جاري التحميل

فلسطين ومجلة المنار

فلسطين ومجلة المنار

كتبت الكاتبة الفلسطنية (أريج أحمد القططي حول هذا الموضوع في كتابها (فلسطين في مجلة المنار الصادرة في مصر (1898-1940)  ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت  سنة (1439هـ - 2018م)

فقالت:

* أولًا ـ فلسطين:

تقع فلسطين في الغرب من قارة آسـيا، ويحدها من الغرب البحـر الأبيض المتوسط، ومن الشرق سوريا والأردن، ومن الشمال لبنان وسوريا، ومن الجنوب شبه جزيرة سيناء، وعرفت فلسطين في التاريخ القديم باسم «أرض كنعان» باعتبار أن الكنعـانيين أول شعب اسـتقر فيهـا وفي البلدان المجـاورة لها، بعد أن جاءت الهجرات السامية من الجزيرة العربية([1]).

واسم فلسطين مشتق من اسم أقوام بحريـة، لعلها جاءت من غرب آسيا الصغرى ومناطق بحر إيجة، حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وورد اسمها في النقوش المصرية «ب ل س ت»، وربما أضيفت النون بعد ذلك للجمع، وقد سكنوا المناطق الساحلية، واندمجوا بالكنعانيين بسرعة، لكنهم أعطوا الأرض اسمهم([2]). 

وكانت فلسطين تسمى بسورية الجنوبية، فكانت قبل الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918م) جزءًا من البلاد العربية التابعة للدولة العثمانية، وكانت منقسمة إداريًا إلى:

القسم الأول: وهو القسم الشمالي، ويتألف من لوائي عكا ونابلس، ويرتبط بولاية بيروت.

القسم الثاني: وهو القسم الجنوبي ويتألف من لواء القدس المرتبـط بالباب السلطاني العالي في اسطنبول مباشرة([3])؛ نظرًا لأهميته ومخاوف الدولة العثمانية من الأطماع اليهودية الصهيونية فيه، ومن تدخلات الدول الأجنبية في شؤونه، لذلك قامت بفصله عن ولاية سورية، وأعلنته متصرفية مستقلة وربطته بالحكومة المركزية في العاصمة ربطًا مباشرًا منذ عام 1874م، وضمت هذه المتصرفية مناطق وسط وجنوب فلسطين، وتبعتها أقضية القدس ويافا وغزة والخليل. وفي عام 1909م أنشئ قضاء بئر السبع، وكان قبل ذلك جزءًا من قضاء غزة([4]).

ونظرًا لقوة متصرفية القدس فقد حدث أكثر من مرة أن ألحق بها لواء نابلس (البلقاء)، كما حدث أن ألحق بها قضاء الناصـرة خلال الفترة 1906 ـ 1909م، وقد استمرت متصرفية القدس حتى نهاية الدولة العثمانية([5]).

* أوضاع فلسطين زمن صدور المنار:

كانت فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين تحت الحكم العثماني، وكان النظام الإداري في فلسطين يسير بموجب الدستور العثماني الصادر عام 1876م، والذي ينص على ضرورة وجود مجالس إدارية منتخبة ومعينة على مستوى الولايـة والسنجق والقضاء، بينما تمتعت النواحي والقرى بنظام من الإدارة الذاتية المحلية([6]).

أما بالنسبة للنظام القضائي فكانت هناك محاكم شرعية مسؤولة عن تطبيق الشريعة الإسلامية وتابعة لشيخ الإسلام في اسطنبول، وأخرى نظامية تابعة لوزارة العدل، وقد تمتعت الطوائف المسيحية واليهودية بفلسطين بالحكم الذاتي فيما يتعلق بقضايا الزواج والطلاق والإرث، وبحرية ممارسة الشعائر الدينية بموجب نظام الملة([7]).

وفي أواخر العهد العثماني ساد النظام الإقطاعي، فاحتكرت حفنة من عائلات فلسطين ملكية أراضي شاسعة، وأدت زيادة الضرائب إلى استيلاء الدولة على أراضي الفلاحين وعرضـها في المزاد، وهكذا حصَّل أغنياء بيروت مثل عائلات بسترس وسرسق وتويني ومتى فرح وسليم الخوري على أخصب أراضي فلسطين في مرج ابن عامر([8]).

