معالجة مجلة المنار لتآمر الاحتلال البريطاني مع الصهيونية
معالجة مجلة المنار لتآمر الاحتلال البريطاني مع الصهيونية
كتبت الكاتبة الفلسطنية (أريج أحمد القططي حول هذا الموضوع في كتابها (فلسطين في مجلة المنار الصادرة في مصر (1898-1940) ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت – سنة (1439هـ - 2018م)
فقالت:
* وعد بلفور:
نقلت مجلة المنار خبر صدور وعد بلفور عقب صدوره مباشرة في شهر نوفمبر سنة 1917م، وقد أوردته نقلًا عن صحيفة المقطم ترجمة برقية خصوصية للمقطم من مكاتبه بلندن أيدتها برقيات روتر، ونص البرقية:
لندن؛ الجمعة في 9 نوفمبر الساعة 3 بعد الظهر.
ذكرت جريدة (جويش كرونكل) أن المستر بلفور وزير الخارجية البريطانية كتب إلى اللورد روتشلد يقول ما نصه:
«يسرني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك أنها تنظر بعين الرضى والارتياح إلى المشروع الذي يراد به أن ينشأ في فلسطين وطن قومي لشعب اليهود، وتفرغ خير مساعيها لتسهيل إدراك هذا الغرض. ولكن ليكن معلومًا أنه لا يُسمحبإجراء شيء يُلحق الضرر بالحقوق المدنيـة والدينيـة التي للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطـين الآن، أو بالحقوق التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى وبمركزهم السياسي فيها». مكاتبكم بلندن([1])([2]).
* احتفال يهود مصر بصدور وعد بلفور:
جاء في مقطم 16 المحرم، 13 نوفمبر ما نصه: قال وكيلنا الإسكندري أمس: أقام الإسرائيليون ـ ولا سيما الصهيونيين منهم ـ احتفالًا كبيرًا أمس في حديقة رشيد بالإسكندرية على إِثْر البيان الذي أبلغه المستر بلفور إلى اللورد روتشيلد([3]) في شأن تحقيق أماني الإسرائيليين بجعْل فلسطين وطنًا قوميًّا لهم. وقد ألقى بعض خطبائهم في هذا الاحتفال خطبًا تناسب المقام، فشكروا للحلفاء عامة، ولبريطانيا خاصة هذا الوعد الشريف، آملين تحقيقـه في القريب العاجل. ثم طاف المحتفلون ـ وهم في أحسن نظـام في شـوارع المدينـة الكبرى ـ تتقدمـهم الموسيـقى وفرقة الكشافـة الإسرائيلية، وهم فرحون جذلون بتلك البشرى السارة هاتفون للحلفاء، ولبريطانية العظمى بدوام النصر والظفر([4]).
* احتلال بريطانيا لفلسطين:
نشرت المنار خبر سقوط مدينـة غزة بيد الجيش البريطـاني نقلًا عن جريدة المقطم التي كانت ناطقة بلسان الاحتلال البريطاني في مصر، وكانت تنشر أخبار انتصارات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى([5])، وهذا نص الخبر:
معركة غزة ونتائجها: نشرت جريدة المقطم تحت هذا العنوان البرقية الآتية: باريس في 8 نوفمبر: إن سقوط غزة من الحوادث التي يمكن أن تنشأ عنها نتائج عظـيمة جدًّا، والتي تعد مقدمة لأفول نجـم تركيـا في الأماكن المقدسـة، وتحرير البلاد التي هي مهد الديانة المسيحية. وقد قطعت المواصلات التركية تمامًا مع القوات التي تحارب في بلاد العرب، وصار مصير (المدينة) معروفًا من الآن، وقد احتلت إنجلترا ـ حليفة ملك الحجاز ـ كل العراق تقريبًا، وجنوبي بلاد فلسطين([6]).
