مراسلات حسين ـ مكماهون
مراسلات حسين ـ مكماهون
كتبت الكاتبة الفلسطنية (أريج أحمد القططي حول هذا الموضوع في كتابها (فلسطين في مجلة المنار الصادرة في مصر (1898-1940) ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت – سنة (1439هـ - 2018م)
فقالت:
مع بدايـة الحـرب العالميـة الأولى سنـة 1914م نشـط سوق المفاوضـات والاتصـالات السرية والمعاهدات لترتيبات ما بعد الحرب، وقد عملت بريطانيا لضمان نفوذها في بلاد الشام والعراق إلى السير في ثلاثة اتجاهات متعارضة متضاربةتمثلت في:
الاتجاه الأول: التفاوض مع الشريف حسين بن علي أمير الحجاز فيما عُرف بمراسلات حسين ـ مكماهون (يوليو 1915 ـ مارس 1916م).
الاتجاه الثاني: التفاوض مع فرنسا بشأن مستقبل العراق وبلاد الشام، وقد تم الاتفاق فيما يعرف باتفاقيـة سايكس ـ بيكو، في مايو 1916م على إعطاء بريطانيا معظم العراق (مقارنة بحدوده الحالية)، وشرق الأردن، ومنطقة حيفا في فلسطين، أما لبنان وسورية فتوضعان تحت الاستعمار الفرنسي، ونظرًا لرغبة كافة الأطراف في استعمار فلسطين فقد اتفق على أن توضع تحت إشراف دولي.
الاتجاه الثالث: التفاوض مع المنظمة الصهيونية العالمية حول مستقبل فلسطين فيما عُرف بوعد بلفور([1]).
وقد تتبعت المنـار مراحـل التحـالف بين الشريف حسين أمير مكة، وبين بريطانيـا، والتي بدأت بما يسمـى «مراسـلات حسين ـ مكماهون، وتمت في إطار ما كانت تجريه الاستخبارات البريطانية في مكتبـي مصر والهند حول إمكان قيام ثورة عربية على الأتراك العثمانيين من جهة، ولتطمين رعايا بريطانيا من المسلمين على الأماكن المقدسة من جهة أخرى.
وقد حاول الإنجليز إيجاد حلفاء لهم من أمراء العرب وزعمائهم في الجزيرة والعراق وسورية للاستعانة بهم على مناوأة الدولة العثمانية، ولم يستجب لهم إمام اليمن، وفضَّـل موالاة الدولة العثمانيـة في الحرب، ووقف أمير نجـد على الحياد، ووالاهم شريف مكة بإعلان استقلال الحجاز، ومناوأة الدولة ومساعدة الجيش الإنجليزي على احتلال بيت المقدس والشام([2]).
وقد انخدع أهل سورية والعراق بهذه الموالاة والمحالفة، وصدقوا التغرير الذي كان يوجـه إليهم في المنشـورات والجرائـد، ولا سـيما جريدة الكوكب([3])، ووافق ذلك شدة طغيان الاتحاديين وتنكيلهم بعرب سورية والعراق تقتيلًا وتصليبًا وتغريبًا وتعذيبًا، فوجد المضطهدون منهم مهربًا وملجأ من العذاب، ففروا إليه بآمال كبيرة إذ ظنوا أن حوادث الزمـان قد مهدت السبيل بهذه الحرب واشتغال الدول الأوربية الطامعة بعضها ببعض لاستقلال البلاد العربية وإعادة حضـارة العرب الزاهية العالية التي يفتخر بها التاريخ، ولعمري إن الفرصة قد كانت سانحة لو وجد في البلاد العربيـة زعماء أكفاء يغتنمـونها من غير أن يجنوا على الجامعة الإسلامية بإسقاط الدولة العثمانية([4]).
وفي الرابع عشر من يوليو سنة 1915م أطلق الشريف حسين ما بات يعرف اليوم باسم (مراسلات حسين ـ مكماهون)، وهذا التبادل لثماني رسائل بينه وبين السير هنري مكماهون، المفوض السامي البريطاني في مصر، خلال الفترة الممتدة من يوليو 1915م إلى يناير 1916م حدد الخطـوط العامـة لما كان يستطيع توقعه من بريطانيا لصالح العرب ثمنًا للتمرد على الإمبراطورية العثمانية([5]).