وكانت الدولة العثمانية تعيش فترة ضعف، خاصة بعد اتفاق روسيا وإنجلترا وفرنسـا على تمزيق أواصرها([9])، ففي هذا العصـر ظهرت «المسألة الشرقية» التي كانت عنوانًا لخطط أوربا على العالمين العربي والإسلامي، لإضعاف القوة السياسية للإسلام([10]).

وتألفت جمعية الشورى العثمانية سنة 1907م بمصر، وكان رشيد رضا أحد مؤسسيها، وكان الغرض منها اتحاد الشعوب العثمانية على اختلاف أجناسها ومللها، والسعي لجعل الحكومة العثمانية حكومة شورى([11]).

وقامت الجالية العربية في 1908م، بتأسيس جمعية الإخاء العربي العثماني، التي تعهدت بحماية الدستور وتحقيق الانسجام بين شعوب الإمبراطورية، والعملعلى نشر التعليم بين العرب، وترقية أحوالهم([12]).

في عام 1908م أجبرت حركة «تركيا الفتاة» السلطان عبد الحميد على إعلان الدستور، وإجراء انتخابات للهيئة التشريعية «المبعوثان»، وقد نص الدستور العثماني على إطلاق بعض الحريات وحق إصـدار الصـحف، ووجوب إجراء انتخابات للمجلس التشريعي([13]).

وفي غمرة الشعور بالانفراج، في أرجاء الإمبراطورية ظن العرب والأتراك أن «الدسـتور» سوف يشـفي أمراض رجل أوربا المريض، وقد تم في هذه الفترة بداية بناء خط الحديد الحجازي، وتعيين الشـريف حسين أميرًا على مكة بعد نفي طويل في اسطنبول، واغتنم الفلسطينيون الفرصـة فصـدرت الصحف، وقامت بحملـة ضد الصهيونيـة فنشـرت جريـدة الأصمعـي([14]) مقارنـة بين وضـع الفلاح العربي والمستوطن اليهودي مشيرة إلى أضرار الهجـرة اليهوديـة، شـاكية من تمتع الصهاينة بالامتيازات الأجنبية وفساد الإدارة المحلية([15]).

أخذت جمعية الاتحاد والترقي([16]) تتعصب للوطنية التركية، ونهبت أموال السلطان عبد الحميد، وباعوا «البوسنة والهرسك» للنمسا، كما باعوا طرابلس الغرب لإيطاليا، واتفقوا مع الجمعيـة الصهيونيـة على بيعها أراضي السلطان عبد الحميد الواسعة، وعلى تمهيد الأسباب لامتلاكها البلاد المقدسـة في فلسـطين، ولهذا قرر وزيرهم حقي باشا في خطبة علنية له: «أن مستقبل هذه الدولة العثمانية لليهود»([17]).

وفي أواخر سنة 1908م جرت الانتخابات للمجلس التشريعي فكان الخاسر الأكبر فيها فكرة الإخاء العربي العثماني، فعلى الرغم من أن العرب كانوا يفوقون الأتراك عددًا في الإمبراطورية بنسبة ثلاثة إلى اثنين تقريبًا، فإن عدد النواب العرب بلغ 60 نائبًا مقابل 150 نائبًا تركيـًا بسبب سيطـرة الاتحاد والترقـي على العملية الانتخابية([18]).

وفي مطلع صيف 1909م حاول السلطان عبـد الحميد استعادة سلطاتـه، ولكن قائد الجيش في سالونيك محمود شوكت باشا زحف على اسطنبول وسحق المحاولة وأعاد الاتحاد والترقي إلى سدة الحكم، ومنذ ذلك التاريخ مارس الحكام الأتراك سياسة قمعية ضد العرب وأظهروا محاباة للصهيونيين([19]).

وقد ساهمت هذه السياسة في تغذية الفكرة القومية العربية، فأُقيمت النوادي الأدبية العربية والجمعيات السرية الثورية، منها «المنتدى الأدبي» في اسطنبول على يـد عـدد من النـواب والأدباء والطلاب العرب، وفتحت له فروع في فلسطـين وسورية، و«الجمعية القحطانية» التي نادت بإقامة إمبراطورية تركية عربية، و«جمعيةالعربية الفتاة» وقد تأسست في باريس عام 1911م، وطالبت بالاستقلال العربي الكامل عن الإمبراطورية العثمانية([20]).