واستكملت القوات البريطانية سيرها لاحتلال باقي فلسطين، ونشرت المنار خط سير الحملة البريطانية على النحو التالي:
وأما الترك فكانوا يدافعون دفاع المستميت عن كل بقعة أخذها الروس من بلادهم التركية، أو الإنجليز من بلاد العرب في العراق وفلسطين، حتى إذا جاء هذا الشهر فاجأتنا الأنباء بأن الجيش الإنجليزي في فلسطين شرع يزحف في الأغوار والأنجـاد، من تلك الأرض الحصينة الخالية من الماء، فاستولى في 12 ذي الحجة (18 سبتمبر) على خطوط الترك الأمامية في جلجلة والطيرة وطولكرم وفي 13 منه تقدم حتى بلغ العفولة وفي 14 منه بلغ بيسان وجنين ونابلس والسامرة وما جاء 17 منه إلا واحتلوا حيفا وتبعتها عكا وفي 19 منه احتلوا طبريـة وسمخ وعمان، وبلغ عدد مَن أسروا من الجيش التركي أربعين ألفًا، ولم نسمع في أثناء ذلك بمقاومة تُؤثَر، ولا بعدد من القتلى يُذكَر، وما زالوا يوغلون في ولايتي سورية وبيروت شمالًامن الجانب الغربي، ويحاذيهم جيش الأمير فيصل العربي من الجانب الشرقي، حتى دخلوا دمشق في 25 منه، وكان الترك قد أجلوا عنها، وتألفت فيها حكومة مؤقتة([7]).
* استعانة بريطانيا بجنود مصريين في احتلال فلسطين:
ونشرت المنار أن الجـيش الإنجليـزي بقيـادة الجنرال اللنبي([8]) قد استعان بأعداد كبيرة من المصريين في زحفه لاحتلال فلسطين فكتبت المنار:
وكان حسين رشدي([9]) قد طلب قبل ذلك كله من الحكومـة الإنجليزيـة الإذن له، ولعدلي باشا([10]) وزير المعارف بالسفر إلى إنجلترا لمفاوضة أولي الأمر فيهـا بما سيكون عليـه شكل الحكومـة بعد الحرب التي عاونت البلادُ المصـرية وحكومتها فيها السلطة البريطانية أعظم معاونة شملت زهاء مليون شاب مصري، ساعدت السلطـة الإنجليزية العسكرية على الأعمال الحربية في فلسطين حتى إنها كانت تسمي الحملة التي فتحت القدس الشريف (الحملة المصرية) وهذا الفتح هو الذي قال فيه المستر لويد جورج رئيس الوزارة الإنجليزية: إنه آخر حرب صليبية، وساعدتها كذلك في العراق، وفي مواضع أخرى، وناهيك بالمنافع المالية بأنواعها([11]).
لقد كان رشيد رضـا مصدومًا لما آل إليه وضع العرب المسلمين من الهوان والذل، لهذا علَّق مستهجنًا: «حتى إن الحملة التي وجهت إلى فتح فلسطين في آخر حرب صـليبية ـ كما وصـفها رئيس الوزارة البريطانيـة لويد جورج ـ قد سموها الحملة المصرية، وقد كانت هذه التسمية حقًّا، وإن قصد بها معنى آخر خفي، وهو الأخذ بثأر قلب الأسد وسائر الصليبين الذين كسرهم مسلمو مصر وغيرها بقيادة صلاح الدين، وانتزاع البلاد المقدسة من المسلمين بحملة مصرية جل العاملين فيها من شبان مسلمي مصر، وجل المال الذي أنفق فيها على السكك الحديدية وغيرها من مال مسلمي مصر([12]).
وأكد رشيد رضا أن تعبير قادة الإنجليز بأن احتلال فلسطين كان آخر جولة في الحملات الصليبيـة لم يكن مصـادفة بل هو تعبير عمـا يـجول في خواطـرهم وما يخططون من مؤامرات ضد الإسلام، فقال رشيد رضا: «إن الأوربيين الذين تقول: إنهم نبذوا الدعوة الدينية لا يزالون يذكرون الحروب الصليبية، ويتكلمون في عداوة الإسلام أفلا تقرأ مـا يرددونه كل يوم من توحيد الجبهة بإزاء المسلمين من الريف إلى الهند؟ أفلم تسمع بمساعي شامبرلين الأخيرة في باريس ورومية؟ أفما قرأت ماذا كانوا يكتبونه عند سقوط القدس في يد الإنجليز أثناء الحرب العالمية الأولى من كون ذلك هو الصفحة الأخيرة من الحروب الصليبية؟ أفما اطلعت على أخبار الحفلات الدينية التي أقيمت في ذلك الوقت؟ أفما سمعت خطبة المارشال أللنبي نفسه على تتمة الحرب الصليبية على يده؟»([13]).
