علاقة ظاهر العمر بولاة دمشق
علاقة ظاهر العمر الزيداني بولاة دمشق
كتب الأستاذ الدكتور خالد محمد صافي حول هذا الموضوع في كتابه " ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل في القرن الثاني عشر ( 1689-1775 م) والذي صدر عن دار المقتبس في بيروت سنة 1439هـ-2018 م
فقال:
يعتبر والـي دمشق أحد القـوى السياسية المهمـة في بلاد الشام إن لم يكن أهمها، وبالرغم مـن أن ظاهـراً مـن الناحيـة الإداريـة كان يتبع والي صيدا إلا أن تعدياته على أراضي ولاية دمشق، وعجز ولاة صيدا عن مواجهته جعل ولاة دمشق يتحملون المسئولية الفعلية عن كبح نفوذه وتعدياته. ويمكن تقسيم المراحل التي مرت بها علاقة ظاهر العمر بولاة دمشق إلى ثلاث مراحل هي:
أ ـ مرحلة الصراع بين ظاهر العمر وسليمان باشا العظم:
كانت الفترة الأولى من حكم ظاهر العمر 1705 ـ 1730م هادئة لم يحدث فيها احتكاك بين ظاهر وولاة دمشق، إذ كان في هذه الفترة لا يتعدى كونه ملتزماً صغيراً ذا حكم اسمياً على مناطق طبرية وعرابة البطـوف والدامـون. ولكن إثر الحركة التوسعية التي قام بها في الثلاثينات أصبح يقف على تماس مع المناطق التابعة لولاية دمشق. وحين اعتدى ظاهر العمر على مناطق آل ماضي وآل جرار في بلاد حارثة (سنجق اللجون وعجلون) استنجد هؤلاء بسليمان باشا العظم والي دمشق، الذي استغل الفرصة للقضاء على نفوذ ظاهر([1]).
وساهمت مجموعة من العوامل في هذا التوجه من قبل سليمان باشا إذ شكل ازدياد نفوذ ظاهر مصدر قلق لسليمان باشا العظم بخصوص خطورة ذلك علـى حريـة مروره للدورة السنويـة مـن أراضي طبريـة باتجاه جبل نابلس والسناجق الأخرى التابعة لولاية دمشق لجمع مال الميرى المقرر. كما أن الترميمات والتحصينات التـي أجراها ظاهـر في طبريـة علـى الطريـق بيـن دمشق ونابلس أصبحت مصدر قلق للدولة العثمانية وولاتها في دمشق وصيدا. ومن هنا يمكن إدراك الأسباب التي حملت الباب العالي على السماح لسليمان باشا بمهاجمة ظاهر وقتله أو الحد من سلطته([2]). كما أن محاولة سليمان باشا تدخل في نطاق الصراع على النفوذ بين آل العظم وظاهر العمر. وسعى آل العظم إلى الاستحواذ على السلطة والنفوذ في دمشق وبلاد الشام الجنوبية ومنع أي قوة منافسة من تعريض ذلك للخطر. وفوق ذلك فإن استيلاء ظاهر العمر على مناطق تابعة لولاية دمشق يحرم والي دمشق من أموال الميرى المترتبة عليها. كما أن سليمان باشا العظم عرف بسياسته القائمة على التركيز على مناطق الريف التابعة لولايته من أجل جلب الغنى لنفسه، وخاصة أن هذه المناطق تشهد إنتاجاً زراعياً ونشاطاً تجارياً ملحوظاً([3]). وفوق ذلك فإن سليمان باشا كانت على خصومة مع شيوخ الزيادنة منذ ولايته على صيدا في الفترة (1728 ـ 1730م). ونظراً لكل هذه الأسباب فإن سليمان باشا قرر القضاء على جاره القوي، وأرسل للدولة بالاستجابة لطلبه هذا بعد أن حانت الفرصة المناسبة لذلك([4]).
وساءت العلاقة بين الطرفين إثر قيام ظاهر العمر بمهاجمة بلاد حارثة في سنجق اللجون وعجلون، وتوترت أكثر بقيام سليمان باشا بقتل أحد أخوة ظاهر الذي أسره عرب الصقر وسلموه له([5]). فقوّى ظاهر العمر تحصينات مدينة طبرية وقد شاهده الرحالة «بوكوك Pococke» يقوم بذلك سنة 1737م، وذكر أن ظاهراً بنى حصناً على مرتفع إلى الشمال منها، وقوى أسوارها القديمة بدعائم من الداخل([6]). وحاصر سليمان باشا العظم طبرية سنة 1738م (أثناء فترة ولايته الأولى على دمشق 1734 ـ 1738م) لمدة خمسة عشر يوماً ولم يرتفع عنها إلا بعـد صدور فرمان بعزلـه عن ولايـة دمشق([7]). وبعد عزل سليمان باشا تولى على دمشق ثلاثة ولاة في الفترة بين 1738 ـ 1741م وهم حسين باشا البستنجي، وعثمان باشا المحصل وعلي باشا([8]). ولم تشهد هذه الفترة أي صدامات بين هؤلاء الولاة وظاهر العمر مما مكن الأخير من تثبيت سلطته وتقوية حصونه([9]). وتولى سليمان باشا ولاية دمشق مرة ثانية في جمادى الآخرة 1154ﻫ/ آب 1741م فوجه كل جهده لإخضاع ظاهر العمر. وساعده في ذلك كون والي صيدا في هذه الفترة هو ابن أخيه إبراهيم باشا العظم. فتضافرت جهود الأثنين ضد ظاهر. إذ وجد والي صيدا في ذلك فرصة له لتعزيز نفوذه وسطوته التي تراجعت أمام قوة الملتزمين لا سيما ظاهر العمر. كما كان سليمان باشا حريصاً على قيام ظاهر بدفع أموال الميري بانتظام إلى والي صيدا لإنفاق بعضها على تمويل قافلة وجردة الحاج([10]).
