جاري التحميل

الغزل في الشعر الصقلي

الموضوعات

الغزل في الشِّعر الصِّقلِّيِّ

كتب الأستاذ الدكتور أسامة اختيار حول هذا الموضوع من كتاب ( جمهرة  أشعار الصقليين تحقيق ودراسة ) الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1437 هـ - 2016 م )

فقال :

شعر الغزل الصِّقلِّيُّ فرعٌ نضيرٌ من فروع الغزل العربيِّ، له صِلاتُه الوشيجةُ بالنَّمط الغزليِّ العربيِّ القديم، ويشغل نصيباً وافراً من أشعار الصِّقلِّيِّين، ويُعَدُّ اتِّجاهاً سائداً لديهم إضافةً إلى اتِّجاه الطَّبيعة الَّذي سبقَتْ دراستُهُ، ولهذه الوفرة في الإنتاج الغزليِّ الصِّقلِّيِّ مسوغاتُها الأدبيَّةُ والاجتماعيَّةُ والجغرافيَّةُ، فمن المسوِّغاتِ الأدبيَّةِ تلك الأهميَّةُ الَّتي حَظِيَ بها الغزلُ في الشِّعر العربيِّ عامَّةً، فضلاً عن تأثُّر بـناء الخـطاب الـغزليِّ الصِّقلِّـيِّ بالمذهبيـن المشرقيِّ والأندلسـيِّ، وتعضدُ ذلك مسوِّغاتٌ اجتماعيَّةٌ تعود إلى خصائص المجتمع الصِّقلِّيِّ الَّذي رسَّخَ ما يُصطلَحُ عليه بمجالس الأُنس، ممَّا أسهم في بروز نمطٍ سائدٍ من أنماط التيَّارات الغزليَّة هو الغزلُ الحسيُّ، ويضافُ إلى ذلك أهميَّة العامل المكانيِّ، الَّذي تتَّضحُ فيه العلاقةُ الحميمةُ بين الشَّاعر والمكان، إذ أسهمت الطَّبيعةُ الصِّقلِّيَّةُ الفاتنةُ في استحضار الأجواء الغزليَّة، فأضفَتْ من رِقَّتِها ورونقِها على شعر الغزل الصِّقلِّيِّ، وشاركَتْ في بناء الصُّورة الشِّعريَّة في النَّصِّ الغزليِّ، ولا ريبَ في أنَّ هذه العواملَ مجتمعةً كان لها أثرٌ كبيرٌ في تغذية شعر الغزل في صقلِّيَّة، وتلوين مضامينِهِ الشِّعريَّةِ على نحوٍ عَمِلَ في إبراز الغزل بوصفه غرضاً رئيساً من أغراض أشعارهم، وهذا كلُّه يُبْرِزُ أهميَّةَ ارتباطِ النَّصِّ الغزليِّ الصِّقلِّيِّ بالمؤثِّرات الثَّقافيَّة والبيئيَّة.

تُظهِرُ دراسةُ شعر الغزل الصِّقلِّيِّ تيَّارين رئيسين سيطرا على البنية الدِّلاليَّة للخطاب الغزليِّ، هما: الغزل المعنويُّ، والغزل الحسِّيُّ.

*  *  *

أولاً ـ الغزل المعنويُّ في الشِّعر الصِّقلِّيِّ:

تصدر بعض النُّصوص الغزليَّة عن نمطٍ غزليٍّ يخاطبُ الوجدانَ، ويصوِّر مراراةَ التجربة العاطفيَّة، وما يكابدُه العاشقُ من ألمٍ تتسامى فيه الرُّوحُ عن الوصف الحسِّيِّ، وهذا النَّمطُ من الغزل يهتمُّ بإبراز العناصر المعنويَّة في المشهد الغزليِّ.

يُظهِرُ شعراءُ هذا التيَّار العِفَّةَ في أشعارهم الغزليَّة، ولايمزجون بين التيَّارين المعنويِّ والحسِّيِّ في الغزل، ولا ينتمون إلى طبقةٍ خاصَّةٍ من طبقات المجتمع الصِّقلِّيِّ تُملي عليهم هذا الامتثالَ، وهم ليسوا من الفقهاء أو العلماء خاصَّةً، ومنهم شعراء عاصروا الحكم العربيَّ في صقلِّيَّة، وآخرون من شعراء المرحلة النُّورمانيَّة، وهذا كلُّه يفضي بنا إلى القول إنَّ التزامَهُمْ بالعفَّة في شعرهم الغزليِّ التزامٌ ذاتيٌّ نابعٌ من رغبةٍ أخلاقيَّةٍ، وأبرزُ ما يجمعُ بين غزلهم ظهور الجانب المعنويِّ في التعبير عن عاطفة الحُبِّ.

على الرُّغم من ضيق هذه الظَّاهرة في أشعار الصِّقلِّيِّين فإنَّ أهميَّتَها تأتي من أنَّها نشأت في ظلِّ مجتمعٍ متحضِّرٍ شاع فيه التَّرف، وساد فيه العبثُ واللَّهوُ، فكان هذا الغزل حالةً أدبيَّةً خاصَّةً تقف على النَّقيض من ذلك كلِّه.

تسيطر على هذا التيَّار من الشِّعر نزعتا الغنائيَّة والمثاليَّة، ويُنْشِدُ الشُّعراءُ لوعةَ المُحِبِّين، وينأون بأنفسهم عن الابتذال والمجون، ويُجْمِعون على إبراز القيم المعنويَّة للحبِّ، وفي الإمكان رصدُ أبرز العناصر المعنويَّة في أشعارهم في أربعة مشاهدَ رئيسةٍ يُنْتِجُها تحليلُ البنيةِ الدِّلاليَّةِ للخطاب الغزليِّ، وهي:

(المشهد البكائيُّ ـ مشهد الوداع ـ مشهد الطَّيف ـ المشهد القِيَميُّ).

