ولكـن بسبب اشمئزازه مـن أولاد ظاهـر العمـر. وغادر الجميع المزيريب نحو يافا وعكا. وأرسل ظاهر العمر إلى علي بك يخبره بعدم طاعة إسماعيل بك لأوامره فأخذ على بك بتجهيز حملة أخرى([40]). وأدى خروج عثمان باشا بقافلة الحاج ووقوع ظاهر العمر مريضاً إضافة إلى الخلاف بين ظاهر العمر وإسماعيل بك إلى توقف العمليات العسكرية وعسكر اسماعيل بك وعساكره في مرج ابن عامر فيما عاد ظاهر إلى عكا للعلاج([41]). وأثناء غياب عثمان باشا في مكة أرسلت الدولة إلى باشوات ولايات حلب وطرابلس وصيدا ومتسلم كلس بمساندة عثمان باشا، وحماية دمشق من أي هجوم محتمل من قبل ظاهر العمر وإسماعيل بك. وتوافد هؤلاء الباشوات بعساكرهم على دمشق في شهري آذار ونيسان سنة 1771م. كما عينت الدولة نعمان باشا قائداً للجيش العثماني في بلاد الشام ووالياً علـى مصر لمحاربـة القـوات المصريـة واسترداد مصر من علي بك([42]).