* صك الانتداب:
نشرت «المنار» مقالًا عن صحيفة «الاتحاد»، والتي بدورها قد نقلته عن جريدة المسلم (أوتلوك) الهندية وهي لكاتب يوقع مقالاته باسم ليجانوس هذه ترجمتها: إن المادة الرابعة من عهد فلسطين([14]) الذي خوَّل عصبة الأمم حق اغتصاب تلك البلاد من أصحابها العرب الشجعان الأحرار، تذكر كتلة قذرة تسمى الهيئة الصهيونية التي اعترف بها كوكيلة عن اليهود وبأن لها حق إبداء النصح والاشتراك في إدارة فلسطين في المسائل الاقتصادية والاجتماعية وغيرها مما قد يكون له أثر في تكوين الوطن القومي لليهود، وفي مصالح الجمهور اليهودي الفلسطيني، على أن تكون تلك الكتلة دائمًا تحت إدارة ونفوذ المصالح الحكومية لتساعدها، وتشترك معها في تعمير البلاد والنهوض بها([15]).
والمادة المذكورة تقول بأن الهيئة الصهيونية (ستتخذ الخطوات اللازمة بمشورة الحكومة البريطانية لتحقيق اتحاد جميع اليهود الذين يعتزمون المساهمة في إنشاء الوطن القومي اليهودي). وإن إنشاء (الوطن القومي اليهودي) في فلسطين يُخْفِي بين طياته غرضًا آخر هو أن يخلق في تلك البلاد مقاطعة بريطانيـة جديدة لتكون بمثابة مركز للجيوش في البلاد العربية، وهذه الحقيقة جاءت ضمن الكتاب الذي وضـعه الكولونيل ودج وود([16]) الراديكاني عن فلسطين، أما فيما يختص بجمهور اليهود فإنه لا يريد ولم يرد قط استثمار فلسطين؛ لأن الأجيال التي نفي اليهود خلالها من تلك البلاد جعلتهم من أهالي جميع أقطار العالم، وإذا كانوا يشعرون بشيء من الحنو نحو (فلسطين الذهبية) فإنه لا يتجاوز العاطفة الروحية، ولا يهمهم مطلقًا الوجهة الجغرافية والسياسية في تلك البلاد([17]).
* القوانين البريطانية الداعمة لليهود:
نشرت المنار في مقـال عن مقررات المؤتمر الإسلامي العام بالقدس في 17 نوفمبر سنة 1928م، بعض ما تنفذه السلطـات البريطانيـة من سياسات لصالح تمكين الحركة الصهيونية من الاستيلاء على فلسطين ومنها([18]):
1 ـ رفض المؤتمر الإسلامي للقانون الذي سنَّتْـه حكومـة الانتـداب سنـة 1924م باسم قانون نزع الملكيـة، الذي أخاف المسلمين على أوقافهم وأمـاكنهم الدينية، والتي يعلم المسلمون أنها من آثار المساعي اليهودية، توطئة للاستيلاء على أوقاف إسلامية مكفولة الحصانة بموجب نص الشق الثاني من المادة (13) من صك الانتداب، ولما كانت الهيئات الإسلامية الرسمية احتجَّت للحكومة مرارًا على هذا القانون منذ صدوره، طالبة إزالة مواطن التخوف منه، ومنها مطالبة اليهود باستملاك مكان الوقف الإسـلامي المحض الذي فيـه البراق الشـريف، مستندين على هذا القانون، لما كان ذلك، فالمؤتمر يطلب من حكومة الانتداب رفع مواطن التخوف من هذا القانون تأمينًا للمسلمين على مقدساتهم وأوقافهم، أو بإعلان الحكومة أن هذا القانون لا يشمل الأماكن الإسلامية، وبأن أوقاف المسلمين لا تنزع ملكيتها لأغراض طائفية أجنبية([19]).