أ ـ المشهد البكائيُّ:

تمثِّل البكائيَّاتُ أبرزَ الخصائص المعنويَّة الوجدانيَّة في شعر الغزل المعنويِّ ويتميَّزُ المشهدُ البكائيُّ في هذا الشِّعر بقوَّة العاطفة وصِدْقِ الخطاب ودفءِ المشاعر، وتستمدُّ الصُّورة الغزليَّة في المشهد البُكائيِّ عناصرَها من التَّعبير عن نوازع الذِّكرى ولوعةِ الوجدِ وعذابِ الهَجْرِ، وتُبْرِزُ رؤيةُ الشُّعراء للحبِّ هذه العناصرَ المعنويَّةَ متقاربةً، فيرسمون في شعرهم صورةَ العاشقِ الباكي الَّذي يَتَلَذَّذُ بعذابِ حبِّهِ، فمن ذلك قول عثمان بن علي السَّرَقُوسيِّ([1]):

دَمْعٌ رأى بَرْقَ الحِمى فَتَحَدَّرا

وجوًى ذَكَرْتُ له الحِمى فَتَسَعَّرا

 

لو لم يكُنْ هَجْرٌ لَمَا عَذُبَ الهَوى

أنا أشتهي مِنْ هاجري أن يَهْجُرا

 

ترتبط هذه البكائيَّةُ بعناصرَ مشرقيَّةٍ تقليديَّةٍ تقوم على إعلاء شأن المكان، (برق الحِمى، ذكرْتُ له الحِمى) وتقوم على رصد تجربة الحبِّ في زمنها الماضي (الذِّكرى) وهذا يشير إلى أنَّ البكائيَّاتِ ترتبطُ ارتباطاً كليّاً بعلاقتَي الزَّمان والمكان، إذ يلجأ الشُّعراء إلى إبراز معاناتهم الوجدانيَّة من خلال إبراز وطأة الزَّمن الحاضر (زمن الفراق) ومقابلتِهِ بالزَّمن الماضي السَّعيدِ، ويبدو المكانُ في الحاضر معادلاً لصورة الشَّتاتِ، وباعثاً لحزن العاشق، وتُعَدُّ صورةُ اللَّيل منَ الصُّورِ الزَّمانيَّةِ ذاتِ الحضورِ البارزِ في البكائيَّات، لأنَّ اللَّيلَ ظَرْفٌ ملائمٌ لتداعيات الهموم، ولذلك يدرك العاشقُ المحزونُ أنَّ شدَّةَ وطأةِ اللَّيلِ عليهِ ناشئةٌ من إحساسِهِ بالفَقْدِ، وليس الَّذي يشعر به من طول اللَّيل إلَّا أحد أسباب ذلك، يقول ابن سدوس([2]):

يقولون: طالَ اللَّيلُ جهلاً، ولم يَطُلْ

ولكنَّ أشواقي إليكِ تطولُ

 

ولي أَدْمُعٌ كالقَطْرِ تبكيكِ كَثْرَةً

ونومٌ إذا نامَ الخَلِيُّ قليلُ

 

عبَّرت البكائيَّاتُ الغزليَّةُ في الشِّعر الصِّقلِّيِّ عن علاقة الشَّاعر بظرفَي التَّجربة العاطفيَّة الزَّمانيِّ والمكانيِّ، وعبَّرت أيضاً عن علاقة الشَّاعر بطرفين بارزين في البكائيَّة، وهما (الحبيبة والعاذل) ويرتبط الخطاب في البكائيَّة ارتباطاً وثيقاً بصورة الحبيبة لأنَّها موضوعُ التَّجربة العاطفيَّة، في حين يبدو ارتباط البكائيَّة بصورة العاذل ثانويّاً يقتصر على لومِهِ للعاشق واستهجانِهِ لِفَرْطِ بكائِهِ، ويكتفي الشَّاعر بالإعراض عن لوم العاذل ليستأنفَ بكائيَّتَهُ معلِّلاً أسبابَ حُزْنِهِ وأساه، باسطاً اعتذارَهُ للعاذل أحياناً، وللسَّامع أحياناً أخرى، وتسيطر على البكائيَّة نزعةٌ اعتذاريَّةٌ غنائيَّةٌ مشحونةٌ بعواطفَ مضطربةٍ جيَّاشةٍ، ويبقى حضور العاذل في البنية الدِّلاليَّة للخطاب الغزليِّ في البكائيَّة أشبهَ بصورة «فريقٍ غيرِ منظورٍ من المُنشدِينَ يستنكرون من الشَّاعر غرامَهُ، فيمضي يعتذرُ عمَّا هو فيه»([3]) ويقوم عنصر الاعتذار في البكائيَّات على العناصر المعنويَّة الَّتي توارثَ شعراءُ الغزلِ المعنويِّ الاهتمامَ بسردها في غزليَّاتهم، كالفراق والهجر، فمن ذلك قول عبد الرَّحمن بن أبي بكر السَّرَقُوسيِّ في هذه البكائيَّة الاعتذاريَّة الاستعطافيَّة([4]):

دعوا المشتاقَ تَذْرِفْ مُقْلَتاهُ

لِمَا في القلب من ألم الفراقِ

 

أصابَتْهُ النَّوى عُقْبى صُدودٍ

فَفَرَّ مِنَ الوَهِيجِ إلى احتراقِ

 

وكانَتْ عينُهُ تَذْري بماءٍ

فعادَتْ ترتوي بِدَمٍ مُراقِ

 

