جاري التحميل

علاقة ظاهر العمر بفرنسا

الموضوعات

علاقة ظاهر العمر الزيداني بفرنسا

 

كتب الأستاذ الدكتور خالد محمد صافي حول هذا الموضوع في كتابه " ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل في القرن الثاني عشر ( 1689-1775 م) والذي صدر عن دار المقتبس في بيروت سنة   1439هـ-2018 م

فقال:

 

كان ظاهر أحد الملتزمين التابعين لولاية صيدا العثمانية، وولاية صيدا مثل غيرهـا مـن الولايـات الأخـرى تخضع للسيادة العثمانيـة. وقانـونياً فإن ظاهـراً لا يستطيع أن يمارس أي علاقة سياسية خاصة مع دولة أجنبية إلا عن طريق الدولة صاحبة السيادة. كما أنه محروم من أي تمثيل سياسي في العواصم الأوروبية، وأي علاقة ذات صفة سياسية تقوم مباشرة بينه وبين دولة أجنبية أخرى لابد أن تجرى من وراء ظهر الدولة العثمانية، ولا يمكن أن تنظر إليها الدولة بعين الارتياح، بل كثيراً ما تكون موجهة ضد الدولة العثمانية نفسها([1]). والحق أنه بقدر ما كانت الدولة العثمانية حريصة على تحديد العلاقات التجارية والسياسية بين ولاياتها وأوروبا خوفاً من تغلغل النفوذ الأوروبي، كان أصحاب العصبيات الثائرة مثل ظاهر حريصون على وصل هذه العلاقات وتنميتها، لأنهم يرون أن قيام هذه العلاقات يسبغ عليهم صفة خاصة. ويتضمن الاعتراف بالكيان الذي يعملون على اصطناعه لأنفسهم ولحكمهم. كما أنه يمكنهم من دعم كيانهم بما يأملون أن تقدمه لهم الدول الأوروبية ذات العلاقة بهم من سلاح وعتاد ودعم سياسي وخبرة فنية. هذا إلى جانب رواج التجارة وجمع المكوس وتنشيط الاقتصاد المحلي، وكل هذا يستخدمه حاكم العصبية لتقوية مركزه إزاء السلطة العثمانية([2]).

ولكن فرنسا وإنجلترا لم تستجيبا لدعوات الثائرين على الدولة ومنهم ظاهر العمر مراعاة لعدة اعتبارات منها الحفاظ على توازن القوى في أوروبا من خلال دعم التكامل الاقليمي للامبراطورية العثمانية وتقوية حكومتها المركزية في وجه العصبيات الثائرة، ودعم موقف الدولة العثمانية ضد أعدائها الإقليميين أجانب كانوا أو محليين. كذلك فإنهما تخشيان من تسبب دعم أحد الاطراف المتحررة على الدولة العثمانية في تعريض مراكز تجارتهما في باقي أنحاء الامبراطورية للخطر. وبالتالي حرصتا على علاقاتهما مع الدولة العثمانية بدلاً من الاعتماد على عصبيات محلية ثائرة تمتاز بعدم الثبات والتقلب([3]).

وكانت العلاقات بين الدول العثمانية وفرنسا خلال فترة حكم ظاهر علاقات حسنة. ففى 28 أيار 1740م تم في عهد لويس الخامس عشر عقد معاهدة بين فرنسا والدولة العثمانية جُددت فيها امتيازات فرنسا السابقة، مضافاً إليها امتيازات جديدة تعهد السلطان ببقائها نافذة مدة حكمه وحكم خلفائه من بعده (بخلاف ما كان سابقاً من سريان الامتيازات في حياة السلطان نفسه، ثم تجدد في عهد حلفائه بعد مفاوضات جديدة)([4]).

وجعلت الأسباب سابقـة الذكـر علاقات فـرنسا بظاهـر العمـر في نطاق ضيق يقوم أساساً على النشاط التجاري دون تجاوز ذلك إلى نواح سياسية أبعد مما تحتاجه تسوية الأمور التجارية.

