تحمل الشدائد والصبر علا الأذى في سبيل الله
تحمُّل الشدائد والصبر على الأذى في سبيل الله تعالى
كتب الدكتور غازي محمود الشمري حول هذا الموضوع في كتابه ( الحب في السنة وأثره في حياة الأمة) والصادر عن دار المقتبس سنة (1439هـ - 2018م)
فقال:
لقي الصحابة رضي الله عنهم الكثير من الأذى، من المجتمع المشرك في مكة بسبب إسلامهم ـ لاسيما المستضعفون منهم ـ وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصِّبرُهم، ويشدُّ من أزرهم، ويُبشِّرُهم بالفرج والجِنان. ولم يَسْلَمِ النبي نفسه صلى الله عليه وسلم من الأذى، بل كان قُدوتهم في ذلك.
وعلاوة علـى تحمُّلِهـم الشدائـد والأذى، تركـوا الأهل والمال والوطن، وهاجروا إلى الحبشة، ثم إلى المدينة؛ فرارًا بدينهم.
أولًا ـ بعض ما لقيَ النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى:
لقد واجه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنواعًا من الأذى، وصبر على كثير من الشدائد، منذ بعثته إلى أن لحق بالرفيق الأعلى جل جلاله.
فلقي صلى الله عليه وسلم في مكة من قريش ما لقي، فقد قالوا عنه مجنون، وقالوا شاعر، وساحر، واتهموه بالكذب، مع أنهم كانوا يلقِّبونه قبل البعثة بالصادق الأمين.
وضربوه صلى الله عليه وسلم بالحجارة، وأدموا قدميه الشريفتين في مكة والطائف، وحاولوا خنقه عند البيت الحرام، ووضعوا على ظهره وهو ساجد أمام الكعبة المشرفة سلا الجزور ـ وهـو مايخـرج من الناقة بعـد الولادة ـ واستهزؤوا بدعوتـه. ثم ضاقوا به ذرعًا، فتآمروا على قتله ليلة الهجرة، فخيَّبهم الله تعالى. ولحقوا به صلى الله عليه وسلم وبصاحبه أبي بكر لقتلهما، ووضعـوا الجوائـز لمـن يأتـي بهما حيَّيـن أو ميِّتين. ونجَّاهما الله تعالى، فلم يفلح كفار قريش.
ثم آذاه المنافقون في المدينة في حادثة الإفك، وأُصيب ببعض الجروح في غزوة أحد.
ونميّز في ذلك بين مرحلتين، قبل الهجرة وبعدها:
أ ـ ما لقيه صلى الله عليه وسلم من الأذى قبل الهجرة:
1 ـ ما لقيه صلى الله عليه وسلم في مكة من قريش:
قَالَ طَارِقُ بن عَبْدِ الله: «إِنِّي بِسُوقِ ذِي الْـمَجَازِ، إِذْ مَرَّ رَجُلٌ شَابٌّ عَلَيْهِ حُلَّةٌ مِنْ بُرْدٍ أَحْمَرَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لا إِلَهَ إِلا الله تُفْلِحُوا، وَرَجُلٌ خَلْفَهُ يَرْمِيَهِ قَدْ أَدْمَى عُرْقُوبَيْهِ وَسَاقَيْهِ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ كَذَّابٌ فَلاتُطِيعُوهُ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا غُلامُ بني هَاشِمٍ، الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا عَمُّهُ عَبْدُ الْعُزَّى.. الحديث»([1]).
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «سَأَلْتُ عَبْدَ الله بْنَ عَمْرٍو، عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْـمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِها خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَالَ: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ﴾ [غافر: 28]»([2]).
