جاري التحميل

علاقة ظاهر العمر بولاة صيدا

الموضوعات

علاقة ظاهر العمر الزيداني  بولاة صيدا

كتب الأستاذ الدكتور خالد محمد صافي حول هذا الموضوع في كتابه " ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل في القرن الثاني عشر ( 1689-1775 م) والذي صدر عن دار المقتبس في بيروت سنة   1439هـ-2018 م

فقال:

كانت العلاقة بين ظاهر العمر وولاة صيدا بين مد وجزر، فظاهر العمر كان عليه أن يكتسب الشرعية في الحكم من والي صيدا لأنه أولاً وأخيراً أحد الملتزمين التابعين له. وكان عليه أن يسدد سنوياً الأموال المستحقة إلى والي صيدا الذي بدوره يحول هذه الأموال إلى أوجه الإنفاق التي تحددها الدولة. وحدد نظام الإلتزام المتبع طبيعة العلاقة بين ظاهر العمر باعتباره ملتزماً وبين والي صيدا. فيتوجب عليه أن يسدد مال الميرى المقرر عليه ويحفظ النظام في مناطق التزامه. ويقدم الدعم العسكري للوالي عند الحاجة([1]). ولكن هذه العلاقة النظرية والرسميـة بيـن الطرفيـن تداخلت فيها عـوامل أخـرى ساهمت فـي رسم هذه العلاقة، فقد كان ولاة صيدا يستبدلون في فترات متقاربة. إذ حكم الولاية في النصف الأول من القرن الثامن عشر أكثرمن أربعين والياً. ولم يكن الوالي في أحيان كثيرة يستطيع البقاء في منصبه أكثر من سنة واحدة، وهذا جعل جهد الوالي منصباً على تحقيق هدف رئيسي واحد هو ابتزاز المال بأقصى سرعة ممكنة من ولايته كي يسترد الأموال التي دفعها لقاء حصوله على منصبه قبل أن تنتهي مدة ولايته([2]).

وساهم الضعف العسكري لوالي صيدا وافتقاره إلى القوة البشرية والعتاد العسكري في تحديد طبيعة العلاقة مع ملتزمي ولايته، ولم يستطع تنفيذ قراراته وإدخالها حيز التنفيذ في ظل عدم وجود قوة عسكرية ملائمة لدعم سلطته ومساندتها، وسيتم تناول العلاقة بين ظاهر العمر وولاة صيدا خلال مرحلتين تمتد الأولى من بداية حكم ظاهر سنة 1705م وحتى سنة 1770م وتشمل المرحلة الثانية الفترة بين 1770 ـ 1775م التي شهدت تطورات بالغة التعقيد وسيطر ظاهر خلالها على صيدا بعد إجبار واليها على الهرب منها.

أ ـ المرحلة الأولى 1705 ـ 1770م:

تم الحديث في الفصل السابق عن قيام والي صيدا بشير باشا بتعيين ظاهر العمر ملتزماً سنة 1705م. وقد جُعل ظاهر العمر باتفاق إخوته وعمه ملتزماً لدى الدولة بدلاً منهم، وأصبح بذلك الملتزم الرسمي أمام الدولة عن المناطق التي تحكم من قبل إخوته وعمه. إذ أراد أخوته وعمه التخفي خلف ظاهر الأصغر سناً خوفاً من أي عقوبات تترتب على التأخر في دفع مستحقات ضريبة الميري للدولة([3]). وأصبح ظاهر العمر مسؤولاً بصورة مباشرة أمام والي صيدا بعد أن كان أبوه تحت وصاية الأميرين منصور وبشير الشهابي. إذ فصلت بلاد صفد عن حكم الأمير الشهابي([4]). ونجد أن والي صيدا قد اعترف بواقع سياسي قائم بالفعل عندما عين ظاهر العمر ملتزماً بدل أبيه، وأبقى على التركيبة السياسية القائمة التي استندت على النفوذ الذي اكتسبه الزيادنة في الجليل بحيث استمر شيوخ عائلة الزيداني يلتزمون مناطقهم باسم ظاهر العمر في الجليل الأسفل([5]).