وسعى ظاهر العمر منذ بداية حكمه إلى التقرب من القنصل الفرنسي في صيـدا ونائبـه فـي عكا فـي محاولـة لتأكيد سياستـه الخاصـة([5]). وشهدت بداية الأربعينيات علاقات وطيدة بين ظاهر العمر ونائب القنصل الفرنسي في عكا «جوزيف بلانك Joseph Blance» فمقابل محاصيل القمح والقطن من ظاهر كان بلانك يدفع الميري للوالي، وعلاوة على ذلك يمده بالسلاح الناري والبارود وذخائر أخرى. وكان هذا التموين المستمر من الأسلحة عاملاً مهماً بلا شك في صعود ظاهر السياسي والعسكري([6]). ولكن يبدو أن هذا التعاون كان على نطاق محدود، وارتبط بشخص نائب القنصل وبعض التجار. فنجد أنه في عام 1742م وعندما توجه ظاهر إلى القنصل الفرنسي في صيدا يطلب منه تدخل السفير الفرنسي في استانبول لدى الباب العالي ليمنح ظاهر حمايته ويحصل له فرمان تثبيت له في مناطقه وأملاكه، ومنع هجمات سليمان باشا العظم عليه، فإن السفير الفرنسي أجاب بأن الصداقة مع سليمان باشا أفضل وأنفع لحماية الطوائف الدينية، إلى جانب أنه لا يستطيع أن يبحث الأمر مع الموظفين الرسميين العثمانيين بسبـب خصومتهم وعدائهـم المعلـن لظاهـر، وذلك إضافـة إلـى كـون التجار الفرنسيين قد أُتهموا بأنهم يدعمون ظاهراً بمسحوق البارود والرصاص. ومع ذلك قدم السفير النصيحة إلى ظاهر بأن يوجد له وكيلاً لدى الباب العالي ليعتني بمصالحه ويساعده بشكل سري([7]).

ويبدو أن الفرنسيين في هذه الفترة لم يكونوا واثقين من استطاعة ظاهر الحفاظ على مركزه، وبالتالي فإن دعم ظاهر دون أن يكونوا واثقين من عزمه وهدفه أو قدرته على البقاء سوف يبعد وينفر سليمان باشا الذي يمثل السلطة الفعلية المستقرة الذي هو شخص أكثر تعاوناً. وخلال حملة سليمان باشا على ظاهر سنة 1742م تقدم القنصل الفرنسي لسليمان باشا باقتراح توسيع حمايته للتجار الفرنسيين في عكا وجبل الكرمل([8]). وبالرغم من أن قيام قناصل الدول الأوروبية بالتدخل بين الباب العالي والحكام المحليين مثل ظاهر العمر يخرج عن نطاقهم الأصلي وهو التجارة وفقاً للامتيازات الأجنبية، فإن قيامهم بذلك يشير إلى ازدياد نفوذهم وقوتهم في القرن الثامن عشر بسبب ضعف الدولة العثمانية. إلا أن فرنسا كانت حريصة على عدم الظهور بمظهر المتدخل بالشؤون الداخلية. وقبلت الوضع الذي اصطنعته الدولة العثمانية لولاياتها ولم تحاول أن تنقضه([9]). وبالتالي بقي التدخل من قبل القناصل والسفير الفرنسي في استانبول على نحو ضيق ومحدود.

وتأرجحت علاقة ظاهر بالقنصل الفرنسي في صيدا ونائبه في عكا بين المد والجزر تبعاً لمعاملة ظاهر للتجار الفرنسيين وتخلل ذلك بعض الأزمات. إذ قام ظاهر بإرسال رسالة إلى وزير الدولة الفرنسية لشؤون البحرية الكونت «دو موريبا Conte de maurepas» في حزيران 1745م شكا فيها ظاهر القنصل الفرنسي في صيدا لقيامه بتعيين يوسف الأقطش (كاتب ظاهر العمر الذي فر من عند ظاهر بعد أن سرق أموال الميرى المسؤول عنها) لديه، ورفض الاستجابة لظاهر العمر بإعادته إليه مع المبلغ الذي سرقه مقدماً له الحماية. ويشير ذلك إلى إثارة ظاهرة العمر لأمر حماية القنصل لأحد الرعايا المحليين لظاهر([10]).