يلجأ الشَّاعر إلى استعطاف المحبوبة لعلَّ الدُّموعَ تكون شفيعاً له، وهذا كثيرٌ في أشـعارهم، كقـول البلَّنُوبيِّ (أبي محمَّد) في هـذه القطعـة الَّتي يقتصر فيها التَّصوير على الاستعطاف في مَعْرِضِ هذه البكائيَّة([5]):

باللهِ يا طاووسةُ انطلقي

فاستعطفي [أخلاقَها] الوَحِشَةْ([6])

 

قولي لها: عبدُ العزيزِ بكى

فسقى بأدمعِهِ [الرُّبا] العَطِشَةْ

 

وتناولَ القِرْطاسَ يكتبُ ما

يلقى فخانَتْهُ اليدُ الرَّعِشَةْ


 

تشفُّ البنيةُ الدِّلاليَّةُ للمشاهد البكائيِّة عن ظاهرة كتمان سرِّ الهوى في شعر الغزل المعنويِّ، ومَثَّلَ شعراءُ الغزل العفيف في المشرق هذا الخُلُقَ في أشعارهم، ومن مشهور شعرهم فيه قولُ جميل بن مَعْمَر العُذْرِيِّ يكابدُ كتمانَ حُبِّهِ، وقد باح به من حيث لا يدري لشدَّةِ ما يجدُ منَ الوَجْدِ([7]):

لا، لا أبوحُ بِحُبِّ بَثْنَةَ إنَّها

أخذَتْ عليَّ مواثقاً وعُهودا

 

لذلك تقترنُ ظاهرةُ الكتمان في غزلهم بنفاسة عاطفة الحبِّ، ويرى النَّاقدُ (ج. ك فاديه) أنَّ مفهومَ الكتمانِ لدى هؤلاء الغزِلِين يدلُّ على «وعي سِرِّ الحبِّ الَّذي هو منَ النَّفاسةِ بمكانٍ حيث لا يجوز البوحُ به»([8]).

يَظْهَرُ العاشـقُ المتعفِّفُ في البكائيَّات الصقلِّيَّة وهو يحملُ نفسَهُ على صيانة سِرِّه، فيجتهدُ في كتمانه، غيرَ أنَّ دموعَهُ تفضح ما يكتمه، فيلومُ عينيهِ على ما كَشَفَتا من مكنون السِّرِّ، وفي هذا المعنى يقول ابنُ القَرْنيِّ (عمر بن الحسن)([9]):

يا لَدَمْعٍ أَعْلَنَ السِّـر

ـر وَقَدْ كانَ مَصُونا

 

باحَ بالوَجْدِ فأبْدَى
 

لِلْوَرَى داءً دَفِينا

 

ما الَّذِي يُصْلِحُ عَينِي؟

قَبَّحَ اللهُ العُيُونا

 

جَلَبَتْ حَتْفِي وَنَمَّتْ

فَاحْتَفَتْ مِنِّي الظُّنُونا([10])

وغَدا ما كان شَكّاً

عِنْدَ أقْوامٍ يَقِينا

اللاَّفتُ للنَّظر تضافرُ الحواسِّ في رسم الصُّورة المعنويَّة للمشهد البكائيِّ، فكما أنَّ العين هي مِنْ أعداء العاشق؛ كذلك حالُ اللِّسان الَّذي لايسعفُهُ في محاورة المحبوبة، ويعبِّرُ عن هذا المعنى الشَّاعر أبو المظفَّر الصِّقلِّيُّ في بكائيَّةٍ تشفُّ عن مرارة العشق الَّتي يُلقي اللِّسانُ تَبِعاتِها على القلب، فَيُرْجِعُها القلبُ إلى عثرات اللِّسان وما أصابه من العَيِّ([11]):

لساني كانَ مِنْ أعداءِ قلبي

إذَ الْزَمَهُ الذُّنوبَ بغيرِ ذنبِ([12])

 

إلى مَنْ أشتكي عَدْوى اعتذارٍ

أمرَّ مذاقتَي طَعْمي وشُرْبي

 

وأسهرَ مُقْلَتي وأسالَ دمعي

لِفَرْط الوجدِ سَكْباً بعدَ سَكْبِ

 

إنَّ العناصرَ الوجدانيَّةَ الَّتي يحملُها الغزلُ المعنويُّ تَسِمُ المشهدَ البكائيَّ بدفقٍ من العاطفة، فضلاً عن شفافيَّة التَّعبير، ويُغْرِقُ شعراء الغزل المعنويِّ في الوصف الوجدانيِّ ليجسِّدوا معاناتهم، ولا تقتصر هذه الأوصافُ المعنويَّةُ على مشهد البكائيَّات، وإنَّما تتجاوزُ ذلك إلى مشاهدَ أخرى كمشهد الوداع الَّذي يفيضُ بقوَّة العاطفة ولوعةِ الفَقْدِ.