وشهدت الفترة الأولى من حكم ظاهر (1705 ـ 1730م) تفوقاً واضحاً في ميزان القوى لصالح والي صيدا. إذ كان ظاهر العمر في هذه الفترة صاحب سلطة اسمية ضعيفة على الصعيدين العسكري والاقتصادي. واستطاع والي صيدا توجيه حملات تأديبية في العقدين الثاني والثالث ضد ملتزمي الجليل نظراً لتأخرهم في دفع الميري([6]). فقام بحملة عسكرية ضد شيخ البعنة لتحصيل متأخرات الميرى، وإبراز سلطته وقوته على بقية الملتزمين. وأشار عبود الصباغ إلى مشاركة ظاهر في القتال إلى جانب شيخ البعنة الذي تم محاصرته من قبل والي صيدا نحو 40 يوماً حتى استسلم وتم قتله فيما استطاع ظاهر الهرب إلى طبريا. وقد هدد الوالي عثمان باشا ظاهراً بحصار طبرية بعد عودته من جردة الحاج ولكنه عُزل من منصبه([7]). وقد أشار الشهابي إلى هذا الحادث سنة 1133ﻫ/ 1720 ـ 1721م بشيء مـن الارتبـاك والايجاز بقولـه «ثـم خـرج عثمـان باشا بالعسكر على بلاد صفد وقتل منهم نوف من ثلاثماية قتيل، وقتل البشناق وأولاده المشايخ في بلاد صفد»([8]). وربما قُصد بالبشناق هنا شيخ قرية البعنة الذي لا يذكر عبود الصباغ اسمه. وعكس انتصار والي صيدا في البعنة تفوق قوته في ذلك الوقت على قوة الملتزمين الآخرين ومنهم ظاهر العمر. ويؤكد ذلك أيضاً قيام والي صيدا سليمان باشا العظيم بمهاجمة طبرية واعتقال أسعد العمر وسجنه في سنة 1730م، وكان قد تم إطلاق سراحه بعد دفع التجار الفرنسيين مبلغ عشرين ألف قرش من مستحقات الميرى المقررة عليه([9]). ويشير ذلك أيضاً إلى توتر العلاقة بين شيوخ الزيادنة ووالي صيدا الذي شدد قبضته على ملتزمي ولايته. ويبدو أن هذه الحملات من قبل والي صيدا قد أدت مرادها في إعادة الانتظام في دفع مستحقات الميرى في تلك الفترة([10]). وبالرغم من أن ميزان القوى كان لصالح والي صيدا في هذه الفترة إلا أنه لم يقم بأي محاولة لإزاحة شيوخ الزيادنة أو استبدالهم بحكام آخرين([11]).

أما الفترة الثانية من حكم ظاهر العمر (1730 ـ 1752م) فقد شهدت تفوقاً واضحاً لظاهر العمر عبر عنه عبود الصباغ بقوله: «وصار ظاهر كل سنة يتقوى عن سنة... لأنه اشتهر بالقوة رجالاً ومالاً»([12]). وقد ساهمت مجموعة من العوامل السياسية، والاقتصادية، والعسكرية في ذلك واستغل ظاهر العمر تفوقه الواضح في القيام بحركة توسعية كبيرة شملت كل منطقة الجليل. حيث قام بالاستيلاء على هذه المناطق بطرق مختلفة. وبعد استيلائه عليها أرسل بطلب التزامها من والي صيدا الذي لم يكن باستطاعته منع ذلك([13]). وبذلك فرض ظاهر سلطته بالقوة والاحتكام لها واتباع سياسة الأمر الواقع. ولكنه في الوقت نفسه كان راغباً في هذه الفترة بإضفاء الشرعية على حكمه. وسعى للحصول على مرسوم أو قرار رسمي من الوالي لكل حركة توسع يقوم بها([14]). كما حرص على دفع الالتزامات المالية المستحقة([15]). وفي الوقت نفسه أغدق الهدايا على الوالي وحاول اتباع سياسة سلمية نحوه([16]). ومن جهة ثانية أصبحت قوة الوالي العسكرية ضعيفـة فـي مقابـل قـوة ملتزمـة ظاهـر العمـر، والملتزمين الآخرين في ولايته. واقتصرت سلطته على مدينة صيدا، ولكنها لم تكن سلطة مطلقة. واضطر الوالي بسبب عدم توافر القدرة العسكرية اللازمة له أن يقبل هذا الوضع. واكتفى بمحاولة تحصيل المستحقات المالية المقررة على الملتزمين([17]).