وخرج سليمان باشا بحملة كبيرة من دمشق في 3 رجب 1155ﻫ/ 3 أيلول 1742م بعد أن حصل على موافقة الباب العالي، وقد حرص على إخفاء هدف حملته والظهور بمظهر الخروج المعتاد للدورة. ولكن ظاهر العمر الذي علم بخروج سليمان باشا بعدد كبير من العساكر أدرك أن خروجه هو لمحاربته، إذ أن الدورة لا تحتاج لمثل هذا العدد من العسكر([11]). وأشارتأأااا المصادر اليهودية إلى قيام اثنين من اليهود كانا يعملان صيارفة لدى سليمان باشا وهما «حاييم فرحي Haim Farhi» و «يوسف لوتزاتي Joseph Lutzati» بارسال رسالة إلى حاخام طبرية حاييم أبو العافية حول حملة سليمان باشا، وأخبر أبو العافية ظاهراً بذلك([12])، فحصّن نفسه في طبرية، فيما تحصن أخوه سعد في دير حنا. وذكر البديري «ارتحل سليمان باشا… ومعه عسكراً عظيماً… وأخذ معه القنابر واللغمجية والطوبجية الذين جاءوا من اصطنبول بطلب منه». ثم وصل إليها وحاصرها حصاراً شديداً. وساعده في ذلك الدروز، وأهل نابلس، ونائب القدس خليل آغا، وعرب بني صخر، وعرب الصقر»([13]). واستمر الحصار ثلاثة شهور، وتم قصف المدينة قصفاً متواصلاً بالقذائف الثقيلة، وبالرغم من ذلك لم يستطع سليمان باشا اختراق أسوارالمدينة([14]). وأكد فولني «أن سليمان باشا قذف طبرية بالقنابل التي أثارت دهشة عظيمة في سوريا اذ ان القنابل لم تكن معروفة في ذلك الوقت في سوريا إلا قليلاً»([15]). وهناك عدم دقة فيرواية فولني كون القنابل كانت معروفة في بلاد الشام منذالقرن السادس عشر. ولم يحقق سليمان باشا هدفه في الاستيلاء على طبرية بالرغم من أنه منع عنها الإمدادات المرسلة من دير حنا، حيث استولى على قافلة ذخيرة مرسلة إلى ظاهر من أخيه سعد فقتل مرافقيها، وقطع رؤوسهم وأرسلها إلى استانبول([16]). واضطر سليمان باشا إلى رفع الحصار عن طبرية بعد أن اقترب موعد الخروج في قافلة الحاج([17]). ومع ذلك أشاع في دمشق خبر انتصاره في طبرية وهدم أسوارها. ولكن البديري الذي نقل هذه الرواية أبدى شكه فيها فقال: «هكذا حدث بذلك على آغا شاطر باشي، وقد نقلت لنا على غير هذا الوجه. والله أعلم بحقيقة الحال»([18]). ويبدو حسب البديري الحلاق ومصادر يهودية أن سليمان باشا قد توصل عبر قواده إلى تسوية مع ظاهر العمر على هدم جزء من سور طبرية عندما يصبح الوالي على مسيرة ثلاثة أيام من طبريـة. وأن يـرسل ظاهـر ثلاثيـن جملاً هديـة إلى الوالي في مقابل الأموال الأميرية المكسورة، وأن سليمان باشا أخذ أحد أبناء ظـاهر رهينة لضمان تحقيق ذلك([19]). غير أن هذه الرواية ينتابها الشك لأن سليمان باشا قرر في السنة التالية القدوم لإخضاع ظاهر والانتقام لكرامته، كما أن سليمان باشا والي دمشق غير مسؤولاً إدارياً ومالياً عن ظاهر العمر حتى يدفع له ظاهر مقابل مال الميري المكسور. وحتى لو تمت هذه التسوية فإنها لا تعني انتصاراً عسكرياً لسليمان باشا، ويبدو أنه استخدم ذلك كجانب دعائي لإخفاء فشله([20]). فقد قال بريك عن هذه الحملة: «وفي هذه المدة ركب على ظاهر بطبرية وما أنتفع بشيء»([21]) وأشار عبود الصباغ إلى مثل ذلك أيضاً بقوله: «ولم قدر (يقدر) أن يأخذ طبرية بل قام عنها ورجع إلى الشام لسبب أن الحاج أدركـه». وأخذ ظاهـر العمـر يجهز نفسه لملاقاة سليمان باشا الذي هدده بالعودة لإبادته([22]). وسعى ظاهر خلال هذه الفترة إلى الدبلوماسية السياسية لوقف هجمات سليمان باشا. فاتصل بقنصل فرنسا في صيدا والتمس منه مراسلة السفير الفرنسي في استانبول للتوسط لدى الباب العالي بمنع سليمان باشا من مهاجمته. ولكن السفير الفرنسي تردد في التدخل([23]). كما طلب ظاهر من الحاخام أبو العافية السعي لدى يهود الآستانة للتدخل لدى السلطات المركزية والسفير الفرنسي. ولكن لم يثمر ذلك عن شيء إذ بدا لدى هؤلاء أن الدولة تقف إلى جانب سليمان باشا ضد ظاهر العمر([24]).
