جاري التحميل

خصائص البنية الأسلوبية في نماذج

الموضوعات

خصائص البنية الأسلوبيَّة في نماذج
من الشِّعر الصِّقلِّيِّ
 (لابن الخيَّاط وأبي عبد الله بن الطُّوبيِّ، وابن القطَّاع)

كتب الأستاذ الدكتور أسامة اختيار حول هذا الموضوع من كتاب ( جمهرة  أشعار الصقليين تحقيق ودراسة ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1437 هـ - 2016 م )

فقال :

يقف هذا الفصل عند دراسة الخصائص الأسلوبيَّة في شعر الصِّقلِّيِّين، ويهدف إلى وصف نظام بناء الشِّعر الصِّقلِّيِّ، معتمداً منهجَ التَّحليل الأسلوبيِّ لوصف البنيات الثَّلاثِ: اللُّغويةِ والتَّصويريَّةِ والإيقاعيَّةِ، وتتحدَّدُ الأسلوبيَّةُ لدى أعلامها في أنَّها البديلُ الألسنيُّ في نقد الأدب، ولذلك يذهب الدكتور عبد السَّلام المسدِّي إلى القول: «الأسلوبيَّةُ تتحدَّدُ بكونها البعدَ الألسنيَّ لظاهرة الأسلوب»([1]) فهو يميِّزُ بين الأسلوب بوصفه طريقةً للكتابة الأدبيَّة، والأسلوبيَّة بوصفها منهجاً تحليليّاً ألسنيّاً متكاملاً.

يمكننا أن نجد بعضَ الملامح للأسلوبيَّة في تراثنا النَّقديِّ، لكنَّها لا تؤلِّف منهجاً متكاملاً، وقد أفاضَ بعضُ الباحثين في دراسة هذه الأصول([2])، وأغنت الدِّراسـات الألسنيَّـةُ الحديثـةُ كثيراً من أدوات التَّحليل الأسلوبيِّ([3])، ومن أهمِّ ما يلفتُ النَّظر في هذا الصَّدد الرَّبطُ بين الوظيفةِ التَّعبيريَّةِ والوظيفةِ الانفعاليَّة في البنية الأسلوبيَّة للخِطاب الأدبيِّ، إذ لم يكن يُتَوَقَّع من الأسلوبيَّة الَّتي تنطلق أساساً من اللُّغة ـ بوصفها بنيةَ النَّصِّ الرَّئيسة([4]) ـ أن تهتمَّ بالجانب الانفعاليِّ وتُعْلِي من شأنه([5])، والتَّعبيريَّةُ لدى الأسلوبيِّين هي «طاقة الكلام في حَمْلِهِ عواطفَ المتكلِّم وأحاسيسه»([6])، وكذلك تقوم على«إبرازِ المتكلِّم بعضَ أجزاءِ خطابه، وهي ظاهرةُ تكثيفِ الدَّال خدمةً للمدلولات»([7])، ومنَ المأمول أن يتيحَ منهجُ التَّحليل الأسلوبيِّ ـ في هذا الفصل من الدِّراسة ـ النَّفاذَ إلى الخصائص الجماليَّة للشِّعر الصِّقلِّيِّ.

جديرٌ بالذِّكر أنَّنا لم نغفل في الفصول الخمسةِ السَّابقةِ العنايةَ ببعض جوانبِ الدِّراسةِ الأسلوبيَّة لأشعار الصِّقلِّيِّين، غيرَ أنَّ هذا الفصل السَّادس يبحث في البنيـة الأسلوبيَّة لدى ثلاثةٍ من الشُّعراء الصِّقلِّيِّين، هم: ابن الخيَّاط وابن الطُّوبيِّ أبي عبد الله وابن القطَّاع.

ثمَّةَ سؤالٌ يُطرَحُ في هذا الصَّدد: ما المعاييرُ المنهجيَّةُ الَّتي اختيرَ على أساسها هؤلاء الشُّعراء لتكون أشعارهم مادَّةً لهذه الدِّراسة هنا؟

*  *  *

أوَّلاً ـ المعايير المنهجيَّة لاصطفاء النَّماذج:

لم يأتِ اختيارُ أشعارِ الثَّلاثةِ المذكورين عشوائيّاً، وإنَّما دعَتْ إلى ذلك أسبابٌ منهجيَّةٌ منها: أنَّ ابنَ الخيَّاطِ أحدُ أبرزِ شعراء مرحلة الحكم العربيِّ في صقلِّيَّة، فهو من شعراء الدَّولةِ الكلبيَّةِ الَّتي شهدت ازدهارَ الحركة الشِّعريَّة. أمَّا ابنُ الطُّوبيِّ (أبو عبد الله) فيمثِّلُ أبرزَ شـعراءِ صقلِّيَّة المخضرمين المقيمين الَّذين شهدوا مرحلتي الحكم العربيِّ والنُّورمانيِّ، وهو من الشُّعراء الَّذين يُتوقَّعُ أن يكشفَ منهجُ التَّحليل الأسلوبيِّ لشعره عن حالَي اللُّغة والأدب من حيث القوَّةُ أو الضَّعفُ في مرحلةٍ من التَّاريخ آلَ فيها أمرُ صقلِّيَّةَ إلى غير العرب. أمَّا شعرُ ابن القطَّاع فيُمَثِّلُ ـ منَ النَّاحية الأسلوبيَّة ـ وثيقةً أدبيَّةً تجمع بين خصائصَ ثلاثٍ؛ الأولى: أنَّ شعره يُجَسِّدُ خلاصةَ جهد الشُّعراء الصِّقلِّيِّين في مرحلة الحكم العربيِّ في صقلِّيَّة، لأنَّ ابنَ القطَّاع عملَ في جمع أشعارهم وتدوينها، ولابدَّ أن يكون قد تأثَّرَ بمنهجِهِمُ الشِّعريِّ، والثَّانية: أنَّه عاصرَ الوجودَ النُّورماني في صقلِّيَّةَ وشهد ما طرأ على الحركة الأدبيَّة من تطوُّرٍ، والثَّالثة: أنَّه هاجر من صقلِّيَّة إلى إفريقيَّةَ، فتنوَّعَتْ مصادرُ مادَّتهِ الشِّعريَّةِ، وهذا كلُّه يعطي نتاجَهُ الشِّعريَّ قيمةً خاصَّةً.