واستغل والي صيدا إبراهيم باشا العظم تولية عمه سليمان باشا العظم على ولاية دمشق سنة 1741م فسعى إلى استرداد نفوذه، وبسط سلطته، واستعادة ميزان القوى لصالحة بإخضاع ظاهر العمر أو القضاء عليه. وتوجه إبراهيم باشا بالشكوى لسليمان باشا العظم، وقد أشار ميخائيل الصباغ إلى ذلك بقوله: «لما رأى أن ظاهر غلبه على أكثر البلاد التي في ولايته وتولاها هو ومنع عنه العوائد التي كانت ترد عليه من ولاتها، ولم يعد يصل إليه إلا المال الميرى السلطاني المقرر ولا يقدر أن يقاويه». وأرسل له سليمان باشا يطلب منه مهادنة ظاهر حتى يأتيه جواب الدولة وإذنها بمحاربته([18]). وفي سنة 1741م، وأثناء فترة ولايته الثانية على دمشق طلب سليمان باشا من إبراهيم باشا بالخروج لظاهر وقتاله ولكن إبراهيم باشا هزم من قبل ظاهر قرب عكا. وعند ذلك قرر سليمان باشا مهاجمة ظاهر بنفسه([19]). وقاد في الفترة بين 1741 ـ 1743م حملتين عسكريتين ضد ظاهر العمر لم يكتب لهما النجاح وأنتهتا بوفاته.

وشارك والي صيدا في هذه الحملات بموجب فرمانات صدرت من الدولة تأمره بذلك([20]). ولكن فشل حملات سليمان باشا ووفاته سنة 1743م ثبت ميزان القوى لصالح ظاهر العمر الذي استغل ذلك، واستولى على عكا، وطرد الآغا المعين من قبل والي صيدا. وحصل على التزامها بعد أن بسط سلطته عليها بالقوة([21]). وشهدت فترة الأربعين فقدان والي صيدا السيطرة على الملتزمين ولا شيء أكثر توضيحاً من قيام سعد الدين باشا العظم بتوجيه تهديدات عقيمة لإرسال حملات تأديبية ضد ظاهر والمتاولة. وبالرغم من أن ولاة صيدا كانوا نظرياً لا يزالون يمارسون الضغط على الملتزمين عن طريق الاعتراض أو منع تجديد التزاماتهم. ولكن ذلك أصبح الآن مجرد مظاهر احتفالية فقط. وبسبب عجز ولاة صيدا واستمرار اعتداءات ظاهر على أراضي ولاية دمشق فإن المسؤوليةالحقيقية عن كبح تعدياته ظاهر أصبحت على عاتق ولاة دمشق. وخرجت المبادرة من يد ولاة صيدا([22]). وفي ضوء إتباع أسعد باشا سياسة سلمية تجاه ظاهر فإن والي صيدا لم يعد بإمكانه الوقوف في وجه ظاهر ولاسيما أن علاقة كل من أسعد باشا بأخيه سعد الدين والي صيدا شهدت سوءاً وتوتراً في تلك الفترة([23]).