وفي يونيو 1913م انعقد المؤتمر العربي الأول بباريس([21])، برئاسة عبد الحميد الزهراوي([22])بجهود من «حزب اللامركزية الإدارية العثماني» بمصر الذي كان يرأسه رفيق العظم([23])، ولرشيد رضـا فيه نشـاط ملحوظ، وقد أصـدر المؤتمر قرارات تدور حول المطالبة بالإصلاح، وتمتع العرب بحقوقهم السياسية، والأخذ بنظام اللامركزية([24]).

ومن بين القرارات المطالبـة بأن تكون اللغـة العربيـة في مجلس «المبعوثان» «معتبرة»، وأن تكون لغة رسمية في الولايات العربية، واستجابت الحكومة لبعضالمطالب، فأصدر السلطان محمد رشاد في 16 أغسطس 1913م أمرًا بجعل التعليم الابتدائي في البلاد العربية باللغة العربية، مع جعل تعليم التركية إجباريًا، ويبقى التعليم في المدارس الثانوية بالتركية([25]).

وفي صيف 1914م بدأت الحرب العالمية الأولى، وفي ربيع سنة 1916م قبض جمال باشا([26]) قائد الفيلق الرابع بالجيش العثماني على طائفة من قادة العرب بتهمة اتصالهم بدول أجنبية، وعملهم على سلخ البلاد العربية عن السلطنة العثمانية، وحاكمهم محاكمة صورية عن طريق الديوان العرفي ببلدة «عالية» في لبنان، وصدر القرار بإعدام العشرات منهم، ونفي آخرين أو سجنهم، ونفذت الأحكام يوم 6 مايو 1916م، فكانت حجة للشريف حسين للقيام بثورته ضد تركيا([27]).

وكانت بريطانيا قد اتفقت مع الشريف حسين على إعلان الثورة ضد الدولة العثمانيـة، بعدمـا اجتمع عبد الله بن الحسين مع اللورد كتشنر([28]) في 5 فبراير سنة 1914م([29]).

ولما أعلن الشريف حسين ثورته ضد الدولة العثمانية، واطمأنت بريطانيا أن سهمها التغريري قد أصاب، نكثت بوعودها للشريف حسين التي كان يُمنِّيه فيها مكماهون من خلال مراسلاته بدولة عربية بزعامته، واتفقت بريطانيا مع فرنسا في مـايو 1916م في اتفاقيـة سايكس ـ بيكو([30])، ووزعت البلاد العربيـة بين هاتين الدولتيـن والعرب سادرون في ثقتهم ببريطانيا، وماضون في شحذ أسنة حرابهم لمحاربة الأتراك([31]).

وفي 2 نوفمبر 1917م أصدر بلفور([32]) وزير خارجيـة بريطانيا تصريحًا([33]) موجهًا لروتشيلد الزعيم اليهودي يتضمـن وعـدًا لليهـود بتسهيـل إقامـة وطن قومي في فلسطين([34]).

وأرسلت بريطانيا قواتهـا الموجودة في مصـر لاحتلال فلسـطين، فاحتلت القدس في 9 ديسمبر 1917م، وأكملت احتلال جميع فلسطين في شهر سبتمبر عام1918م([35]).

وضعت بريطانيا فلسطين تحت الحكم العسكري حتى نهاية يونيو 1920م، ثم حولتها إلى الحكم المدني، وعينت اليهودي الصهيوني هربرت صموئيل([36]) أول (مندوب سام) لها على فلسطين (1920 ـ 1925م) حيث شرع في تنفيذ المشروع الصهيوني ميدانيًا على الأرض([37]).

وقام البريطانيون بتحديد الحدود بين فلسطين من جهة، وبين لبنان وسورية من جهـة أخرى بموجب الاتفاق الفرنسـي ـ البريطانـي، المنعقد في 23 ديسمبر 1920م([38])، وقد حدث عليها بعض التعديل عام 1922 ـ 1923م ليضم مصادر المياه. أما حدود فلسطين مع شرق الأردن فقد حددها المندوب السامي لفلسطين وشرق الأردن في الأول من سبتمبر 1922م([39]).

وفي 24 يونيو عام 1922م قدمت الحكومـة البريطانيـة صك انتدابها على فلسطين إلى عصبة الأمم، كما اقترحته الحركة الصهيونية دون تعديل فيه، علمًا بأن مجلس الحلفاء وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا المنعقد في سان ريمو كان قد وضع فلسطين بضغط من بريطانيا تحت الانتداب البريطاني، وقد أقرت عصبة الأمم مشروع صك الانتداب بالصيغة نفسها التي قدمتها بريطانيا إلى عصبة الأمم في 22 يوليو سنة 1922م، وقد تضمنت مقدمة الصك نص وعد بلفور([40]). 