وخرج سليمان باشا في 7 جمادى الآخرة 1156ﻫ/ 30 تموز 1743م لقتال ظاهر العمر، وجاء فرمان من الباب العالي بأن يخرج معه والي صيدا، ووالي طرابلس، ومتسلمو القدس، وغزة والرملة، واللجون وعجلون([25]). ويبدو أن سليمان باشا أراد الانتقام لفشله السابق، الذي كان أيضاً فشلاً لسياسةالباب العالي تجاه ظاهر. ولذلك فإن الباب العالي زود سليمان باشا هذه المرة بإمدادات عسكرية كبيرة مقارنة بالحملة السابقة، فأرسل له خبراء حصار وسفينة محملة بالمعدات اللازمة إلى حيفا لنقلها من هناك إلى جهة طبريا لتعزيز حصارها. وبدا من ذلك عزم كل من الدولة وسليمان باشا على القضاء على ظاهر هذه المرة([26]). وسعى سليمان باشا إلى تكتيك جديد يقوم على مهاجمة القلاع الأقل أهمية للزيادنة. إذ أن نجاح ذلك سيؤدي إلى قطع الإمدادات عن طبرية، وسيشكل أيضاً ضغطاً معنوياً عليهم([27]). ويبدو أن سليمان باشا عزم على مهاجمة قلعة دير حنا في محاولة لتحقيق نصر فيها. ولكن القدر لم يمكنه من ذلك فقد توفي إثر مرض مفاجئ في قرية لوبية قرب طبرية غرباً في نهاية آب 1743م، فتراجعت العساكر الشامية إلى دمشق([28]). فيما ذكرت بعض الروايات أن سليمان باشا مات بالسم الذي دس له([29]). وتبدو الرواية الأولى حول وفاته بمرض مفاجئ أكثر ترجيحاً واتفاقاً. وبموت سليمان باشا تنفس ظاهر العمر الصعداء، وفشلت سياسة الباب العالي في القضاء عليه وقد استغل ظاهر ذلك في تعزيز سلطته والقضاء على معارضيه، فاستولى على عكا واتخذها عاصمة له.
ب ـ مرحلة الصلح والتعايش السلمي بين ظاهر العمر وأسعد باشا العظم:
تولى أسعد باشا ولاية دمشق في شعبان 1156ﻫ/ تشرين الأول 1743م. واتبع سياسة مخالفة لسياسة سابقه سليمان باشا. فقد أولى عنايته في بداية حكمه لتنظيم الأمور الداخلية في دمشق([30]). وانفرد البديري بذكر قيام فتحي افندي الدفتردار([31]) بالتوسط في الصلح بين ظاهر وأسعد باشا، وأرسل ظاهر له أربعين جملاً محملاً أرزاً وسكراً وجوخاً إلى أسعد باشا، إضافة إلى ما أرسله إلى فتحي الدفتردار أيضاً([32]). ويعتبر ذلك إشارة إلى سياسة أسعد باشا المستقبلية تجاه ظاهر وهي سياسة «التعايش السلمي». إذ أن صراعه مع اليرلية (الانكشارية المحلية) في دمشق، وقراره تثبيت سلطته في دمشق خلال الفترة الأولى لحكمه ريما شجعه على هذا التوافق والاسترضاء([33]).
وعند قيام أسعد باشا بالقضاء على اليرلية، هرب عبد الله آغا ابن حمزة وأتباعه من زعماء انكشارية الميدان (حي الميدان في دمشق) نحو طبرية في سنة 1158ﻫ/ 1745م والتجأوا إلى ظاهر العمر، فقام ظاهر في جمادى الآخرة 1162ﻫ/ أيار1748م بالقبض عليهم وقطع رؤوسهم وأرسلها إلى صيدا. ومن هناك أرسلها والي صيدا إلى الدولة. وأرسل ظاهر يطلب فرمان شريف بألا يمر أسعد باشا والي دمشق في سفره للدورة على أرض طبرية([34]).
ويبدو أن ظاهراً حرص في هذه الفترة على استرضاء الدولة وتعزيز علاقته بها بعد التوتر الذي أحدثه إثر استيلائه على عكا عنوة وطرد الآغا الذي عينه والي صيدا عليها. كما حرص أيضاً على دفع أموال الميرى لوالي صيدا بانتظام حتى لا يجلب إليه غضب الباب العالي. كما أنه أراد في هذه الفترة استصدار فرمان يغيـر بموجبـه مـرور باشا دمشق قـرب طبريـة. إذ هدف ظاهر إلى تحقيق خطوة وقائية بإبعاد نشاط والي دمشق عن اراضيه اتقاءً لأي احتكاك أثناء خروج الوالي للدورة. وشهدت الفترة بين 1743 ـ 1757م استمرار التعايش السلمي بين ظاهر العمر وأسعد باشا. فاهتمام أسعد باشا في بداية حكمه بمعالجة شؤونه الداخلية في دمشق قد تبعه موقف ايجابي تجاه ظاهر طيلة فترة حكمه، بالرغم من قيامه بحملات عسكرية ضد الأمراء الشهابيين وقبائل بدوية أخرى. وفسر رافق ذلك بأن الحملات على الدروز كانت سريعة والقيام بها سهل باعتبار الدروز مجتمعا يعيش في منطقة كبيرة نسبياً ويعتبر مهاجمة قرية يقطن بها دروز أو تدمير مناطق ريفية حملة ضدهم، وليس مهماً إذا واجهت مقاومة أم لا. ولكن في قضية ظاهر فالوضع العسكري يختلف تماماً، فالزيادنه ليسوا مجتمعاً مثل الدروز ولكن عائلة. وقوتهم تتعلق بحصون قوية، وأي حملة ضد ظاهر يجب أن تكون بالضرورة موجهة ضد معقل ظاهر الحصين في طبرية أو الأقل أهمية دير حنا. وكلاهما وبشكل أخص طبرية كانتا محصنتين جداً بعد هجمات سليمان باشا. وربما كان أسعد باشا خائفاً من الفشل العسكري الذي سيضر بمكانته ويؤثر على نجاحه الإداري. والأكثر من ذلك هو التغير في موقف الدولة العثمانية تجاه ظاهر وسياستها في عدم مهاجمته واستعدائه في هذه الفترة. فهي غير قادرة على إرسال حملة ضد ظاهر بسبب النفقة التي تستلزمها وكذلك بسبب انشغالها بأمور أكثر إلحاحاً([35]). كذلك من العوامل التي ساهمت في إحداث الهدوء طيلة تلك الفترة انصراف أسعد باشا إلى إقامة الأعمال الإنشائية، وأهمها القصر الذي شيدة في دمشق. واعتقاده أن الإشتباك مع ظاهر في حرب سيحول دون اتمام مشاريعه([36]). وفسر عبود الصباغ سبب هذا التوجه من قبل أسعد باشا بصورة صريحه بقوله: «ومن زيادة شجاعة ظاهر التزم وزير الشام أن يسكت عنه … فأسعد المذكور لا يحب الحرب بل كان يحب المال والراحة»([37]). وأشار البديري إلا أن أسعد باشا قام بالصلح بين أحد أبناء ظاهر (الذي لجأ إليه في خلاف مع أبيه) وبين ظاهر العمر في رجب 1065ﻫ/ أيار 1752م([38]).