وعَنْ عَبْدِ الله بن مسعود قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلاَ تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْـمُرَائِي؟ أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلاَنٍ، فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلاَهَا، فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ. فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا، فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍمِنَ الضَّحِكِ. فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ، وَهي جُوَيْرِيَةٌ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ. فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ قَـالَ: «اللهمَّ عَلَيْـكَ بِقُـرَيْشٍ، اللهمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللهمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ـ ثُمَّ سَمَّى ـ اللهمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ» ـ قَالَ عَبْدُ الله: فَوَالله لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ـ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً»([3]).
2 ـ ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة السيدة خديجة، وأبي طالب:
لقد طَمِع المشْرِكِونَ فِي الرّسُولِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاةِ عمه أَبِي طَالِبٍ، وزوجته السيدة خَدِيجَةَ رضي الله عنها.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: «ثُمّ إنّ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ وَأَبَا طَالِبٍ هَلَكَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ. فَتَتَابَعَتْ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الْـمَصَائِبُ بِهُلْكِ خَدِيجَةَ ـ وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ عَلَى الْإِسْلَامِ يَشْكُو إلَيْهَا ـ وَبِهُلْكِ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ لَهُ عَضُدًا وَحِرْزًا فِي أَمْرِهِ وَمَنَعَةً وَنَاصِرًا عَلَى قَوْمِهِ ـ وَذَلِكَ قَبْلَ مُهَاجَرِهِ إلَى الْـمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ ـ فَلَمّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ؛ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَذَى، مَا لَمْ تَكُنْ تَطْمَعُ بِهِ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ، حَتّى اعْتَرَضَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، فَنَثَرَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا»([4]).
وقَالَ: لَمّا نَثَرَ ذَلِك السّفِيهُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ التّرَابَ؛ دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْتَهُ وَالتّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَامَتْ إلَيْهِ إحْدَى بَنَاتِهِ، فَجَعَلَتْ تَغْسِلُ عَنْهُ التّرَابَ وَهِيَ تَبْكِي، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهَا: «لَا تَبْكِي يَا بُنَيّةِ، فَإِنّ الله مَانِعٌ أَبَاك». قَالَ: وَيَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ: «مَا نَالَتْ مِنّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ»([5]).
3 ـ ما لقيَ صلى الله عليه وسلم في الطائف من قبيلة ثقيف:
وذلك عندما ذهب صلى الله عليه وسلم يطلب النُّصْرة والمنَعَةَ منهم، فرَدُّوه وآذَوه، وقد مرَّ ذكره عند الحديث عن حب النبي صلى الله عليه وسلم لله تعالى.
ب ـ ما لقيه صلى الله عليه وسلم من الأذى بعد الهجرة:
1 ـ في غزوة أحد:
لقد أُدْمِيَ وجهُهُ الشريف صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة.
عَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُـهُ([6]) يَـوْمَ أُحُـدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجَّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الله؟ !». فَأَنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿} لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ [آل عمران: 128]»([7]).
وعَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي بَعْضِ الْـمَشَاهِدِ وَقَدْ دَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ: «هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيـتِ، وَفِي سَبِيلِ الله مَا لَقِيتِ؟!»([8]).
2 ـ ما لقيَ صلى الله عليه وسلم من المنافقين:
طعـن المنافقـون في عرض النبي صلى الله عليه وسلم، فاتهمـوا أحبَّ أزواجـه إليـه، وهي الطاهرة العفاف أم المؤمنين، الصدِّيقة بنت الصدِّيق، السيدة عائشة رضي الله عنها، فبَرَّأها الله تعالى.
عَنِ عُرْوَةَ وَابْنِ الْـمُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدِ اللهِ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا: «حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ([9])، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا وَأُسَامَةَ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ، يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ. فَأَمَّا أُسَامَةُ فَقَالَ: أَهْلُكَ وَلاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا. وَقَالَتْ بَرِيرَةُ: إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرأً أَغْمِصُهُ([10])؛ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ([11])فَتَأْكُلُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَعْذِرُنَا مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي؟ فَوَالله مَا عَلِمْتُ مِنْ أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا»([12]).