واتجهت سياسة الاحتلال البريطاني نحو تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، في ظل لوائح وقوانين استمدت أساسها من وعد «بلفور»، على الرغم من معارضة أهل فلسطين، الذين فجروا الثورات للوقوف ضد هذه الهجرات([41]).

وقد تابعت مجلة المنار ثورات الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال البريطاني والمؤامرات الصهيونية، فنشرت أخبار المؤتمر الإسلامي بالقدس سنة 1928م([42])، وثورة البراق سنة 1929م([43])، ونشرت بيانات للثورة الفلسطينية مثل بيان جمعية حراسة المقدسات الإسلامية([44])، كما كتب رشيد رضا مقالًا بعنوان «ثورة فلسطين أسبابهـا ونتائجها»([45])، والمؤتمر الإسلامي العام في بيت المقدس سنة 1931م([46])، وبعض أشكال النضال الاقتصادي الفلسطيني مثل لجنة صندوق الأمة([47])؛ لمقاومة تسريب الأراضي للصهيونيين.

ثانيًا ـ مجلة «المنار»:

كانت مجلة المنار في عصرها أكبر مجلة إسلامية في العالم الإسلامي، وأعظمها صيتًـا، وأكثرهـا تأثيرًا، فقد تفردت من بين كل المجلات التي عاصـرتها عندمـا أصبحت مدرسة جامعة لتيار الإحياء والتجديد، وقيادة لإقامة مؤسسات الإصلاح والمقاومة والنهوض، وكانت «المنار» المنطلق للحركات الإسلامية الجماهيرية، التي رفعت شعارات شمولية المنهج الإسلامي للدين والدولة، في مواجهة العلمانية الغربية([48]).

وكانت المنار سجلًا تاريخيًا لأحداث العالم الإسلامي على مدار ثلث قرن، وكان رشيد رضا هو المنار بتحليلاتها السياسية، ودراساتها الشرعية، فقد اجتهد أن تخرج المنار في كل شهر، كثيفة المحتوى، كثيرة الفائدة، وكان بعيد النظر في مواقفه([49]). 

* صاحب المجلة وفكرة إصدارها:

صاحب هذه المجلة هو السيد محمد رشيد بن السيد علي رضا بن السيد محمد شمس الدين بن السيد محمد بهاء الدين بن السيد منلا علي خليفة البغدادي، أحد رواد الإصلاح في العالم الإسلامي، وُلد في 27 جمادى الأولى سنة 1282ﻫ، الموافق 23 سبتمبر 1865م، في بلدة القلمون القريبة من طرابلس لبنان، في بيت ينحدر من نسل الحسين رضي الله عنه([50]).

وعُرف بيتـه بالعلم والإرشاد والرئاسـة وكانوا يعرفون باسـم «المشايخ»، وقد درس في كُتَّاب القرية([51]) وتعلم فيـه القـرآن الكريـم والخط والحسـاب، ثم انتقل إلى المدرسـة الرشدية الابتدائية بطرابلـس الشام، وكان التعليم فيها باللغة التركية، ولم يستمر فيها رشيد إلا عامًا واحدًا، ثم التحق بالمدرسة الوطنية الإسـلامية بطرابلس سـنة 1299ﻫ/ 1882م، واهتمـت هذه المدرسـة بالعلـوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات([52]).

وأنشأ هذه المدرسة الشيخ حسين الجسر، الذي كان من رواد النهضة الثقافية العربية، وكان يرى أن الأمة الإسلامية لا ترقى إلا بالجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية الأوروبية، مع التربيـة الإسلاميـة الوطنيـة، لمواجهة المدارس الأوروبية في بلاد الشام، إلا أن هذه المدرسة أغلقت؛ لأن الحكومة العثمانية رفضت اعتبارها من المدارس الدينية التي يعفى طلابها من الخدمة العسكرية([53]).

وحاول رشيد بعد ذلك أن يطلب العلم في بيروت، ولكن أباه رفض لأنه كان يخشى عليه معاشرة أهل المدينة، فلم يجد رشيد أمامه إلا أن يحضر دروس الشيخ الجسر في المدرسة الرحبيـة في طرابلس، وفي دار الشيخ نفسـه، وواظب على هذه الدروس حتى تخرج على يديه وكتب له الشيخ الجسر الإجازة بالتدريس([54]).