ب ـ مشهد الوداع:

يُعَدُّ مشهدُ الوداع من المشاهد الرَّئيسة في تيَّار الغزل المعنويِّ، ويعبِّرُ فيه الشُّعراءُ عن مشاعر الفَقْدِ والأسى والاغترابِ النَّفسيِّ، وهذه العناصرُ المعنويَّةُ الوجدانيَّةُ هي أبرزُ ما يميِّزُ هذا المشهدَ، وأرى مشهدَ الوداعِ تصعيداً عاطفيّاً لحالِ المحبِّ، إذ يستثمر الشُّعراءُ الطَّاقةَ الانفعاليَّةَ للحظةِ الوداع، ويعمدون إلى رسم مشهدِها في صورٍ يَظْهَرُ فيها أثرُ الفراق في المتحابَّين، فتبدو المحبوبةُ وهي تكابدُ من لوعة الفراق ما يكابدُه العاشقُ، ومشهدُ الوداعِ أحدُ أبرزِ المشاهدِ الَّتي تجسِّد صورةَ المشاركةِ الوجدانيَّةِ بين المتحابَّين، في حين تضيق مساحة حضور هذه الصُّورة في مشاهد البكائيَّات، ويصوِّرُ الشُّعراء لحظةَ الرَّحيل وما تتركُهُ من أثرٍ في نَفْسِ العاشق ونَفْسِ المحبوبة، نجد ذلك في قول عثمان بن عليِّ السَّرَقُوسيِّ([13]):

رحلَتْ فعلَّمَتِ الفؤادَ رحيلا

وبكَتْ فصيَّرَتِ الأسيلَ مَسيلا([14])

 

وحَدا بها حادٍ حدا بي للنَّوى

لكنَّ منَّا قاتلاً وقتيلا

 

وإذا الحبيبُ أرادَ قتلَ مُحِبِّهِ

جعلَ الفراقَ إلى المماتِ سبيلا

 

يرصد الشُّعراء أدقَّ التَّفصيلات الوجدانيَّة لحظةَ الوداعِ من خلال استخدام الصُّورة الحسيَّةِ الحركيَّةِ الَّتي تشفُّ عن الاضطراب الَّذي تُعَبِّرُ عنه الحال الشُّعوريَّة، كالَّذي نجده في قول ابن الشَّـاميِّ (أبي الحسـن) يصفُ لحظةَ الوداع ووَقْعَها على الحبيب في هذه الصُّورة الحركيَّة([15]):

وَدَّعَني وانصـرفا

يحملُ وَجْداً مُتْلِفا([16])

 

مُلْتَفِتاً، وكُلَّما

[نَقَّلَ] رِجْلاً وَقَفا

 

وقـد عوَّضَ شـعراءُ الغـزل المعنويِّ انصرافَهم عن الوصف الحسيِّ لجمال المرأة بوصفٍ معنويٍّ يقوم على استخدام الصُّورِ الحسيَّة ذات الدِّلالاتِ المعنويَّةِ، كهذه الصُّورة الحركيَّةِ الَّتي أظهرَتْ قلقَ التفاتةِ الحبيبِ ومشيتَهُ المتثاقلةَ لحظةَ الوداع: (مُتَلَفِّتا/ كلَّما نقَّلَ رجلاً وَقَفَ).

تَبْرُزُ فكرةُ الوداع في النَّصِّ أحياناً من طـرفٍ واحدٍ يقتصر على الشَّاعر، ولا تَظْهَرُ فيه المحبوبةُ مشاركةً لمن تُحِبُّ، وهذا النَّمطُ من مشاهد الوداع يكون أقربَ إلى النَّسيب من الغزل الواقعيِّ، ويظهر في النَّسيب على نحوٍ ملحوظٍ، وتعود صورتا الزَّمان والمكان اللَّتان برزتا في المشهد البكائيِّ للظُّهور في مشهد الـوداع الَّذي يقـوم علـى عنصر النَّسيب، ولاسيَّما أنَّ الصُّورةَ المكانيَّةَ تتعلَّقُ بموقف الرَّحيل، ولا يقلُّ العنصـر الزمانيُّ أهمِّيَّـةً عـن العنصر المكانيِّ في رسم الصُّورة الفنيَّة لمشهد الوداع، إذ يَظْهَرُ الزَّمانُ في الصُّورة الشِّعريَّة ممثَّلاً بالماضي والحاضر، ويَظْهَرُ المكانُ ممثَّلاً بالرَّحيل عن ديارِ الأحبَّة، وهذا ما نَلْحَظُه مثلاً في شعر أحمد بن قاسم الصِّقلِّيِّ في وصف يوم الوداع([17]):

إنْ لم أَزُرْكِ ولم أَقْنَعْ برؤياكِ

فَلِلْفُؤادِ طوافٌ حولَ مَغْناكِ

 

يا ظبيةً ظَلْتُ من أَشْراكِها عَلِقاً

يومَ الوداعِ ولم تَعْلَقْ بأَشْراكي([18])

 

رَعَيتِ قلبي وما راعيتِ حُرمَتَهُ

يا هذه ِكيفَ ما راعيتِ مَرْعاكِ

 

أَتُحْرِقين فُؤاداً قد حَلَلْتِ بهِ

بنارِ حُبِّكِ عَمْداً وهو مَأْواكِ

 

ما نفحةُ الرِّيحِ من أرض ٍبها شَجَني

هل للمُحِبِّ حياةٌ غيرُ ذِكْراكِ

 

يَفِيدُ الشَّاعر في هذا المشهد من ثقافته الأدبيَّة، ويتَّضح ذلك في بناء هذه الأبيات في هيكلٍ فنِّيٍّ يذكِّرُنا بقصيدة الشَّريف الرَّضيِّ الكافيَّة([19]):

يا ظبيةَ البانِ ترعى في خمائلِهِ

لِيَهْنِكِ اليومَ أنَّ القلبَ مرعاكِ

 

يستثمر أحمد بن قاسم الصِّقِّليُّ الطَّاقتين التَّصويريَّةَ والإيقاعيَّةَ في قصيدة الشَّريف الرَّضيِّ لبناء مشهد الوداع في مقطوعته السَّابقة، فيحاكي صورةَ الرَّعي للقلب (رَعَيْتِ قلبي/ لِيَهْنِكِ اليومَ أنَّ القلبَ مرعاكِ) ويَظْهَرُ في هذه المقطوعةالتَّلازمُ بين الصُّورتين المكانيَّة والزَّمانيَّة في مشهد الوداع، إذ يقرن الشَّاعرُ شَجَنَهُ بما تبعثُهُ أرضُ الأحبَّة في نفسه، وما تستثيرُهُ من ذكريات الزَّمن الماضي (ما نفحةُ الرِّيحِ من أرضٍ بها شَجَني/ هل للمُحِبِّ حياةٌ غير ذِكْراكِ؟).