فأنزل الله تعالى براءتها من فوق سبع سماوات، قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، وتوعَّد الذي تولَّى كِبْرَ هذه الفِرْيَة، رأسَ المنافقين، عبدَ اللهِ بنَ أُبيِّ بنِ سلول، بالعذاب العظيم. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾[النور: 11].
ثانيًا ـ ما لقيَ الصحابةُ من الأذى في مكة وما فعله أبو بكرٍ من أجل المستضعفين:
1 ـ ما لقيَ الصحابة من الأذى في مكة:
لقد صبَّت قُرَيْش البلاء عَلَى من تَبِعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على دينه.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: «ثُمّ إنّهُمْ عَدَوْا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ، وَاتّبَعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَصْحَابِهِ، فَوَثَبَتْ كُلّ قَبِيلَةٍ عَلـَى مَـنْ فِيهَـا مِنْ المسْلِمِينَ، فَجَعَلُوا يَحْبِسُونَهُمْ وَيُعَذّبُونَهُـمْ بِالضّـرْبِ وَالْجُـوعِ وَالْعَطَشِ، وَبِـرَمْضَاءِ مَكّـةَ إذَا اشْتَدّ الْحَرّ، مَنِ اُسْتُضْعِفُوا مِنْهُمْ، يَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُفْتَنُ مِنْ شِدّةِ الْبَلَاءِ الّذِي يُصِيبُهُ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَصْلُبُ لَهُمْ وَيَعْصِمُهُ الله مِنْهُمْ»([13]).
وكان لأبي جهل في إيذاء المسلمين طرائق:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: «وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ الْفَاسِقُ الّذِي يُغْرِي بِهِمْ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ، إذَا سَمِعَ بِالرّجُلِ قَدْ أَسْلَمَ لَهُ شَرَفٌ وَمَنَعَةٌ، أَنّبَهُ وَأَخْزَاهُ وَقَالَ: تَرَكْتَ دِينَ أَبِيك وَهُوَ خَيْرٌ مِنْك، لَنُسَفّهَنّ حِلْمَك، وَلَنُفَيّلَنّ([14]) رَأْيَك، وَلَنَضَعَنّ شَرَفَك. وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا قَالَ: وَاَلله لَنُكَسّدَنّ تِجَارَتَكَ، وَلَنُهْلِكَنّ مَالَك. وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ضَرَبَهُ وَأَغْرَى بِهِ»([15]).
وكان من هؤلاء المستضعفين من المسلمين: بلال، وخبَّاب، وآل ياسر.
أ ـ بلال رضي الله تعالى عنه:
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلاَمَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلاَلٌ، وَالْمِقْدَادُ. فَأَمَّا رَسُولُ الله، صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ الله بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ.وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ الله بِقَوْمِهِ. وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْـمُشْرِكُونَ وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ. فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلاَّ بِلالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي الله، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ. فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ»([16]).
وَكَانَ بَـلَالٌ صَـادِقَ الْإِسْلَامِ، طَاهِـرَ الْقَلْـبِ، وَكَانَ أُمَيّـةُ بْـنُ خَلَـفٍ يَأْمُـرُ بِالصّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ، فَتُوضَعَ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمّ يَقُولُ لَهُ: لَا وَاَلله، لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتّى تَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمّدِ وَتَعْبُدَ اللّاتَ وَالْعُزّى. فَيَقُول وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
وَبينما هُوَ على هذه الحال يُعَذّبُ، مَرّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ الله عَنْهُ يَوْمًا، وَهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ بِهِ، فَقَالَ لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: أَلَا تَتّقِي الله فِي هَذَا الْمِسْكِينِ؟! حَتّى مَتَى؟ قَالَ: أَنْت الّذِي أَفْسَدْته، فَأَنْقِذْهُ مِمّا تَرَى. فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: أَفْعَلُ. فاشتراه أَبو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ الله عَنْهُ، فَأَعْتَقَهُ([17]).