واختص الشيخ الجسر تلميذه محمد رشيد رضا بالاهتمام والعناية، لما لمسه فيه من ذكاء، وحب شديد للدراسة والمذاكرة، فأتاح له الكتابة في صحف طرابلس، والتدريب على هذا اللون من الأدب، ولم يلبث أن اشتهر رشيد رضا في هذا الميدان، وأتيـح لهذا الطالب النجـيب أن يجـد في أستـاذه العون في دراسة العلوم العربيـة والشرعية والعقلية، ونال على يديه الإجازة في هذه المواضيع سنة 1897م([55]).

كما تلقى العلوم على أيدى علماء آخرين منهم الشيخ محمود نشابة، الذي أخذ عنه الإجازة في علم الحديث، والشيخ عبد الغني الرافعي حيث درس معه قليلًا من كتاب «نيل الأوطار للشوكاني»، والعالم المحدِّث محمد القاوجي الذي شرح له كتابًا ألفَّه بنفسـه في الحديث، ودأب على حضـور جلسات العلم في شـتى المواضيـع، والاشتراك في المناقشات العلمية والإدلاء برأيه فيها، وأحب حلقات دراسة الأستاذ محمد الحسيني، ومناقشاته في كتب الأصول والمنطق مع الشيخ محمد كامل الرافعي، فكان رشيـد رضا يسمع تحاورهما في أدق المسائل، ويبدي رأيه، فيجد استحسانًا وتشجيعًا من الشيخين([56]).

واتسمت حياة رشيد رضا أيام طلبه للعلم بحب العبادة، وميل فطري للزهد والتنسك، فبدت عليه الخصال الحميدة منذ حداثة سنه، فكان يقضى أغلب يومه في مسجد القرية، حتى قالت والدته عنه: «إنني منذ كبر رشيد ما رأيته نائمًا، فإنه ينام بعدنا ويقوم قبلنا»([57]).

واتخذ لنفسه حجرة خاصـة به في الجانب البحري من مسجد الأسرة، كان يخلو فيها جده الأكبر للعبادة، وتابع فيها بنفسه الرياضة الروحية والمطالعة في الكتب الدينية، وحُبب إليه التصوف بعد قراءة كتاب «إحياء علوم الدين» للغزالي، فاجتهد في العبادة وقيام الليل، والتقلل من الطعام، والاكتفـاء بقليل من الزعتر مع الملح والنوم على الأرض([58]). ـ أتح

وقد سلك طريقه إلى التصوف على يد رجل من النقشبندية، واستطاع في تلك المرحلة من حياته أن يقف على أسرار الصوفية، فوجد بعضـهاطيبًا، والآخر لا يقبله العقل، فتمكن بتجربته الشخصية أن يعالج فيما بعد موضوع الطرق الصوفية، ويذكر رأيه في إصلاحها، وإنكار ما تقوم به من بدع([59]).

بدأ حياته الإصلاحية بأن ثار على المنكرات المتفشية بين أهل قريته، فأعلن إنكاره لما يحدث في مجالس الذكر لجماعة المولويـة، وكان يقرأ الدروس في المسجد بطريقة بسيطة، ويحث في خطبة الجمعة على الإصلاح بل يذهب إلى المقاهي وينصحمن فيها، ويلقي الدروس على نساء القرية([60])، وألف كتابًا عن «الحكمة الشرعية»، ونشر في إحدى الصحف مقالًا طويلًا عن الأخلاق، كما صاغ بعض أفكاره شعرًا منظومًا([61]).

وفي سنة 1892م حدث لفكـر الشـيخ رشـيد تحوُّل عظيـم، بعـد قراءتـه لأعداد مجلة «العروة الوثقى»، فأحدثت في عقلـه ووجدانـه انقلابًا شاملًا، وتغيرت صورة الإسلام في فكره، فيقول عن نفسه: «... ثم إني رأيت في محفوظات والدي بعض نسـخ العـروة الوثقى، فكان كل عدد منها كسلك الكهربـاء، اتصـل بـي فأحدث في نفسـي من الهزة والانفعال والحرارة والاشـتعال ما قذف بي من طور إلى طـور... فقـد كان همـي قبـل ذلك محصـورًا في تصحيح عقائد المسلمين، ... فتعلقت نفسي بعـد ذلك بوجوب إرشـاد المسـلمين عامـة إلى المدنية، والمحافظة على ملكهم، ومباراة الأمـم العزيـزة في العلـوم والفنـون والصناعـات، وجميـع مقومـات الحياة، فطفقت أستعد لذلك»([62]).