2 ـ انتقاد المؤتمر الإسلامي لسياسة النائب العام في حكومة الانتداب (نورمان بنتويش) الذي وصفـه بأنه «زعيمًا صـهيونيًّا قُحًّا بآرائه وأعماله ومؤلفاته»، وكان مركز النائب العام في حكومة الانتداب عاملًا أكبر في التشريع، لذا فإن المؤتمر رأى أن المسلمين في فلسطين يرون في وجود هذا الرجل في هذا المركز النافذ مبعث الخطرعلى مصالحهم وهم الأكثرية المطلقة في البلاد، وقد سبق لهم أن احتجوا على وجوده، فهو يشغل وظيفة عالية، من شأنها أن تمهد للمقاصد الصهيونية، وطالب المؤتمر منالحكومة إقصـاء المستر بنتويش عن منصبه، وقرر الاحتجاج على بقاء المذكور في مركزه([20]).
* تآمر هربرت صموئيل مع الأمير عبد الله بن الحسين:
تذكر المنار أن بدايـة اتفاق بريطانيـا مع الأمير عبد الله بجعله حاكمًا لشرق الأردن، كان حين سافر مستر تشرشل وزير المستعمرات البريطانية إلى فلسطين فيشهر مارس 1921م وأبلغ أهلها بدوام السلطة الإنجليزية على البلاد، وتنفيذها لوعد بلفور بجعلها وطنًا قوميًّا لليهود، وقابل الشريف عبد الله بن الحسين، وجعله حاكمًا لشرق الأردن بالتبع لحكومة الانتداب في فلسطين، وأعطاه من القوة العسكرية والطيارات ما يمكنه من إخضاع كل من يشذ من عرب تلك البلاد، وتأمين ما تنشئه السلطة البريطانية فيها من أسباب المواصلات ووسائل القوة، منها محطة التلغراف اللاسلكي وحظيرة الطيارات، ويلي ذلك مد السكة الحديدية العسكرية من فلسطين إلى العراق، وقد قرروا إعطاءه حصة جمرك حيفا وهي 130 ألف جنيه في السنة([21]).
وقد زار المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل شرق الأردن في 18 أبريل 1921م، وقد نشرت المنار خبرًا بعنوان: حكومـة شرقي الأردن بين السير هربرت صموئيل والأمير عبد الله([22]).
ويذكر الخبر أن المندوب السامي وصل إلى عمان مصحوبًا بالكولونيل لورنس والمستر ديدز واللورد إدوارد هاي، فجـرى لهم استقبال ودّي واحتفـى به الأمير عبد الله الذي كان مصحوبًا بالمستر إبرمسون الممثل الأكبر لبريطانيا في جهة وادي الأردن، وقد قدمت أربع طيارات من فلسطين ونزلت بجوار المعسكر في ميـدان الطيران الألماني السابق. واجتمع عدد كبير من فرسان البدو والدروز والمتاولة وقامواببعض الألعاب على ظهور خيولهم([23]).
وقد ألقى هربرت صموئيل أمام سرادق الأمير عبـد الله خطابًا على ألوف من رجال قبائل العرب قال فيه: «الحكومة البريطانية تسر بفرصة التعاون مع الأمير عبد الله في البلقاء (ما وراء نهر الأردن)، وتثق بصداقته وحسن نيته كل الثقة، وتقدر الصداقة وحسن الثقة اللتين امتحنتا في هذه الحرب الضروس حق قدرهما، وتدرك الخدمات التي قامت بها الجيوش العربية في ذلك النضال، وترغب في أن التحالف الذي نشأ في أثناء الحرب توثق عراه في أيام السلم»([24]).
وأضاف صموئيل أن الموظفين البريطانيين كانوا يساعدون في إدارة البلقاء (ما وراء نهر الأردن)، وسيظلون يعملون كمستشارين للأمير وموظفيه في أنحاء البلاد، وسيجد سموه في المستر إبرامسون كبير المندوبين البريطانيين موظفًا ذا خبرة عظيمة، يعطفون على الشعب ويميلون إلى الآداب العربية، وسيتمكنون من المساعدة على ترقية البلاد، وتدبير كل ما تحتاجون إليه من العروض وفتح أسواق فلسطين لحاصلات بلادكم.