وأرسل علي بك حملة كبرى بقيادة محمد بك أبي الذهب وصلت إلى الرملة في 2 صفر 1185ﻫ/ 17 أيار 1771م فيما أُرسلت حاجات وأثقال الحملة بحراً من دمياط. وانضم إلى الحملة عند وصولها خمسة من أبناء ظاهر وكامل عسكره وناصيف نصار شيخ المتاولة([43]). ورفض ظاهر العمر مقابلة محمد بك أبي الذهب ومرافقته([44]). وفسر رافق رفض ظاهر المقابلة وإرسال أبنائه بدلاً منه بفقده كل أمل بالسيطرة على الحملة([45]). وقدرت معظم المصادر العربية والفرنسية جيش محمد بك أبي الذهب بأربعين ألف مقاتل([46]). وأشار «فولني» إلى إنه انضم إليهم حوالي أربعة ألاف من فرسان ظاهر ومغاربته وفرسان المتاولة([47]). وتقدمت القوات المشتركة نحو دمشق حتى وصلت قرية سعسع التي تبعد عن دمشق جنوباً مسافة أربعين كيلومترا في 18 صفر 1185ﻫ/ 2 حزيران 1771م. وأرسل أبو الذهب رسالة إلى عثمان باشا يطالبه بمغادرة دمشق، وذكر فيها أنه عُين عليها من قبل علي بك. فجهز عثمان باشا قواته وتوجه إلى داريا (جنوب دمشق بمسافة خمسة كيلومترات)([48]) وواجه عثمان باشا ومعه باشوات حلب وطرابلس وكلس أبا الذهب بجيش مماثل له في العدد. وانتصر أبو الذهب و حلفاؤه على عثمان باشا في 19صفر/ 3حزيران 1771م وانتقل القتال بعد ذلك إلى أطراف دمشق، حيث أخذت اليرليه (الانكشارية المحليه) والسكان المحليون بالمقاومة لمدة ثلاثة أيام، بينما تمركزت عساكر القابي قول (انكشارية الدولة) في القعلة للدفاع عنها. وهـرب عثمـان باشا في 6 حزيـران إلـى حمص([49]). وراسل علماء مدينـة دمشق أبا الذهب مستفسرين عـن مـراده. فأعطاهم الأمـان وطلـب قـدوم وفـد منهم لمقابلتـه. فتوجـه وفدٌ من أعيان المدينـة وعلمائها قابلـوا أولاً ابنـيّ ظاهـر (علي وصليبي) ثم قابلوا محمد بك أبا الذهب فطلب منه تسليم المدينة وألا أخذها عنوة وأحرقها وأسر أهلها. فأمهله الوفد حتى يجتمعوا بأعيان المدينة الآخرين. وهرب أكثر سكان المدينة منها فيما خرج وفد من العلماء لأخذ الأمان للباقين. ودخل جيش أبي الذهب المدينـة في 24 صفر/ 8 حزيران 1771م ما عدا القلعة التي أغلق أغا «القابي قول» (مصطفى أغا) مع ألف وخمسمائة منهم أبوابها عليهم ورفضوا التسليم إلا بأمر السلطان. وأمر محمد بك بقذف القلعة بالقنابل، ولكن معظم القذائف أصابت الأحياء المجاورة بما فيها الجامع الأموي، فتوجه العلماء إليه مطالبين بالتوقف عن ذلك. فأمر محمد بك بوقف قصف القلعة ونادى بالأمان في المدينة والعودة للبيع والشراء([50]). وقام محمد أبو الذهب بتعيين وكلاء عن القاضي والمفتي وآغا اليرلية الذين فروا من دمشق، وألبسهم أبو الذهب فروة التعيين([51]). وإثر استيلاء أبي الذهب وحلفائه على دمشق ساد الوجوم بلاد الشام واستانبول، بينما عمت الفرحة في مصر حيث نظم علي بك الاحتفالات([52]). وأرسل علي بك إلى محمد بك أبي الذهب يأمره بتقليد الأمراء المناصب على البلاد التي فتحوها وملكوها، وأن يستمر في سيره حتى يستول على بقية بلاد الشام، مؤكداً أنه سيتابع إرسال الامدادات واللوازم والاحتياجات([53])وتشير رواية الجبرتي إلى الهدف الحقيقي لعلي بك من حملاته وهو الاستيلاء على بلاد الشام وضمها إلى حكمه. وأن البلاد التي يتم فتحها والاستيلاء عليها من قبل الجيش المصري تحكم من قبل علي بك. بينما تبقى المناطق الخاضعة لظاهر العمر تحت حكمه. وبذلك يتقاسم علي بك السلطة والنفوذ في بلاد الشام مع حليفه ظاهر العمر. فقد أمر علي بك محمد أبا الذهب عند توجهه إلى بلاد الشام بأن يراعي سلوك جنده أثناء مروره بأملاك حليفهم ظاهر العمر([54]). وحول استيلاء محمد بك أبي الذهب على دمشق ذكر قنصل فرنسا في صيدا في حزيران 1772م بأن علي بك «كان في مركز يسمح له بأن يعلن نفسه سلطاناً على مصر وسوريا»([55]). ولكن في الوقت الذي أصبح فيه الاستيلاء على كل بلاد الشام أمراً محتوماً لعلي بك وحليفه ظاهر العمر، فإن قوة علي بك بدأت تنهار من الداخل. وكانت معارضة إسماعيل بك مهاجمة دمشق في بداية 1771م إنذاراً أولياً لما حدث([56]). فقام محمد بك أبو الذهب بالإنسحاب فجأة من دمشق في 5 ربيع الأول 1185ﻫ / 18 حزيران 1771م وعاد مسرعاً إلى مصر في خطوة مفاجئة للسكان المحليين وحلفائه وأعدائه ورؤسائه([57]). وطلب محمد بك أبو الذهب من ظاهر أن يعيد إلى يافا ودمياط جميع المؤن والذخائر التي كان قد أرسلها علي بك إلى عكا([58]).