وفي أواخر الأربعين، وبعد استيلاء ظاهر على عكا تعرض التجار الفرنسيون للابتزاز من قبله، ودفعهم ذلك إلى توجيه نداء إلى السفير الفرنسي في استانبول من أجل استخدام نفوذه لمعالجة هذا الظلم ورفعه، ولكن هذا التدخل من قبل السفير الفرنسي لم يسفر عن شيء فعال، إذ أسفر فقط عن توصيات من الصدر الأعظم إلى ظاهر، لم تلق الانتباه والمبالاة، فطالب الصدر الأعظم من أسعد باشا وإلى دمشق معالجة الوضع. ولكن أسعد باشا لم يأخذ الموضوع بجدية، ولم يقم بفعلٍ عسكري زاعماً أنه يريد أمراً واضحاً من استانبول. إذ أنه في الحقيقة لم يتسلم فرماناً من السلطان لقتال ظاهر، وانما توصيات على شكل رسائل صداقه ودية من الصدر الأعظم([11]). وهذا ما دفع الفرنسيين إلى التوصل إلى اتفاق تجاري مع ظاهر في عام 1753م لترتيب علاقاتهم المتبادلة.

وفي 8 رجب 1167ﻫ/ 1 أيار 1754م وجه ظاهر رسالة إلى وزير الدولة الفرنسية لشؤون البحرية يشكره فيها على استدعاء القنصل الفرنسي في صيدا والذي كان معادياً له. وعدد ظاهر في الرسالة أفعال القنصل الفرنسي ضده ومنها قيامه ببذر الفتنة بين ظاهر العمر وأحد أصدقائه من المتاولة. إضافة إلى قيام القنصل بالطلب من والي دمشق تعيين أحد أبناء ظاهر المتمردين على أبيهم لاثارة الفوضى في بلاد ظاهر، وطالب ظاهر في الرسالة باختيار قنصل أفضل لصيدا([12]).

وأشارت هذه الرسائل إلى أن العلاقات بين الطرفين تخللتها بعض الأزمات. وحرص ظاهر على مقاومة تدخل القنصل الفرنسي في شؤونه الداخلية، وفي المقابل حرص على تجاوز هذه الأزمات والابقاء على علاقات جيدة مع الفرنسيين، ومحاولة اللجوء إليهم للتوسط له في أزماته السياسية مع الدولة. فنجد مثالاً آخر على طلب ظاهر العمر تدخل السفير الفرنسي في استانبول في أول أيار 1761م تمثل في سعي ظاهر العمر لدى قنصل فرنسي في صيدا طالباً منه تدخل السفير الفرنسي في استانبول لدى الدولة بمساعدة ظاهر عن طريق إلغاء فرمان السلطان بفصل التزام حيفا عن عكا الصادر سنة 1760م والذي بموجبه قام عثمان باشا الكرجي والي دمشق بمهاجمة حيفا لاستردادها من ظاهر([13]).

وقد خشيت فرنسا في بداية السبعينات من التدخل الروسي في معركة صيدا في حزيران 1772م وتحالف ظاهر العمر مع الأسطول الروسي، إذ أن تدخلاً كهذا من شأنه أن يعزز مكانة الروس في البلاد المقدسة، ويمكّن روابطهم بأبناء الروم الأرثوذكس فيها. وبهذا الخصوص كتب قنصل فرنسا في صيدا في شهر حزيران سنة 1772م (أي بعد انتصار ظاهر العمر وحلفائه في سهل الغازية في صيدا بأيام قلائل) إلى وزير البحرية الفرنسية يقترح عليه إرسال ثلاث سفن إلى الساحل السوري لحماية الرعايا الفرنسيين وتجارتهم. وأن تقوم في الوقت نفسه باحتلال عكا وصيدا باسم السلطان العثماني. ويضيف القنصل قوله إن هذا الإجراء سيعيد إلى فرنسا هيبتها في الشرق العربي الذي تردى كثيراً في الفترة الأخيرة، تلك الهيبة التي تأثرت بهزائم فرنسا في حرب السنوات السبع وضعف مركزها في أوروبا وخارجها([14]).