أوَّلُ ما يُستهَلُّ به دَرْسُ خصائصِ البنيةِ الأسلوبيَّةِ في شعر هذه الطَّبقةِ من الشُّعراء الصِّقلِّيِّين هو البنية اللغويَّة، وهي العنصر الأوَّل الَّذي يقوم عليه العملُ الشِّعريُّ، فما خصائصُ أسلوبِ البناءِ اللُّغويِّ في أشعارهم؟ وهل ثمَّةَ فرقٌ بين أسلوبَي البناءِ اللُّغويِّ في شعر الصِّقلِّيِّين في مرحلة سيادة الحكم العربيِّ في صقلِّيَّة وشعرِهم في المرحلة النُّورمانيَّة؟

*  *  *

ثانياً ـ أسلوب البناء اللُّغويِّ:

ندرس تحت هذا العنوانِ أسلوبَ البناءِ اللُّغويِّ في شعر الصِّقلِّيِّين على صعيدَي الأداءِ اللَّفظيِّ والأداءِ التَّركيبيِّ ابتغاءَ الوقوف على خصائص اللُّغة الشِّعريَّة، ونستهلُّ بمستوى الأداء اللَّفظيِّ، لأنَّ اللفظَ يُعَدُّ البنيةَ اللُّغويَّةَ الدَّالَّةَ الأولى الَّتي يتألَّف منها التَّركيب، مع الأخذ في الحسبان أنَّ الحرفَ لا يُعَدُّ بنيةً دالَّةً بمعزلٍ عن قيمته في بناء هيكلِ اللَّفظِ وهيكلِ التَّركيب.

أ ـ مستوى الأداء اللَّفظيِّ:

تقوم دراسة اللَّفظ في الأسلوبيَّة على «الملاءمة الطَّبيعيَّة بين الألفاظ والمعاني حتَّى تكونَ الأولى حكايةً للثَّانية»([8]) وتَبْرُزُ عنايةُ الصِّقلِّيِّين بهذا الانسجام الدِّلاليِّ بين الألفاظ والمعاني، وللدِّلالة على ذلك يمكننا دراسةُ النَّصِّ الآتي من شعر ابن الخيَّاط([9]):

طَرَقَ الخَيالُ، وَساءَ ما طَرَقا

أَخَذَ الرُّقادَ وَخَلَّفَ الأَرَقا

عِنْدِي سَرائِرُ لَوْ نَفَثْتُ بها

في صَخْرَةٍ لَتَقَطَّعَتْ [فِلَقا]([10])

حُبُّ صَلِيْتُ بِهِ وأَكْتُمُهُ

لَوْ مَسَّ أَبْكَمَ حَرُّهُ نَطَقا

وَلَقَدْ صَبَرْتُ لَهُ فَأَوْسَعَنِيْ

قَلَقاً وأَثخَنَ مُهْجَتِيْ حُرَقا

وَلَعَلَّنِي إنْ قُلْتُ: لِي عَلِقٌ

قَعَدَ الوُشاةُ بِقِصَّتِي حِلَقا([11])

تشير دراسةُ اللَّفظ في هذه الأبيات إلى حضور حرف (القاف) في البنية اللَّفظيَّة، ويمكننا رَصْدُ ذلك تبعاً للآتي: (طرقَ، طرقا، الرُّقادَ، الأرقَ) (تَقَطَّعَت، فِلَقا) (نَطَقَ) (قَدْ، قَلَقا، حُرَقا) (قلْتُ، عَلِقٌ، قَعَدَ، قِصَّتي، حَلَقا) وهذه الظَّاهرةُ تدفعنا إلى التماس الانسجام الدِّلاليِّ بين الألفاظ والمعاني، لمعرفة أَثَرِ حضورِ حرف (القاف) في بناء اللَّفظ على وجه الخصوص.

يتميَّز صوتُ (القاف) بصفات القوَّة، لأنَّ فيه الجهرَ والشِّدَّةَ والاستعلاءَ([12])، وتأتي هذه الصِّفاتُ في البناء اللَّفظيِّ لهذا النَّصِّ الغزليِّ، وموضوعُ الغزلِ وجدانيٌّ يسوده البوح، ممَّا يقتضي رقَّـةَ اللَّفظ وانسـيابَ الحرفِ في البنية اللَّفظيَّة، غير أنَّ ما يُلْحَظُ هنا على النَّقيض ممَّا ذكرناه، إذ يسود عنصرُ (القلق) لدى ابن الخيَّاط، فَيَعْمَدُ إلى بناء اللَّفظ مختاراً منه ما يحكي الاضطرابَ الَّذي يعانيه، وتأتي سائرُ الألفاظِ في الأبيات لتعبِّرَ عن الشِّدَّة والقلق والمعاناة، ويَبْرُزُ الحرفُ المضعَّفُ فيها على نحوٍ يؤكِّدُ هذه الدِّلالات (الرُّقادَ، خلَّفَ، تَقَطَّعَت، مَسَّ، حرُّه، قِصَّتي) كما يُلْحَظُ أنَّ نصيبَ البنيةِ اللَّفظيَّةِ من أصوات الاستعلاءِ أو الجهرِ أو الشِّدَّةِ من غير القاف يؤكِّد في الأبيات هيجانَ العاطفةِ واضطرابَ النَّفس، كالَّذي يعبِّرُ عنه صوتُ الصَّاد (صخرة، صَلِيتُ، صبرت، قصَّتي) وهو حرفٌ من خصائصِهِ الاستعلاءُ والإطباقُ والصَّفيرُ، وهي خصائصُ تتَّسمُ بالقوَّة، فتأتي في سياقها لتكملَ بناءَ النَّسيج الدِّلاليِّ لألفاظِ الأبيات المذكورة.