اختلفت المصادر في تعليل هذا التصرف المفاجيء من أبي الذهب. فبعضها امتنع عـن إبـداء أسبـاب لذلك، فقال بريـك: «ولـم يعـرف أحـد سبب رحيله ورجوعه»([59]). وأرجع بعض المؤرخين ذلك إلى عجز أبي الذهب عن الاستيلاء على قلعة دمشق([60]). وأشار بعضهم إلى تحريض إسماعيل بك لمحمد بك أبي الذهب ضد علي بك وظاهر العمر. وأن عمله هو عصيان للسلطان الذي لن يغض الطرف عن ذلك. وأن كلاً من أبي الذهب وإسماعيل بك التقيا بأمين الصرة القادم إلى الشام مع الحاج، وأعلماه بقدومهما إلى بلاد الشام دون اختيارهم. فوعدهم برفع أمرهما وحسن سلوكهما إلى الدولة العلية([61]). فيما أشار كل من ميخائيل الصباغ و «لوكروا» إلى إغراء عثمان باشا الكرجي لأبي الذهب بالتمرد على رئيسه علي بك وتعينه من قبل الدولة مكانه وذلك في اجتماع سري عقد بينهما([62]). وأرجـع الجبرتـي ذلك إلـى أن أبـا الذهب وقـواد الجيش سئموا الحرب والقتال والغربة، وتمردوا على أوامر علي بك بالبقاء بعد أن جاءتهم أوامره بالاستمرار في القتال وضم مناطق أخرى. واتفق ذلك مع رغبة باقي الجند. فالتفوا حول أبي الذهب في قرار العودة([63]). وأرجع عبود الصباغ ماحدث إلى اتفاق تم بين أبي الذهب وإسماعيل بك وبعض السناجق على خيانة علي بك والرجوع لمصر لتعيين محمد بك أبي الذهب عليهم، وقتل علي بك([64]).

وبرر محمد بك أبو الذهب انسحابه لسيده بخيانة ظاهر العمر وأولاده، وقيامهم بالغدر بالعساكر المصرية سراً، وخوفاً من إرسال الدولة العثمانية جيشاً آخر لقتاله. كما أنه انجز المهمة الموكلة إليه بطرد عثمان باشا من دمشق([65]). ومهما يكن فإنّ انسحاب أبي الذهب يدل على تحول في موقفه تجاه علي بك. وكون السجلات العثمانية تشير إلى منح الدولة العثمانية أبا الذهب التزام غزة والرملة في سنة 1185ﻫ (1771م)([66])، إضافة إلى قيام أبي الذهب بالتمرد ضد سيده في مصر ثم استقباله خليل باشا والي الدولة العثمانية المرسل إلى مصر([67]) فإن ذلك يجعل احتمال عقد الدولة العثمانية عبر ممثليها صفقة مع محمد بك أبي الذهب في دمشق أمراً أكثر قبولاً للتصديق. أما بيان أبي الذهب إلى علماء دمشق وأعيانها قبيل انسحابـه بأنـه قدم لبلاد الشام لمحاربـة عثمان باشا، وأنـه بذهابـه حققت الحملة هدفها([68]). وتبريراته لرئيسه علي بك، وتحريضه الجنود المصريين بالعودة لمصر ماهي إلا ادعاءات حاول محمد بك أبو الذهب من خلالها إخفاء حقيقة صفقته مع ممثلي الدولة.

