نهاية ظاهر العمر
نهاية ظاهر العمر
كتب الأستاذ الدكتور خالد محمد صافي حول هذا الموضوع في كتابه " ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل في القرن الثاني عشر ( 1689-1775 م) والذي صدر عن دار المقتبس في بيروت سنة 1439هـ-2018 م
فقال:
أولاً ـ هزيمته العسكرية ومقتله:
كانت قوة ظاهر المتزايدة، وعلاقاته مع علي بك الكبير وروسيا وفوق ذلك تحدياته المكشوفة لولاة الدولة في بلاد الشام من الأمور التي لا يمكن تجاهلها من قبل الباب العالي. وكان القضاء على قوته جزءاً من سياسة الباب العالي المدروسة بهدف إعادة ولاية صيدا إلى ولاية منضبطة خاضعة للنظام. ويبدو أن رغبة الدولة في إعادة التأكيد على الشكل التقليدي للحكم المركزي في الولاية لم يستمد فقط من الاعتبارات النظرية أو مجرد فرض السلطة فقط بل كانت تستند على اعتبارات عملية ومنفعية أيضاً. فالتطور الاقتصادي في جنوب غرب بلاد الشام الذي تعزز بازدياد مشاركة البلاد في التجارة الدولية لم يغب عن بال الباب العالي الذي كانت الأرباح الضخمة التي تراكمت عند ظاهر ماثلة أمامه. ولذلك وجهت الخزينة العثمانية نظرها إلى هذه الثروة لا سيما أن الموقف المالي للدولة كان في وضع حرج بسبب استنزاف مواردها المالية خلال حربها مع روسيا (1768 ـ 1774م). وزاد الوضع حرجاً التعويضات التي توجب على الدولة العثمانية دفعها لروسيا بموجب معاهدة كيجك كينار جة([1]). وقد ساهمت تقارير أحمد باشا الجزار بالوشاية بظاهر وإغراء الدولة بثروته الطائلة([2]). ورأت الدولة أن استعادة السلطة على ولاية صيدا تمنح فرصة ممتازة لتسخير مصدر مهم من مصادر الدخل لمواجهة الأعباء المالية المتراكمة على الدولة، وعلاوة علـى هذه الاعتبارات يجب إضافـة حساسية البـاب العالي تجاه الأحداث في جنوب غرب بلاد الشام نظراً لقرب المنطقة من طريق الحج، وضرورة تأمينه ووضع حد للهجمات التي تتعرض لها قافلة الحاج([3]).
وأبدي السلطان عبد الحميد الأول بعد انتهاء الحرب مع روسيا رغبة في تنظيم الأوضاع الداخلية للإمبراطورية العثمانية، وكانت الدولة العثمانية على وشك الاصطدام مع حاكم بلاد فارس «كريم خان زند» الذي بدأ يهدد الجبهة العراقية، فازداد إصرارها على فرض النظام في بلاد الشام لتوحيد مجهودها الحربي ضد كريم خان زند. وقد ساهمت هذه العوامل مجتمعة في سعي الدولة العثمانية للقضاء على ظاهر العمر الذي أقلقها سنوات عدة([4]).
وكانت حملة محمد بك أبي الذهب على بلاد ظاهر تهدف إلى القضاء على قوته نيابة عن الباب العالي، ولذلك لاقت الحملة التأييد الرسمي من قبل الباب العالي. وبالرغم من فشل الحملة في تحقيق أهدافها بسبب الموت المفاجئ لقائدها محمد بك أبي الذهب وانسحاب الجيش المصري إلى مصر، إلا أن هذه الحملة أضعفت كثيراً القوة العسكرية لظاهر، فساهمت في بعثرة قواته المحلية والمرتزقة، وألحقت أضراراً فادحة بالنشاط التجاري والزراعي في بلاده، وهو نشاط شكل إحدى الدعائم الرئيسة لقوته([5]). وفوق ذلك فإن حملة أبي الذهب أدت إلى تفسخ تحالفات ظاهر العمر مع المتاولة والشهابيين. وواجه ظاهر أوضاعاً داخلية صعبة بعد انتهاء حملة أبي الذهب، فعلى الصعيد العسكري تفرقت قواته المحلية بسبب الهروب الكبير لسكان الجليل خوفاً من أبي الذهب. أما القوات المرتزقة من المغاربة فقد انقسمت إلى قسمين بعد سيطرتها على عكا إثر انسحاب الجيش المصري، وكان القسم الأول بقيادة عبد الله دراع الوادي أحد قادة المغاربة الذي أراد تسليم عكا إلى علي الظاهر، وسيطر على جزءٍ من عكا ثم أرسل إلى علي الظاهر يطلب قدومه. والقسم الثاني كان برئاسة أحمد آغا الدنكزلي الذي أرسل إلى ظاهر يستعجله بالعودة إلى عكا. ودخل ظاهر عكا وسط اشتباكات بين طرفي جنوده المغاربة، وعمل كل جهده لإحلال النظام والأمن في المدينة([6]). وعانت عكا على الصعيدين الاقتصادي والعمراني من الخراب إذ تعرضت للنهب والتخريب من قبل عساكر علي الظاهر ثم من عساكر الجيش المصري وأخيراً من قبل عساكر المغاربة بعد انسحاب الجيش المصري. وبالتالي فإن ظاهراً قد واجه بعد عودته أوضاعاً عسكرية واقتصادية صعبة([7]). وسعى إلى ترتيب الأوضاع في عكا ومناطق حكمه فاسترد يافا وربما غزة، وعمل على تحصين عكا([8]).