واستفاد ظاهر من فترة الهدوء هذه، إذ أتاحت له بعض الراحة عقب حروبه مع سليمان باشا وعرب الصقر فانصرف لتثبيت مركزه في المناطق التي سيطر عليها وتحصينها وتنظيم إدارة البلاد وإنعاشها إقتصادياً.
وعُزل أسعد باشا عن ولاية دمشق في ربيع الثاني 1170ﻫ/ كانون الثاني 1757م. وخلفه على دمشق حسين باشا مكي في جمادى الآخرة 1170ﻫ/ شباط 1757م. وبعد تعيينه اتخذ قراراً بأخذ البلاد التي استولى عليها ظاهر من ولاية الشام في الفترة السابقة وهدد ظاهراً بإرجاعها أو سيخرج لقتاله بعد عودته من إمارة قافلة الحاج([39]). وأثناء خروجه في قافلة الحاج تعرضت قافلة الجردة للهجوم في 20 ذي الحجة 1170ﻫ/ 5 أيلول 1757م من قبل بني صخر وحلفائهم في المنطقة بين القطرانة ومعان. وتبع ذلك الهجوم على قافلة الحاج في حوالي 10 صفر 1171ﻫ/ 24 تشرين الأول 1757م في المنطقة بين تبوك وذات صبح([40]). وكان الهجوم من الشدة بحيث أبيدت قافلتي الحاج والجردة تقريباً، وقد قدر فولني عدد أفراد قافلة الحاج بستين ألفاً([41]). وهرب حسين باشا مكي والي دمشق إلى غـزة حيث عـزل عـن الولايـة([42]). وأشارت بعض الروايات إلى تشجيع ظاهر العمر للبدو بمهاجمة قافلة الحاج([43]). وبالرغم من أن هذا الأدعاء لا يمكـن إثباتـه أو نفيـه([44]). إلا أن مـن المؤكـد أن ظاهـراً سمح لبنـي صخر وحلفائهم ببيع غنيمتهم من قافلة الحاج في أراضيه، وأنه اشترى بشكل مباشر أو غير مباشر كثيراً من منهوبات القافلة([45]). وقد قام ظاهر العمر بنفي التهمة الموجهة إليه أمام قبجي (أو قابيجي وهي كلمة تركية تعني رسول خصوصي للسلطان في البعثات ذات الأهمية الخاصة والسرية مما كان يوفد للولايات)([46]) أرسلته الدولة للتحقيق بالحادث. وقام ظاهر بشراء المحمل والعلم النبوي الذي يقال له العقال وأرسله إلى استانبول في محاولة لاسترضاء الباب العالي([47]). وقد وجهت اتهامات مماثلة إلى أسعد باشا العظم أدت إلى قتله ومصادرة أملاكه([48]). وقد لعبت عدة عوامل في نهب قافلة الحاج ربما أهمها امتناع حسين باشا مكي عن دفع مال الصرة إلى البدو كما هي العادة المألوفة([49]). وتولي ولاية دمشق بعد حسين باشا مكي عبد الله باشا الشتجي (أو الجتة جي وتعني قاطع طريق واستخدمت أيضاً بمعنى المغوار أو الغازي) في ربيع الأول 1771ﻫ/ كانون الثاني 1758م، وقد انشغل طيلة فترة ولايته التي استمرت نحو سنة بتأمين طريق الحاج، وإخضاع القبائل في طريق الحاج مثل بني صخر وبني حرب([50]). وتولى بعده محمد باشا الشالك في رجب 1173ﻫ / شباط 1760م وعُزل في ربيع الأول 1174ﻫ/ تشرين الثاني 1760م. وقال عنهما عبود الصباغ: «ثم حضر... للشام وزير شتجى عبد الله باشا من بر الترك فتحابب مع ظاهر وبعده انعزل. وحضر غيره وزير من بر الترك (محمد باشا الشالك) وحصل محبه بينه وبين ظاهر»([51]). وربما جاء حكمهم بدون صدام مع ظاهر العمر لانشغال الأول منهما بتأمين طريق الحاج وإصابة الكوارث الطبيعية البلاد في عهد الثاني. اضافة إلى كونه لم يعهد لهما سابقاً أي ولاة محلية. ولذلك لم يكونا متورطين في منافسة محلية.