وشدد صموئيل على ضرورة المحافظة على النظام والأمن العام في المقام الأول من الأهمية، وأمِل أن يحتفظ بقوة احتياطية تستخدم مع الجندرمة في توطيد سلطة الأمير عبـد الله، ووافق على طلب الأمير عبـد الله في تقديم طيارات ومساعدات عسكرية وفنية عند الضرورة، واتخاذ التدابير لكبح جماح كل من يعكر صفو الأمن في الأراضي المجاورة غربًا وشمالًا. وأن الحكومة البريطانية مصممة على أن لا تصير البلقاء مركزًا للعداء سواء كان لفلسطين أو لسورية، بمعونة الأمير عبد الله([25]).
وقد رد الأمير عبد الله بأنه واثق بأن الأمة العربيـة ستبرهن على أنها خليقة بتحقيق كل ما وضع فيها من الآمال بمساعدة حليفته العظيمة [بريطانيا]([26]).
يتضح مما سبق أن بريطانيا حققت أهداف عديدة عندما جعلت الأمير عبد الله ابن الحسين أميرًا على شرق الأردن، منها استرضاء حلفائها من العرب على رأسهم الشريف حسين وأبنائه، فيصـل وعبد الله، لاسيما بعدما أنهت فرنسا ملك فيصل وطردته من سورية، ومن ناحية أخرى أمَّنت حدود فلسطين الشرقية من هجمات الثوار، وأمدَّت الأمير عبد الله ما يحتاجه من السلاح والمال، وعيَّنت له موظفًا بريطانيًا يكون مستشارًا له لمساعدته على ترسيخ أقدامه في شرق الأردن، والقضاء على أية ثورة تقوم ضده، وكل الإجراءات السابقة كانت تمهيدًا لتنفيذ وعد بلفور على أرض الواقع، وتمكين اليهود من الاستيلاء على فلسطين.
كما نشـرت صحيفة المنار مقالًا كان قد نشر في جريدة (النيوستيسـمان)([27]) الإنجليزية يتناول مشروع المعاهدة العربية البريطانية وترجمته جريدة الأخبار([28])([29]):
ورأت جريدة (نيوستيسمان) أن العلاقات بين بريطانيا والعالم العربي في سنة 1922م، قد شارفت نقطة التحول، بإتمام (الثالوث الشريفي) بترقية الأمير عبد الله إلى ما هو شبيه بالعرش. ذلك أن هربرت صمويل أعلن أن بريطانيا تعترف بوجود حكومة مستقلة شرقي الأردن بعد موافقـة عصـبة الأمم، على أن إعلان صمويل اقتصر على الاعتراف بِعَدِّ الأردن كحكومة مستقلة، وشرقي الأردن ـ الذي لا يتجاوز تعداد سكانه 350.000 ومساحته سبعة آلاف ميل مربع ـ لا يستطيعأن يقف على قدميه وحده، ولا أن يستغني عن المستشارين البريطانيين، أو المعونة البريطانية وقدرها 150.000جنيه إنجليزي في السنة([30]).
وأما الانتداب فيشمل فلسطين قاطبة وفي جملتها شرقي الأردن وغربه، وقد أعلن أن بعض نصوص الانتداب، وبخاصة ما يتعلق منها بالوطن القومي لليهود لا ينطـبق على شرق الأردن. وقد أبلغت بريطانيا عصـبة الأمم أن حكومة شرق الأردن ستظل سـائرة تحت إشراف بريطانيـا، وعلى هذا فليس ثَمَّ استقلال تام. ولكن هذا الإعلان الذي صدر (بالاعتراف بالاستقلال) له مغزاه على كل حال، وهو يعني أن شرق الأردن مقدور له أن ينفصل عن فلسطين الغربية، وأن يصبح دولة عربية تنظر جنوبًا إلى الحجاز وشرقًا إلى العراق؟([31]).