ولم يُمنح ظاهر العمر الوقت الكافي لترتيب أوضاعه العسكرية، فالباب العالي لم يتوقف عن محاولته للقضاء عليـه، إذ أعـد إثـر وفاة أبـي الذهب وفشل حملته خطة بديلة مستعجلة للتحرك ضده. وجاءت هذه الخطة الحربية مخالفة للخطط الحربية التي أتبعتها الدولة العثمانية في السابق في عدة نواحٍ، فالدولة في المحاولات السابقة استخدمت جيوش ولاتها في بلاد الشام، أو جيش محمد بك أبي الذهب في مصر، أما هذه المرة فقد تضمنت مشاركة جزء من القوات العثمانية نفسها ضد ظاهر. وجاء الاختلاف الثاني في هذه الخطة باعتماد الدولة العثمانية الهجوم البحري بشكل رئيسي مع مساندة برية بدل محاولاتها السابقة التي اعتمدت فقط على الهجوم براً من قبل ولاتها في بلاد الشام([9]). وأشار «دي توليس De Taules» قنصل فرنسا في صيدا في رسالته إلى «دوق ديغويون Due D'Aiguillion» وزير الدولة الفرنسية في رسالته المؤرخة في 30 كانون الأول سنة 1772م إلى أن قائد الأسطول الروسي في البحر المتوسط الكونت «الكسي أورولف Alexis Orlov» بعث برسالة إلى علي بك أثناء إقامته لدى ظاهر العمر «بأن الباب العالي وقد انتهز فترة الهدنة القائمة (بين تموز 1972 ـ آذار 1773م) أعطى أوامره لإعداد أسطولين أحدهما من البربر (ربما القصد هنا المغاربة) والآخر من الأرناؤوط مع اثني عشر ألف جندي للإنزال، وقال إن هذا الجيش معد للتوجه إلى سوريا واحتلال مواقع المتمردين (ظاهر العمر وحلفائه) ثم الانتقال إلى مصر. وهذه الخطة كانت ستدخل حيز التنفيذ. ولكن تنفيذاً للتحالف الذي عقده علي بك مع إمبراطورية روسيا تلقى عدد وافر من السفن الروسية أمراً بدخول بحر الأدرياتيك للحيلولة دون خروج الأسطول العثماني وجنوده الأرناؤوط، وعرقلة مشاريع أعداء علي بك وإفشال كل مخططات الباب العالي ضده([10])». وإن صح أدعاء «أرلوف Orlov» فهذا يشير إلى أن خيار استخدام الأسطول العثماني ضد ظاهر العمر وحلفائه في بلاد الشام ومصر لم يغب عن بال الباب العالي طيلة السنوات السابقة، وأن ظروف الحرب العثمانية الروسية هي التي أفقدت هذا الخيار قوة التنفيذ أو ساهمت في تأجيل اعتماده.
وأصدرت الدولة العثمانية أوامرها إلى القبطان حسن باشا (الذي عين قبطان باشا الأسطول العثماني في سنة 1771م) بالتوجه إلى ساحل جنوب غرب بلاد الشام على أثر وفاة محمد بك أبي الذهب وفشل حملته ضد ظاهر. وزُود القبطانُ بتعليمات مفصلـة لعمليتـه العسكريـة مـن خلال فرمـان أرسل إليه من الباب العالي، فكان عليه أن يستولي على عكا وعلى المدن الساحلية الأخرى في جنوب غرب بلاد الشام. وأرسلت الدولة مع أسطولها ثلاثة ألاف جندي عثماني للقيام بعملية إنزال في عكا([11]). وطلبت مساندة برية للقبطان حسن باشا من والي دمشق محمد باشا العظم الذي عين سر عسكر على القوات العثمانية في بلاد الشام، وكذلك من متسلم أدنة محمد باشا مليك الذين عين والياً على صيدا. وأمرت الدولة كذلك إبراهيم باشا متسلم القدس بالانضمام للقوات البرية([12]). ورافق الحملة البرية كذلك أحمد باشا الجزار الذي عين محافظاً لعكا وسواحل جنوب غـرب بـلاد الشام([13]). ويدل عدم اكتفاء الدولـة بالقـوة البحرية لمحاربة ظاهر واعتماد قوات بريـة مساندة عن خشيتها من ظاهر الذي أفشل هجمات ولاتها سابقاً وإصرارها هذه المرة على هزيمته والقضاء عليه.
وصل القبطان حسن باشا إلى صيدا في تموز 1775م حيث سلم مدينة صيدا إلى محمد باشا مليك واستفسر حسن باشا فيها عن حالة الشيخ ظاهر وعن القوات التي لديه([14])، ثم استأنف إبحاره إلى حيفا حيث وصلها في 10 آب واستولى عليها بعد أن سلمته حاميتها من المغاربة البرج والقلعة([15]).