تَظْهَرُ متانةُ سبكِ البنيةِ اللفظيَّةِ في الشِّعر الصِّقلِّيِّ في عصر النُّورمان أيضاً، ويدلُّ ذلك على القيمة الفنيَّة لشعر تلك المرحلة، كما يدلُّ على أنَّ الشِّعرَ فيها لم ينحدر مع ضعف المكانةِ السِّياسيَّةِ للعرب، وتقدِّمُ دراسةُ شعر الصِّقلِّيِّين ممَّن عاصروا حُكْمَ النُّورمانِ في صقلِّيَّة دليلاً على قوَّة اللُّغة ونصاعة الأدب في ذلك العصر، وهذا ما سيتَّضح من خلال المقارنةِ بين أسلوبيَّةِ البناءِ اللَّفظيِّ في شعر ابن الطُّوبيِّ (أبي عبد الله) وما تمخضَتْ عنه دراسةُ نصِّ ابن الخيَّاط أيضاً، مع الإشارة إلى أنَّ ما وصل إلينا من شعر ابن الطُّوبيِّ (أبي عبد الله) إنَّما هو مقطَّعات، فمنه ما نجده من محاكاة اللَّفظ للمعنى وائتلافِهما في التَّعبير عن قلق التَّجربة العاطفيَّة في شعره الغزليِّ، كقوله([13]):

يا قاسِيَ القَلْبِ ألا رَحْمَةٌ

تَنالُنِي مِنْ قَلْبِكَ القاسِي؟

جِسْمُكَ مِنْ ماءٍ فَما لِي أرى

قَلْبَكَ جُلْـمُوداً على النَّاسِ؟([14])

إنَّ دلالةَ قسوة القلبِ ظاهرةٌ في البنية اللَّفظيَّة في النَّصِّ، وتتَّضح في أسلوب التَّكرارِ اللَّفظيِّ، إذ يكرِّرُ الشَّاعرُ لفظَ (القلب) ثلاثَ مرَّاتٍ في بيتين، كما يكرِّرُ لفظَ (القسوة) مرَّتين، يقعُ أحدُهما في قافية البيتِ الأوَّل، ويعزِّزُ لفظُ (القسوة) لفظَ (الجُلْمود) في سياق بنيته التَّصويريَّة، فضلاً عن ذلك يأتي بناءُ صوتِ (القاف) في سياقه اللَّفظيِّ ليؤكِّدَ دلالةَ الشِّدَّة، فهو حرفٌ شديدٌ مجهورٌ مُسْتَعْلٍ، ومَخْرَجُهُ الصَّوتيُّ يُكْسِبُ النَّصَّ دلالاتِ القسوة الَّتي تحكيها المعاني، وهذا الإتقانُ في بناء الصَّوت في سياق اللَّفظ سبقَ أنْ لُوحِظَ آنفاً في نصِّ ابن الخيَّاط([15])، وتأتي عنايةُ الصِّقلِّيِّين بالبنية اللفظيَّة في النَّصِّ الشِّعريِّ في أشكال مختلفةٍ من الائتلاف الصَّوتيِّ في اللَّفظ، فمن ذلك قول ابن القطَّاع([16]):

من أَعْيُنِنا خَدَّيكَ صُنِ

 

يا بدرَ التِّمِّ على غُصُنِ

بوِصالِكَ هَجْراً عَذَّبني

 

يا عَذْبَ الرِّيقِ أَرَقْتَ دمي

شَهْداً عَطِراً بعدَ الوَسَنِ

 

شَهِدَ المسواكُ بأنَّ بهِ

[تُنْئِي] الأحبابَ ولسْتَ تَنِي

 

يا بَيْنُ أَبَنْتَ الصَّبْرَ فَكَمْ

عيشـي بِنَواهُ غيرُ هَني

 

فيهِنَّ غزالٌ ذو غَيَدٍ

وبها عنْ زَينِ الحَلْيِ غَنِيْ

 

حالٍ ببديعِ محاسِنِهِ

تُظْهِرُ الدِّراسةُ اللَّفظيَّةُ لهذا النَّصِّ الشِّعريِّ الائتلافَ الصَّوتيَّ في بناء اللَّفظ الَّذي يفضي إلى التَّناغم في البنية اللَّفظيَّة للنَّص الشِّعريِّ، ويتَّضح ذلك من خلال عَقْدِ موازنةٍ بين الأصوات في الألفاظ الآتية: (غُصْن ـ صُن) (عَذْب ـ عَذَّبَني) (الرِّيق ـ أرقْتَ) (شَهِدَ ـ شَهْد) (بَيْن ـ أبنْتَ) (تُنْئي ـ تَني) (فيهنَّ ـ هَني) (غَزال ـ غَيد ـ غَير) (حالٍ ـ حَلْي).

ومن المعلوم أنَّ الجناسَ من أشكال الائتلافِ الصَّوتيِّ في البنية اللفظيَّةِ (شَهِدَ ـ شَهْداً) ومن أشكال الائتلافِ الصَّوتيِّ أيضاً موقعُ الحرفِ الواحدِ من ألفاظ متتابعةٍ، كموقع حرفِ الغين في صدر الألفاظ (غَزالٌ ـ غَيدٌ ـ غَير) مع مراعاة تتابُعِها في البيت الشِّعريِّ، ومن ذلك تَكرارُ الحروفِ في بناء لَفْظَين أو أكثرَ ممَّا يُفضي إلى تناغم الألفاظِ وائتلافِ مخارجِ الأصواتِ، نحو تكرار حرفَي الباء والنُّون في لفظين متقاربين (بَيْن ـ أبنْتَ) وتكرار حرفَي الحاءِ واللاَّم في لفظين متباعدَين (حالٍ ـ حَلْي) وإنَّ مِثْلَ هذه المحاكاة الصَّوتيَّة ذاتُ وظيفةٍ تأثيريَّةٍ عاليةٍ، ولها علاقةٌ بالإطار الدِّلاليِّ للنَّص تبعاً لرؤية (Ullman) في كتابه المعنى والأسلوب([17])، وذلك لأنَّها تُشِيعُ الأجواءَ الغنائيَّةَ في الخطاب الغزليِّ، وهذه الأجواءُ تُجَسِّدُ الإيقاعَ الغنائيَّ لعاطفة الحبِّ.

