تاريخ فلسطين الإسلامي
تاريخ فلسطين الإسلامي
كتبت الكاتبة الفلسطنية (أريج أحمد القططي حول هذا الموضوع في كتابها (فلسطين في مجلة المنار الصادرة في مصر (1898-1940) ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت – سنة (1439هـ - 2018م)
فقالت:
* الفتح العمري لبيت المقدس:
حرص المسلمون على فتح بلاد الشام وفلسطين بشكل خاص، وتخليصها من أيدي الروم، لأن هذه البلاد لها مكانة وقدسية عند المسلمين، كونها بلاد أولى القبلتـين ومسـرى النبـي صلى الله عليه وسلم، وترتب على ذلك أن توجهت الجيوش الإسلامية نحوها، وتم فتحها بعد هزيمة الروم في معركة اليرموك سنة 15ﻫ/ 636م.
وكتب رشيد رضا في مقال له بعنوان «سورية والإسلام» عن الفتح الإسلامي لبيت المقدس، والعهدة العمرية التي أعطاها أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب لأهل القدس، وجـاء هذا المقال في إطار الرد على الكاتب رفـول سـعادة حيـث يقول الكاتب: «إن التعصب ظهر بعد فتح المسلمين أورشليم، وعقد المعاهدة بينهم وبين النصارى في البيت المقدس»، وذكر نص المعاهدة نقلًا عن المؤرخ الإيطـالي قيصر كنو وهي مزورة على نسق المعاهدات الأوربية مؤلفة من 15 مسألة (بند)، ولا شك أن هذه المعاهدة مختلفة من الإيطالي أو غيره من غلاة التعصب، وكل منقرأها من العارفين باللغة العربية وأساليبها والعارفين بحال الناس في ذلك العصر يعرف أنها مكذوبة بالبداهة([1]).
وإننا نذكر نص المعاهدة التي أوردهـا إمام المؤرخين والمحدثين بن جرير الطبري في تاريخه، ثم ما أورده هذا الكاتب المتعصب عن أساتذته متعصبي أوربا ليقارن صاحب جريدة المناظر الغراء وأمثاله من فضلاء النصارى المنصـفين بين الروايتين، ويعلموا من أين جاءنا النزاع والخصام، أما النص الذي أورده الطبري:
عهد سيدنا عمر لأهل بيت المقدس: (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها أن لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينقص منها، ولا من حيزها، ولا من حليهم ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن ، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان (كذا ولعله تحريف) فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيليـاء من الجزيـة ، ومن شاء سـار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فإنـه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبى سفيان. وكتب وحضر سنة 15([2]).
وأما المعاهدة المكذوبة التي أوردها الكاتب المتعصب في جريدة المناظر فهي:
1 ـ يسمح للمسيحيين الذين سلموا للمسلمين أن يبقوا في مدينتهم المقدسة، وأن يقيموا فروض ديانتهم وطقوسهم كما يشاءون، ولكن لا يسمح لهم أن ينشئوامعابد، ولا كنائس جديدة لا في المدينة، ولا في نواحيها.
2 ـ يجب على المسيحيـين أن يتركوا أبواب كنائسـهم مفتوحة أوان الصلاة واستعمال الطقوس، ويباح للمسلمين الدخول إليها عندئذ لمراقبـة مـا يصـنعون خوفًا من أن يتآمروا سرًّا على المسلمين.
3 ـ يجب أن تكون أبواب المسيحيين مفتوحة لجميع ضيوف المسلمين.
4 ـ يجب على المسيحيين أن يقدموا للمسلمـين الذين يأتون لزيارة المدينـة المقدسـة طعامًـا ليوم واحد فقط بدون أن يأخذوا ثمنـه، وإذا مرض أحد أولئك الضيوف التزموا بخدمته حتى يبرأ.
5 ـ لا يجوز للنصارى أن يمنعوا أولادهم من تعلم القرآن، ولا يجوز لهم أن ينهوهم عن اعتناق المذهب الإسلامي إذا أرادوا.
6 ـ يجب أن يعتبر المسيحيون المسلمين أسيادًا لهم.