وأشارت المصادر إلى حدوث مفاوضات بين حسن باشا وبين ظاهر عبر ممثلين عن ظاهر هما حسين أفندي ثم أحمد آغا الدنكزلي حيث طلب حسن باشا مال الميري المتأخر عن سبع سنين([16]) وذكرت معظم المصادر أن ظاهراً عقد مجلساً للتداول في الأمـر حضـره أولاده وأعوانـه، وقـال نـوفل: «فرأى بعضهم وجوب دفع المال، ورأى آخرون الرفض والتهيؤ للقتال. فقال أحمد آغا الدنكزلي: «نحن ليس لنا سلامه إلا الطاعة للأمر السلطاني ولذلك يلزمنا أن نرضى قبودان باشا شيء من المال ونتخلص من ويلات الحرب». فارتضى ظاهر بذلك وقال: «هذا هو الصواب وأنا اختار هذا الرأي السديد لأنه لم يبق لي وقت أصرفه في الحرب والفرار في الصحارى والجبال، والطاعة خير لي وأبقى». فطلب ظاهر من إبراهيم الصباغ أن يدبر شيئاً من المال ليرضي به الدولة ويتخلص من هذه الورطة، ولكن إبراهيم الصباغ وزيره أجابه بأنه لا يوجد عندنا أموال تفي بالمبلغ المطلـوب. «وفـرضاً كان عندنـا المال وأعطينا المطلـوب فالدولـة لا تقنع ولا تتركنا». فراجعه أحمد آغا الدنكزلي وقال له: «دبر لي الأن ماية كيس (وذكر الشهابي أنه طلب مائة ألف قرش (مائتي كيس)، فيما ذكر فولني أن الدنكزلي طلب مبلغ ألفي كيس) وأنا أذهب وأعطيها إلى حسن باشا. وأقنعـه بها وأرجعه إلى حيث جاء ونرفع عنا وصمة العصيان. ويلزم أن تعرف يا إبراهيم أن سيف الدولة طويل. فقال إبراهيم الصباغ: «ليس عند ظاهر مال غير الرصاص والبارود والعسكر وخرج من الديوان»([17]). وترد الرواية السابقة بتفاصيل متفاوته من قبل المصادر الأخرى([18]). فقد أشار «فولني» إلى أن مشادة وقعت بين إبراهيم الصباغ الذي رفض دفع المال وادعى عدم توافره وبين الدنكزلي الذي اتهم إبراهيم الصباغ بتكديس الثروة، وأن ظاهراً وقف إلى جانب وزيره ابراهيم الصباغ متهماً الدنكزلي بالغيرة والحسد والخيانة. وغادر الدنكزلي إثر ذلك المجلس عازماً على التآمر وخيانة ظاهر([19]) وأشارت هذه المصادر إلى مسؤولية إبراهيم الصباغ، وأنه رفض دفع المال اللازم للخروج من الأزمة وبالتالي فإن بخله هو السبب في نهاية سيده ظاهر ونهايته.
ولكن مَؤِرخَيْ سيرة ظاهر (عبود الصباغ وميخائيل الصباغ وهما من أحفاد إبراهيم الصبـاغ الـذي يبـدو أن هدفهما الأساسي مـن كتابـة سيـرة ظاهر العمر هو الدفاع عن جدهما إبراهيم الصباغ) قد برآه من تهمه إساءة نصح ظاهر ومنعه شراء رضي حسن باشا بالمال، وألقيا بالتهمة على أحمد آغا الدنكزلي. فعبود الصباغ لم يشر إلى عقد ظاهر العمر لمجلس الشورى وبالتالي لم يتناول قضية رفض إبراهيم الصباغ دفع المال اللازم لحسن باشا، ولكنه نوه إلى موافقه ظاهر على التفاوض مع حسن باشا، وأنه أرسل ممثلاً عنه يدعى حسين أفندي إلى حسن باشا وحصل منه على رد ايجابي بخصوص ظاهر. فقام ظاهر إثر ذلك بارسال هدية إلى حسن باشا عبارة عن غنم وبقر ذخيرة له برفقه الدنكزلي الذي طلب إيصال الهدية من أجل مقابلة حسن باشا، على الرغم من تحذير إبراهيم الصباغ لظاهر من إمكانية خيانة الدنكزلي وإفساد ما تم التوصل إليه عبر حسين أفندي. ولكن ظاهراً الذي يثق بالدنكزلي رفض حديث إبراهيم الصباغ وقال: «من غير الممكن أن أشك في خيانته لأنني ربيته نظير ابني... ولو أن كامل أولادي تخونني فالدنكزلي من غير الممكن». ويتابع عبود روايته بأن الدنكزلي حرض حسن باشا على ظاهر وأغراه بأخذ ثروة إبراهيم الصباغ، ووعد بتسليم عكا ورأس ظاهر له، فعدل حسن باشا عن اتفاقه الذي توصل إليه مع ظاهر عبر حسين أفندي. وعاد الدنكزلي إلى ظاهر ذاكراً له كذب حسين أفندي وعدم اتفاقه مع حسن باشا على شيء. وأن حسن باشا سوف يأتي إلى عكا للحرب، وأنه يجب الاستعداد لذلك([20]).
وسعى ميخائيل الصباغ بروايته إلى الصاق التهمة بالدنكزلي ذاكراً أن إبراهيم الصباغ كتب كتاباً إلى حسن باشا يبلغه بأنه سيقوم بجمع ما يمكنه لوفاء مال الدولة، وأنه لن يقوم من عكا إلا وهو راضٍ عنهم من وفاء الواجب له واستيفاء مال الدولة. فقبل حسن باشا ذلك ولكنه اشترط أن يطأ عكا ويدخلها وإن خاف ظاهر من عسكر الدولة فليخرج من عكا مع خاصته إلى حيث يريد حتى يدخلها حسن باشا ويستوفي مال الدولة ويتمم الأوامر السلطانية ثم يعود إلى إستانبول ويدافع عن ظاهر لدى الدولة ويسترضيها عنه. فاستشار ظاهر أعوانه واتفقوا على خروج ظاهر من عكا بعياله كما فعل قبلاً عند حضور محمد بك أبي الذهب. ولكن عثمان الظاهر تآمر مع الدنكزلي وأغراه بقتل ظاهر عند خروجه حتى ينال الحظوة عند حسن باشا([21]). والجدير بالذكر أن ميخائيل الصباغ أشار أن إبراهيم الصباغ أرسل كتابه إلى حسن باشا مع كلٍ من الشيخ عبد الحليم الشويكي وقاضي عكا محمد أفندي. ولكن المرادي ذكر أن الشيخ الشويكي قد توفي سنة 1185ﻫ/ 1771م أي قبل قدوم حسن باشا بأربع سنوات. وهذا يُدخل الشك في رواية ميخائيل الصباغ([22]). وتُحَمِل كلٌ من الروايتين بالرغم من تباينهما في المحتـوى الدنكزلـي مسؤولية خيانـة ظاهـر وبراءة إبراهيم الصباغ، وتناقضان بذلك معظم روايات المصادر المعاصرة. وتعتبر رواية ميخائيل الصباغ عن تآمر عثمان الظاهر مع الدنكزلي على قتل ظاهر العمر رواية مفردة لم يشر إليها أي من المصادر الأخرى، وهي تبقى قابلة للأحتمال في ظل السلوك الذي اتبعه عثمان الظاهر في حياة أبيه وكذلك مع أخوته لاحقاً، ولكنها بحاجة إلى دلائل أخرى لدعمها.