إنَّ هذا الحديث يفضي إلى التَّمييز بين نمطين من مشاهد الوداع في أشعار الصِّقلِّيِّين، يقوم الأوَّل على الغزل المعنويِّ والتجربة الواقعيَّة، ويقوم الثَّاني على النَّسيب المعنويِّ، وفي هذا النَّمطِ يَذْكُرُ الشّـُعراءُ مشهدَ الوداع في نسيبهم الَّذي لا يَصْدُرُ عن تجربةٍ شعوريَّةٍ واقعيةٍ، وقد يستعين فيه الشَّاعرُ بالموروث من ثقافته الأدبيَّة، فيبني المشهدَ على المحاكاة الفنيَّة لمطالع النَّسيب الَّتي شاعت في أدب المشرقيِّين، وقد عَمَدَ الصِّقلِّيُّون في بعض أشعارهم إلى استثمار هذه الظَّاهرة المشرقيَّة في مقدِّمات قصائدهم، فحذا بعضُهم حذوَ الأقدمين في نَظْم النَّسيب وفي وصفِ الظَّعائنِ الَّتي أَذِنَتْ بالرَّحيل، واستعاروا بعضَ الصُّورِ المعنويَّةِ المتعلِّقةِ برصدِ الانفعالاتِ الوجدانيَّةِ لحظةَ الوداع، كما استعاروا بعضَ الصُّورِ الحسِّيَّةِ المكانيَّةِ المتعلِّقةِ برصدِ الموقفِ المكانيِّ، كالدِّيار الَّتي أضحَتْ خاويةً من أهلها، وكالصَّحراءِ الَّتي تحملُ ظَعْنَ الأحبَّةِ، وتفنَّنَ الشَّاعر العاشقُ في رسم مشهد الوداع، فبدَتْ عيناهُ تدمعان وهو يودِّعُ الظَّعْنَ، ولا يجدُ حولَهُ مُسْعِفاً يُعِينُهُ على ما يجده من ألم الوداعِ ولوعةِ الفراق، وظهرَتْ في مِثْلِ هذه المشاهدِ الصُّورةُ التُّراثيَّةُ النَّمطيَّةُ الَّتي تجسِّدُ الاستعانةَ بالخليل أو الصَّحْب في سياق الخطاب الغزليِّ، على نحو ما نجده في قول عبد الرِّحمن بن أبي بكر السَّرَقُوسيِّ([20]):

أَمَا مِنْكُمُ مِنْ مُسْعِدٍ ومُعاوِنٍ

على حَرِّ وَجْدٍ في السُّويداءِ كامِنِ([21])

أَبانَ الكَرى عَنْ مُقْلَتَيَّ الْتَهابُهُ

وما هُوَ يَوماً عَنْ فُؤادِي بِبائِنِ([22])

وبيداءَ قَفْرٍ ذاتِ آلٍ كَأَنَّما

هُوَ البَحْرُ إلَّا أنَّه غَيْرُ آسِنِ([23])

تَرَى ظعْنَهُمْ فِيهِ غَداةَ تَحَمَّلُوا

طَوافِيَ فوقَ الآلِ مِثْلَ السَّفائِنِ([24])

تَبْرُزُ في مِثْلِ هذه المشاهدِ العناصرُ المعنويَّةُ الوجدانيَّةُ الَّتي ترصد خلجاتِ الشُّعورِ وتعبِّر عن نوازع الشَّوق، كما تَظْهَرُ صورةُ الشَّتات الَّتي يُخَلِّفُها الفراقُ، مع التَّأكيد على عهد المودَّة، وإذا كان مشهدُ الوداعِ في النَّسيب الصِّقلِّيِّ يقوم أساساً على عنصر المحاكاة، فالشَّاعرُ مَعْنِيٌّ فيه بمهارتِهِ الفنِّيَّة في مقاربة النَّمط الشِّعريِّ المُحاكَى، لذلك يَعْمَدُ إلى مقاربة الصُّورةِ للصُّورة، ومشاكلةِ المعنى للمعنى، لأنَّه منصرفٌ في ذهنِهِ وشعوره إلى تحقيق تلك المحاكاة، كما ظهر في صورتَي البيداء والظَّعْن.

تَظْهَرُ صورةُ الشَّتاتِ في مشهد الوداع، ويَبْرُزُ في بعض مشاهده أثرُ معاناةِ المحبِّين الَّذين تشتتَّوا في البلاد، ونأى عنهم أحبابُهم، ويَظْهَرُ أثرُ الظُّروفِ السِّياسيَّة في الغزليَّات الصِّقلِّية، ويُلمَحُ ذلك في نماذج من أشعارهم، كقول ابن الودَّانيِّ (أبي الحسن عليِّ بن عبد الجبَّار)([25]):

لَحَى اللهُ الفِراقَ وما [أُقاسي]

منَ البَينِ المَشَتِّتِ والبُعادِ([26])