ولكن هذه ليست إلا مرحلة واحدة في عمليـة كبرى، لقد لمح صمويل أن المركز الجديد الممنوح للأمير عبد الله يجب أن يُفَسَّر في ضوء المعاهدة التي توشك أنتعقد بين بريطانيا ووالده الملك حسين، وهذه المعاهدة هي آخر حلقة في سلسلة من المعاملات يرجع مبدؤها إلى 1915م، فقد كان دخول الشريف في الحرب مسبوقًا بمكاتبات طويلة غير حاسمة بين مكة والقاهرة، وكانت آراء الشريف السياسية غامضة مضطربة، ولكنه كان يتطلع إلى إنشاء إمبراطورية عربية بمساعدة بريطانيا أو إقامة اتحاد عربي يدور على محور شريفي([32]).
ولما أرادت بريطانيا أن تصفي هذه التعهدات سارت على خطين متوازيين فأنشأت من جهة كتلة من الدول الشريفية فاعترفت في 1916م بالشريف حسين ملكًا للحجاز. ولما آن الأوان وجد فيصل عرشًا في العراق، وقد تمت الآن الدائرة العائلية بإقامة عبد الله شرق الأردن. ولكنه من جهة أخرى لا يزال على بريطانيا أن تختم الحساب مع الملك حسين([33]).
وقد هبطت بضـاعة حسين هبوطًا شديدًا في ختام الحرب، وكان بطـيئًا في إحداث التلاؤم بين نفسه، وبين مستوى السعر الجديد، فظـل عائشًـا في عالم من الأوهام، وكانت المعونة التي تبذل له تبلغ مائتي ألف جنيـه في الشهر، ولكنها في 1920م أنقصت حتـى درجـة الزوال، وظل رافضًـا أن يتعاقد، وفشـلت بعثـة الكولونيل لورانس إلى جدة سنة 1921م، وفي أوائل 1923م وصل ناجي الأصيل إلي لنـدن، وعاد إلي مكـة بمشروع معاهدة ولم يُرْضِ الملك حسينَ، ومالَ بحـكم عادته لطلب المزيد، ولكنه قد يجد إذا تعنت أنه ضيع الفرصة([34]).
وقد علقت المنار على هذه المقالة بما يلي:
1 ـ أن هذه المقالة تثبت رأي مجلة المنار في الشريف حسين وأسرته، أنهم إنما يعملون لصالح بريطانيا، ويتجرون بالأمة العربية فيبيعون بلادها للأجانب، ويهاجم المنار من يسميهم (أجراء الأسرة الحسينية) في سورية بأنهم افتروا على رشيد رضا بأنه يطعن فيهم لأنهم لم يعطوه وظيفة قاضي القضاة بمكة، ويرد عليهم بأنهم يعلمون أن طريق الوظائف عندهم مساعدتهم على أعمالهم التي يعدها خيانة للأمة([35]).
2 ـ مـا قاله الكاتـب الإنجـليزي في استقلال الأردن الصـوري تحـت نير الانتداب، الذي صرح بأنه ليس باستقلال تام، وجعل الأمير عبد الله مستخدميه فيه وزراء ووكلاء وزينهم بالألقاب الفخمـة، ووزّع أراضي البلاد على مَن شاء، تمتعًا بأبهة المُلْك الكاذب في مملكة يقل عدد سكانها عن مدينة الإسكندرية، ويقل دخلها عن دخل مُزَارع واحد في القطر المصري([36]).
3 ـ التصريح بأن آراء الشريف حسين المضطـربة التي حملتـه على الارتباط بالدولة البريطانيـة يُفْهَمُ منها ـ على غموضـها ـ أنه يطلب أن تؤسس له بريطانيا إمبراطورية عربية أو دول اتحاد عربي يدور على محور شريفي. ويرى رشيد رضا أن هذا أقل مما في مقرَّرَات النهضـة التي قدمهـا الشريف حسين للإنجليـز ونشرها الشريف فيصل في جريدة المفيـد بدمشق ففيهـا التصريح بالحماية الإنجليزية لهذه الأمة العربية القاصرة في حجر الدولة البريطانية([37]).
4 ـ تصريح الكاتب بأن ما نشرته حكومـة الانتداب من خلاصة المعاهدة رسمي، وهذا ما صرحت به جرائد لندن، ويقول رضا: «ولكن جريدة الملك حسين (القبلة) كذبت الخلاصة الرسمية؛ لأنها أظهرت كذب بلاغ حسين»([38]).