وإن كانت المصادر قد اختلفت في القاء المسؤولية على إبراهيم الصباغ أو أحمد آغا الدنكزلي فإنها قد اتفقت جميعاً على كيفية مقتل ظاهر وإن تباينت فيما بينها في بعض تفاصيل مقتله. فقد ظهر حسن باشا بقطع أسطوله أمام عكا في 19 آب 1775م بعد فشل المفاوضات بين ظاهر العمر وبينه، وأشار أحد المصادر إلى أن قائد فرقاطة فرنسية وصلت إلى شاطئ عكا لإخلاء التجار الفرنسيين منها خوفاً على حياتهم، قد حاول التوسط بين ظاهر وحسن باشا دون فائدة إذ أن ظاهراً ذكر له«أنا حاضر وعندي بارود وكلل (جمع كله وهي قنبلة مدفع مصنوعه من الحديد أو الحجر) كفاية»([23]). واعتمد ظاهر في الدفاع عن عكا على جنوده المغاربة بصورة رئيسية وعلى نحو ألف من فلاحي بلاده([24]). أما أبناؤه فذكر كل من الشهابي ونوفل أنهم كانوا خارج عكا لأجل جمع الذخيرة والعسكر([25]). فيما أشار الأب جبرائيل الدباس في رسالته لأخيه أثناسيوس في 5 تشرين الأول 1775م إلى أن أولاد ظاهر كانوا متوجهين لملاقاة محمد باشا العظم وقتاله([26]). وأمر حسن باشا بقصف عكا، فيما أمر ظاهر رجال مدفعيته من المغاربة بالرد على اطلاق النار فأطلق بعضهم النار. ولكن الدنكزلي أسرع إلى تهديدهم بالقتل إن فعلوا ذلك ثانية، بينما استمر حسن باشا بقصف عكا بدون مقاومة من قبل جنود ظاهر([27]). وحاول ظاهر العمر استعمال مجموعة من رجال المدفعية الأوروبين الذين استخدمهم محمد بك أبو الذهب في حملته، وأُلقى القبض عليهم من قبله بعد عودته إلى عكا، ولكن الدنكزلي حرضهم أيضاً على عدم إطلاق النار([28]). وعندما أدرك ظاهـر العمـر خيانـة المغاربـة ركب حصانه وغادر المدينة عن طريق البوابة التي تطل على الحدائق المحيطة بعكا في الشمال محاولاً الوصول لداخـل البلاد. وأثناء مـروره بمحاذاة سور المدينـة أطلق عليه جندي مغربي النار، فسقط عن حصانه، وأحاط المغاربة بجثته وقطعوا رأسه، وحملوها إلى حسن باشا([29]). وذكرت بعض المصادر أن ظاهراً بعد خروجه من عكا بعياله افتقد جاريته التي تدعى عائشة وهي كرجية الأصل، فعاد ثانية إلى المدينة لإحضارها، وأثناء عودته أطلق عليه أحد مغاربته النار فسقط عن حصانه يتخبط بدمه، فتم قطع رأسه، وأخذه إلى حسن باشا([30]). وتم ذلك في 22 أب 1775م([31]).
قال ميخائيل الصباغ: إن الدنكزلي هو الذي أطلق النار على ظاهر وقطع رأسه([32]). فيما ذكر «فولني» أن الذي قام بذلك هو أحد الجنود المغاربة. وأن حسن باشا احتفظ برأس ظاهر لأخذها إلى المجلس السلطاني طبقاً لعرف الاتراك([33]). أما جثته فقد تم دفنها، واختلفت المصادر على مكانها فقال عبود: إن هذا المكان يدعى «أبو عتبي» وهو مقام إسلامي قديم، فيما ذكر ميخائيل أن المكان يدعى «أبو عتبة»([34]). وأشارت مصادر أخرى إلى أن المكان يسمى «الرقايق»([35]). وقال الرحالة الانجليزي «بروان Browne» الذي زار عكا سنة 1797م: «إن أحمد باشا الجزار بني ضريحاً على قبر المشهور ظاهر العمر، مجاوراً لشاطئ البحر على مسافة قليلة من الجانب الشمالي للسور»([36]) وذكر القساطلي أن الجثة دُفنت في مكان يقال له النبي صالح بجوار عكا بالقرب من أسوارها([37]).