ومنذ ذلك الوقت حاول مقابلة جمال الدين الأفغاني([63]) الذي كان يعيش في الآستانة، والشيخ محمد عبده([64])([65])، فهاجر إلى مصـر، ووصل الإسكندرية في يناير 1898م، واتصل بالشيخ محمد عبده، وأخبره برغبته في تلقي الحكمة عنه، واستشاره في إصدار مجلـة «المنـار» لتكون صحيفـة إصلاحية، فاشترى دارًا في شارع الإنشاء بالقاهرة، وكانت المسكن والمطبعة والمكتبة، وصدر أول عدد من المنار بتاريخ 15 مارس سنة 1898م([66]).

* صدور المنار:

كانت المنار عند صدورها أسبوعية، ذات ثماني صفحات كبيرة، كانت تحمل برقيات الأسبوع وبعض الأخبار، وفي بدايتها طُبع منها ألف وخمسمائة نسخة من كل عدد أرسلت إلى البلاد المصرية والسودانية، وكانت لا تلقى رواجًا في أول الأمر، حتى كانت السنة الخامسة سنة 1320ﻫ/ 1902م مبدأ رواجها وسعة انتشارها([67]).

* مؤلفات صاحب المنار:

أصدر محمد رشيد رضا عدة مؤلفات منها:

1 ـ تفسير القرآن الكريم الشهير بتفسير المنار، فسَّر به 12 جزءًا من القرآن الكريم وآخر ما وصل إليه في التفسير من الجزء الثالث عشر الآية رقم (101) من سورة يوسف.

2 ـ التفسـير المختصـر المفيد، وطبع منه مختصر الأجزاء (1، 2، 11، 13، وبعض 13).

3 ـ مجلة المنار.

4 ـ تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.

5 ـ نداء للجنس اللطيف (حقوق النساء في الإسلام).

6 ـ الوحي المحمدي.

7 ـ المنار والأزهر.

8 ـ ترجمة القرآن وما فيها من المفاسد.

9 ـ ذكرى المولد النبوي.

10 ـ مختصر ذكرى المولد النبوي.

11 ـ الوحدة الإسلامية.

12 ـ يسر الإسلام وأصول التشريع العام.

13 ـ الخلافة أو الإمامة العظمى.

14 ـ الوهابيون والحجاز.

15 ـ السنة والشيعة.

16 ـ خطاب عام.

17 ـ مناسك الحج.

18 ـ المسلمون والقبط.

19 ـ تفسير الفاتحة والكوثر والكافرون والإخلاص والمعوذتين.

20 ـ رسالة في الصلب والفداء.

21 ـ مكتوباته الخصوصية([68]).

* بعد وفاة مؤسسها:

في يوم الخميس 22 أغسطس سنة 1935م سافر رشيد إلى السويس لتوديع الأمير سعود بن عبد العزيز، وجعل يوصي الأمير بنصائحه، وعاد في اليوم نفسه، فتعب جسمـه بركوب السيارة ذهابًا وإيابًا، فطلب من رفقائـه أن يستريح داخل السيـارة، ولكنـه توفي رحمـه الله، ودفن في مقبرة قرافة المجاورين بالقاهرة بجوار ضريح الشيخ محمد عبده، ومن عجيب المصادفات أن آخر ما فسره رشيد رضا من القـرآن الكريم كان قـول الله تعـالى في سـورة يوسف: «رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين». وكانت آخر عبارة قالها في تفسيرها هي: «فنسأله تعالى أن يجعل لنا خير حظ منه بالموت على الإسلام»([69]).

توقفت المجلة سبعة أشهر بعد وفاة الشيخ رشيـد رضا، ثم أسندت رئاسة تحريرها إلى الشيخ بهجت البيطار([70]) من علماء سورية المعروفين، فقام على تحريرها، وحاول إكمال التفسير الذي كان ينهض به الشيخ، فأتم تفسير سورة يوسف، ثم توقفت المنار مرة أخرى لمدة تقترب من ثلاث سنوات([71]).