تآلفُ روحُنا بلطيفِ مَعْنى

وفُرِّقَتِ الهياكلُ في البِلادِ

لئنْ بَعُدَتْ نفوسٌ مِنْ نفوسٍ

لأنتمْ دونَ عَينِي في فُؤادِي

يبدو الفراق في مشهد الوداع مرتبطاً بفكرتَي الشَّتاتِ المكانيِّ والرَّحيل، وتَظْهَرُ فيه العنايةُ بالتَّجديد في المعاني (تآلفُ روحُنا بلطيفِ معنى) مع ربط الصُّورة في الأبيات بالحال الشعوريَّة (فُرِّقَتِ الهياكلُ في البلادِ/ لأنتمْ دونَ عيني في فؤادي) وقريبٌ من ذلك ما نجده في شعر القاسم بن عبد الله التَّميميِّ من ذِكْرٍ لشتات الأهل والمحبوبة في البلاد، واستيلاءِ العدوِّ على الوطن، وتأتي الأمكنةُ للتَّعبير عن عاطفةَ الشَّاعر في الوطن (صقلِّيَّةُ) وفي ديار الغربة (مكَّةُ، الحُصَيْبُ، مِصْرُ) نجد ذلك في قوله مخاطباً محبوبته وقد عزمَتْ على الفراق، ذاكراً ما رماهُ القدرُ به من شتات أهله أيضاً، حتَّى اجتمعَتْ عليها نوازعُ الدَّهر([27]):

بمَكَّةَ إلْفي والْحُصَيْبُ بهِ أخي

وفي مِصْرَ لِي نَجْلٌ سَقَتْهُ الغَمائمُ([28])

وماذا عسى قَلْبِي ـ وعِنْدَكِ قَدْرُه ـ

فَتَأخُذَهُ لِلْبَيْنِ هَذِي الْـمَقاسِمُ([29])

سَقَى اللهُ هِيمَ الغَرْبِ لا بَعْضَ هامِهِ

كما يَمْنَعُ الْغَمْضَ السَّلِيمَ الْـمُنادِمُ([30])

وما كُنْتُ أَسْقِي الغَرْبَ لوكانَ لم تَكُنْ

صِقِلِّيَّةٌ مِنْهُ، وإنْ لامَ لائمُ

وإنِّي لَمنْهُمْ واجدٌ، غَيْرَ أَنَّهُ

وَشَى بَيْنَنا واشٍ مِنَ الْبَيْنِ غاشِمُ([31])

برزَ في الغزل الصِّقلِّيِّ المعنويِّ مشهدٌ آخرُ كان له حضوره البارز، وهو مشهدُ الطَّيفِ الَّذي جاء تعبيراً عمَّا كابدَهُ المُحِبُّون من وطأة الوداعِ وألم الفراق، وصوَّروا فيه معانيَ الفَقْدِ ولوعةَ الهجر، وجسَّدَ الطَّيفُ في أشعارهم حالةً منَ التَّعويض الوجدانيِّ عن غيابِ الحبيب، وسوف نناقش في العنوان الآتي الأصولَ الأدبيَّةَ لهذا المشهد، وتجلِّياته في شعر الصِّقلِّيِّين.

ج ـ مشهد الطَّيف:

عالج الشُّعراء شعور الفَقْدِ من خلال اختلاقِ مشهدِ الطَّيف، وضَمَّنوه العناصرَ المعنويَّةَ الوجدانيَّةَ في التَّجربة الغزليَّة، ومشهدُ الطَّيفِ أصيلٌ في تراثنا الشِّعريِّ، عرفَه الأدبُ المشرقيُّ، واشتهر بعض الشُّعراء بوصف الطَّيف حتَّى إنَّ أبا علي القالي ذكر ذلك في شعر البُحْتُرِيِّ فقال: «هو أحسنُ المُحْسِنينَ في القول في طُروق الخيال، حتَّى قيل طيفُ البُحْتُرِيِّ»([32])، وقد عبَّر الشُّعراء عن مشهد الطَّيفِ بِطَرْقِ الخيال، وأرادوا بذلك زيارة خيال المحبوبة.

لا تخرج معاني الطَّيف في الغزل الصِّقلِّيِّ عن معانيه في الشِّعر العربيِّ المشرقيِّ، ويُعَدُّ مشهدُ الطَّيف حالـةً منَ التَّعويض النَّفسيِّيتجلَّى فيها الحضورُ الوجدانيُّ للمحبوبة في الحُلُم، ويُعَبَّرُ عن حضور الطَّيف تعبيراً تختلط فيه الحقيقةُ بالخيال، وبالغَ شعراءُ الغزل المعنويِّ في الاهتمام بالطَّيف، وعُرفوا به، حتَّى إنَّ بعض شعراء الغزل الحسِّيِّ أغاروا على معانيهم في ذلك فأفسدوها، وعبثُوا بها([33])، وتتجلَّى أهميَّةُ هذا المشهد في شعر الغزل المعنويِّ في أنَّه تأصيلٌ للبعد الرُّوحانيِّ في التَّجربة العاطفيَّة.

يرتبط مشـهد الطَّيف عادةً باللَّيل، ويدلُّ على هذا استخدامُ تعبير (طُروق الخيال)([34]) ويبدو إحساس الشَّاعر بوطأة الشَّوق عاملاً في استحضار صورة الطَّيف، ويضارع الشَّـاعر أبو المظفَّر الصِّقلِّيُّ بين الحُلُم والواقع في تصويره للطَّيف، حتَّى تختلط الحقيقة بالخيال([35]):

أيُّ طيفٍ في الكرى صَدَقا

سامَ عيني الدَّمْعَ والأرَقا

 

أنا أفدي مَنْ بجُنْحِ دُجًى

جابَ في ظلمائِهِ الطُّرُقا

 

ليَ حظٌّ في زيارتهِ

ليَ لو أنَّ الكرى صَدَقا

 

وقد يعبِّر بعض الشُّعراء أحياناً عن لوعة الفراق من خلال استخدام صورة هجرِ الطَّيف، فيعمِّقون بذلك شعورَ الهجر، كالَّذي نجده في شعر ابن سدوس حين يفتقد طيفَ الحبيبة الَّذي ضنَّ عليه بالزِّيارة، فيشخِّص الخيالَ الهاجرَ، ويلقي عليه بعضَ خصالِ المحبوبة([36]):