ويجدر القول: إن المصادر التاريخية ألقت بالمسؤولية عن نهاية ظاهر على ظاهر نفسه، وكلٍ من إبراهيم الصباغ وأحمد آغا الدنكزلي. وحمل معظمها إبراهيم الصباغ مسؤولية نهاية سيده ونهايته برفض دفع مال الميري المطلوب أو جزء منه. ولكن لدى قراءة تسلسل الأحداث فإنه يبدو واضحاً أن الدولة العثمانية كان هدفها من حملة حسن باشا القضاء على ظاهر العمر سواء دفع أموال الميري المقررة عليه أم جزءاً منها، إذ تشير سرعة إعداد الدولة لحملتها ضد ظاهر عقب وفاة أبي الذهب مباشرة إلى إصرارها على هدفها في القضاء على ظاهر، وتوجيه الضربة له قبل استرداد قوته وتعزيزها([38]). كما أن تعيين الدولة لأحمد باشا الجزار محافظاً لعكا وسواحل جنوب غرب بلاد الشام قبل مقتل ظاهر يبرز سياسة الدولة القائمة على القضاء عليه واحلال أحمد باشا الجزار محله على منطقة عكا. وأشار عبود الصباغ إلى أن الدولة أمرت حسن باشا بأن «يتجه إلى عكا لعنـد ظاهـر، فـإن قـدر أن يأخـذ رأسه ويتسلـم عكا كان بـه، وان كان لا يقدر فيستلم من ظاهر مال الميري المكسور عنده قديم»([39]). ويبرز من رواية عبود الصباغ أن هدف الدولة الأول هو قتل ظاهر والاستيلاء على عكا. وفوق ذلك فإن الرسالة التي وجهها حسن باشا إلى ظاهر تتضمن بشكلٍ جلي أوامر الدولة الموجهة إلى حسن باشا وتذكر الرسالة «من بعد السلام طلبت أعلمك عن سبب حضوري والأن أعرفك كل شيء ايضاحاً وهو حضوري بأوامر من الدولة العلية صانها رب البرية لكي استلم منك ميري البلاد سبعة سنين مكسورة عندك. وبعده أخذ رأسك واستلم البلاد. هذا هو سبب حضوري»([40]). وتبرز الرسالة أن تحصيل أموال الميري ليس هو الهدف النهائي للحملة، وإنما هدفها هو القضاء على ظاهر والاستيلاء على مناطقه. وأما طلب مال الميري المكسور فليس سوى حجة لمهاجمته، إذ أن قدوم حسن باشا لم يكن لمجرد المطالبة بمال الميري واستيفاء ما تيسر منه كما هي العادة في مثل هذه الزيارات، وإنما كان غرضه بهذه الصـورة الاستفزازية التـي جاء بهـا هـو أن يقضي علـى ظاهر بصفته قوة مناوئة للدولة العثمانية([41]). وجاء اشراك الدولة قوات برية إلى جانب القوات البحرية لتأمين تحقيق الهدف المنشود بالقضاء على ظاهر.
وجاءت مفاوضات حسن باشا مع ظاهر تعبيراً عن خوفه منه، وسعيه إلى إنجاح مهمته. إذ أن انتصارات ظاهر السابقة على جيوش ممثلي الدولة كانت ماثلة أمام ناظره لذلك نجده في رسالته يطلب من ظاهر دفع مالي الميري والخروج من عكا إلى مواضعه القديمة (في طبرية وصفد) مقابل التوسط له عند الدولة وإصدار فرمان بالعفو عنه حتى يعود إلى مدينته «وبهذه الطريقة تكون صنت مالك وعرضك ورجالك وحفظ مقامك»([42]). وبدا حسن باشا بعد علمه بوقوف الدنكزلي ومغاربته إلى جانبه بأنه لم يكن معنياً بالتوصل إلى اتفاق مع ظاهر وإنجاح المفاوضات([43]). وحول ذلك قال معمر: «إن الموقف الذي اتخذه ظاهر حيال مطاليب أمير البحر كان موقفاً صحيحاً، والحرب بينهما كان لا مناصمنها (سواء أتم دفع) الأموال الأموال المكسورة أو لم يدفعها. لذلك إن ما قيل عن امتناع ظاهر العمر عن دفع هذا المال أو عن الاختلاف في الرأي بين الصباغ والدنكزلي بشأنها كان في اعتقادي خلافاً مفتعلاً لتبرير هذه الحرب، وإلقاء تبعتها على ظاهر ومستشاريه، وتحويل الأنظار عن الغرض الحقيقي الذي جاء حسن باشا من أجله»([44]).
ثانياً ـ دخول حسن باشا عكا إثر مقتل ظاهر العمر:
دخل حسن باشا عكا بعد مقتل ظاهر، ونادى بالأمان للتجار الفرنسيين في الخان وللأهالي المختبئين عندهم. وكان معظم سكان المدينة قد هربوا إلى داخل البلاد عند قدوم حملة حسن باشا خوفاً من وقوع الحرب، فيما نهب مغاربة ظاهر إثر مقتله المدينة وخان الإفرنج. وبعد دخول حسن باشا سرايا ظاهر أعاد المغاربة وعسكر الدولة نهب المدينة مرة أخرى واستمر ذلك مدة ساعتين حتى نادى حسن باشا بالأمان مرة ثانية([45]).
وصل محمد باشا العظم إلى عكا في اليوم التالي لمقتل ظاهر العمر ودخول حسن باشا عكا، وكان وصوله متأخراً عن المساهمة في المعركة، وقد اتهمه حسن باشا بالخيانة بسبب ذلك. كما وصل والي صيدا متأخراً. وعاد كلٌ من والي دمشق ووالي صيدا إلى ولاياتهما بدون أي شرف أو مجد أو غنائم، وبدون المساهمة في أي قرارات سياسية تفرض على المنطقة([46]). ورأى رافق بأن القدوم المتأخر لوالي دمشق ربما لم يكن بشكل معتمد، وأنه ربما يعود إلى قلة المغامرة لديه ومحاولته التنبؤ بوضعه المستقبلي في الصراع على القوة السياسية([47]). وفسر «كوهين Cohen» الوصول المتأخر لوالي دمشق وصيدا بأنه يعود في أحد أسبابه إلى قلة الحماسة لقتال ظاهر خوفاً منه([48]).