ثم أسندت أسرة الشيخ إصـدار المجلة إلى الإمـام حسن البنا([72]) مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وكان مقدرًا للمجلة وصاحبها، فأصدر العدد الأول الجديد في (غرة جمادى الآخرة 1358ﻫ = 18 من يوليو 1939م)([73]).

ولم يدم إصدارها كثيرًا، فقد صدر عددها الخامس والسادس، وتوقفت ثمانية أشهر، ثم صدر السابع والثامن، وكل منهما في 48 صفحـة بدلًا من 80 صفحة، وأوضحت «المنار» في عددها الثامن أسباب احتجابها عن القراء وتخفيض صفحاتها، وأشارت أن التوقف يعود لأسباب تتعلق بجهات الأمن، وأما تخفيض الصفحات فيعود إلى غلاء الورق([74]).

ثم صدر العددان التاسع والعاشر، ثم توقفت بعد ذلك في سبتمبر 1940م، وبتتبع الأعداد التي صدرت خلال فترة تولي حسن البنا إصدار «المنار» يلاحظ أنه لم يصدر منها سوى ستة أعداد فقط على مدى أربعة عشر شهرًا([75]).

p p  p

 



([1])   الكيالي، عبـد الوهاب: موسوعة السياسـة، ج4، ص569 ـ 571. الرشيدات، شفيق: فلسطين تاريخًا وعبرة ومصيرًا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1991م، ص29.

([2])   صالح، محسن: القضية الفلسطينية خلفياتها التاريخية، مركز الزيتونة للدراسات، بيروت، 2012م، ص10.

([3])   جبارة، تيسير: تاريخ فلسطين الحديث، جامعة الخليل، فلسطين، ط1، 1985م، ص6.

([4])    صالح، محسن: فلسطين دراسات منهجية في القضية الفلسطينية، مركز الإعلام العربي، القاهرة، ط1، 2003م، ص46.

([5])    المرجع نفسه، ص46.

([6])    الكيالي، عبد الوهاب: تاريخ فلسطين الحديث، المؤسسة العربيـة للدراسات، بيروت، ط10، 1990م، ص38.

([7])    المرجع نفسه، ص38.

([8])    المرجع نفسه، ص38.

([9])    الشرباصي، أحمد: رشيد رضا، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ص15.

([10])    المرجع نفسه، ص15.

([11])    الشرباصي: رشيد رضا، مرجع سابق، ص23 ـ 24.

([12])    الكيالي: تاريخ فلسطين الحديث، مرجع سابق، ص45.

([13])    الكيالي: تاريخ فلسطين الحديث، مرجع سابق، ص45.

([14]) الأصمعي: مجلة اجتماعية نصـف شهرية ظهـرت في القدس في 1908م، وصاحبها حنا عبد الله العيسى، صدر منها 11 عددًا وتوقفت عن الصدور بعد وفاة صاحبها بتاريخ 12/ 9/ 1909م. الموسوعة الفلسطينية، هيئة الموسوعة الفلسطينيـة، دمشق، القسم الأول، ط1، 1984م، مج1، ص261.

([15])    الكيالي: تاريخ فلسطين الحديث، مرجع سابق، ص45.

([16])   جمعية الاتحاد والترقي: نشأت في أوربا مناوئـة للاستبداد ومنادية بالتحديث في الدولة العثمانية، وتكون في البدء جمعية تركيا الفتاة، التي ركزت على الثقافة، ثم تكونت خلايا سرية، وطاردهم رجال السلطان فنقلوا نشاطهم إلى باريس وسالونيك وانضم إليهم العديد من يهود الدونمة وأصبحوا من قيادات الحركة بعد قيامهم بالانقلاب العثماني عام 1908م، وأعلنوا الدستور، وما لبثوا أن نحوا السلطان عن العرش. الكيالي، عبد الوهاب:موسوعة السياسة، ج1، ص81.

([17])    الشرباصي: رشيد رضا، مرجع سابق، ص37.

([18])    الكيالي: تاريخ فلسطين الحديث، مرجع سابق، ص45.

([19])    الكيالي: تاريخ فلسطين الحديث، مرجع سابق، ص45 ـ 46.

([20])   الكيالي: تاريخ فلسطين الحديث، مرجع سابق، ص46 ـ 47.

([21])    مجلة المنار، مج17، ص391. أبريل 1914م.