أما الباب العالي فقد اتجه إثر فشل حملات سليمان باشا إلى تهدئة الأمور مع ظاهر العمر، واتبع سياسته المألوفة في مثل هذه الأوضاع. وقد عبر «فولني» عن هذه السياسة بقوله: «لا تقوم سياسة الأتراك على طاعة صارمة على أتباعهم. فهم قد رأوا منذ وقت طويل إنهم إذا ما أعلنوا الحرب على جميع الثوار، فإن ذلك يستدعي منهم جهوداً متواصلة وتبديداً وافراً للأرواح والأموال، مع حسبان مخاطر الفشل في كثير من الأحيان. مما يستتبع ازدياد جرأة هؤلاء الثوار. لهذا مالوا إلى اصطناع الصبر. فهم يحرضون الجيران والأقارب والأبناء. ويتبع الثوار نفس الأسلوب إن آجلاً أو عاجلاً ويتعرضون لنفس المصير. فينتهي الأمر بإثراء السلطان بأسلابهم»([24]). وبالتالي شهدت الفترة بين وفاة سليمان باشا سنة 1743م وتولي عثمان باشا الكرجي سنة 1760م فترة هدوء نتيجة رغبة الطرفين الباب العالي وموظفيه من ولاة دمشق وصيدا من جهة وبين ظاهر العمر من جهة أخرى في عدم تصعيد الأمور إلى مواجهة حقيقية بينهما([25]). وبالرغم من سياسة الإستعداء التي اتبعها عثمان باشا الكرجي تجاه ظاهر في فترة الستين فإن ولاة صيدا لم يقوموا بعمل عسكري ضد ظاهر. بل لم يتعاونوا مع والي دمشق في محاولاته تجاه ظاهر. فنعمان باشا (1759 ـ 1762م) لم يساند عثمان باشا ضد ظاهر على الرغم من التعليمات الصادرة له من السلطان. بل أخبر ظاهراً بخطة عثمان باشا مهاجمة حيفا، وكان حريصاً على عدم معاداة ظاهر الذي يستطيع تعريض واجبه للخطر عن طريق التأخر عن دفع مستحقات ضريبة الميرى. كما أنه كان معروفاً بغيرتـه وحسده لعثمان باشا[26]). وقـد استفاد ظاهـر في هذه الفترة من الخلاف وعدم التنسيق بين عثمان باشا الكرجي ومحمد باشا العظم والي صيدا الذي كان يطمح إلى حكم ولاية دمشق. وشهدت هذه الفترة نوعاً من التقارب بين ظاهر ومحمد باشا العظم وصل إلى حد طلب ظاهر فيه مساعدته ضد أبنائه المتمردين([27]). وأبدى ظاهر حرصاً طيلة هذه الفترة على دفع مال الميرى إلى والي صيدا([28]). وربما أراد من ذلك تحييد ولاة صيدا في الصراع بينه وبين عثمان الكرجي، وتعميق الخلاف بين الطرفين لضمان عدم اتحاد جهودهما ضده. ولذلك نجد عثمان باشا الكرجي في ضوء عدم تعاون ولاة صيدا معه يسعى إلى الحصول على ولاية صيدا لإبنه درويش من أجل إحكام الطوق على ظاهر. فسعي إلى إثارة الإضطرابات ضد محمد باشا العظم في ولاية صيدا بقصد الإساءة إليه، ودفع الرشاوي في الاستانة للحصول على هذا المنصب لإبنه، ولم يتم ذلك إلا في أيلول 1770م([29]). وخلال هذه الفترة حالف ظاهر العمر المتاولة في سنة 1767م وأصبح بموجب ذلك مسؤولاً أمام والي صيدا عن التزام الميرى عنهم([30]). كما أصبح يحكم بشكل مباشر أو غير مباشر معظم ولاية صيدا([31]).

وأدى تولي درويش باشا على ولاية صيدا إلى بداية مرحلة جديدة من العلاقة بين ظاهر العمر وبين والي صيدا.

ب ـ المرحلة الثانية 1770 ـ 1775م:

كانت هذه المرحلة حاسمة في الوضع العسكري والسياسي لبلاد الشام، إذ شهدت المنطقة تصاعداً في حدة الصراع بين جميع الأطراف. وساهم في هذا الصراع جهات أخرى من خارج بلاد الشام مثل علي بك الكبير حاكم مصر، وروسيا. ومثلت هذه المرحلة ذروة قوة ظاهر وذروة توسعاته، ولكن مثلت أيضاً الاتجاه نحو نهايته وبالتالي يمكن القول، إن هذه المرحلة كانت بحق بداية النهاية بالنسبة لظاهر العمر.