وبانسحاب محمد بك أبي الذهب من دمشق عاد أبناء ظاهر والمتاولة كل إلى بلاده. وعندما علم ظاهر العمر بعودة أبي الذهب إلى مصر انغم غماً شديداً، ولكنه لم يستطع فعل شيء. وعندما أرسل ظاهر وناصيف نصار زعيم المتاولة يستفسران من أبي الذهب عن سبب انسحابه رد عليهما مهدداً متوعداً([69]). وذهل ظاهر العمر والمتاولة لتصرف محمد بك أبي الذهب، وشعروا بالخوف من هجوم ولاة بلاد الشام عليهم. وبلغت هذه المواقف حداً جعل الشيخ ظاهر يقفل أبواب عكا في وجه مفرزة مؤلفة من ستمائة إلى سبعمائة رجل أرسلها محمد بك أبو الذهب لتنقل أمره إلى ظاهر بإعادة كل ما بقي لديه من مؤن وذخائر تخص علي بك إلى مصر. وأخذ ظاهر العمر يحصن عكا لمقاومة الهجمات المتوقعة من والي دمشق([70]). وفي المقابل فإن علي بك عندما علم من أبي الذهب بخيانة أبناء ظاهر كتب إلى ظاهر العمر كتاباً ملأه لوماً وعتاباً. فأجابه ظاهر العمر بأن ماذكره أبو الذهب ليس له أصل. وأن أبا الذهب بعد أن ملك بلاد الشام تركها دون سبب، وربما يكون عازماً على شيء لا يعرف بعد. وأرسل ظاهر ابنه عثمان وأبناءه إلى مصر رهائن على صدق كلامه، وليوقفه بنفسه على ماحدث. وتلقى علي بك عثمان الظاهر بالإكرام([71]). وبعد تأكد علي بك من خيانة محمد أبي الذهب له حاول النيل منه. وشهدت مصر صراعاً بين الرجلين على السلطة([72]). وأثناء ذلك فإن علي بك وظاهر استمرا على اتصال. وطالب ظاهر العمر حليفه بإعادة الجيش المصري إلى بلاد الشام. وقام علي بك بإرسال إمدادات من المؤن وقوات صغيرة، واعداً بعودة الجيش. وقد أرسل في تشرين الأول 1771م سبع عشرة سفينة من دمياط إلى يافا محملة بالمؤن والتجهيزات، وفي الوقت نفسه قاد «مصطفى بك جاويش» قوة مكونة من 700 ـ 800 رجل إلى غزة عن طريق البر. كما أرسل علي بك مبالغ نقدية إلى ظاهر لتجهيز المهمات والحاجات والمؤن اللازمة. وبالرغم من التوقعات بعودة الجيش المصري إلا أن علي بك لم يكن في وضع يسمح له بارسال قوات كبيرة إلى بلاد الشام في ظل الأزمة الخطيرة داخل بيته. وعلى الرغم من قلة الامدادات التي أرسلها على بك إلا أنها عبرت عن تصميمه على عدم ترك حليفه، أو هجر خطته بالاستيلاء على بلاد الشام([73]).

أصبح موقف ظاهر في بلاد الشام بعد انسحاب محمد بك أبي الذهب حرجاً، فقد اندفع عثمان باشا الكرجي إلى ملء الفراغ الذي تركه رحيل أبي الذهب، وحاول قتال ظاهر العمر والقضاء عليه في أيلول 1771م قرب بحيرة الحولة، ولكنه مني بهزيمة نكراء كما ذكر سابقاً. وتبع ذلك استعادة ظاهر زمام الأمور فاستولى على صيدا بمساعدة بحرية من علي بك في 23 تشرين الأول 1771م. وأرسل ظاهر إلى علي بك أخبار انتصاراته في الحولة وصيدا([74])، محاولاً التأكيد من خلال ذلك على أن مقاليد الأمور في يديه، وانه لا يزال يمثل الحليف المعول عليه..