إنَّ ممَّا يزيدُ دلالةَ اللَّفظِ انضباطاً في سياقه واستقراراً فيه تَمَكُّنُه من البنيةِ اللَّفظيَّةِ للنَّص، فلا يأتي غريباً عنها، غيرَ مستقرٍّ فيها، كما أنَّ نُبُوَّ اللَّفظِ في سياقه يؤدِّي إلى خَلَلٍ في الحقل الدِّلاليِّ للبنية اللَّفظيَّة، وفي الإمكان التَّعبير عن هذا بظاهرتي النُّبوِّ والتَّمكُّنِ اللَّفظيين، وأقصد بالألفاظ النَّابية تلك الألفاظَ الجافيةَ القلقةَ في سياق البنية اللفظيَّة العامَّة للنَّص، كما أنَّ استخلاصَ هذه النتيجة يكون من خلال ملاحظةِ علاقةِ اللَّفظِ بدلالات ما استُعْمِلَ معه من ألفاظٍ أخرى في سياق النَّصِّ، ويُلْـمَحُ النُّبوُّ اللفظيُّ في بعض شعر الصِّقلِّيِّين، فمن ذلك قول ابن الطُّوبيِّ (أبي عبد الله) في هذا البيت([18]):

كنْتَ بهم في تَعَبٍ مُتْعِبِ

 

إنْ أنتَ لم يَحْتَجْ إليكَ الورى

إنَّ لفظَ (مُتْعِب) يأتي في سياقه اللَّفظيِّ قلقاً على صعيد دلالة اللَّفظ، وللتَّثبُّتِ من ذلك في الإمكان أن نسأل: هل ثمَّةَ تعبٌ غيرُ متعبٍ؟! يبدو أنَّ الشَّاعرَ سِيقَ باضطرارِ الرَّوِيِّ إلى إلحاقِ اللَّفظِ باللَّفظ، ليس على نيَّة التَّكرار، إنَّما على دلالـة النَّعـت، فجاء لفظ النَّعْت من لفـظ المنعـوت ذاتِـه، ممَّا أفضى إلى نُبُوِّ اللَّفظ في سياقه، ونحو ذلك أيضاً نبوُّ لفظِ (سنَّة) في قول ابن الخيَّاط([19]):

سُنَّةِ وَجْهٍ كَسُنَّةِ البَدْرِ

يكادُ ماءُ النَّعيمِ يَقْطُرُ مِنْ

جاء لفظ (سُنَّة) في موقعه نابياً لتكراره في السِّياق من غير فائدة (سُنَّة وجهٍ كسنَّة البدرِ) والمراد من سنَّةُ الوجهِ صورتُه واستدارتُه وصَقالَتُهُ، ولو قيلَ مثلاً: (سنَّة وجهٍ كَطَلْعةِ البدر) لكان أوقعَ في الأُذن، فإنْ قيلَ إنَّ (سنَّة) الأُولى هي تصحيف (شَنَّة) قلْتُ: إنَّ هذا يجعلُ الصُّورةَ أكثر نُبوّاً ومجاجةً في الذَّوق، لأنَّ لفظَ (الشَّنَّة) يقع في سياقه غيرَ مستقرِّ الدِّلالة، ويأتي هذا النُّبوِّ من حيث تشبيهُ الوجهِ المُنَعَّم الغَضِّ الَّذي يتقطَّر منه ماء النَّعيم بالشَّنَّةِ، وهي القِرْبَةُ الَّتي يَتَقَطَّرُ منها الماءُ إذا خَلَقَتْ، فكيف يكون الوجهُ الغَضُّ قِرْبَةً باليةً، وإنْ تَنَدَّى منها الماءُ؟! وقريبٌ من ذلك النُّبوِّ ما يُفضي إليه التَّضمين ـ وهو عيبٌ في القافية ـ من نُبُوِّ اللَّفظِ في سياقه، فيبدو اللَّفظُ في إطار وحدةِ البيتِ الشِّعريِّ نابياً، غيرَ مُتَمَكِّنٍ من موضعه، كقول ابن الطُّوبيِّ (أبي عبد الله)([20]):

وقلبيَ فيهِ عذابٌ أليمْ

 

أقولُ وقد مرَّ نِسْطاسُ بي

وهذا نبوٌّ عارضٌ مَرَدُّهُ إلى التَّضمين، إذ لا يتمُّ معنى البيت إلَّا بما يأتي بعدَه، فلفظُ (أقول) بقي في سياقه قلقاً غيرَ مستقرِّ الدِّلالةِ لا يستقلُّ في البيت على حالِهِ، وممَّا يزيدُ في نُبُوِّ اللَّفظ في سياق التَّضمين أن يُطِيلَ الشَّاعرُ المباعدةَ بين طَرَفَي المعنى المتلازمَين، ففي هذا الشَّاهدِ لا يأتي جوابُ القولِ إلَّا بعد بيتين آخرَين، والتَّضمينُ منَ العيوبِ المعنويَّة في القوافي، وشواهدُه في شعر الصِّقلِّيِّين نادرةٌ.

أمَّا التَّمَكُّنُ اللَّفظيُّ فليس المرادُ منه ملاءمةَ اللَّفظِ لسياقه وحسب، إنَّما يُرادُ الوظيفةُ الدِّلاليَّةُ الَّتي يؤدِّيها اللَّفظُ في سياقه، إذْ لا بدَّ منه في موضعِه، وشواهدُه في شعر الصِّقلِّيِّين كثيرةٌ، ممَّا يؤكِّدُ مهارتَهم اللُّغويَّةَ في اختيار الألفاظ الملائمة، فمن ذلك قول ابن الطُّوبيِّ (أبي عبد الله) في هذا البيت([21]):

وذو القُرْبِ مِنْ سَيْبِهِ مُخْفِقُ

 

يَخُصُّ البعيدَ بإحسانِهِ

إنَّ ألفاظَ البيتِ جميعَها متمكِّنَةٌ من سياقها، فلا غِنى عن أحدِها، وليس في البيتِ إيجازٌ، ولا فيه من الإطنابِ شيءٌ، فاللَّفظُ فيه يساوي المعنى ويخدمُه، ويتوِّجُ الشَّاعرُ مظاهرَ تمكُّنِ اللَّفظِ من سياقه بالطِّباق، فَيُمَكِّنُ لفظَ (البعيد) بلفظِ (القرب) ويآلفُ في اللَّفظ بين (الإحسان) و(السَّيْب) فَيَحْسُنُ بذلك المعنى، ويتمكَّنُ اللَّفظان من موقعيهما في البنية اللغويَّة، ثمَّ تستقرُّ دلالة البيت تامَّةً في لفظ (مخفق) فيستوفي الشَّاعرُ بهذا اللَّفظ محيطَ المعنى الَّذي يريده.