ج ـ مرحلة الصراع بين ظاهر العمر وولاة دمشق (1760 ـ 1775م):
أدى تعيين عثمان باشا الكرجي في 27 ربيع الأول 1174ﻫ / 4 تشرين الثاني 1760م إلى بداية مرحلة جديدة من الصراع، واتخذ هذا الصراع بعداً أكثر تعقيداً من السابق إذ دخلت فيه أطراف أخرى من داخل بلاد الشام وخارجها، وتحولت بلاد الشام إلى ساحة للمعارك بين الأطراف المتنازعة.
وكان عثمان باشا الكرجي مملوكاً كرجي الأصل (من بلاد جورجيا)، وعمل في خدمة أسعد باشا العظم الذي عينه حاكماً من قبله على حماه. وحين قُتل أسعد باشا وصُودرت أمواله، بادر عثمان إلى إعلام السلطات عن مخابئ أموال سيده ولذلك لقب بالصادق. وعُين في كانون الثاني 1760م والياً على طرابلس ثم نقل في 6 تشرين الثاني من السنة نفسها إلى ولاية دمشق، نظراً لخدماته للدولة وتفانيه في تأمين سلامة الحاج حين عُين أميراً للجردة في أثناء ولايته على طرابلس([52]).
واتبع عثمان باشا الكرجي سياسة مختلفة عن سياسة سيده أسعد باشا، إذ يبدوا أنه لم يكن موافقاً على سياسته السلمية تجاه ظاهر العمر. ويعطى «فولني» بعداً شخصياً لسياسته العدائية تجاه ظاهر بقوله: «إنه يكن بغضاً شخصياً لظاهر. ولكن يبدو واضحاً أن سياسته انطلقت من سياسة الباب العالي بإيجاد قوة موازنه لظاهر، وأراد الباب العالي تعزيز مكانته وسلطته بتعين ابنه محمد والياً على طرابلس»([53]). ويرى بعض المؤرخين أن حكم عثمان باشا هو استمرار لحكم آل العظم([54]). ولكن الحقيقة لم تكن كذلك. إذ ساد التنافر بين الطرفين. فقد كان آل العظم يطمحون إلى تعيين مرشحهم الجديد محمد باشا العظم والياً على دمشق، فناصبوا عثمان باشا الكرجي العداء باعتباره كان مملوكاً لديهم وبنى أمجاده على حسابهم([55]).
ومَنح الهدوء الذي ساد بين العسكر في دمشق في بداية حكم عثمان باشا الفرصة له لتوجيه إهتمامه نحو ظاهر العمر الذي تعاظم نفوذه خلال السنوات السابقة. وبعد حوالي ثلاثة أشهر من تعيينه خرج عثمان باشا إلى الدورة، وقام بالاستيلاء على قلعة الطنطورة (التي استولى عليها ظاهر في بداية الخمسينات) وقتل حاميتها. ولكن ظاهراً استردها بالقوة بعد رحيل عثمان باشا([56]).
وأبرز هذا الحادث سياسة عثمان باشا القائمة على إخضاع ظاهر العمر وسياسة الأخير للقيام بالرد عليه ومقاومته. ثم قام عثمان باشا باستصدار فرمان من الباب العالي بفصل التزام حيفا عن عكا بعد أن كانت حيفا تابعة لإلتزام عكا بموجب قرار اتخذته الدولـة سنـة 1723 كما ذكر سابقاً. وأرسل عثمان باشا إثر ذلك قوة بحرية إلى حيفا في 24 أيار 1761م حيث تم هزيمتها من قبل ظاهر العمر. وحاول ظاهر عبر وكيله في استنبول وبمطالبة القنصل الفرنسي في صيدا ونائب القنصل الانجليزي في عكا التدخل لإلغاء فرمان السلطان حول حيفا وبذل محاولات للصلح بين الطرفين. ويبدو أن ذلك لم يسفر عن شيء بدليل قيام عثمان باشا بمحاولة أخرى في أيلول 1761م. ولكن نجح ظاهر في محاصرة القوة التي أرسلها وأجبرها على التسليم([57]).
وهكذا فشلت المحاولات الأولى لعثمان باشا للحد من سلطة ظاهر. وربما من أسباب فشله كون حيفا قريبة من ظاهر، وبعيدة عن مركز قوة عثمان باشا. وفوق ذلك عدم الإنسجام بينه وبين ولاة صيدا مما أبعد إمكانية العمل المشترك بين الطرفين([58]). ولذلك حاول عثمان باشا الحصول على ولاية صيدا لابنه درويش باشا لتشديد قبضته على ظاهر في الوقت الذي كان ابنه محمد باشا والياً على طرابلس.
وحاول ظاهر العمر الوصول إلى صلح مع عثمان باشا الكرجي ووقف هجماته. فاتصل مع وكيله يعقوب آغا الذي كان على صلة مع الكازلار آغا (المشرف على حريم السلطان وكان له نفوذ كبير في ذلك الوقت)، ومع سليمان آغا السلحدار (حامل سلاح السلطان) في القصر السلطاني لإنهاء هجمات عثمان باشا على حيفا. فتدخل يعقوب آغا وأوقف تدخلات عثمان باشا. ولكن غضبت الدولة على يعقوب آغا بعد موت الكازلار آغا وعزل سليمان آغا ونقله إلى قبرص. وقد حاول سليمان آغا التدخل أثناء عزله للتوسط بين ظاهر وعثمان باشا ولكن رفض الأخير ذلك. وبدأ عثمان يطلب من الدولة السماح له بمحاربة ظاهر، ولكن الدولة لم تبدِ أي موافقة. وقد قام يعقوب آغا بعد عودة سليمان آغا إلى منصبه السابق بالتدخل لدى الدولة ونجح في استصدار فرمانا بإحالة الخلاف حول حيفا إلى محكمة تعقد في عكا. وعُقدت المحكمة في سنة 1766م في عكا برآسة قاضي عكا، وصدر القرار لصالح ظاهر العمر، إذ جاء فيه أن ظاهراً أخذ حيفا من أجل حماية دمه وصيانة حياته. «وأرسلت الدولة إثر ذلك فرماناً إلى عثمان باشا بعـدم محاربـة ظاهـر العمـر([59]). وعلق «هولت Holt» بأنه ليس مدهشاً أن يحكـم القاضـي لصالح ظاهر العمـر كـون المحكمـة عقدت في مدينة تحت حكمه([60]). ولكن من الجدير ذكره هنا أن القضاة عرفوا باستقامتهم خلال الفترة العثمانية.