تطاولَ هذا اللَّيلُ حتَّى كأنَّما

هو الدَّهرُ لا صبحٌ ينيرُ ولا فجرُ

 

وضنَّ عليَّ الطَّيفُ بالوصل في الكرى

فيا عجباً حتَّى الخيالُ له هَجْرُ

 

يفضي تحليلُ المشهد الدِّلاليِّ لصورة الطَّيف إلى إخفاق هذا التَّعويض واقعيّاً، على الرَّغم ممَّا تحملُه صورةُ الطَّيف من محاولات التَّعويض النَّفسـيِّ لفَقْدِ الحبيبة كما يتَّضح في الأبيات السَّابقة: (لو أنَّ الكرى صدقا) (وضَنَّ عليَّ الطَّيفُ بالوصل) (حتَّى الخيالُ له هجر).

وقد يكون مشهدُ الطَّيف في دلالاته العامَّة تعبيراً عن حالة الاضطراب العاطفيِّ ومحاولةً من الشَّاعر لتجاوز أزمة الفراق، وإنْ حُكِمَ على تلك المحاولة بالإخفاق دائماً، بَيْدَ أنَّها تمثِّلُ بقيَّةَ أملٍ في نفْس المُحِبِّ، كالَّذي يعبِّرُ عنه الشَّاعر الرُّزيقُ محمَّد بن سَهْلٍ في قوله([37]):

لها عندي، وإنْ مُنِعَ الوِصالُ

ونادى الكاشحون بنا وقالوا([38])

 

سرائرُ لو نَطَقْتُ بها لقامَتْ

بحُجَّتِها؛ وإنْ كَثُرَ الجِدالُ

 

سأصبرُ ما اسْتَطَعْتُ على نَواها

فيُوشِكُ أنْ يكونَ لها نَوالُ

 

لعلَّ خيالَها وَهْناً طَرُوقٌ

وما للنَّومِ في عيني مجالُ([39])

 

يُعِيدُ الشَّاعر صياغةَ علاقته بتجربته العاطفيَّة، فيَتَصَبَّرُ على الفراق أملاً في زيارة الطَّيف (سأصبر، لعلَّ خيالَها وَهْناً طَرُوقٌ) ويظلُّ هذا الأملُ ممزوجاً بنبرة الحزن، ولاسيَّما حين يعوِّض الشَّاعر الوِصالَ الممنوعَ برجاء زيارة الطَّيف (لها عندي وإنْ مُنِعَ الوِصالُ...).

وإذا كان مشهد الطَّيفِ يرتبط بحُلُم الكرى في الأعمِّ الأغلب؛ فإنَّ الشَّاعرَ عبد الرَّحمن بن الحسن ينقل صورة الطَّيف من حُلُم الكرى إلى حُلُم اليقظة، غير أنَّ مشهد الطَّيف يظلُّ مرتبطاً زمانيّاً باللَّيل([40]):

ولما بدا للعَيْنِ مِنْ جانبِ الحِمى

لَوامِعُ برقٍ شاقَ نحوكَ شائِقُ

 

كأنَّكَ فيها ماثلٌ وكأنَّما

ديارُ الحِمى بينَ [البُروق] بَوارِقُ([41])

 

فيا حبَّذا برقٌ بأرضِكَ لائحٌ

ويا حبَّذا طيفٌ لوصلِكَ طارقُ

 

يصوِّر الشَّاعرُ البرقَ وقد أضاء جانبَ الحِمى، ويتجلَّى له طيفُ المحبوبة ماثلاً في الدِّيار، فكأنَّما هو طارقُ ليلٍ، ثمَّ يمضي ليُؤنِّقَ صورةَ المكان بالطِّيف، وفي دَرْجِ هذه الصُّورة يُعِيدُ ترتيبَ علاقته بالواقع على نحوٍ يتجاوز خلاءَ المكان، فيجعله مأهولاً بطيف الحبيبة، مُناراً بلوامع البروق، ويرسم صورةً خياليَّةً للدِّيار تسكنُ إليها نفسُه، وتركنُ إليها مشاعرُه، بمنأى عن الصُّورة الواقعيَّة للحِمى في اللَّيل المظلم، وبمنأى عن صورة الدِّيار الموحشة المقفرة، فَيَعْمُرُها بمظاهرَ مختلفةٍ من الصُّور الَّتي تبعثُ فيها الحياةَ (بدا للعَيْنِ مِنْ جانبِ الحِمى، كأنَّك فيها ماثلٌ، ديارُ الحِمى بين البُروق، برقٌ بأرضِك، طيفٌ لوصلِك) وبذلك يغدو للتَّجربة العاطفيَّة مجالُها الرَّحب الجديد، لأنَّ «هذا الحبَّ سِحْرٌ يُلغي المسافات بين المحبِّين»([42]) وهذا ما نقصده من دلالات المفهوم الخاصِّ للزَّمان والمفهوم الخاصِّ للمكان لدى شعراء الغزل المعنويِّ العفيف في الشِّعر الصِّقلِّيِّ.

يبدو من خلال تحليل نماذجَ من مشاهد الغزل المعنويِّ أنَّ هذا النَّمط منَ الغزل يقوم على مفهوم خاصٍّ للحبِّ، فهو قيمةٌ ساميةٌ تتجاوز المكانَ والزَّمانَ، وهذه الإشارة إلى الرُّؤية الأخلاقيَّة المثاليَّة للحبِّ تفتح أمامنا آفاقَ دراسةِ المشهد القِيَمِيِّ في تيَّار الغزل المعنويِّ في أشعار الصِّقلِّيِّين.