7 ـ لا يجوز للمسيحيين أن يلبسوا لباس الإسلام، ولا أن يتسموا بأسمائهم، ولا أن يتصفوا بصفاتهم، بل يجب أن يكونوا على خلاف منهم في كل شيء.
8 ـ يجب على المسيحيين إذا أرادوا أن يركبوا أن لا يركبوا خيلًا، ولا نوقًا، بل حميرًا وبغالًا، ولا يجوز لهم أن يقلوا سلاحًا، ولا يجوز أن تكون منازلهم مزينة بمثل الزينة والتحف والأشياء التي يزين بها المسلمون منـازلهم، حتى ولا براذع حميرهم يجوز أن تكون كبراذع حمير المسلمين.
9 ـ لا يجوز للمسيحيين أن يبيعوا خمرًا، ولا كحولًا البتة، ولا أشربة روحية ما إلا بإذن الخليفة أو ممثليـه فقط، ولا يجوز لهم أن يتركوا خنازيرهم ومواشـيهم تسرح في الأسواق.
10 ـ يجب على المسيحيين أن يلبسوا ثياب الحداد دائمًا، وأن يشدوا وسطهم بسيور من جلد.
11 ـ لا يجـوز للمسيحيـين أن يرفعوا صلبانًا فوق الكنائس، ولا أن يدقوا جرسًا، والأجراس والصلبان الموجودة حالًا متى وقعت لا يجوز أن يوضع غيرها في مكانها.
12 ـ لا يجوز للمسيحيين أن يطلوا على المسلمين في معابدهم.
13 ـ يجب أن يقدموا الجزية في أوانها، ولا يتأخروا عن جمع الضرائب.
14 ـ يجب أن يحترموا الخلافة الإسلامية والمسلمين كسادة للبلاد، ولا يتآمروا عليهم.
15 ـ يلتزم الخليفـة بتأمين النصـارى الخاضعين لجميع شروط ونصوص هذه المعاهدة([3]).
ويقدم رشيد رضا دلائل على كذب هذه الرواية فيقول: ومما ينتقد من هذه المعاهدة أن المسلمين لم يكونوا يقولون: (مدينتهم المقدسة) ولا كلمة (الطقوس) ولم يكونوا يرحلون لزيارة تلك البـلدة، ولم يكن لهم لباس مخصوص، ولم يكونوا يزينون بيوتهم، ولم يكن في زمانهم شيء يسمى (الكحول)، ولا الأشربة الروحية، وإنما كانوا يسمون كل مسكر خمرًا. ويمتنع شرعًا أن يقيد بيع الخمر بإذن الخليفة،ولم يكن لهم معـابد يمنعون المسلمين من الإشراف عليهـا، ولم يضربوا على أهل تلك البلدة ضرائب، ولم يكونوا يعبرون عن السلطة بالخلافة الإسلامية، ولا عن عمر بالخليفة، هذا ولم يكونوا يخافون من المؤامرة عليهم، فإنهم غلبوا القوم، وهممستعدون للقتال، ولو خافوا أو احتاطوا لم يكن ذلك معيبًا ولا باعثًا للتعصب، فإنه أمر طبيعي معهود من جميع الفاتحين، والسيادة بطبيعتها للفاتح فلا معنى لاشتراطها،ولم يكن من فائدتهم المنع من التشبه بهم، وتعلم كتابهم والتسمي بأسمائهم([4]).
ويستنتج رشيد رضا أن هذه المعاهدة وضعت في هذا العصر؛ لأن أسلوبها واصطلاحاتها كلها عصرية. فأين المنصفون يميزون بين تساهل المسلمين وتعصب غيرهم. إنهم ليختلفون على سلفنا حتى في هذا العصر عصر الحرية والعلم؛ ليعيبونا، وينفروا قومهم وسائر الناس منا فهل فعلنا نحن شيئًا من مثل هذا؟([5]).
ويستطرد في هذه المسألة ناقدًا بعض الروايات الإسلامية التي تشابه المؤرخ الإيطـالي فيقول: ولكني أقول: إننـي لا أنكر أن منـها ما له نظـير في بعض كتب المسلمين، ولكن لا ثقة بروايته ومن المأثور في ذلك ما رواه البيهقي من طريق حزام ابن معاوية قال: كتب إلينا عمر: (أدبوا الخيل، ولا يرفع بين ظهرانيكم الصليب، ولا تجاوركم الخنازير)([6]) ، ولكن إسناده ضعيف، ولو صح لأمكن حمله على جماعة المسلمين على أن أقوال الصحابة ليست حجة في الدين عند جمهور علماء الأصول([7]).