جدير بالذِّكر أنَّه ممَّا يزيد التمكُّنَ اللفظيَّ أهميَّةً أن يتَّخذه الشَّاعر في باب التَّصوير، حين تنبثق بنيةُ الصُّورة عن ألفاظٍ متمكِّنَةٍ يعضدُ بعضُها بعضاً، ويأتي اللَّفظُ في السِّياق من غير تفصيلٍ مُمِلٍّ أو إيجازٍ مُخِلٍّ، ويقع من البنية اللغويَّة في الموقع الَّذي يَحْسُن به، كما هو شأنُ صورة (الكمين) في عَجُزِ البيت الآتي من قول ابن الطُّوبيِّ (أبي عبد الله) يحذِّر من غدر الصَّديق([22]):

لكَ والصَّديقُ هوَ الكمينُ

 

إنَّ العَدوَّ مُبارِزٌ

إنَّ لفظ (الكمين) هو مثالٌ لذلك التَّمكُّنِ المقصود، ويُلْحَظُ أنَّ الشَّاعرَ بَنَى ألفاظ البيت الشِّعريِّ على أساس المقابلةِ اللفظيَّةِ (العدوُّ المبارِزُ، الصَّديقُ الكمينُ) على أن (المُبارِز) هو من يَبْرُزُ لِقِتالِكَ، ويتجلَّى التمكُّنُ اللفظيُّ في الدِّلالات الإيحائيَّة لِلَفظِ (الكمين) الذي أسـهم في بناء عنصر التَّخيُّل، فهو يَشِي بالخديعة والمَكْرِ والشَّرِّ، وهو الخَفِيُّ المستورُ، وبلفظ (الكمين) حَسُنَت المقابلةُ اللَّفظيَّةُ بين المُبارِزِ والكَمِينِ، ومنه ينبثق جمالُ الدِّلالة في الصُّورة الشِّعريَّة في البيت.

من قَبيل ذلك ما يتمخَّضُ عنه تمكُّنُ اللَّفظِ من إثراء الدِّلالة أيضاً، حين يستعينُ الشُّعراء بالألفاظ المتمكِّنةِ من سياقها والمؤدِّيةِ للمعاني على أحسن وجهٍ من غيرِ فضولٍ في الكلام، وهذا ما يُلْـمَحُ في البنية اللَّفظيَّة من قول ابن القطَّاع يصف الخمر([23]):

خِلْتَ ثغراً في كأسِها لؤلئيّا

 

قهوةٌ إنْ تَبَسَّمَتْ لمزاجٍ

إنَّ لفظَ (لؤلئيّا) متمكِّنٌ من سياقه فهو ذو علاقةٍ دلاليَّةٍ بالكأس، لأنَّه يُصَوِّرُ حَبابَ الخمرة في قَدَحِها حين تُمزَجُ بالماء، وهو ذو علاقةٍ دلاليَّةٍ بالثَّغر إذْ يُصَوِّرُ إشـراقةَ التَّبَسُّم، وحَسُـنَ موقعُ هذا اللَّفظِ في القافية، فهو يُتَوِّجُ الصُّورةَ، ويختمُ بنيتَها اللُّغويَّةَ، ويُثْري جمالَ دلالتِها الضَّوئيَّة، وهذا كلُّه يدلُّ على أثرِ تَمَكُّنِ اللَّفظِ في بناء الصُّورة الشِّعريَّة.

تُظْهِرُ الدِّراسةُ اللَّفظيَّةُ للشِّعر الصِّقلِّيِّ أثرَ بعض ضروبِ البديعِ في تمكين اللَّفظ من سياقه، والظَّاهرُ أنَّ الصِّقلِّيِّين كانوا أميلَ في شعرهم إلى الطِّباق أكثر من غيره من ضروب البديع، ولعلَّ ذلك يعود إلى أنَّ الطِّباق يَتَمَيَّزُ بإبرازِ مزيَّةِ التَّضادِّ بين الأشياء، ممَّا يلفتُ انتباهَ المتلقِّي، ويُظْهِرُ جمالَ الضدِّين، وقد أفادَ الصِّقلِّيُّون من هذا الضَّرب من البديع في بناء الصُّور الشِّعريَّة، كقول ابن الخيَّاط يصف حرباً([24]):

ويا رُبَّ يومٍ لَهُ مُسْعَرٍ
 

إذا خَمَدَتْ نارُهُ أَوْقَدا

تخافُ بهِ الرِّجْلُ مِنْ أُخْتِها

ولا تَأْمُن اليَدُ فيه اليَدا

وتَرْمِي رِجالٌ بأعضائهِمْ

فَمَثْنى تَراهُنَّ أو مَوْحَدا

ترى السَّيفَ عُرْيانَ مِنْ غِمْدِهِ

وَتَحْسَبُهُ مِنْ دَمٍ مُغْمَدا

تبدو في الأبيات عنايةُ الشَّاعر بالطِّباق (خَمَدَتْ، أوقدا) (مَثْنى، مَوحَدا) (عُريان، مُغْمَدا) وقد أسهمَ الطِّباقُ في تمكين الألفاظ من سياقها، كما أسهمَ في تأليف البنيةِ التَّصويريَّةِ لمشهد الوصف، ويرسم الشَّاعرُ في ضوء هذه الصُّورِ الضِّديَّةِ مشهداً عنيفاً لصورة الحرب، ولم يأتِ الطِّباقُ في النَّصِّ حشواً لا طائلَ منه، إنَّه ذو وظيفةٍ بنائيَّةٍ في بناء الصُّورة الشعريَّة، وقد أسهمَ في تمكين اللَّفظ من سياقه، لنتأمَّلْ قولَ ابن الخيَّاط يصفُ بركةَ ماءٍ([25]):