واستطاعت الدولة العثمانية بذلك استرداد نفوذها في جنوب غرب بلاد الشام بدون كبير عناء أو تضحية تذكر([49]). وبدا من الصدام المباشر الأول بين جيش الدولة العثمانية وظاهر أن الباب العالي كان قادراً على سحق قوة ظاهر([50]). وقال حداد: «يظهر بين أشياء عديدة أنه بينما يكون السلطان في أغلب الأحيان صبوراً مع الحكام والزعماء المحليين الطموحين والمتمردين إلا إنه في العادة ينجح عاجلاً أو أجلاً عن طريق التأمر والمكيدة والتحريض والعمل العسكري في القضاء عليهم ومصادرة ثرواتهم الضخمة»([51]). وأثبت سقوط ظاهر أن هناك حدوداً لما يمكن للعثمانيين أن يتسامحوا به بخصوص الزعامات المحلية.
وذكر «فولني» أن الدولة العثمانية منحت قبطان حسن باشا مالكانة غزة والرملة واللد مكافأة له على خدماته وإحضار رأس ظاهر. وقد عَهد بها إلى آغا أقام في الرملة([52]).
ثالثاً ـ نهاية إبراهيم الصباغ وأحمد آغا الدنكزلي:
هرب إبراهيم الصباغ إثر سقوط عكا إلى قلعة جدين التي كان يحكمها أحمد الحسين تحت سلطة ظاهر، وعندما عرف أحمد حسين بمقتل ظاهر أراد أن يسلم إبراهيم الصباغ لحسن باشا، ولكن قبلان باشا أحد الشيوخ البارزين للمتاولة الذي زار أحمد حسين أثناء ذلك منعه من الإقدام على تسليمه. وكان الشيخ قبلان على علاقة جيدة بإبراهيم الصباغ فأخذه من أحمد حسين وأرسله إلى قلعة هونين في جبل عامل. واستصدر الشيخ قبلان فرمان أمان لإبراهيم الصباغ من محمد باشا العظم الموجود في عكا. ورافق الشيخ قبلان إبراهيم الصباغ إلى عكا، ولكن حسن باشا الذي استولى عليها قبل وصول محمد باشا العظم ومسك زمام الأمور بها رفض فرمان الآمان الصادر عن محمد باشا العظم، وألقى القبض على إبراهيم الصباغ([53]). وأشارت معظم المصادر إلى قيام حسن باشا بإخضاع ابراهيم الصباغ للتعذيب للاعتراف بمكان ثروته([54]). ولكن ميخائيل الصباغ وعبود الصباغ نفيا ذلك. فقد ذكر عبود أن قبجي الباب العالي الذي أرسل لضبط أموال ظاهر والصباغ منع حسن باشا من ذلك([55]). وتتفق جميع المصادر على أن إبراهيم الصباغ لاقى حتفه، ولكنها تختلف في كيفية ذلك وزمانه. فمعظم المصادر ذكـرت أن حسن باشا قـام بشنقـه علـى صارى إحدى سفن أسطولـه عنـد اقترابـه مـن استانبول كيـلا يخبـر عما غنمـه حسن باشا من أموال([56]). فيما أشار غيره إلى أن إبراهيم الصباغ عاش مدة في استانبول قبل أن يتم قتله من قبل حسن باشا حينما علم بنية إبراهيم الصباغ المطالبة بالأموال التي تمت مصادرتها منه([57]). وانفرد «فولني» بالقول: إن إبراهيم الصباغ قد قتل تحت التعذيب في استانبول. «حيث وجه له أشد أنواع التعذيب لإجباره على الاعتراف. والمؤكد أن إبراهيم الصباغ قد احتفظ بالصلابة والثبات. وهلك بشجاعة أثمن من قضيته»([58]).
ولاقى أحمد آغا الدنكزلي المصير الذي لاقاه سيده، إذ ذكر ميخائيل الصباغ أن حسن باشا أمر بقتل الدنكزلي بسبب خيانته لظاهر العمر فتم خنقه ورميه في البحر([59]). فيما أشار الشهابي إلى أن حسن باشا قتله خوفاً من أن يخبر عما أخذه حسن باشا من عكا من التحف والأموال([60]). ولكن «فولني» تناول نهاية الدنكزلي بالقول: «إن حسن باشا أرسله حاكماً إلى غزة، لكنه هلك في الطريق إذ تم دَس السُم له»([61]).
رابعاً ـ مصادرة أموال ظاهر العمر وإبراهيم الصباغ:
صادرت الدولة العثمانية أموال وأملاك ظاهر العمر وإبراهيم الصباغ، إذ ضبط حسن باشا خزائنهما وتفاوتت المصادر في ذكر مقدار الأموال والأشياء الأخرى التي تم ضبطها، فقال الأب زكار في رسالته إلى إثناسيوس دباس في 30 كانون الأول 1775م: «إن المراكب اخذوا كل شيء يخص ظاهر من كلي وجزئي، والذي فوق الأرض وتحت الأرض وكما سمعنا (فإن) المال الذي وجدوه فوق الأرض وتحتها عدا الأثاث ما ينيف عن … سبعة وثمانين ألف كيس وأناس يقولوا أكثر وأناس يقولوا أقل»([62]) وتطرق الشهابي إلى ذلك بعدم التأكد فقال «وقيل أنها كانت أثنتين وثمانين ألف كيس من الأموال، عدا القطع والتحف والبضائع الثمينة. وأخبروا أنه لما حسن باشا أمر بنقل صناديق الأموال للمراكب فأنزلوا أحد صناديق الحديد، فاجتمع أناس كثيرون ولم يتمكنوا من سحبه إلا بعد عنا (عناء) عظيم. وبعد أن كُسِّر دَرَج المكان المسحوب منه»([63]).