ومنها ما رواه البيهقى عن ابن عباس: (كل مِصْرٍ مَصَّرَه المسلمون لا تبنى فيه بيعة ولا كنيسة، ولا يضرب فيه ناقوس، ولا يباع فيه لحم خنزير)([8])، وفي إسناده حنش، وهو ضعيف([9]) على أن المسلمين أحرار في مصْرٍ مَصَّروه لأنفسهم أن يمنعوا غيرهم من الإقامة معهم فيه مطلقًا أو بشروط، وكذلك أهل الذمة، إذا كانت لهمأرض وجعلوها بلدًا، ولم يقبلوا أن يبيعوا منها شيئًا لمسلم فإن الإسلام لا يكرههم على بيعها، ولو لأجل المسجد. ومفهوم كلام ابن عباس أنه لا يمتنع بناء الكنائسفي غير المصـر الذي مصـره المسلمون كالأمصار القديمة، وما مصره غيرهم ولو بشركته معهم([10]).
وما سبق يؤكد أن المسلمين قد تميزوا بالتسامح مع أهل الأمصار، عن غيرهم من الأمم، فقـد كان هدف المسلمين هو نشر دين الله، وليس الطـمع في الأراضي والأموال، ولا إذلال الشعوب وسلب خيراتها، وهذا مستمد من كتاب الله عز وجل، فقد أمر الله تعالى بعدم إكراه الملل الأخرى على اعتناق الإسلام بقوله عز وجل: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾[البقرة: 256] ، ويدل على ذلك وجود الكنائس إلى وقتنا الحاضر في بلاد المسلمين، ومنها كنائس أثرية منذ الفتح الإسلامي، وهذا يؤكد على أن المسلمين لم يعارضوا بناءها وترميمها وزيارتها.
* تسامح المسلمين الفاتحين مع أهل الشام:
ويورد رشيـد رضـا شواهد على التسـامح الذي أبداه المسلمون لنصـاري فلسطين، على الرغم من أنها فتحت عنوة، وقد أُعجب بقول أحد وجهاء نصارى طرابلس الشام ويدعى إلياس أفندي الحداد الذي رد على أقوال بعض النصارى وقد زعموا أن الأحكام التي عامل بها المسلمون أهل الذمة قاسية([11]).
فقال إلياس أفندي: إن هذه سياسة عسكرية وهى ضرورية في أثناء الفتح لا بد منها لكل فاتح مهما كان عادلًا ومتسـاهلًا. وأقول: إنها مع كونها عسكريـة كانت أعدل وأرحم سياسة ـ كما قال بعض فلاسفة أوربا.
ويروي رشيد رضا رواية لابن عساكر تذكر أن المسلمين تركوا الأراضي في فلسطين لملاكها ولم يصـادروها منهم، فقال: «إن عمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمع رأيهم على إقرار ما كان بأيديهم من أرضهم يعمرونها ويؤدون منها خراجها إلى المسلمين، فمن أسلم منهم؛ رفع عن رأسه الخراج، وصار ما كان في يده من الأرض وداره بين أصحابه من أهل قريته يؤدون عنها ما كان يؤدي من خراجها، ويسلمون له ماله ورقيقـه وحيوانـه، وفرضوا له في ديوان المسلمين، وصار من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، ولا يرون أنه ـ وإن أسلم ـ أولى بما كان في يده من أرضه من أصحاب من أهل بيته وقرابته، ولا يجعلونها صافية للمسلمين. وسموا من ثبت منهم على دينه وقريته ذمة للمسلمين، ويرون أنه لا يصلح لأحد من المسلمين شراء ما في أيديهم من الأرضين كرهًا»([12]).