([22])   عبد الحميـد الزهراوي (1855 ـ 1916م): ولد بحمص، عمل في الصحـافة إلى أن أعلن الدستور العثماني سنة 1908م، وانتخب مبعـوثًا عن حمـاة، انتخـب الزهراوي رئيسًا للمؤتمر العربي الأول في باريس. ولما نشبت الحرب العالمية الأولى، قبضوا عليه وأعدموه في دمشق. الزركلي: الأعلام، ج3، ص228.

([23])   رفيق بك العظم (1867 ـ 1925م): ولد في دمشق، ونشأ مقبلًا على كتب التاريخ والأدب. استقر في مصر، واشترك في كثير من الأعمال والجمعيات الإصلاحية والسياسية والعلمية، ونشر بحوثا قيمة في كبريات الصحف، وصنف عدة كتـب. وتوفي بالقاهرة. الزركلي: الأعلام، ج3، ص30.

([24])    الشرباصي: رشيد رضا، مرجع سابق، ص38.

([25])    الشرباصي: رشيد رضا، مرجع سابق، ص38.

([26])   أحمد جمال باشا (1872 ـ 1922م): وزير البحرية في عهد الاتحاديين، قام بدور فعال في تهيئة انقلاب المشروطية الثاني سنة 1908م فأصبح من أكثـر رجال الحـزب نفـوذًا، عين واليًا عسكريًا في أطنه سنـة 1909م، وبغداد سنة 1911م، ثم اسطنبول، عين وزيرًا للبحرية، ولما نشبت الحرب العالمية الأولى عين قائدًا للجيش الرابع وواليًا عسكريًافي سورية، وهناك نكَّل بأحرار العرب، وأعدم عددًا كبيرًا منهم ولقب بالسفاح، ولماانتهت الحرب بخسارة تركيا هرب على باخرة ألمانية، وفي سنة 1922م قتله شخص أرمني في تفليس. صفوة، نجدة: الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية (نجد والحجاز)،مج3 (1917 ـ 1918)، دار الساقي، بيروت، ط1، 1998م، ج1، ص99.

([27])   الشرباصي: رشيد رضا، مرجع سابق، ص43.  

([28])    اللورد كتشنر: ولد في مقاطعـة كيري في إيرلندا في 1850م، دخل الأكاديميـة الحربيـة الملكية عام 1868م، شارك في الحرب الفرنسية البروسية 1870 ـ 1871م، عُين معتمدًا بريطانيًا في مصر، وتوفي سنة 1916م.

 Grossman, Mark: World Military Leaders, P181.

([29])    عمرو، نعمان: مظاهر الوعي بالقومية العربية، مرجع سابق، ص10.

([30])   اتفاقية سايكس ـ بيكو: تفاهم سري استعماري بين بريطانيـا وفرنسا لتقسيم السلطنة العثمانيـة، وقد عقده مارك سايكس المندوب السامي البريطاني لشئون الشرق الأدنى، وجورج بيكو قنصل فرنسا العام في بيروت، وقد تبادلا إحدى عشر رسالة بينهما تحددت بموجبها بنود الاتفاقية والتي جرى توقيعها سرًا في القاهرة في 16 مايو 1916م. الكيالي،عبـد الوهاب: موسوعة السياسة، المؤسسـة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ج3، ص120.

([31])    بويصير، صالح، جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن، ط1، 1968م، ص55.

([32])   آرثر جيمس بلفور: ولد في سنة 1848م، وهو أكبر الأبناء لعائلة أسكتلندية ثرية، انضم إلى البرلمان سنة 1874م، أصبح رئيسًا لوزراء بريطانيا من 1902م ـ 1905م، ثم أصبح وزيرًا للخارجية من 1916 ـ 1919م، توفي في 19 مارس 1930م.

 Rasor, Eugene: Arthur Balfour, 1848 ـ 1930, Greenwood Publishing Group, 1998, P4.

([33])   وعد بلفور: هو التصريح البريطاني الرسمي الصادر في نوفمبر 1917م الذي أعلنت فيه الدولة الاستعمارية تعاطفها مع الأماني اليهودية في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وذلك على شكل رسالة بعث بها اللورد بلفور وزير الخارجية إلى اللورد روتشيلد، المليونير اليهودي. الكيالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة، ج1، ص561.

([34])    عامر، محمد: تاريخ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ط1، 2002م، ص51.

([35])  النتشة، رفيق: تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، ط1، 1991م، ص12 ـ 13.

(

الموضوعات