د ـ المشهد القِيَمِيُّ:

إنَّ القيمةَ الأخلاقيَّةَ المثاليَّةَ للحبِّ في تيَّار الغزل المعنويِّ تكتسبُ خصائصَها من العلاقة الوجدانيَّة الَّتي تربطُ شعراءَ هذا التيَّارِ بخصوصيَّةِ رؤيتِهم لهذه العاطفةالسَّـامية، ولذلك يصوِّرون الحبَّ عنصراً روحانيّاً لطيفاً يرتبط بوجود الإنسـان، يقول عثمان بن علي السَّرَقُوسِيُّ في هذا المعنى([43]):

بيني وبينَ الحبِّ نِسبَةُ عنصـرٍ

فمتى وصلْتُ وصلْتُ ذاكَ العُنصرا

 

ويرى ابنُ الودَّانيِّ (أبو الحسن علي بن عبد الجبَّار) الحبَّ معنًى روحانيّاً لطيفاً يؤلِّفُ بين المتحابِّين، فيقول([44]):

تآلَفُ روحُنا بلطيفِ معنًى

وفُرِّقَتِ الهياكلُ في البلادِ

 

تصدر هذه اللُّغةُ التَّعبيريَّةُ عن فلسفةٍ للحبِّ نجدها لدى شعراء هذا التيَّار الغزليِّ، وهذا يعني أنَّ المشهدَ القِيَميَّ المثاليَّ له حضورُه البارز في أشعارهم الغزليَّة، إذ يكتسبُ غَزَلُهم مَسْحَتَهُ الجماليَّةَ من خلال ذلك الاستخدام الفنيِّ الجماليِّ للمعجم الأخلاقيِّ في بناء الصُّورة الشِّعريَّة.

إنَّ القيم الأخلاقيَّة الَّتي يدور في فَلَكِها شعرُ هذا التيَّار يؤكِّدُها الدِّينُ والعُرْفُ، وتعود مرجعيَّتُها إلى النَّمط الشِّعريِّ الَّذي رسَّخه الإسلامُ في الغزل العفيف في العصر الأمويِّ، ويظهر أثرُ ذلك في شعر الغزل الصِّقلِّيِّ أيضاً، إذ يحاكي الصِّقلِّيُّون تلك التَّجربةَ الغزليَّةَ، ويذكرون أعلامَ شعرائها كجميل بن مَعْمَر العُذْرِيِّ، مثل الَّذي نجده في قول أبي الحسن بن عبد الله الطَّرابُنشِيِّ([45]):

أتدري ما يقولُ لكَ العَذولُ

وتدري ما يريدُ بما يقولُ؟

 

يريدُ بكَ السُّلُوَّ وهل جميلٌ

سُلوُّكَ عن بُثَينَةَ يا جميلُ؟

 

يُلْحَظُ أنَّ القيمَ الأخلاقيَّةَ الَّتي يصدر عنها المشهد القِيَمِيُّ في الغزل المعنويِّ قريبـةٌ ممَّا شـاع في شعر المشـرقيِّين الَّذين عُرفـوا بهـذا التيَّار في العصرين الإسلاميِّ والأمويِّ، ومنها: الوفاءُ والثَّباتُ على عهد المودَّة وكتمانُ أسرار المحبِّين والصَّبرُ على هجران المحِبِّ وغير ذلك، ويحفل المشهدُ القِيَمِيُّ بأكثرَ من قيمةٍ واحدةٍ من هذه القيم الَّتي تتسامى بعاطفة الحبِّ، وتنأى بها عن الابتذال والإسفاف، فمن ذلك قول عبد الرَّحمن بن أبي بكر السَّرَقُوسِيِّ([46]):

أُسَارِقُهُ اللَّحْظَ الخَفِيَّ مخافةً

عليه من الواشين والرُّقَباءِ

 

وأَجْهَدُ أن أشكو إليه صبابتي

فيمنعني من ذاك فَرْطُ حيائي

 

وإنِّي وإنْ أضحى ضنيناً بودِّه

لأمنحُه وُدِّي وحُسْنَ صفائي

 

سأكتمُ ما ألقاه من حُرَقِ الأسى

عليهِ ولو أنَّي أموتُ بدائي

 

يُعَدُّ كتمانُ السِّرِّ أبرزَ القيم الأخلاقيَّةِ في المشهدِ القِيَمِيِّ، إذ يجتهدُ المُحِبُّ في أن يكتمَ مشاعرَه عن الواشين والرُّقباء، ولا يسعفُهُ حياؤه في مكاشفة المحبوبة بما يحملُهُ من مشاعرَ، فيكابد العاشقُ هذا الكتمانَ ويعاني وطأتَهُ، ولعلَّ منَ الصُّورِ الوجدانيَّةِ الشَّفَّافةِ في المشهد القِيَمِيِّ أنَّ المُحِبَّ لايَأتمنُ على حديث المحبِّين غيرَ ناقتِهِ، فيبوحُ بغيبِ ذلك الحديثِ إليها، وفي ذلك يقول القاسم بن عبد الله التَّميميُّ في مَعْرِضِ مشهد الرِّحلة([47]):

وعندي حديثٌ لو أَمِنْتُ أَذَعْتُهُ

ألا حبَّذا غيبٌ تَعِيهِ المناسِمُ([48])

 

ولا ريبَ في أنَّ سمةَ الكتمان في الغزل المعنويِّ لها أصولُها الأدبيَّةُ التُّراثيَّةُ([49]) كغيرها من القيم الأخلاقيَّـة الَّتي يجسِّـدها المشـهدُ القِيَمِيُّ في

الموضوعات