لابدَّ أنَّ بلالًا والحالة هذه، مزج حلاوةَ الإيمان بمرارة العذاب، فطغتْ حلاوةُ الإيمان، وإلَّا فكيـف تحمَّـل كلَّ هـذا العذاب؟ ! إنَّـه الحبُّ الذي أذاقـه حلاوة الإيمان.
ب ـ خَبَّابُ بنُ الأَرَتّ رضي الله تعالى عنه:
خباب قديم الإسلام، وهو ممن عُذِّب في الله وصبر، ولا يقلُّ عذابه عن عذاب بلال. قال الشعبي: «سَألَ عمرُ بلالًا عما لقيَ من المشركين؟ فقال خباب: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري! فقال عمر: ما رأيت كاليوم! قال: أوقَدوا لي نارًا، فما أطفأها إلا وَدَكُ([18]) ظهري!»([19]).
عَنْ أَبِي لَيْلَى الْكِنْدِيِّ قَالَ: «جَاءَ خَبَّابٌ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: ادْنُ، فَمَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْـمَجْلِسِ مِنْـكَ إِلَّا عَمَّـارٌ. فَجَعَـلَ خَبَّابٌ يُرِيـهِ آثَارًا بِظَهْرِهِ، مِمَّا عَـذَّبَهُ الْـمُشْرِكُونَ»([20]).
ج ـ آل ياسر رضي الله تعالى عنهم:
ولم تأل قُـرَيْشٌ جهـدًا في تَعْذِيبِ عمَّارٍ، وأبيـه يَاسِرٍ وَأمِّـه سُميَّـة، فيمـرُّ رَسُولِ الله، صلى الله عليه وسلم بهم، ويُصْبِّرُهم، ويُبشِّرهم بالجنة.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ يَخْرُجُونَ بِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَبِيهِ ـ وَكَانُوا أَهْـلَ بَيْـتِ إسْلَامٍ ـ إذَا حَمِيَتِ الظّهِيـرَةُ، يُعَذّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ مَكّـةَ، فَيَمُـرّ بِهِـمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَيَقُول ـ فِيمَا بَلَغَنِي ـ: «صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، مَوْعِدُكُمْ الْجَنّة». فَأَمّا أُمّهُ فَقَتَلُوهَا وَهِيَ تَأْبَى إلّا الْإِسْلَامَ([21]).
وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بعمار وأهله وهم يُعذَّبون فقال: «أبشروا آلَ عمَّارٍ وآلَ ياسرٍ، فإنَّ موعِدَكم الجنةُ» ([22]).
2 ـ ما فعله سيدنا أبو بكرمن أجل المستضعفين في مكة:
وكان أبو بكر رضي الله عنه يشتري من هؤلاء المستضعفين ويُعتقهم. فقد أَعْتَقَ مَعَ بلال عَلَى الْإِسْلَامِ ـ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْـمَدِينَةِ ـ سِتّ رِقَابٍ، بِلَالٌ سَابِعُهُمْ، وهم: عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا. وَأُمّ عُبَيْسٍ، وَزِنّيرَةُ، وَأُصِيبَ بَصَرُهَا حِينَ أَعْتَقَهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَذْهَبَ بَصَرَهَا إلّا اللّاتُ وَالْعُزّى؛ فَقَالَتْ: كَذَبُوا وَبَيْتِ الله، مَا تَضُرّ اللّاتُ وَالْعُزّى، وَمَا تَنْفَعَانِ. فَرَدّ الله بَصَرَهَا. وَأَعْتَقَ النّهْدِيّةَ وَبِنْتَهَا، وَكَانَتَا لِامْرَأَةِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ، وجَارِيَةً لبَنِي مُؤَمّلٍ([23]).