لها على الجَمْعِ والتَّفْريقِ أَمْثِلَةٌ

في الدِّرْعِ مَسْـرُودةً والسَّيفِ في الشُّطُبِ([26])

استخدمَ الشَّاعرُ الطِّباقَ (الجمع، التَّفريق) في تشبيهه لاستفزازِ الرِّيحِ لماءِ البِرْكَةِ بحلقاتِ الدِّرعِ حالةَ الجَمْعِ، وشبَّهَ تفريقَ الرِّيحِ لها بِشَطْبَةِ السَّيفِ، وهذه المقدرةُ الإبداعيَّةُ على توظيف الطِّباق في بناء الصُّورة تعطي هذا البديعَ قيمةً بنائيَّةً، فلا يبدو مُقْحَماً على النَّصِّ الشِّعريِّ أو دخيلاً عليه.

ويأتي الطِّباقُ في بعض شعر ابن الخيَّاط ليؤديَ غرضاً معنويّاً يُمَكِّنُ اللَّفظَ من بنية النَّصِّ من غير أن يشتركَ في بناء الصُّورة الشِّعريَّة، فمن ذلك قولُه يصفُ لقاءَه بمن يُحِبُّ وقد حضرَ الوشاةُ([27]):

تَعَارَضْنا مُقابَلَةً بلَحْظٍ

فَأَطْرَقْنا وقَدْ فُهِمَ المُرادُ

فَيَا لِوُشَاتِنا حَضَـرُوا وغابُوا

وَمَنْ لَهُمُ بما جَنَّ الفُؤادُ

طابقَ الشَّاعرُ في البيتين السَّابقين بين (الحضور والغياب) للتَّعبير عن تَجاوُزِه لحضورِ الوشاةِ المزعجِ، ومن قَبيل ذلك ما يُلْحَظُ في شعر ابن القطَّاع من المَيلِ إلى استخدام الطِّباقِ في النَّصِّ بمنأى عن توظيفِهِ في بنية التَّصوير، كقوله في هذه الأبيات([28]):

بَدَأْتَ بفَضْلٍ أتاهُ الكريمُ

ولا غَرْوَ مِنْكَ ابْتِداءٌ بِهِ([29])

لأنَّكَ مُغْرًى بفِعْلِ الْجَمِيلِ

مُهِينٌ لِما عَزَّ في كَسْبِهِ

أَتَتْنِيَ أَبْياتُكَ الرَّائقاتُ

بِشَأْوٍ بَعِيدٍ على قُرْبِهِ([30])

يأتي الطِّباقُ بين اسم الفاعل (مُهين) وضدِّه في صيغتِه الفعليَّةِ (عَزَّ) كذلك الطِّباقُ بين (بعيد) و(قُرْب)، وتأتي المطابقةُ لِتمكينِ اللَّفـظِ مـن سـياقه، ويَظْهَـرُ تَصَـرُّفُ الشَّاعر في الصِّيغة الصَّرفيَّةِ لِلَفْظِ الطِّباق، فَضِدُّ (مُهين: مُعِز)، وضدُّ (بعيد: قريب) ويأتي الطِّباقُ في سياق تقريظ الصَّاحبِ للدِّلالة على صورته الأخلاقيَّةِ ومقدرتهِ الشِّعريَّة، فهو يُهين ما يعزُّ على النَّفس كَرَماً، ويُصَوِّره أديباً سبَّاقاً إلى المعاني البعيدة، فلا يقع في حُوْشي اللَّفظِ، لأنَّ شعرَه قريبُ التَّناولِ، مُيَسَّرٌ لِمداركِ الفَهْمِ، كما أنَّه بعيدُ المقاصدِ عند التَّحليلِ والتَّأمُّلِ.

يُبْدِعُ ابنُ الطُّوبيِّ (أبو عبد الله) في بناء المقابلةالَّتي تقومُ على عدَّة طباقاتٍ، ويأتي فيها بمعنيين أو أكثر، ثمَّ يُتْبِعُ ذلك بالمقابِلِ من الأضداد، ويَقْرِنُ الشَّاعرُ الطِّباقَ بالمُقابَلَةِ([31]) في بعض شعره، وتقوم المقابَلَةُ بتمكينِ الألفاظِ من سياقها، فضلاً عن أثرها في بناء الصُّور الضِّديَّة، كقوله يصفُ جاريةً تحملُ قَدَحاً([32]):

وعَجِبْنا للماءِ يَحْمِلُ ناراً

في قَنانٍ كأنَّها خِرْطُ عاجِ([33])

وفَتاةٍ تَكَشَّفَتْ للنَّدامى

وعَجُوزٍ تَسَتَّرَتْ بالزُّجاجِ


فاغْتَنِمْ لَذةَ الزَّمانِ وبادِرْ

كلُّ ضِيقٍ تَخافُهُ لانْفِراجِ

بدايةً يطابقُ الشَّاعرُ بين (الماء والنَّار) ويأتي هذا الطِّباقُ في موطن التَّصوير حيث يستعير النَّارَ للخمرِ، ويستعير الماءَ للجاريةِ الَّتي تحملُ الخمرَ، ثمَّ يضيفُ إلى ذلك عنصرَ المقابلة، فيقابِلُ بين الجارية المُنْكَشِفَةِ والعجوزِ المُتَسَتِّرَة (فتاة تكشَّفَتْ، عجوز تستَّرَتْ) وتأتي هذه المقابلةُ لتصوير القَدَحِ، ثمَّ يُتْبِعُ ذلك الطِّباقَ بالدَّعوة إلى اغتنام العمر، فيطابِقُ بين (الضِّيق والانفراج).