وتناول عبود الصباغ مصادرة حسن باشا لأموال إبراهيم الصباغ بالقول: «إن حسن باشا استولى على كامل أموال إبراهيم الصباغ في عكا منها ما كان مودعاً عند الفرنساوية، ومنها ما كان عند وكيل دير سانطا، والأقمشة والبضائغ في الحواصل. فأخذ الجميع ولم أبقى (يبق) شيء. وكان كثيراً جداً ما بين ذهب وفضه ولؤلؤ وحجارة جواهر زايدة»([64]). واستعرض «فولني» أموال إبراهيم الصباغ التي تمت مصادرتها فذكر أنه كدس ببخله عشرين مليوناً من النقود الفرنسية (فرنك) أي حوالي ثمانمائة وخمسة وعشرين ألف باوند (جنيه انجليزي) ذهبت كلها إلى الاتراك. وعلى الرغم من عدم اعتراف إبراهيم الصباغ بها وإنكاره لوجودها إلا أن حسن باشا عرف مكان الثروة، واستولى عليها من أباء الأراضي المقدسة ومن أثنين من التجار الفرنسيين. وأن أكبر هذه الصناديق قد احتاج ثمانية رجال لحمله. ووجدوا مع الذهب حلي متنوعة ولؤلؤاً والماساً وخنجر علي بك الذي تبلغ قيمته مائتي ألف فرنك (حوالي ثمانية ألاف باوند)([65]).
وقال الأب زكار في رسالته بتاريخ 30 كانون الأول سنة 1775م لأثناسيوس دباس: «ونخبركم أيضاً أن بحوادث عكا (أن) أولاد ابراهيم ودعوا (أودعوا) جانب مال غير أرزاق عند وكيل الرهبان الفرنسيسكان في عكا، والمذكور وقع بكلام قدام الناس أن أولاد إبراهيم ودعوا عندي ودايع من مال وغيره. فوشوا عليه للحكام الذين ضبطوا الجميع وأصبح أولاد إبراهيم صفرين من كل جهة»([66]). ومن الجدير بالذكر أن هذه الروايات حول أموال ظاهر العمر وإبراهيم الصباغ ربما لا تخلو من مبالغة. وأن بعض الروايات ربما جمعت بين أموال ظاهر العمر وإبراهيم الصباغ. وذكر العورة أن الجزار ضبط ايضاً أملاك أعوان ظاهر العمر([67]).
وصادرت الدولة أيضاً الأملاك غير المنقولة لظاهر العمر وإبراهيم الصباغ، واشتملت قائمة العقارات التي تمت مصادرتها منهم على دوراً ودكاكين ومخازن وطواحين وبساتين ومعمل صابون وفرن وحمام جديد([68]) وحصل الجزار سنة 1191ﻫ (1777 ـ 1778م) على سبيل المالكانة على طواحين الماء التي انشأها ظاهر العمر على نهر النعامين جنوب عكا ونهر المفشوخ شمالها، كما أنه حصل على ممتلكات الزيادنة على سبيل المالكانة في عكا وصيدا. وحسب السجلات العثمانية فإن مال الميري الذي تم جمعه في نهاية القرن الثامن عشر عن الممتلكات العقارية المصادرة من ظاهر العمر بلغ 34. 880 قرش، إذ أجر الجزار هذه العقارات لمستأجرين مقابل دفع الأجرة المستحقة([69]). وقال العورة: «كان للصباغ بستان كبير في صيدا فتملكه الجزار ثم اشتراه لاحقاً يوسف دبانة من ورثاء مصطفى بك ابن أخ سليمان باشا العادل»([70]) وانتقلت إدارة هذه الأملاك إثر وفاة الجزار إلى خليفته سليمان باشا العادل. فاستعطف سليمان باشا خاطر الدولة لإعادة هذه الأملاك إلى أصحابها، وتعهد بأن يدفع بدلاً منها من ماله، ولكن الدولة رفضت ذلك. وطلبت منه الإبقاء على كل شيء على حاله والاهتمام بإدارتها([71]).
خامساً ـ مصير أسرة ظاهر العمر ونهاية نفوذها السياسي:
إن الحديث عن الأحوال التي آلت إليها الأسرة الزيدانية بعد مقتل ظاهر العمر يستوجب التطرق أولاً إلى الترتيبات السياسية التي أوجدتها الدولة العثمانية في جنوب غرب بلاد الشام على أثر القضاء على ظاهر العمر.
أ ـ تعيين أحمد باشا الجزار والياً على صيدا:
تم ملء الفراغ السياسي الذي ترتب على مقتل ظاهر العمر من قبل الدولة العثمانية بتعيين أحمد باشا الجزار محافظاً على مدينة عكا، فيما عينت محمد باشا مليك متسلم أدنة (إحدى سناجق ولاية حلب) سابقاً والياً على صيدا([72]). وعادت المناطق التي كان يحكمها ظاهر العمر إلى ولايتي صيدا ودمشق([73]). ثم عزل الباب العالي محمد باشا مليك عن ولاية صيدا في 18 كانون الأول 1775م وعين الجزار والياً عليها حيث دخلها في آذار 1776م بعد أن رقي إلى وزير بثلاثة أطواخ نْظير خدماته في ملاحقة أسرة ظاهر([74]). وقد أعطي السلطة الشرعية على جميع ولاية صيدا لإكمال ملاحقة الزيادنة وأتباعهم.