5 ـ تصريحه بأن المعاهدة تشتمل على تعهد دولته بتأييد استقلال العرب في العراق وشرق الأردن وجزيرة العرب ـ أي دون فلسطـين ـ خلافًا لأقوال الملك حسين الرسمية التي ظهر كذبها، حتى اضطر هو إلى الإذعان له بعد عناد طويل؛ إذ أرسل مندوبًا بلغ أهل فلسطين أنه يحاول إقناع بريطانيا لإنشاء حكومة وطنية لهم أي في ظل الانتداب، وحسبهم أن يرأسهم عبد الله بعد صمويل، الذي وعد الإنجليز بأن يخمد لهم أنفاس العرب في فلسطين([39]).
6 ـ يوجه رشيد رضا القراء إلى التأمل في غرض الإنجليز فيما يصرحون به من عقد المعاهدة مع الملك حسين ومما يسمونه الوحدة العربية، وهو ما عناه الكاتب الإنجليزي بقوله: «وواضح أن لبريطانيا ربحًا من وراء إقامة كتلة عربيـة يمكن اتخاذها في يوم من الأيام لمواجهة قـوات أخرى في العالم الإسلامي أقل ميلًا إلينا بالود». فيتساءل رضـا: أليس هذا صريحًا في أنهم يريدون جعل العرب جندًا لهم يقاتلون به الترك والإيرانيين عند الحاجة؟([40]).
ويُستنتج مما سبق:
ـ أن المتأمل في السياسة البريطانية السابقة يجد أنها ما زالت تنفذ حتى الآن من قِبل الغرب، فتجدهم يعقدون التحالفات مع بعض الأطراف العربية الإسلامية وتصفها بالمعتدلة؛ لمحاربة أطراف أخرى بحجة أنها متشددة وإرهابية، ويؤججون النزاعات العرقية والمذهبية؛ لصرف أنظار العرب عن عدوهم الحقيقي دولة الكيان الصهيوني.
ـ إن الأطراف المسايرة لسياسـة الاستعـمار تلجـأ إلى التدليس والتضـليل مستخدمـة وسـائل الإعـلام التابعـة لها لإخفـاء حقيقتها، والهروب من مساءلة الشعوب لها.
ـ من خلال تتبـع سياسية الاستعمار في العالم العربي نخلص إلى أن الحقوق لا تُستجدى بالمعاهدات والمفاوضـات، فهي مضيعة للوقت، ولا تزيد الضعيف إلا ضعفًا، ولكن الحقوق تنتزع انتزاعًا، وحتى لو كانت الشعوب المستعمرَة ضعيفة، عليها أن تأخذ بأسباب القوة، وتعُد العُدة لمواجهة عدوها.
p p p
([2]) وفي ترجمة أخرى للوعد نشرت المنار في نوفمبر 1929م النص التالي: عهد بلفور الجائر. نظارة الخارجية في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917م: عزيزي اللورد روتشيلد: إني بملء المسرة أنقل إليكم بالنيابـة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي المفعم بالشعور مع مطامح اليهود الصهيونية، والذي طُرح على هيئة الوزارة وصدق عليه أن حكومة جلالة الملك تنظر بعين الرضا إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وهي ستبذلالجهد لتسهيل السبل الموصلة إلى تلك الغاية على شرط أن لا يحدث ثم شيء يؤدي إلى الإجحاف بحقوق بقية السكان غير اليهود دينيًّا ومدنيًّا، أو يعبث بالحقوق والسنن السياسية التي يتمتع بها اليهود في أية بلاد أخرى وأكون في غاية الامتنان إذا تفضلتم باطلاع الاتحاد الصهيوني على هذا التصريح. لكم بإخلاص أرثور جيمس بلفور. مجلة المنار، مج 30، ص385م.
([3]) البارون أدموند (أبراهام بنيامين) روتشيلد (1845 ـ 1934م) رجل بنوك وثري يهودي فرنسي، وقد أطلق عليه اسم «أبو الاستيطان اليهودي»، بفضل النشاطات التي قام بها لصالح اليهود في فلسطين، وقد أخذ المستوطنات اليهودية الأولى تحت رعايته وعلى رأسها ريشـون لتسيـون، وروش بينـه، وزخرون يعقوب، وأقام مستوطنـات جديـدة. قسم الدراسات بدار الجليل: مصطلحات ومناسبات وتواريخ وشخوص صهيونية، دار الجليل للنشر، عمان، ط1، 2008، ص66.