وشهدت تلك الفترة خلافات داخلية، وصراعاً على النفوذ بين ظاهر العمر وأبنائه ممّا أشغله عن الأمور الخارجية. وانشغل عثمان باشا هو الآخر بالاضطرابات التي حدثت في المناطق الريفية من ولايته([61]). ولذلك ساد الهدوء إلى حد ما بين عثمان باشا الكرجي وظاهر العمر حتى نهاية الستين. وحدث في أواخر الستين تقارب بين ظاهر وبين الباب العالي. إذ كان الأخير يعلم أن قوة ظاهر قد ازدادت إلى درجة كبيرة. وأن أي هجوم عليه سيكون له مضاعفات خطيرة في وقت كانت الدولة العثمانية منشغلة في حربها التي بدأت مع روسيا سنة 1768م([62]). فسعى إلى تهدئة ظاهر العمر ووافق على طلبه بمنحه لقب «شيخ عكا وأمير الأمراء والحاكم في الناصرة وطبرية وصفد وكل الجليل»([63]).
ودعم عثمان باشا الكرجي أثناء ذلك الخلافات بين ظاهر العمر وأبنائه من أجل إضعاف الجبهة الداخلية لظاهر العمر. فقد دعم ثورة علي الظاهر ضد أبيه سنة 1762م، ثم دعم ثورة علي وأخيه سعيد ضد أبيهما أيضاً سنة 1767م([64]). فيما قام ظاهر من طرفه بدعم ثورات سنجقي يافا، وغزة والرملة ضد عثمان باشا الكرجي في النصف الثاني من الستينات([65]).
وعقد ظاهر العمر سنة 1767م اتفاقية تحالف مع ناصيف نصار زعيم المتاولة. ويبدو أن هذا الاتفاق كان موجها بشكل أساسي ضد عثمان باشا الكرجي([66]). وفي أواخر الستين تُوفي وكيل ظاهر في استانبول، ففقد ظاهر من يسانده هناك. وعينت الدولة العثمانية درويش باشا ابن عثمان باشا الكرجي والياً على صيدا في أيلول 1770م. وبدا ذلك بأنه محاولة من الباب العالي للقضاء على نفوذ ظاهر العمر، وأصبح ميزان القوى في جنوب بلاد الشام يتجه ضد ظاهر العمر. فاشتد تهديد عثمان باشا الكرجي لظاهر، وأرسل له يخبره بعزمه المرور من قرب عكا بعد انهاء الدورة في نابلس لاصطحاب ابنه درويش إلى صيدا لتدبير الوضع هناك. وما أن وصل كتاب عثمان إلى ظاهر حتى أخذ يستعد للحرب ضد عثمان لإدراكه بعدم إمكانية الصلح معه([67]). إذ بدا ذلك تحرشاً من قبل عثمان باشا به. فعقد ظاهر صلحاً مع أبنائه، واجتمع بهم لمواجهة الخطر القادم([68]). كما أتم عقد تحالفه مع علي بك الكبير حاكم مصر.
وفي كانون الأول 1770م وصلت حملة مصرية بقيادة إسماعيل بك استطاعت الاستيلاء على غزة والرملة، وعندما علم عثمان باشا (وكان في الدورة السنوية في منطقة يافا) تراجع إلى يافا حيث دخلها عنوة من أهلها ثم ارتد مسرعاً إلى دمشق بعد أن يئس من نجدة ابن جرار له، حيث وصلها في 29 شعبان 1184ﻫ/ 19 كانـون الأول 1770م([69]) ورفض عثمان بـاشا أثنـاء ذلك الاستجابة لظاهر العمر الذي أرسل يتهدده ويدعوه للقتال([70]) وقرر عثمان باشا الخروج بقافلة الحاج رغم تهديد علي بك وظاهر العمر له بعدم الخروج، واصطحب معه عساكر أكبر لحماية القافلة من أي هجوم متوقع، وقد حاول ظاهر العمر مهاجمة قافلة الحاج في المزيريب([71]) ولكن إسماعيل بك رفض ذلك([72]). وشهدت فترة خروج عثمان باشا إلى الحاج هدوءاً بين الأطراف لعدة أسباب: فقد مرض ظاهر مرضاً خطيراً قارب فيه على الوفاة حتى شاع الخبر بوفاته في بلاد الشام أكثر من مرة. ومكث يعالج أربعين يوماً حتى شفي. وإثر ذلك عسكر اسماعيل بك في مرج ابن عامر ينتظر شفاء ظاهر. كما ساهم الشتاء أيضاً في توقف العمليات العسكرية حتى الربيع([73]). وقد هاجم علي الظاهر المزيريب في ذي الحجة 1184ﻫ/ آذار 1771م فاضطر محمد باشا الكرجي أمير الجردة لأخذ طريق أخرى للجردة تمر بالزرقاء ابتعاداً عن المزيريب([74]). وأثناء غياب عثمان باشا في الحاج قامت الدولة في ذي الحجة 1184ﻫ/ آذار 1771م بتعيين نعمان باشا والي أورفة سر عسكر على بلاد الشام ووالياً على مصر لاستردادها مصر من علي بك. كما أرسلت الدولة عبد الله باشا والي حلب، وخليل باشا متسلم كلس لحماية دمشق أثناء غياب عثمان باشا من أي هجوم يقوم به ظاهر العمر وحلفائه. وعاد عثمان باشا من الحاج بأمان في 8 صفر 1185ﻫ/ 24أيار 1771م([75]).