وعملت الدولة العثمانية على توطيد النفوذ العثماني في جنوب غرب بلاد الشام الذي أصابه التدهور خلال الفترة السابقة، فرأت في الجزار والياً يتمتع بالقوة اللازمة لتوطيد السلطة المركزية المعاد تنظيمها، حيث قرر السلطان عبد الحميد الأول وضمن أهداف إصلاحيه أخرى زيادة الفاعلية الإدارية في الدولة([75]). واعتمد الجزار مثل ظاهر على القوة في الحفاظ على مركزه ونفوذه. واستفاد من تطوير ظاهر لمدينة عكا ومـن التحسينات التـي أدخلها علـى الزراعـة والتجارة وعلى الموانئ، فاتخذ من عكا مقراً لإقامته وعاصمة لولايته([76]). وجعل الجزار كل همه في بداية حكمه مطارده كل من ينتمي إلى ظاهر من آله وحلفائه. وثبت مركزه لدى الدولة بادعائه أن وجوده ضروري في بلاد الشام لاستئصال جماعة ظاهر ومحو آثارهم([77]). ودخلت ولاية صيدا وباقي بلاد الشام مرحلة سياسية وعسكرية جديدة تحت حكم أحمد باشا الجزار. وبالتالي شكل موت ظاهر العمر وتعيين أحمد باشا الجزار حدثاً مهماً في جنوب غرب بلاد الشام خاصة وبلاد الشام عامة، وإخلالاً بتوازن القوى القائم، وفتح باباً جديداً من الصراع على النفوذ([78]).
ب ـ تصفية النفوذ السياسي الزيداني:
اقتصرت الحملة التي قام بها حسن باشا على مدينة عكا نفسها دون أن تمتد إلى المناطق الداخليه، ولذلك فإن موت ظاهر العمر لم يضع حداً نهائياً لحكم الزيادنة، إذ استمر حكم أبناء ظاهر في معظم منطقة الجليل، وتحصنوا في قلاعهم([79]). وتفرق فرسان ظاهر عند أولاده عثمان وعلي أحمد([80]). واعتمد أبناء ظاهر على فرسانهم وفرسان أبيهم. ولذلك فليس مدهشاً أنهم نظروا إلى أن تعيين أحمد باشا الجزار محافظاً على عكا ليس أكثر من استفزاز من جانب الباب العالي وتصرفوا على هذا النحو. وحاولوا في البداية منع كل الإمدادات من الوصول إلى عكا عن طريق البر راجين بذلك إقناع الجزار بالتخلي عن الحكم في المدينة. ولكن هذا الحصار الاقتصادي كان ذا تأثير محدود إذ تحصن الجزار في عكا، وأكسبه تعيينه على ولاية صيدا سلطة شرعية على كل الجليل. ورأى الجزار أنه بدون التخلص تماماً من قوة الزيادنة فإن سلطته في الولاية سوف تبقى سلطة اسمية([81]).
وقال ميخائيل الصباغ»وكان عثمان الأكبر فيهم (في أبناء ظاهر) لقرب مركزه في شفا عمر إلى عكا يعد نفسه وارث الأمر في جميع بلاد صفد بعد والده. ولكن كان ينازعه على هذا أخوه علي الذي كان ظاهر يرشحه لذلك وإن كان أصغر من أخويه عثمان وأحمد، إذ كان محبباً إلى الجميع لكرمه وبأسه وشجاعته ومروؤته وعقله وحزمه»([82]).
وكانت سلطة الجزار في البداية ضعيفة ومحصورة في عكا، ولذلك اضطر الجزار أن يدع أبناء ظاهر وشأنهم، وأخذ يترقب الأحوال والأسباب للإيقاع بهم([83]). وعمل الجزار على جمع المال اللازم لإنشاء جيش قوي يستطيع به فرض سيطرته على كل الجيل والقضاء على الزيادنة، فاستخدم فرقة من اللاوندية وهي إحدى الفرق المشهورة من العساكر العثمانية. وقد صدر فرمان سنة 1776م «بأبطال هذه الطائفة وإزالتها من الخدمة الملوكية، وإخراجها من رسم العساكر العثمانية. فنهضوا من بلاد الروم متفرقين في الأقطار». وهلك معظمهم. ولم يبق إلا نحو ألف فارس بعد أن كانوا نحو ستة عشر ألفاً. فقدموا إلى بلاد الشام وعمـل نحـو ستمائـة منهم لدى الجـزار وثلاثمائـة عنـد والـي دمشق محمد باشا العظم([84]) كما استخدم الجزار عدداً من الجنود المغاربة الذين كانوا يخدمون عند ظاهر([85]).
حاول الجزار إضعاف خصومه عن طريق شق صفوفهم، وقرر الوصول لغرضه عن طريق الخديعة إذا أمكن، أو اللجوء للسلاح فقط في حالة فشل ذلك. فسعى قبل كل شيء إلى كسب أبناء ظاهر إلى جانبه عن طريق المداهنة والتملـق وإظهـار الصداقـة لهم، ولذلك فقـد سمـح لهـم ولأتباعهم بالدخول والخروج إلى عكا. وذهب إلى أبعد من ذلك وهو الاعتراف الرسمي بحكمهم للمناطق التي يحكمونها، فاعترف بحكم عثمان الظاهر لمنطقة شفا عمرو وعينه شيخ مشايخ([86]) وربما قصد بذلك تشجيعه ضد أخيه علي في تنافسهما على وراثة حكم أبيهما. ودبر الجزار لكسب أحمد إلى جانبه، فاعترف به حاكماً على منطقة طبرية. ولكن العقبة الرئيسية أمام الجزار كانت علي الظاهر، فقد كان عليٌ محارباً بارعاً ولديه قوة عسكرية مدربة وقوية. ولذلك قرر الجزار القضاء على هذا الخصم القوي والعنيد، الذي استغل انشغاله بتقوية جيشه وبسط سلطته على معظم المناطق التي كانت تحت حكم أبيه، واتخذ من صفد عاصمة له، وحاول إقناع والي دمشق عن طريق تقديم رشوة كبيرة من أجل الحصول على اعترافٍ شرعي من الباب العالي على حكمه في هذه المناطق([87]).
واستطاع علي الظاهر شن هجمات عديدة في محيط مدينة عكا و