وحسمت معركة الصراع على السلطة في مصر بانتصار أبي الذهب وهزيمة علي بك وفراره إلى بلاد الشام في 25 محرم 1186ﻫ/ 28 نيسان 1772م. وصحب علي بك معه أمواله، ورافقه جماعة من حاشيته وعسكره تقدر بثمانمئة شخص إضافة إلى عثمان الظاهر وأولاده([75]). وعندما وصل علي بك إلى غزة خرج إليه ظاهر واستقبله وصحبه إلى عكا([76]). وعمل علي بك أثناء وجوده عند حليفه ظاهر علي توطيد سلطة ظاهر العمر ومحاولة استعادة سلطتـه فـي مصر، لا سيما أن سلطة ظاهر العمر أصبحت مهددة في المناطق التي استولى عليها بعد فرار علي بك من مصر، إذ شجع ذلك أعداء ظاهر على مهاجمته([77]). وشارك علي بك وقواته المرافقة ظاهراً في الحفاظ على صيدا من محاولة فاشلة قام بها عثمان باشا المصري سر عسكر بلاد الشام بدعم من الشهابيين في حزيران 1772م. كما قام علي بك وقواته بمساندة ظاهر في استرداد يافا في شباط 1773م. بعد حصار دام ثمانية أشهر. وأخذ علي بك يفكر في العودة إلى مصر واسترداد سلطته هناك. وجاء إسهام علي بك أثناء وجوده في بلاد الشام في توطيد سلطة ظاهر في الساحل السوري لإدراكه أن تقوية مركز ظاهر في بلاده يجعله أكثر نجاحاً في تجميع قوات كافية لاستعادة سلطته في مصر([78]). وقد علق القنصل الفرنسي في صيدا على الدور الذي قام به علي بك بالقول: «إنه وإن كان يخيل إلينا أن علي بك هو القوة المحركة لتلك الأعمال التي جعلت تلك المنطقة مسرحاً للكوارث، فإنها ليست كلها سوى مشروع للتوسع أوجدته أطماع ظاهر العمر للاستيلاء على المدن الساحلية»([79]).

وذكرت تقارير القنصل الفرنسي في صيدا «دي توليس De Taules» في 2 حزيران 1772م بأن قوات علي بك المرافقة له في بلاد الشام لا تزيد عن ألفين رغم مغالاة البعض بأنها حوالي أربعة آلاف([80]). وأثناء وجود علي بك في كنف حليفه قام بمراسلة سناجق مصر للوقوف إلى جانبه ضد محمد بك أبي الذهب وأنه سيعود إلى مصر بحملة كبيرة لاسترداد سلطته([81]). فوصلت إلى علي بك كتابات من بعض سناجق مصر تدعوه إلى القدوم وتعده بالمساندة. وحذر إبراهيم الصباغ علي بك من كون هذه المكاتيب خداعاً له، وأنها كتبت كلها بعلم محمد بك، والبرهان على ذلك أنها كلها تحوي معنى واحداً ونصوصها لا تختلف عن بعضها بعضاً. ولكن علي بك رفض تصديق كلام إبراهيم الصباغ وقال: «هذا ظن السوء من العاقل الفطن لكن أنا أخبر منك بأولادي وبأهل بيتي»([82]). وتجمع المصادر على أن هذه المراسلات تمت بإيعاز من أبي الذهب لاستدراج علي بك إلى مصر للقضاء عليه([83]). إذ أن أبا الذهب كان مدركاً للتحدي الخطير الذي يشكله علي بك بالرغم من ظروفه الصعبة. فطالما ظل علي بك بعيداً عن قبضة يده فإنه يشكل تهديداً لتوازن النظام واستقراره في مصر، لأنه كان يقدم البديل لهذا النظام([84]).

وطلب ظاهر من علي بك التريث انتظاراً لإجابة الكونت «أرلوف Orlow» قائد الأسطول الروسي بخصوص المساعدة التي طلبها علي بك منه، وأن ينتظر تجهيز ظاهر عساكر له، إذ أن عساكر ظاهر مشغولون في هذا الوقت بشؤون الموسم الزراعي. ولكن علي بك أصر على موقفه معتمداً على ثقته بمراسيل سناجق مصر([85]). وبعد أن رأى إبراهيم الصباغ إصرار علي بك حذر ظاهراً من غروره ومن المداخلة في أموره وجماعته. ولكن ظاهراً رد عليه قائلاً: «سلطـان عظيـم الشأن خانـه الزمـان واستنجـد بنـا أمـا ينبغـي لنا أن نساعـده وننجده»([86]).