ويعلق رشيـد رضا مقارنًا بين سخاء المسلمين وتسامحهم، وبين ما تقوم به الدول الغربية من عسف وظلم للمسلمين رغم ادعائها المدنيـة والحريـة وتبنيها لمبادئ حقوق الإنسان فيقول: وأغرب ما في هذه الرواية أن يسلم الذمي فتنزع منه أرضه وتعطى لأصحابه الذميين من ذوي قرباه، ويفرض له بدل ذلك من بيت مال المسلمين. فليقارن المنصـف بين هذا وبين انتزاع أعظـم دول أوربا وطنية وحرية ومدنية أرض المسلمين من أيديهم حتى أوقافهم الدينية، وذلك بوسائل لا مروج لها إلا القـوة القاهرة والبـلاد التي يجري فيهـا ذلك قريبة منـا، ويعرف مـا فيهـا العارفون([13]).
أما أهل فلسطين والشام فقد كانوا تحت الحكم الروماني يعانون من الجور والعتو والاضطهاد، وحتى مؤرخو النصارى يعترفون بما قاسى أهل الشام منهم عامة، وما قاسى اليهود منهم خاصة، لا سيما بعد ما دخل الرومانيون في النصرانية. ولقد تنصر معظم أهل سوريـة، ولكن لم يتجنسوا بالجنسيـة الرومانيـة، ولم يكن حكامهم يعاملونهم على اتفاقهم معهم في الدين معاملة المساواة؛ لذلك أدهشهم عدل الإسـلام، ومساواتـه فكانوا عونًا للمسلمـين على الروم في حربهـم، ولولا ذلك لم يتم للعرب فتح الشام في تلك المدة القصيرة([14]).
ويستشهد رشيـد رضـا برواية للبلاذري فتوح البلدان: حدثني أبو جعفر الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: (قد شُغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم) فقال أهل حمص: (لولايتكم وعدلكم أحب إلينـا مما كنـا فيـه من الظُّلم والغَشَم، ولندفعنَّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يـدخل عامـل هرقل مدينـة حِمـص إلا أن نغـلب ونجهـد؛ فأغلقـوا الأبواب وحرسوها. وكذلك فعل أهل المدن التي صُولحت من النصارى واليهود وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنَّا عليه وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد([15]).
وقال في كتابه فتوح الشام يذكر إقبال الروم على المسلمين، ومسير أبي عبيدة من حمص: «فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة فقال: اردد على القوم الذين كنا صـالحناهم من أهل البلد ما كنَّا أخذنا منهم فإنـه لا ينبـغي لنا إذ لا نمنـعهم (أي نحميهم) أن نأخذ منهم شيئًا، وقل لهم: نحن على ما كنَّا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح، ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا أموالكم لأنا كرهنا أن نأخذ أموالكم، ولا نمنع بلادكم (أي نحميها)، فلما أصبح أمر الناس بالمسير إلى دمشق، ودعا حبيب بن مَسْلَمَة القوم الذين كانوا أخذوا منهـم المال؛ فأخذ يرده عليهم، وأخبرهم بما قال أبو عبيـدة، وأخذ أهل البلد يقولون: ردَّكـم الله إلينـا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن ـ والله ـ لو كانوا هنا ما ردوا إلينا، بل غصبونا، وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا»([16]).
قال البلاذري: حدثني هشام بن عمار أنه سمع المشايخ يذكرون أن عمر بن الخطاب عند مقدمه الجابية([17]) من أرض دمشق مر بقوم مجذومين من النصـارى، فأمر أن يعطوا من الصـدقات، وأن يُجْرَى عليهـم القوت. وقال هاشم: سمعت الوليـد بن مسـلم يذكر أن خالد بـن الوليـد شرط لأهل الدير الذي يعرف بدير خالد([18]) شرطًا في خراجهم بالتخفيف عنهم حين أعطوه سُلَّمًا صعد عليه، فأنفذه لهم أبو عبيدة. ولما فرغ أبو عبيدة من أمر مدينة دمشق سار إلى حمص فمر ببعلبك، فطلب أهلها الأمان والصـلح فصالحهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وكتب لهم عهد أمان([19]).