وأرسل علي بك حملة ثانية في حزيران 1771م بقيادة محمد بك أبو الذهب توجهت نحو دمشق برفقة أبناء ظاهر العمر، وناصيف نصار زعيم المتاولة. وتقابل عثمان باشا ومعه باشوات حلب، وكلس، وعزاز، وصيدا، وطرابلس في سعسع قرب دمشق، واستطاع أبو الذهب هزيمتهم في 19 صفر 1185ﻫ / 3 حزيران 1771م. وانتقل القتال بعد ذلك إلى أطراف دمشق، واستمر بين 4 ـ 6 حزيران حتى هرب عثمان باشا من دمشق بعد أن هرب الباشوات الآخرون، واستولى أبو الذهب على مدينة دمشق ماعدا القلعة([76]).
ولكن أبا الذهب انسحب فجأة، وعاد عثمان باشا إلى دمشق من حمص التي لجأ إليها. وقد أُحرج موقف ظاهر والمتاولة إثر رجوع أبي الذهب إلى مصر، ولكن علي بك بقي على اتصال مع ظاهر العمر، ووعده بارسال معونات أخرى. وقامت قوات موالية لعثمان باشا بالاستيلاء على غزة والرملة([77]).
وخرج عثمان باشا في 13 جمادى الأولى 1185ﻫ/ 25آب 1771م للقيام بالدورة السنوية ونُصرة ابن جـرار المُحاصر مـن قبـل ظاهـر وحلفائـه، مُستغلاً عودة الجيش المصري إلى مصر. ونزل بعسكره قرب بحيرة الحولة، وأرسل للأمير يوسف الشهابي للقدوم بعسكره، ولكن الأمير يوسف تلكأ في تقديم المساعدة. وخرج إليه جيش ظاهر والمتاولة ووقعت الحرب بين الطرفين في 22 جمادى الأولى 1185ﻫ/ 2 أيلول 1771م. واستطاعت قوات ظاهر العمر هزيمة جيش عثمان باشا هزيمة نكراء. وتمت إبادة معظم جيش عثمان عن طريق القتل والغرق. ونجا عثمان باشا بصعوبة بعد أن ألقى نفسه في البحيرة، وقام بإنقاذه أحد جنوده الدلاتية، وعاد إلى دمشق في حالة يُرثى لها([78]). ووصف ابن الصديق الموالي لآل العظم عثمان باشا إثر معركة الحولة بالقول «ياحوينة الأطواخ الذي عليه مره (امرأة) أخير منه وقت الحرب والقتال»([79]) وفي رجب 1185ﻫ/ تشرين الأول 1771م عُزل عثمان باشا عن ولاية دمشق، وعُزل ابناه عن ولايتي صيدا وطرابلس، وأصبح محمد باشا العظم والياً على دمشق([80]). وذكرت بعض المصادر أن عثمان باشا المصري أصبح والياً على دمشق بدل عثمان باشا الكرجي الذي توفي([81])، ولكن الأدق هو أن محمد باشا العظم هو الذي عين والياً على دمشق، أما عثمان باشا المصري فقد عين بدلاً من نعمان باشا سر عسكراً في رمضان سنة 1185ﻫ/ كانون الأول 1771م([82]) وربما جاء هذا الاعتقاد لإقامة عثمان باشا المصري في دمشق. ومن الجدير بالذكر أن عثمان باشا المصري وقع على رسالة إلى إبراهيم آغا متسلم القدس في 27 شعبان 1186ﻫ/ 24 تشرين الأول تحت لقب «سر عسكر والي مصر»([83]).
ولم يتمكن محمد باشا العظم من الخروج للدورة بسبب منع ظاهر له([84]). إذ كان ظاهر العمر يسيطر بمساندة حليفه علي بك على أغلب مناطق بلاد الشام الجنوبية. وبرر محمد باشا العظم عدم خروجه بعدم توافر الوقت بعد أن أدركه الحاج، وبعث إلى أهالي نابلس بإعطاء مال الميرى المقرر إلى ابن طوقان الذي عينه متسلماً على نابلس([85]). والحقيقة إن محمد باشا العظم كان يملك الوقت الكافي للخروج للدورة والعودة لقيادة قافلة الحاج الشامي، ولكنه خشي أن يتورط في معركة مع ظاهـر تكـون كارثـة بالنسبـة لـه. ويشير ذلك إلى توسع هيمنة ظاهر وسطوته، وإلى فشل محمد باشا العظم في أخذ زمام المبادرة خلال مدة ولايته هذه([86]). وقد ساهم ذلك في بروز عثمان باشا المصري بصفته صاحب مبادرة ضد ظاهر العمر وحلفائه.
وأثناء ذلك قام علي الظاهر بمهاجمة المناطق التابعة لدمشق في بلاد حوران ونهب القرى وشاع اسمه وأوقع الخوف على الجميع([87]).