جاء تعيين درويش باشا الكرجي والياً على صيدا مؤشراً على مستقبل السياسة التي سيتبعها كلٌ من الباب العالي وعثمان باشا الكرجي والي دمشق، حيث جاء هذا التعيين بهدف تنسيق جهود ولاة بلاد الشام ضد ظاهر والقضاء عليه، إذ أحكم عثمان باشا الكرجي الطوق عليه على اعتبار أن ابنه الثاني محمد يتولى ولاية طرابلس منذ 1760م([32]). وما أن عُين درويش باشا على ولاية صيدا حتى اشتد تهديد عثمان باشا لظاهر العمر. وبدأ ظاهر يعزز تحصيناته في عكا واستنفر قواته([33]). وتبع ذلك إكمال حلقات التحالف بين ظاهر العمر وعلي بك الكبير، ودخلت حملة مصرية أرسلها علي بك الكبير بقيادة اسماعيل بك في كانون الأول 1770م، وتبعها حملة أخرى في حزيران 1771م بقيادة محمد بك أبي الذهب استطاعت الاستيلاء على دمشق، ثم تلى ذلك انسحابه المفاجئ منها. وبعد هزيمة عثمان باشا الكرجي في معركة الحولة في أيلول 1771م قرر درويش باشا والي صيدا الهرب من مدينة صيدا بعد أن تعرض لتهديدات من المتاولة بمهاجمته. وأعلم درويش باشا الأمير يوسف الشهابي بذلك، فطلب منه الأمير يوسف البقاء في صيدا، وأرسل له عساكر تحافظ على المدينة([34]). واستنجد درويش باشا بأبيه، وطلب منه خمسة قناطير بارود ورصاص وخمسمائة خيال، فعقد عثمان باشا مجلساً في دمشق وقرر إرسال ثلاثمائة خيال إلى صيدا([35]). وعلى أثر هزيمة الأمير يوسف الشهابي في النبطية في 20 تشرين الأول 1771م على يد المتاولة والصفديين (جيش ظاهر) فر درويش باشا من صيدا إلى عند أبيه في دمشق([36]). وقامت سبع عشرة سفينة أرسلها علي بك لدعم ظاهر العمر بقصف مدينة صيدا في 20 تشرين الأول 1771م دون القيام بإنزال بحري([37]). وأخليت صيدا من عساكر الأمير الشهابي. فاستولت عليها قوة من المتاولة والصفديين في 23 تشريـن الأول 1771م. وأرسل ظاهـر أحمـد آغـا الدنكزلـي متسلماً عليهـا([38]). وتعرضت صيدا للنهب في اليوم الأول لدخولها من قبل جيش ظاهر وحلفائه([39]).

وأشارت المصادر الفرنسية إلـى تعييـن حاكـم آخـر على صيدا إلى جانب الدنكزلي من قبل علي بك ويدعى مصطفي بك. فنائب القنصل «دراغون Dragon» ذكر في رسالته المؤرخة في 9 تشرين الثاني 1771م أن متسلم المدينة كان يدعى «مصطفى بك» وأنه عين من قبل الشيخ ظاهر أو علي بك([40]). ولكن القنصل «دي توليس»De Taules  ذكر في تقرير له عن الحالة السياسية في البلاد من 30 نيسان إلى 2 أيار 1772م أن مصطفى بك هو حاكم صيدا من قبل علي بك. وأن أحمد آغا الدنكزلي هو قائد القلعتين البرية والبحرية من قبل الشيخ ظاهر وأن مع الأول كل رجال الدولة ومع الثاني كل السلطة([41]). وأشار لوكروا كذلك إلـى حكم مصطفى بك أيضاً([42]). وحصن أحمد آغا الدنكـزلي مـدينة صيدا بعد تعينه حاكماً عليها([43]).

وبسقوط صيدا خضعت جميع المدن الساحلية الشامية من غزة إلى صيدا وجانب كبير من سناجق ولاية دمشق في جنوب غرب بلاد الشام لظاهر العمر وحلفائه([44]). وأبدت الدولة إثر ذلك ميلاً لعقد صلح مع ظاهر بشروط حسنة لضمان هدوئه، فقامت بعزل عثمان الكرجي وأولاده. ولكن ظاهراً مع أنه أظهر ميلاً لذلك إلا أن وزيره إبراهيم الصباغ ثنى عزمه، ورفض الاقتراحات المقدمة([45]). 

أدى فرار علي بك من مصر إلى تشجيع أعداء ظاهر على القيام بالهجوم عليه فوجه عثمان باشا المصري قائد الجيش العثماني في بلاد الشام جيوشه التي جمعها في السابق لمهاجمة مصر إلى محاربة ظاهر العمر واسترداد صيدا([46])، وأسند قيادة جيشه إلى الدالي خليل وزير «كركوك» وتحت امرته أحمد بك الجزار (وهو مملوك بشناقي الأصل من مدينة البوسنة قدم إلى القسطنطينية في الثامنة عشرة من عمره وبدأ عمله بها حلاقاً. ثم انتقل إلى مصر واكتسب شهرته هناك حيث خدم العديد من الأمراء المماليك بينهم علي بك الكبير. ونال رتبة البكوية، ولقب بالجزار لشدة بطشه ببدو أقليم البحيرة. ثم هرب إلى القسطنطينية إثر خلاف مع سيده علي بك، وبعد مكوثه هناك فترة وجيزة قدم إلى بلاد الشام ودخل في خدمة عثمان باشا المصري قائد الجيش العثماني في بلاد الشام. وأصبح له شأناً في بلاد الشام)([47]). وطلب من الأمير يوسف الشهابي الخروج للحرب معهم. وحاصر كل من جيش الدولة وجيش الشهابيين صيدا. وقام جيش ظاهر والمتاولة وجيش مصري (قدم مع علي بك عند هروبه من مصر بقيادة علي بك الطنطاوي) بالدفاع عنها والتقى الطرفان في سهل الغازية قرب صيدا في 22 أيار 1772، وشارك الأسطـول الروسـي إلـى جانب ظاهـر وحلفائـه. وهُـزم جيش الدولة والشهابيون([48]). وقـد وصفت تقاريـرالقنصليـة الفرنسيـة في صيدا نهاية المعركة بقولها: «لم نر عندها سوى أناس يفرون وآخرين يتبعونهم. إلا أن المطاردة لم تدم طويلاً»([49]). وقد وصف شناعة مريح شاعر الزيادنة معركة صيدا في قصيدة طويلة نقطتف منها هذه الأبيات:

جموع البغي ولوا في هزايم

كما الأغنام ذئب قد أتاها

وداليهم([50]) غدا والغُز([51]) راحوا ودال

وكلمين قال نفسـي لا سواها

أمـيـرالشـوف قـوطـر عالسـرايا

وخـلى الـدار تنعى من بـنـاهـا([52])

وكان لهذه الهزيمة التي نزلت بالقوات العثمانية والشهابيين نتائج بالغة الأهمية وبعيدة المدى إذ أنها لم تكن مجرد هزيمة في معركة من المعارك التي جرت بين ظاهر العمر وعثمان باشا المصري وهما خصمان إقليميان، وإنما هزيمة لكل الجهود العثمانية التي جرى التحضير لها بهدف سحق عصيان القوى المتمردة في بلاد الشام الجنوبية. والأهم من ذلك أن الهزيمة تمت بمساعدة قوة أوروبية معادية([53]).

وأعقب ذلك مفاوضات بين ظاهر العمر وعثمان باشا سر عسكر بلاد الشام حصل ظاهر بموجبها على صيدا كملكانة في فرمان صدر من قبل عثمان باشا المصري في آذار 1774([54]). وبقيت مدينة صيدا في يد ظاهر حتى خرجت من يده أثناء غزو محمد بك أبو الذهب له في نيسان 1775م.



([1])   ميخائيل الصباغ ـ تاريخ الشيخ ظاهر العمر، ص35. Mariti ـ Travels , II , P.100. Volney ـ Travels , II , P.95.

([2])   كرد على ـ خطط، ج2، ص260. Cohen ـ Palestine , P. P. 5 ـ 7.

([3])   عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص1ب، 2ظ. Rafeq ـ The Province , P. 128.

([4])   الشهابي ـ لبنان، ج1، ص8.

([5])   Cohen ـ Palestine , P. 9.

([6])   Ibid , P. 10.

([7])   عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص3ظ ـ 6ظ.

([8])   الشهابي ـ لبنان، ج1، ص17.

([9])   Cohen ـ Palestine , P. P. 14 ـ 81.

([10])   عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص6ظ. رافق ـ بلاد الشام، ص317 ـ 318.

([11])   Choen ـ Palestine , P. 15.

([12])   عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص6ظ.

([13])   المصدر نفسه، ص6ظ ـ 6ب.

([14])   Cohen ـ Palestine , P. 17.

([15])   عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص6ظ. هيد ـ ظاهر العمر، ص17.

([16])   ميخائيل الصباغ ـ تاريخ الشيخ ظاهر العمر، ص35. Volney ـ Travels , II , P. 95.

([17])   مشاقة ـ مشهد العيان، ص65. Holt ـ Egypt , P. 106. Cohen ـ      Palestine , P. 17.

Volney ـ Travels , II, P. 179.

([18])   ميخائيل الصباغ ـ تاريخ الشيخ ظاهر العمر، ص52.

([19])   عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص7ظ ـ 7ب.

([20])   البديري الحلاق ـ حوادث، ص42. Cohen ـ Palestine. P. P. 33 ـ 34

([21])   عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص 9ب.

([22])   Rafeq ـ The Province , P.242.

([23])   هيد ـ ظاهر العمر، ص26.

([24])   Volney ـ Travels , II, P. P. 95 ـ 96.

([25])   Cohen ـ Palestine , P. 17.

([26])   Rafeq ـ The Province, P. 244.

([27])   رافق ـ بلاد الشام، ص367 ـ 368.

([28])   الشهابي ـ لبنان، ج1، ص78.