ويرد رشيد رضا على من ادعى أن المسلمين كان حكمهم قاسيًا وأنهم صادروا الكنائس والبيوت وأنهم منعوا النصـارى من العمـل في الدواوين، فقال: أرأيت الفاتح الذي يصالح خصمه مثل هذا الصلح اللين يقال فيه: إنه قاسٍ يهدم الكنائس ويأخذ المنازل. وقد أسلفنا في النبذة الماضية أنهم كانوا يَدعُون لهم أملاكهم حتى ما يأذنون للمسلمين أن يشاركوهم فيها ولو بحق! أما الدواوين التي زعم المتعصب أن نصارى سورية كانوا محرومين منها فقد كانت في الحقيقة في أيديهم خاصة، فإن عمر لما دَوَّنَ الدواوين؛ كانت دواوين بلاد الشام بالرومية لكثرة الكتاب في الروم وقلتهم في العرب، مع عدم عناية المسلمين باحتكار أعمال الدولة، وظلت على ذلك إلى عهد عبد الملك بن مروان، وسبب نقلها إلى العربية ما قاله البلاذري في روايته: «ولم يزل ديوان الشام بالرومية حتى وَلِي عبد الملك بن مروان، فلما كانت سنة 81ﻫ أمر بنقله، وذلك أن رجلًا من كُتَّاب الروم احتاج أن يكتب شيئًا فلم يجد ماءً فبال في الدواة؛ فبلغ ذلك عبد الملك فأدَّبه، وأمر سليمان بن سعد بنقل الديوان فسأله أنيعينه بخراج الأردن سنة ففعل ذلك؛ فلم تنقضِ السنة حتى فرغ من نقله»([20]).
وقد شهد القس إسحاق طيلر بتسامح المسلمين في معاملتهم لأهل فلسطين، وذلك في مقالة له نشرتها المنار([21]) أجرى مقارنة فيها بين معاملة المسلمين والنصارى، ففي حين قتل الفرنجة سبعين نفسًا من المسلمين حين احتل «كودفري دي بوليون» أورشليم، نجد أن الخليفة عمر بن الخطاب تعامل بالرحمـة حين فتحها المسلمون أول مرة، أو حينما استردها صلاح الدين من الصليبيين ثاني مرة، ما أكبر الفرق! ويعلق طيلر قائلًا: «المسلمون يدَّعون ـ وأنا أعتقد أنهم على الحق ـ أن تواريخهم أقل تلويثًا بالدماء من تواريخ النصارى([22]).
يتضح مما سبق أن المقالات التي نشرتها المنار عن تسامح الإسلام والمسلمين كان في إطار أهداف ورسالة المجلة، وهي نشر الإسلام والرد على الافتراءات التي ينشرها أعداؤه، والتي انبرى كُتَّاب المجلة للإتيان بالشواهد والدلائل التي تثبت عدل وسماحة ووسطية الإسلام، ومقارنة عدل المسلمين الفاتحين مع ما تقوم به الدول الاستعمارية من جرائم في الدول التي تحتلها.
* المسجد الأقصى في العصر الإسلامي:
فصَّلت مجلة المنار في تاريخ المسجد الأقصـى في العهد الإسلامي، فنشرتمقالًا طويلًا من (19) صفحة، عن تاريخ المسجد ومكوناته وبنائه، وجاء المقال على جزئين([23]) وكان سبب نشر هذا المقال هو حث المسلمين للتبرع لإعمار وترميم المسجد الأقصـى، فقد سُبق المقال بدعوة نشـرها المجلس الشرعي الإسـلامي الأعلى في فلسطين للمسلمين بعمارة المسجد الأقصى الشريف.
فبدأت بقيام عبد الملك بن مروان بإنشاء المسجد الأقصى وقبة الصخرة الذي رصد له خراج مصر سبع سنين، ووكل على العمارة رجاء بن حيوة الكندي([24])، ويزيد ابن سلام. ووصف ما يختاره من عمارة القبـة وتكوينها للصـناع فصنعوا له (قبة السلسلة) فأعجبه تكوينها وأمر ببنائه كهيئتها([25]).