وقام عثمان باشا المصري بضغط من أعيان دمشق بمراسلة ظاهر العمر يطلب منـه طاعـة السلطان. وجـاء تصـرف الأعيان بدافـع الاعتقـاد أن تسوية الخلافات ستؤدي إلى تخلصهم من عبء الجيوش المرسلة إلى دمشق([88]). إضافة إلى تأثر دمشق اقتصادياً من اضطراب الأمن وقطع الطرق. وقد عبر بريك عن ذلك بالقول: «والبلد معطلة لابيع ولاشراء ولا أشغال والدروب معطلة»([89]) وفوق ذلك العبء الذي تحملوه باقتراض محمد باشا العظم الأموال منهم لتمويل قافلة الحاج الشامي([90]) بسبب عدم خروجه للدورة كما ذكر سابقاً.
ولكن ظاهراً أظهر ميلاً جزئياً نحو المفاوضة بسبب انتظاره نتائج الصراع بين علي بك ومحمد بك أبي الذهـب فـي مصـر([91]). وذكر «فولني» أن وزير ظاهر إبراهيم الصباغ ثبط عزمه عن ذلك ورفض الاقتراحات المقدمة([92]).
وبعد أن فـر علـي بـك إلـى بـلاد الشام في 25محرم 1186ﻫ/ 29نيسان 1772م تشجع عثمان باشا المصري وأرسل جيشاً بقيادة الدالي خليل، وطلب من الأمير الشهابي مساندته في استرداد صيدا، ولكن هذه المحاولة فشلت. وعندئذ حاول محمد باشا العظم مراسلة ظاهر، وأبدى استعداه للقيام بوساطة بين ظاهر وبين الباب العالي ولكن هذه المحاولات لم تحقق أي تقدم لأن ظاهراً لم يشعر بضغط عسكري للقيام بمفاوضات. وربما شعر بعدم جدية سلطات دمشق في ذلك([93]). وعزل محمد باشا في رجب 1186ﻫ/ أيلول1772م، وعُين بدلاً منه مصطفى باشا بستانجي والياً على دمشق([94]). وأعطى السلطان السلطة والصلاحية لمصطفى باشا للوصول إلى تسوية مع ظاهر العمر. ويبدو أن السلطان كان خائفاً من استثمار روسيا للوضع في بلاد الشام من أجل التدخل أكثر في شؤونها، فالسلطان بحاجة إلى الوقت حتى تنتهـي الحرب مع روسيا. وجرت مفاوضات بيـن ظاهـر العمـر ومصطفى بـاشا بوساطـة مسؤول التمويـن لمصطفـى باشا، وبتدخل القنصلية الفرنسية في صيدا. وطلب ظاهر أن يكفل والي دمشق استمرار امتلاكه للمناطق التي استولى عليها حتى هذا الوقت، وتعهد بأن يدفع مال الميرى المستحق في الموعد المحدد مع كل المتأخرات. وأبدى ظاهر أنه لا يرغب أو يتوق ليحصل على طوخين اللذين يمنحا عادة لوالي صيدا، وأنه سوف ينهض بأعباء قافلة الجردة. ولم تثمر هذه المفاوضات عن شيء بسبب عزل مصطفى باشا وتولي محمد باشا العظم الحكم مرة ثانية في رجب 1187ﻫ/ تشرين الأول 1773م([95]).
وأُعيد إجراء المفاوضات بين ظاهر العمر وعثمان باشا المصري، فقد أحرج موقف ظاهر بعد وفاه علي بك الكبير لا لأنه خسر دعماً عسكرياً. ولكن لأنه فقد حليفه الذي بدأ الثورة على العثمانيين بمساعدته، وتركزت الأنظار عليه وحده الآن([96]). كما وأن ظاهراً كان يريد اكساب ضمه ممتلكاته الجديدة الشرعية عن طريق خط شريف من السلطان([97]). أما عثمان باشا المصري فقد كان بحاجة إلى إحراز اتفاق مع ظاهر ليحسن وضعه بعد فشله في تحقيق أي نصر عسكري ضد ظاهر وحلفائه. فحدث تقارب بين عثمان المصري وظاهر، وأرسل عثمان باشا لظاهر البغال والأموال والأمتعة التي أخذها الجزار أثناء هربه من ظاهر. وأرسل رسالة لظاهر يطلب منه طاعة السلطان، وأن عثمان باشا الكرجي الذي أوجد العداوة معه قد ذهب. وطلب من ظاهر دفع الأموال الأميرية المكسورة عليه فقبل ظاهر ذلك وذكر له أن الذي ألجأه إلى الخروج عن طاعة السلطان هو عثمان الكرجي مملوك آل العظم. وأنه يرغب في طاعة الدولة، ودفع الأموال الأميرية. وطلب العفو والرضى([98]). وتم التوصل إلى اتفاق بين عثمان باشا المصري طبقاً لصلاحيته باعتباره قائد الجيش العثماني في بلاد الشام وبين ظاهر العمر والمتاولة([99]). وصدر عن عثمان باشا المصري «بيلوردي» (كلمة تركية تعني رسالة أو فرمان) في 27 ذي الحجة 1187ﻫ/ 12 آذار 1774م يتضمن «أن ينعم عليه (علي ظاهر) في إيالة صيدا على وجه المالكانه، وأن يدفع البقايا التي باقية في إيالة صيدا ألف كيس على طريق المعاجلة، وأربعمائة وخمسين كيساً في كل عام مال ميرى. وأن يؤدي خدمة الجردة كجاري المعتاد... واعرضنا إلى الاعتاب العلية والسدة الملوكية([100])» ومن الجدير بالإشارة هنا أن هذه الاتفاقية التي قدمت من قبل عثمان باشا المصري لم يتم تأكيدها وتثبيتها من قبل السلطان. مع أن عثمان وعد ظاهراً أن خطاً شريفاً سوف يصدر بما تم الاتفاق عليه. وجاء ذلك بسبب اعتلاء السلطان عبد الحميد