يتضح مما سبق أن بريطانيا قد تمكنت من إحداث شرخ بين المسلمين، وجر أمير مكة إلى الوقوف بجانبهم في الحرب ضد الدولة العثمانية التي كانت تمثل الخلافة الإسلامية مستغلة ما عرف عن أمير مكة من طموح وأطماع ليكون ملكًا على العرب والانفصـال عن الدولة العثمانية، وهيأت تأييدًا شعبيـًا له في بلاد الشام ومصـر، من خلال مـا تبثه دعايتها وجرائدها ونشراتها، التي تلقى بالطائرات وتوزع على الجماهير، والتي تهاجم السياسة المعادية للعرب التي انتهجها حزب الاتحاد والترقي الذي سيطر على مقاليد الحكم في تركيا.
كان رشيـد رضـا واعيـًا لما يُحـاك من مؤامرات على العـرب، مـن خـلال استدراجهـم للدخول في الحرب مع الحلفـاء في مقابل وعود بالاستقلال، وهذه الوعود تخللتها كثير من الثغرات لو فطن لها العرب لما سقطوا في هذا الشرك القاتل،ومن هذه الثغرات:
1 ـ أن الشريف حسين كان طرفًا ضعيفًا مقابل قوة دول الحلفاء، ولن يستطيع الضـعيف أن يفرض إرادته على القوى، ولا يستطـيع أن يحصل على الاستقلال، فالحقوق تنتزع انتزاعًا ولا توهب، واللبيب في علم السياسة لا يركن لحسن النية.
2 ـ أن بريطانيا لم تعترف باستقلال العرب، ولكنها استعدت للاعتراف، وكما يقول رشيد رضا: «الاستعداد للاعتراف بالشيء لا يقتضي الاعتراف به بالفعل»، وحتى لو اعطت بريطانيا للشريف حسين استقلالًا فإنه سيكون استقلالًا ناقصًا، وسيكون تحت وصـايتهم، ولن يستطيع أن يخرج عن طاعتهم، وقد قيَّده الإنجليز بقيود منها أن الموظفين والمستشارين الذين يؤلفون الهيئة الإدارية في البلاد العربية سيكونون من الإنجليز.
يقول عبد الله بن الحسين في مذكراته أن الشريف حسين سأل في إحدى كتبه عن الكيفية التي ستدار بها البلاد المقدسة ـ يعني فلسطين ـ متى صارت في الحوزة العربية، فأجيب بأن النية منصرفة والعزم على إدارتها على حرية الديانات الثلاث([6]).
من الواضح، عبر المذكرات الخاصة وملفات الثورة العربية، أن رجال الثورة العربيـة من أبناء فلسطين لم يعلمـوا في مطـلع الثورة بما ورد في المراسلات بشأن فلسطين، غير أنهم آمنوا بأن فلسطين جزء من الدولة العربيـة المرتقبة، وما الثورة إلا مقدمـة للدولة، وقد احتاجت فلسطين إلى ثلاثين عامـًا لتدرك جيدًا أن وعد بلفور كان القرار البريطاني الوحيد بشأن فلسطين، وكانت فلسطين المحور الغائب في المراسـلات، ولم ترد كلمة فلسطين فيهـا قط، غير أن فلسطين الغائبة نصًا بين السطـور، كان لهـا الحضـور الأقوى في ذهن كل من الشـريف حسـين، وهنـري مكماهون، الذي لم يشدد على استثنائها خوفًا من تعثر المفاوضات([7]).
([2]) المنار، مج22، ص442. يونيو 1921م، مقال «الحقائق الجليـة في المسألة العربية مقال للعبرة والتاريخ».
([3]) جريدة الكوكب: جريدة سياسية أدبية أسبوعية كانت تصدر في القاهرة بشكل كراسة من قطع الكتب الكبير ذات ثماني صفحات، وموضوعها تنشيط الحركة العربية ودعـوة =
= سائر عرب الجزيرة إلى القيام بمثل ما قام به عرب الحجاز للقضاء على سلطة الترك ونشر أخبار مساوئ الترك وفظائعهم في سورية والعراق، وكانت الطائرات البريطانية تنثر صحيفة الكوكب وكذلك صحيفتا المقطم والقبلة على العرب في العراق والشام بهدف خداعهم وجعلهم يثورون على الحكم التركي. مجلة المنار، مج19، ص511.