وبقيت بعد الفراغ من عمارة الحرم مئة ألف دينار فأمر بها عبد الملك جائزة لرجاء ويزيد فكتبـا إليه: (ونحن أولى أن نزيده من حُلِيِّ نسائنـا فضلًا عن أموالنا فاصرفها في أحب الأشياء إليك) فكتب إليهما بأن تسبك وتفرغ على القبة، وهيئا لها جلالًا من لبود([26]) توضع من فوقها، فإذا كان الشتاء أُلبستها لتحفظها من الأمطار والرياح والثلوج([27]).
وكان الفراغ من عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى في سنة 72ﻫ، وقد قرن اسم عبد الملك بهذا الأثر الخالد منقوشًا بالفسيفساء عند مدخل الصخرة من الباب الجنوبي.
وتطرقت إلى عمليات الترميم التي أجريت على المسجد الأقصـى في زمن العباسيين، بعد زلزال سنة 130ﻫ، فعمرَّه أبو جعفر المنصور الذي أمر بقلع صفائح الذهب والفضة التي كانت على الأبواب وأنفقت على إعماره([28]).
وبعد زلزال سنة 169ﻫ أعاد المهدي إعماره. وجددت قبة الصخرة في أيام المأمون سنة 216ﻫ، كما جاء في الكتابـة المذهبـة على البابين الشرقي والشمالي من الداخل([29]).
ثم جاءت زلزلة ثالثة سنة 407ﻫ، تهدمت من جرائها قبة الصخرة وبعض الجدران في الشمال الشرقي من الساحة المحيطة بها، فقـام الظاهر لإعزاز دين الله بتجديد عمارتها سنة 413ﻫ على يد علي بن أحمد كما نقش على الأعمدة الواقعة داخل القبة. ومما زيد فيها في زمن الفاطميين البناء المسمى اليوم بجامع النساء([30])([31]).
ولما احتل الصليبيون بيت المقدس، حولوا قبة الصخرة إلى كنيسة، والمسجد الأقصى إلى منزل لسُكْنَى ملكهم، وسموا ما تحت الأقصى بإصطبل سليمان، وربطوا فيه الخيل، فجاء صلاح الدين الأيوبي، وأعاد الحرم الشريف إلى ما كان عليه، سنة 583ﻫ. وكان الملك العادل نور الدين أعدَّ منبرًا عجيب الصنعة، من خشب مُرَصَّعٌ بالعاج والآبنوس، وعليـه تاريخ سنـة 564ﻫ، وقد أدركته المنيـة قبـل التحـرير، فأحضره صلاح الدين من حلب، وجعله في المسجد الأقصى، ورمّم محراب الأقصى، وكتب عليه بالفصوص المذهبة: «أمر بتجديد هذا المحراب المقدس، وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مُؤَسَّسٌ، عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين عندما فتحه الله على يديه شهور سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة»([32]).
وفي سـنة 634ﻫ قام الملك المعظـم عيسـى ابن أخ صـلاح الدين بعمـارة (واجهة) المسجد الأقصى الشمالية والرواق الموجود في مدخله من تلك الجهة([33]).
في العصر المملوكي نالت القدس والمسجد الأقصى اهتمامًا كبيرًا.
ففي سنة 668ﻫ اعتنى السلطان الظاهر بيبرس بعمارة المسجد ورمم صدع الصخرة الشريفة وجدَّد فصوصهـا التي على الرخام من الظاهر والتـي على قبـة السلسلة([34]).
وعمر المنصور قـلاوون سنـة 686ﻫ سـقف المسجـد الأقصى مـن جهـة القبلة([35]).
وفي أيـام السلطـان العـادل كتبغـا في سنـة 695ﻫ جدد عمـل فصـوص الصخرة الشريفة وعمارة السور الشرقي المطل على مقبرة باب الرحمة([36]). وفي أيام السلطـان المنصور لاجين جددت عمارة محراب داود الذي بالسور القبلي عند مهد عيسى عليه السلام بالمسجد الأقصى([37]).
وعمَّر الناصر محمد بن قلاوون السور القبلي الذي عند محراب داود عليه السلام ورخَّم صدر المسجد الأقصى، وفتح به الشباكين اللذين عن يمين المحراب وشماله سنة 731ﻫ، وجدد تذهيب القبتين: قبة المسجد الأقصـى وقبة الصخرة سنة 718ﻫ. وعمر القناطر على الدرجتين الشماليتين بصحن الصخرة التي أحدهما مقابل (باب حطة) والأخرى مقابل باب الدويدارية، وعمّر باب القطانين([38]). وفي أيامه أيضًا عمّر الأمير تنكز الناصري نائب الشام البركة الرخام بين الأقصى والصخرة والرخام الذي في قبلة المسجد عند المحراب، وكذا الجانب الغربي سنة 728ﻫ([39]).