وقدم ظاهر العمر المال اللازم لعلي بك بعد اقتراضه من إبراهيم الصباغ مقابل تعهد كتبه قاضي يافا على علي بك. وجعل علي بك خنجره (المرصع بالجواهر ويقدر ثمنه بمئتي ألف فرنك) وسيف يوسف بن أيوب المشهور بصلاح الدين الأيوبي الذي كان يحتفظ به على بك ويفتخر به، رهينة لذلك([87]). وأرسل معه ظاهر جملة من فرسانه بقيادة ابنه صليبي وابن عمه كريم الأيوب. وعول علي بك كثيـراً على مسانـدة أصدقائـه في مصر([88]). وتوجه علي بك نحـو مصر دون انتظار للمساعدة الروسية التي وصلت إلى عكا بعد أيام من رحيله وكانت أقل من المتوقع. وعندما علم محمد أبو الذهب بخروج علي بك إلى مصر تهيأ للقائه في الصالحية، والحق أبو الذهب هزيمة ساحقة بقوات علي بك في 5 صفر 1187ﻫ/ 28 نيسان 1773م. وأُسر علي بك في المعركة بعد أن فقد كل مساعدة عول عليها من سناجق مصر. وقتل صليبي بن ظاهر العمر وهلكت معظم قوات ظاهر وعلي بك. بينما انسحب كريم الأيوب إلى غزة فيمن بقى من عسكر ظاهر، وأخبر ظاهراً بما حدث فاغتم على حليفه. وهكذا فإن ظاهراً بدلاً من كسب حليف مألوف قوي نال عدواً مرعباً في البغض والنشاط. ولكن ظاهراً تحمل ذلك بجلد. أما علي بك فقد نقل إلى خيمة أبي الذهب، ثم نقل إلى القاهرة حيث تلقى معالجة طبية من أطباء جلبهم له أبو الذهب، ولكنه تُوفي في 15 صفر 1187ﻫ/ 8 أيار 1773م بعد وصوله إلى القاهرة بسبعة أيام. وقيل إنه دُس له السم في جرحه([89]) وعلق الجبرتي على ذلك بقوله: «والله أعلم بكيفية موته»([90]). وقال «فولني»: «وعَزاه البعض إلى جراحه فيما عزاه البعض الآخر إلى السم. والاحتمالان متعادلان بحيث يتعذر الترجيح»([91]). وبوفاة علي بك استتب الأمر لمحمد بك أبي الذهب وانفرد بالحكم([92]). بينما أُصيب موقف ظاهر بالحرج سياسياً وعسكرياً لا لأنه فقد دعماً عسكرياً إذ إن علي بك كان يحتاج قبل موته إلى الدعم. ولكن لأنه خسر حليفه الذي بدأ الثورة على العثمانيين. فتركزت الأنظار عليه وحده الآن. كما أن محمد بك أبا الذهب بعد تخلصه من تهديد علي بك وجه جهده لإحكام الطوق مع العثمانيين على ظاهر الذي بدأ يقوى دفاعاته في عكا([93]).

ج ـ حملة محمد بك أبي الذهب على ظاهر العمر:

أصبح محمد بك أبو الذهب الحاكم الفعلي للبلاد خلفاً لعلي بك الكبير بالرغم من إعادة العلاقة مع الباب العالي، واستقبال الوالي الذي أرسلته الدولة في 17 ربيع الأول 1187ﻫ/ 8 تموز 1773م، إذ بقي حكم خليل باشا الوالي الجديد حكماً اسمياً، وأعاد دفع مال الميرى للدولة بعد انقطاع دام ست سنوات في عهد علي بك([94]). وقد أرسل السلطان الهدايا إلى أبي الذهب مما زاد في دعم موقفه، وكان هدف السلطان من ذلك التعبير عن رضاه نحو أبي الذهب لقتله علي بك، وأيضاً لإظهار نفوذه على أبي الذهب، فهو يتزعم مصر بموافقته وليس رغماً عنه([95]).

وحاول محمد بك أثناء هروب علي بك إلى بلاد الشام منع كل حركة للمرور براً وبحراً بين مص

الموضوعات