([29])   عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص14ب. رافق ـ بلاد الشام، ص 357.

([30])   مانتران ـ تاريخ الدولة العثمانية، ج1، ص575. Cohen ـ Palestine , P. 83.

([31])   Volney ـ Travels, II, P. 107.

([32])   Volney ـ Travels , II , P. 107.

([33])   عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص14ب.

([34])   الشهابي ـ لبنان، ج1، ص90. أحمد رضا ـ استيلاء ظاهر العمر على صيدا، الكلية مجلد15، ج1، بيروت، 1928، ص195. اسماعيل ـ الصراع الدولي: الوثائق الدبلوماسية، ق1، ج1، ص102.

([35])   ابن الصديق ـ غرائب، ص71.

([36])   عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص20ب. بريك ـ تاريخ الشام، ص106. الدبس ـ تاريخ سوريا، مجلد 7، ج4، ص394. أحمد رضا ـ حملة الأمير يوسف الشهابي على النبطية وجبل عامل، الكلية، مجلد 16، ج1، 1930، ص 359 ـ 368. Volney ـ Travels , II. P. 113.

([37])   إسماعيل ـ الصراع الدولي: الوثائق الدبلوماسية، ق1، ج1، ص101، 103.

([38])   الشهابي ـ لبنان، ج1، ص92. الزين ـ تاريخ صيدا، ص10.

([39])   الركيني ـ جبل عامل في قرن، العرفان، مجلد28، ج1، 1938، ص55. ابن الصديق ـ غرائب، ص77.

([40])   إسماعيل ـ الصراع الدولي: الوثائق الدبلوماسية، ق1، ج1، ص105.

([41])   إسماعيل ـ الصراع الدولي: الوثائق الدبلوماسية، ق1، ج1، ص110

([42])   لوكروا ـ الجزار، ص41.

([43])   بريك ـ تاريخ الشام، ص106. اسماعيل ـ الصراع الدولي، الوثائق الدبلوماسية، ق1، ج1، ص118.

([44])   حسين سليمان ـ ثلاثي القوى المحلية ينتزع صيدا من السيطرة العثمانية، المؤتمر الأول للجمعية اللبنانية للدراسات العثمانية (لبنان في القرن الثامن عشر )، الجامعة اللبنانية، بيروت، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، 1991، ص325.

([45])   Volney ـ Travels , II , P. P. 114 ـ 115.

([46])   لوكروا ـ الجزار، ص55. جودت ـ تاريخ جودت، ج1، ص374. السويد ـ التاريخ العسكري، ج2، ص105.

([47])   الشهابي ـ تاريخ أحمد باشا الجزار، ص37 ـ 47. الجبرتي ـ عجائب، ج1، ص360 ـ 361.

([48])   الشهابي ـ لبنان، ج1، ص93. عبود الصباغ ـ الروض الزاهر، ص22ظ ـ 22 ب.  المنير ـ الدُر المرصوف، ص13. Volney ـ Travels , II , P. P. 117 ـ 118. السويد ـ التاريخ العسكري، ج2، ص105 ـ 117.

([49])   اسماعيل ـ الصراع الدولي: الوثائق الدبلوماسية، ق1، ج1 ص 134.

([50])   داليهم: يقصد بذلك الدالي خليل قائد جيش الدولة في معركة سهل الغازية. وقال الشهابي أنه كان يكنى الدالي خليل لخفة طبعه إلا أنه كان بطلاً في الحرب والدالي كلمة تركية بمعنى المجنون. انظر الشهابي ـ لبنان، ج1، ص93. حسين سليمان ـ ثلاثي القوى، ص330. آل صفا ـ تاريخ جبل عامل، ص568.

([51])   الغُز: وهي لفظة مختصرة لكلمتي طغز أغز، وهي تطلق في الأصل على قبائل تركيا اشتهرت ببأسها في أسيا الغربية في القرن العاشر الميلادي وهي تعني هنا مماليك مصر (انظر الشهابي ـ لبنان، ج1، ص74. رافق ـ بلاد الشام، ص 25).

([52])   أحمد رضا ـ استيلاء ظاهر العمر على صيدا، الكلية، مجلد15، ج1، بيروت، 1928، ص194 ـ 201.

([53])   حسين، سليمان ـ ثلاثي القوى المحلية ينتزع صيدا من السيطرة العثمانية، ص331 ـ 332.

([54])   انظر ص 75.

الموضوعات