ومن المُلاحَظِ أنَّ طباقَ السَّلبِ لا يأتي في شعر الصِّقلِّيِّين بمحاسنِ طباقِ الإيجاب، وهو لا يُسْهِمُ في بناء الصُّورة على النَّقيض من طباق الإيجاب، بَيْدَ أنَّ طباقَ السَّلْبِ يُسْهِمُ في تمكين ألفاظِ أشعارهم وإنْ لم يأت في مَعْرِضِ بنية الصُّورة، ومن أمثلته ما نجده في شعر ابن الطُّوبيِّ (أبي عبد الله) كقوله([34]):

إذ خُنْتِ مَنْ لم يَخُنْكِ

 

صَبَرْتُ يا هِنْدُ عَنْكِ

يأتي طباقُ السَّلْبِ في أشعار الصِّقلِّيِّين في صيغٍ متنوِّعةٍ، كالطَّباق بين الفِعْلَينِ في البيت السَّابق (خُنْتِ، لم يَخُنْكِ) أو الطِّباق بين الفعل واسم الفاعل (هجرت، ليس بهاجر) في هذا البيت من قول ابن الخيَّاط([35]):

أهلاً به؛ هجرَتْ وليسَ بهاجرِ

أهلاً بطيفِ حُبابَةٍ من زائرِ

إضافةً إلى ما سبقَ نَجِدُ في أشعارهم استعمالَ مراعاة النَّظير والإرصاد لِتمكينِ اللَّفظ في سياقه، ولا يخفى ما لهما من جمالٍ في الشِّعر، وأُوَجِّهُ العنايةَ هنا إلى دراسة ما يؤدِّيانه من تمكين اللَّفظ في البنية اللُّغويَّة.

يبدو أنَّ لِمراعاةِ النَّظيرِ أثرٌ بارزٌ في تمكين اللَّفظ في أشعارهم من حيث أنَّها تقوم أساساً على الائتلافِ والتَّناسبِ المعنويَّين بين الألفاظ، ومراعاة النَّظير هي «أنْ يُجْمَعَ في الكلام بين أمرٍ وما يناسبُه لا بالتَّضاد»([36]) واسْتُثْنِيَ التَّضادُّ من ذلك لإخراجِ الطِّباقِ والمقابلةِ من هذا الحُكْمِ، ومن أمثلة ذلك قولُ الشَّاعر ابن الطُّوبيِّ (أبي عبد الله) يصف ناراً مُوقَدَةً من الفَحْم([37]):

يُطْرَدُ عَنْهُ الشَّـرارُ باللَّهبِ

 

ونارِ فَحْمٍ ذي مَنْظَرٍ عَجَبِ

وقد حَسُنَ في هذا البيت ذِكْرُ (اللَّهبِ) بذِكْرِ نظيرِه (الشَّـرار) فَتَمَكَّنَ اللَّفظان من سياقهما، وأتى هذا التَّمَكُّن اللَّفظيُّ في موضع التَّصوير فازداد حُسْناً بذلك، ومِثْلُهُ قولُ ابنِ الخيَّاط يَذْكُرُ يومَ حربٍ([38]):

ولا تَأْمَنُ اليَدُ [فيه] اليدا([39])

 

تخافُ بهِ الرِّجْلُ من أُختها

جاء لفظُ (اليد) مقترناً بلفظ النَّظير (الرِّجْل) فتمكَّن اللفظ، ونَلْحَظُ عنايةَ ابنِ الخيَّاط بظاهرة تمكينِ اللَّفظِ من طريقِ مراعاةِ النَّظير في كثيرٍ من شعره، مع البراعة في بنائه ليوافقَ مقتضى المعنى الَّذي يريده، كقوله في هذا البيت([40]):

مجامِعَ القلبِ حتَّى السَّمعَ والبَصَـرا

حُلْوُ الشَّمائلِ أَخَّاذٌ بفِطْنَتِهِ

راعى هنا ذِكْرَ نظيرِ (السَّـمْع) وهو (البصر) فتمكَّنَ لفظُ (البصر) بذلك، ولا تقتصر ظاهرةُ تمكين اللَّفظ على شعر ابن الخيَّاط، بل نجد مثيلها من البراعة في شعر غيره من الشُّعراء الصِّقلِّيِّين، فمن ذلك ما نجده في شعر ابن القطَّاع أيضاً، كقوله يصف الثَّغْرَ متغزِّلاً([41]):

سُمُوطاً من الياقوتِ قد رُصِّعَت دُرّا([42])

إذا ابتسَمَتْ يوماً حَسِبْتَ بثَغْرِها

وحَسُنَ ذِكْرُ (الدُّرِّ) واستقرَّ في موضعِهِ متمكِّناً منه لِذِكْرِ النَّظيرِ (الياقوت) لاشتباهِ علاقةِ الدُّرِّ بالياقوت، وممَّا يوثِّقُ هذه العلاقةَ استعارةُ لفظِ (الدُّرِّ) في الصُّورة للأسنان، واقتران (الياقوت) بلفظِ (الثَّغر).

ويُعَدُّ الإرصادُ من الظَّواهر المعنويَّةِ الَّتي تمكِّنُ لفظَ القافيةِ، والإرصادُ «أنْ يبنيَ الشَّاعرُ البيتَ من شعره على قافيةٍ قد أرصدَها له»([43])وقد تتشابكُ العلاقاتُ المعنويَّةُ بين الإرصاد وغيره من ضـروب البديعِ في أشـعار الصِّقلِّيِّين، كقول ابن القطَّاعِ وقد جمعَ في لفظين الطِّباقَ والإرصادَ معاً([44]):

رُوحِي قَدْ بِعْتُ لَهُ ـ وبهِ

ما زِلْتُ أضنُّ ـ بلا ثَمَنِ

فبحَضْـرَتِهِ أُصْفِي فَرَحِي

وبِغَيْبَتِهِ أُضْفي حَزَني([45])

تمكَّنَ لفظُ القافيةِ (حَزَني) في سياقه من ثلاث جهاتٍ؛ الأولى: معرفة الرَّويِّ من البيت السَّابق، والثَّانية: اقتران لفظ القافية بلفظ يدلُّ عليه (فرحي)، والثَّالثة:ارتباطُ اللَّفظين الدالِّ والمدلولِّ عليه بعلاقة ضديَّةٍ تتمثَّل في الطِّباق بين (فرحي وحَزَني) ويُلْحَظُ من مقارنةِ الإرصادِ في البيت الثَّاني بين لفظي (حَزَني وفرحي) والإرصاد في البيت الأوَّل بين (بعت وثمن) أنَّ الإرصادَ في البيت الأوَّل يقوم على العلاقة التَّوافقيَّة بين اللَّفظين، في حين تقوِّي الإرصادَ في البيت الثَّاني العلاقةُ الضديَّةُ بينهما، ويأتي الإرصاد في مواضعَ أخرى ليس على سبيل علاقتي التَّوافق أو التَّضاد، وإنَّما من جهة الاحتمال أو الاشتباه فمن ذلك ما يظهر في شعر ابن الطُّوبيِّ (أبي عبد الله) كقوله([46]):