([5]) أبو عرجة، تيسير: المقطم جريدة الاحتلال البريطاني في مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997م ص114.
([8]) أدموند هنري هانيمان أللنبي (Admund Allenby) (1861 ـ 1936م): ضابط وإداري بريطاني اشـتهر بدوره في الحرب العالميـة الأولى حيـث قاد قـوة التجريـدة المصـرية في الاستيلاء على فلسطين وسورية عامي 1917 ـ 1918م، عين بعدها مندوبًا ساميًا في مصر.
TucKer, Spencer: The Encyclopedia of world war I, A Political -Social - ـ& Military history, ABC ـ CLIO, 2005, p87.
([9]) حسين رشدي باشا (1863 ـ 1928م)، ابن طبوزاده محمد حمدي باشا: ولي رئاسـةالوزارة فيها أربع مرات، مولده ووفاته بالقاهرة. تعلم بها ثم بباريس. وولي وزارة الحقانية ثم رئاسة مجلس النظـار (الوزراء) سنة 1914م. وفي أيام وزارته عُزل عبـاس حلمي الثاني، وتولى حسين كامل السلطنة المصرية، وأحسن صاحب الترجمـة معالجة الموقف بحزم. ثم كان مع عدلي يكن في وفد الحكومة الرسمي إلى لندن، للمفاوضة سنة 1921م. وجعل من أعضـاء مجلس الشيوخ سنة 1925م. وتولى رئاسته إلى أن توفي. الزركلي: الأعلام، ج2، ص237.
([10]) عدلي باشا بن خليل بن إبراهيم يكن (1864 ـ 1933م): ولد في القاهرة، كان وزيرًا للخارجية، فوزيرًا للمعارف، ثم رئيسًا للوزارة ثلاث مرات (سنة 1921 و26 و29م) ذهب في أولاها، على غير رضى الجمهور المصري، إلى لندن لمفاوضة الإنجليز في قضية مصـر السياسية، وفشـل. وهو من مؤسسي حـزب «الأحـرار الدستوريين». واتهم في صلابته السياسية، لخلافه مع سعد زغلول. توفي في باريس ونقل إلى القاهرة. الزركلي: الأعلام، ج4، ص218 ـ 219.
([14]) ويقصد المادة الرابعة من صك الانتداب على فلسطين الصادر في 29/ 9/ 1922م ونصها: «يعترف بوكالة يهودية ملائمة كهيئة عمومية لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين والتعاون معها في الشئون الاقتصـادية والاجتماعية وغير ذلك من الأمور التي قد تؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين ولتساعد وتشارك في ترقية البلاد على أن يكون ذلك خاضعًا دومًا لمراقبة الإدارة. يعترف بالجمعية الصهيونية كوكالةملائمة ما دامت الدولة المنتدبة ترى أن تأليفها ودستورها يجعلانها صـالحة ولائقة لهذا الغرض ويترتب على الجمعية الصهيونية أن تتخذ ما يلزم من التدابير بعد استشارة حكومة صاحب الجلالة البريطانية للحصول على معونة جميع اليهود الذين يبغون المساعدة في إنشاء الوطن اليهودي». وثائق القضية الفلسطينية، ج1، منشورات المركز القومي للدراسات والتوثيق، غزة، سنة 2003م، ص238.
([16]) ترأس الكولونيل جوسيا ودجوود (Josiah Wedgewood) الصهيوني غير اليهودي، جماعة بريطانية تدعو إلى إنشاء دولة صهيونية تكون جزءًا من الكومونولث البريطاني. المسيري، عبد الوهاب: الصهيونية، الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، مج6، ص283.
([27]) مجلة نيوستيتسمان (NewStatsman): أسسها في 1913م سيدني وباتري ويب بدعم من جورج برنارد شو.
Groth, Helen & Natalia Lusty: Dreams & Modernity a cultural History, Routledge. 2013, p118.