ورفضت الحكومة الفرنسية هذا الاقتراح لأن الحكومة الفرنسية ذات العلاقة الحسنة بالآستانة كانت تعرف أن السلطان العثماني لن يوافق على تدخلها في شؤون البلاد العربية بهذا الشكل، وأن السلطان يؤثر إخضاع رعاياه الثائرين بقواته الخاصة على أن يستعين عليهم بقوات أجنبية مسيحية. أضف إلى ذلك أن الحكومة الفرنسية لم تكن ترغب بالإساءة إلى علاقاتها الحسنة بالآستانة خوفاً على التجارة الفرنسية في الشرق. ومن جهة أخرى فإن تدخلاً فرنسياً في شؤون البلاد العربية من شأنه أن يزيد الوضع الدولي تعقيداً في أوروبا، كما سيسيء أكثر إلى العلاقات الفرنسية الروسية التي لم تكن كما يرام في هذه الحقبة من الزمن. ولهذه الأسباب لم تعمل الحكومة الفرنسيـة باقتـراح قنصلها في صيـدا. وأن جل ما فعلته في هذا الشأن هو أنها اصدرت أوامرها في أواخر سنة 1772م إلى تجارها وقناصلها بلزوم مبارحة بلاد الشام على وجه السرعة إذا لم يطرأ تحسن على الحالة العامة فيها([15]). والحقيقة أن تجارة فرنسا في الشرق وفي مناطق ظاهر تراجعت كثيراً في بداية السبعينات بسبب الحروب التي جرت في المنطقة في هذه الفترة.

وانفرد المعلوف بإيراد رواية تقول: إنه قبل وصول حسن باشا إلى عكا بيومين في أول آب 1775م قدمت فرقاطة فرنسية من طرف دولة فرنسا لإخلاء الرعايا الفرنسيين من عكا في حالة قيام الحرب بين ظاهر العمر وحسن باشا. فوسط حسن باشا قبطان الفرقاطة في المفاوضات بينه وبين ظاهر العمر، ولكن الوساطة الفرنسية فشلت بسبب رفض ظاهر مطالب حسن باشا. ورفض ظاهر طلب قبطان الفرقاطة بإجلاء الفرنسيين من عكا ولكن بتدخل إبراهيم الصباغ تم إجلاؤهم ما عدا ثلاثة تجار فرنسيين فضلوا البقاء في عكا([16]).



([1])   شريف، وآخرون ـ دراسات تاريخية، ص 253.

([2])   شريف، وآخرون ـ دراسات تاريخية، ص 253 ـ 254. توما ـ فلسطين، ص 45.

([3])   كريسيليوس ـ جذور، ص 171 ـ 172.

([4])   خوري واسماعيل ـ السياسة الدولية، ج1، ص 28.

([5])   الشيخ ـ في تاريخ العرب الحديث، ص 136.

([6])   Cohen ـ Palestine, P. 15.

([7])   Rafeq ـ The Province, P. 159.

([8])   Ibid , P. 159.

([9])   شريف، وأخرون ـ دراسات تاريخية، ص 254.

([10])   رافق ـ فلسطين في العهد العثماني، ص 819.

([11])   Rafeq ـ The Province, P. P195 ـ 196.

([12])   Cohen ـ Palestine, P. P. 96 ـ 97.

([13])   Rafeq ـ The Province, P. 243. 

([14])   شريف، وآخرون ـ دراسات تاريخية، ص 231.

([15])   هيد ـ ظاهر العمر، ص 59 ـ 61. الشيخ ـ في تاريخ العرب الحديث، ص 136.

([16])   المعلوف ـ تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني، المشرق، مجلد 24، 1926، ص 545 ـ 546. كرد علي ـ خطط، ج2، ص 296 ـ 297.

الموضوعات