خالفْتَ أَمري فَزِدْتَ في كَمَدي

يا ولداً حَلَّ داخلَ الكَبِدِ

فَلَيتَ شِعْري لِمْ عَقَّني وَلَدي؟

واللهِ يا قومُ ما عقَقْتُ أبي

إنَّ معرفةَ الرَّويِّ والسَّبْقَ بلفظِ (عَقَّ) مَكَّنَا لفظَ (وَلَدِي) من موضعِهِ، فالعلاقةُ المعنويَّةُ بين العُقوقِ والوَلَدِ مُحْتَمَلَةٌ، ويزيد من تمكين الإرصادِ علاقةُ التَّضادِ الَّتي يستدعيها الطِّباقُ بين اللَّفظين (أبي، وَلَدِي).

يأتي الإرصادُ في بعض شعرهم مقترناً بغير ضربٍ من ضروب البديع، ممَّا يزيد من تمكين اللَّفظ في موضعه، فمن ذلك ما يكونُ من جَمْعِهِمْ بين الإرصادِ والتَّبديل أو العكس، وفي الإمكان ملاحظةُ هذا على صعيد محورِ الاستبدال اللَّفظيِّ في عُرْفِ الدِّراساتِ الأسلوبيَّةِ الحديثةِ، ويُقْصَدُ به «مجموعةُ الألفاظِ الَّتي يُمْكِنُ للمتكلِّم أن يأتيَ بأحدٍ منها في كلِّ نقطةٍ من نقاط سلسلةِ الكلامِ»([47]) ومن أحد مظاهرِ الاستبدال اللَّفظيِّ ما يُصطلَحُ عليه في البلاغةِ العربيَّةِ بالتَّبديل، وهو: «تقديمُ لفظٍ من الكلام، ثمَّ تأخيرُه»([48]) فيَعْمَدُ المتكلِّمُ إلى تقديم ما أخَّرَ وتأخيرِ ما قدَّمَ، نجد ذلك في قول الشَّاعر ابن الخيَّاط في وصفِ خادمٍ له([49]):

والمسْتَرَقُّ بعَبْدِ السُّوءِ مولاهُ

لي عبدُ سُوءٍ وعبدُ السُّوءِ منكَدَةٌ

وحينَ آمُرُهُ بالشَّـيءِ أنهاهُ

 

كأنَّني كلَّما أنهاهُ آمُرُهُ

تمكَّنَ لفظُ (أنهاه) في سياقه من ثلاثةِ وجوهٍ؛ الأوَّل: الإرصاد الَّذي يستدعيه اقترانُ لفظ (أنهاه) بلفظ (آمرُه) مع المعرفةِ بالرَّويِّ من البيت السَّابق، والثَّاني: العلاقة الضِّديَّة بين لفظي الإرصاد، والثَّالث: علاقة التَّبديل الَّتي مكَّنَت اللَّفظَ وأضفَتْ على البيت مسحةً إيقاعيَّةً جميلةً تتمثَّلُ في إيقاع التَّكرار اللَّفظيِّ مع عَكْسِ المعنى (كأنَّني كلَّما أنهاهُ آمُرُه) (وحينَ آمُرُهُ بالشَّيءِ أنهاهُ).

يُفضي مِثْلُ هذا التَّشابك في العلاقات اللَّفظيَّة في شعر الصِّقلِّيِّين إلى دراسة خصائص التَّركيب اللُّغويِّ وذلك للوقوف على سماته الأسلوبيَّة في أشعارهم.

ب ـ مستوى الأداء التَّركيبيِّ:

تعتني الأسلوبيَّة عند دراسة النَّصِّ الأدبيِّ بطريقة تحويلِ الفكرة إلى واقعٍ لغويٍّ يتجاوزُ الاستعمال العاديَّ للُّغة، وفي الإمكان الاصطلاحُ على ذلك بالإجراء الأسلوبيِّ([50]) ويستفادُ من دراسة الإجراءاتِ الأسلوبيَّةِ في تحديد مستوى الأداء التَّركيبيِّ في النَّصِّ الشِّعريِّ، وينطلق هذا البحثُ في دراسة التَّراكيب الشِّعريَّة لدى الصِّقلِّيِّين من معيارٍ لغويٍّ جماليٍّ، ينتج منه فرزُ التَّركيبِ الشِّعريِّ لدى الصِّقلِّيِّين إلى قسمين؛ يتعلَّق الأوَّل بالتَّعبيرات القويمة، أمَّا الثَّاني فيقف عند مظاهر الخللِ الأسلوبيِّ في التَّعبيرات السَّقيمة، وفي الإمكان تطبيقُ هذا الإجراء على الأساليب اللُّغويَّة الشَّائعة في بناء التَّركيب الشِّعريِّ لديهم.

تُظْهِرُ نصوصُ الشِّعر الصِّقلِّي عنايةَ الشُّعراء بالتَّصرُّف في الأساليب اللُّغويَّة، فمنـه ما يتجلَّى من جماليَّات توظيف الأسلوبين الشَّرطيِّ والظَّرفيِّ في بناء التَّركيب الشِّعريِّ، كقول ابن القطَّاع([51]):

إذا ابتسمَتْ يوماً حسبْتَ بثغْرِها

سُمُوطاً منَ الياقُوتِ قَدْ رُصِّعَتْ دُرّا([52])


وإنْ سَفَرَتْ عايَنْتَ شَمْساً مُنيرَةً

تَرُدُّ عُيونَ النَّاظِرينَ لها حَسْـرَى([53])

وَتَسْلُبُ عَيناها العُقولَ إذا رَنَتْ

الموضوعات