وفي أيام الأشرف شعبان عمرت منارة باب الأسباط بمباشرة (السيقي قطلو بغا) ناظر الحرمين الشريفـين في 769ﻫ. وتم تجـديد الأبواب الخشب المركبة على الجامع الأقصـى والقناطر التي على الدرجة الغربية لصحن الصخرة مقابل باب الناظر في 778ﻫ([40]).
وفي سلطنة الظاهر برقوق عمرت دكة المؤذنين التي بالصخرة تجاه المحراب إلى جانب المغيرة بمباشرة ناظر الحرمين ونائب القدس الشريف الناصري محمـد ابن السيفى بهادر الظاهري 789ﻫ([41]). وتـقع دكـة المؤذنين تحت القبـة الشـمالية الغربية للمسجد الأقصى([42]).
وفي أيام الملك الظاهر جقمق احترق سقف الصخرة القبلي من جهة الغرب، من جانب القبة فأخمدت النار، وعمر السقف أحسن مما كان([43]).
وفي سنة 887ﻫ عمَّر السلطان الأشرف أبي النصر الدَّرَج الموصل إلى صحن الصخرة الشريفة تجاه باب السلسلة، وفي سنة 884ﻫ جدد رصاص قبة الأقصى ولم يكن متقن كالقديم. وفي سنة 887ﻫ أُنشـئ سبيل قايتباي المقابل لدرج الصخرة الغربي على بئر هناك، وكذلك الفسقيتان المجاورتان له([44]).
وقـد تمت في الحرم الشريف عمارات متعددة في زمن سـلاطين بنـي عثمان كزجاج شبابيك الصخرة العجيبة فإنه من آثار السلطان سليمان القانوني 945ﻫ، كما تدل على ذلك الكتابات المرسومة على زجاج الطاقات. وكذلك القاشاني البديع المحيـط بقيـة الصخرة من الخارج، فإنه صـنع في زمنه سنة 969ﻫ، وهذا التاريخ مثبت في صدر محراب قبة السلسلة، والنقوش والكتابات النفيسة، فإن قسمًا كبيرًا منهـا جُدِّد في أيام السلطان محـمود سنـة 1233ﻫ وسنة 1256ﻫ، وفي أيام السلطان عبـد العزيز سنة 1291ﻫ جدد رصـاص الصـخرة الخارجي وتذهيبها وحصلت عمارات طفيفة في زمن السلطان عبد الحميد كتجديد سبيل قايتباي وباب الصخرة الغربي وغير ذلك([45]).
يُلاحظ مما سبق:
1 ـ أن مجلة المنار وظَّفت صفحاتها لخدمة القضايا الإسلامية، ومنها قضية المسجد الأقصى المبارك، فنشرت دعوة المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى لعمارة المسجد الأقصى، والذي نشره في المجلة لعلمه بأنها تصل إلى شتى الأقطار الإسلامية، ولها مصـداقية كبيرة عند عموم المسلمين، ولم تكتفِ المجلة بذلك بل أردفت بعد الدعوة مقالًا طويلًا عن تاريخ وبناء ومكونات المسجد الأقصى، زيادة في تشويق الجماهير المسلمة للتبرع لإعماره.
p p p
([2]) مجلة المنار، مج7، ص97. انظر: الطبري، ابن جرير: تاريخ الرسل والملوك، دار التراث، بيروت، ط2، 1387ﻫ، ج3، ص609.
([6]) عن حرام بن معاوية، قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن «أدبوا الخيل، ولا يرفعن بين ظهرانيكم الصليـب، ولا يجاورنكم الخنـازير». انظـر: البيهقي: السنـن الكـبرى، تحقيـق: محمـد عطـا، دار الكتـب العلميـة، بيـروت، ط3، 2003م، ج9، ص338، حديث رقم (18713). قال الشيخ الألباني: رجاله ثقات غير حرام بن معاوية ذكره ابن حبان في «الثقات»، وأورده ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. الألباني:إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1985م، ج5، ص105.
([9]) انظر: ابن حجر العسقلاني: التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، دار الكتب العلمية، 1989م، ج4، ص323.
([12]) مجلة المنار، مج7، ص100 ـ 101. انظر: علاء الدين المتقي الهندي: كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، تحقيق بكري حياني، مؤسسة الرسالة، ط5، 1981م، ج4، ص492. وابن عساكر: تاريخ دمشق، تحقيق عمرو العمروي، دار الفكر، 1995م، ج2، ص204.
([17]) الجابية: قرية من أعمال دمشق ثم من عمل الجيدور من ناحية الجولان قرب مرج الصفّر في شمالي حوران. ياقوت الحموي: معجم البلدان، دار صادر، بيروت، ط2، 1995م، ج2، ص91.
([18]) دير خالد: وهـو دير صليبـا بدمشـق مقابل باب الفراديس، نسب إلى خالد بن الوليـد، لنزوله فيه عند حصاره دمشق، وقال ابن الكلبي: هو على ميل من الباب الشرقي. ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج2، 507.
([20]) مجلة المنار: مج7، ص230. هناك خطأ مطبعي في المجلة «سنة 18»، والصحيح «سنة 81»، انظر البلاذري: فتوح البلدان، ص192.
([21]) مقالة «الإسلام والمسلمين» نقلتهـا المنار عن جريدة (سنت جمـس غازت) الإنجليزيـة بتاريخ 18 أبريل 1888.
([23]) الجـزء الأول، مـج24، العـدد 6، يونيـو 1923م، ص448، والجـزء الثاني، مج24، العدد 10، نوفمبر 1923م. ص780.
([24]) رجاء بن حيوة بن جرول الكندي، أبو المقدام: (ت 112ﻫ= 730م): شيخ أهل الشام في عصره، من الوعاظ الفصحـاء العلماء، . كان ملازما لعمر بن عبد العزيز في عهدي الإمارة والخلافة، واستكتبه سليمان بن عبد المك. وهو الّذي أشار على سليمان باستخلاف عمر، وله معه أخبار. الزركلي، الأعلام، ج3، ص17.
([25]) مجلة المنار: مج24، ص781. نوفمبر 1923م مقال «تاريخ الحرم الشريف»، انظر: مجير الدين الحنبلي: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، تحقيق عدنان نباتة، مكتبة دنديس، عمان، ج1، ص273.
([27]) مجلة المنار: مج24، ص781. انظر: مجير الدين الحنبـلي: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، تحقيق عدنان نباتة، مكتبة دنديس، عمان، ج1، ص273.
([28]) مجلة المنار: مج24، ص782. وفي البداية والنهايـة: في خلافـة أبي جعفر المنصـور قدم القدس سنة 140ﻫ فوجد الأقصى وقبابه تشكو من الخراب، فأمر بقلع الصفائح التي على القبة والأبواب، وأن يعمر بها ما تشعث في الحرم، ففعلوا ذلك، وكان المسجد طويلًا فأمر أن يؤخذ من طوله ويزاد في عرضه، ولما كمل البناء كتبوا على القبة مما يلي الباب القبلي من جهة الأقصى بالنص بعد البسملة: بنى هذه القبة عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين سنة اثنتين وسبعين من الهجرة النبوية، وكان طول المسجد من القبلة إلى الشمال 765 ذراعًا، وعرضه 460 ذراعًا. ابن كثير: البداية والنهاية، ج12، ص44.
([30]) يقـع جامع النسـاء على امتـداد الحد الجنوبي للمسـجد الأقصـى بين المسجـد الأقصى المسقوف والجهة الجنوبية الغربية حيث جامع المغاربة (المالكية) المعروف اليوم بالمتحف الإسـلامي، ويرى بعض المؤرخين الذي أنشـأ هذا الجامع هو صـلاح الدين الأيوبي في سنة 590ﻫ/ 1193م بعد ترميم المسجد الأقصى. غوشة: تاريخ المسجد الأقصى، ص43.