وهذا ما جعل أبا قُحَافَةَ يلوم ابْنَهُ أَبا بكر رضي الله عنهما، لِعِتْقِهِ مِنْ أَعْتَقَ من الضعفاء:
عن عامـر بن عبد الله بن الزّبيـر قال: «كان أبـو بكـر الصدّيق يُعتـق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه: أي بُنَيّ، أراك تعتق أناسًا ضعفاء، فلو أنك أعتقت رجالًا جُلْدًا يقومون معك، ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبَتِ، إنَّما أريد ـ أظنُّه قال ـ: ما عند الله، قال: فحدثني بعض أهل بيتي، أن هذه الآية أنزلت فيه: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ ﴿٥﴾ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ﴾ [الليل: 5 ـ 6]»([24]).
رضي الله عن سيدنا أبي بكر، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
[1])) الطبراني، المعجم الكبير: باب الطاء، طارق بن عبد الله المحاربي، (ج8/ ص314). وعزاه له الهيثمي في مجمع الزوائد ـ وفيه قصة ـ: كتاب المغازي والسير، باب تكسيره الأصنام، (ج6/ ص22 ـ 23).وقال: فيه أبو جَنَابٍ الْكَلْبِيُّ وهو مدلس وقد وثقه ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح.
[2])) صحيح البخاري: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص618، ح3678.
[3])) متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب الصلاة، باب الْـمَرْأَةِ تَطْرَحُ عَنِ الْـمُصَلِّي شَيْئًا مِنَ الأَذَى، ص88، ح520.واللفظ له. ومسلم الصحيح: كتـاب الجهاد والسيـر، بـاب مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَذَى الْـمُشْرِكِينَ وَالْـمُنَافِقِينَ، ص(799 ـ 800)، ح4649.
[4])) ابن هشام، السيرة النبوية، [طَمَعُ الْـمُشْرِكِينَ فِي الرّسُولِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ]، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، ص362.
[5])) المرجع نفسه.
[6])) (الرَّبَاعِيَةُ): بوزن الثمانية، السن التي بين الثنية والناب، والجمع رَبَاعِيَاتٌ.[الرازي، مختار الصحاح: (ربع)، ص184].
[7])) متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾[آل عمران: 128]، ص688، ترجمة الباب. وصحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غَزْوَةِ أُحُدٍ، ص(798 ـ 799)، ح4645 واللفظ له.
[8])) متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب الجهاد، باب مَنْ يُنْكَبُ أو يُطعن فِى سَبِيلِ الله، ص464، ح2802 وصحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَذَى الْـمُشْـرِكِينَ وَالْـمُنَافِقِينَ، ص801، ح4654.
[9])) الإفْك: الكذب.[الزمخشري، الفائـق في غريـب الحديث: حـرف الهمـزة، (إفـك)، (ح1/ ص49)].
[10])) (أَغْمِصُهُ): أَي أَعِيبُها به.[ابن منظور، لسان العرب، (غمص)، (ج7/ ص61)].
[11])) (الدَّاجِنُ): هي الشاة لا تبرحُ من البَيْت.[ابن الجوزي، غريب الحديث: كتاب الدال، باب الدال مع الجيم، (ج1/ ص325)].
[12])) متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب الشهادات، باب إِذَا عَدَّلَ رَجُلٌ أَحَدًا فَقَالَ: لاَ نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، أَوْ قَالَ: مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا، ص426، ح2637.واللفظ له. وصحيحمسلم: كتاب التوبة، باب فِي حَدِيثِ الإِفْكِ وَقَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاذِفِ، ص(1205 ـ 1209)، ح7020.
[13])) السيرة النبوية، [ذِكْرُ عُدْوَانِ الْـمُشْرِكِينَ عَلَى الْـمُسْتَضْعَفِينَ مِمّنْ أَسْلَمَ بِالْأَذَى وَالْفِتْنَةِ]، ص(282 ـ 283).
[14])) (لَنُفَيّلَنّ): فال الرأْيُ يَفِيلُ فُيُولة وفَيِّل رأْيَه تَفْيِيلًا أَي ضعَّفه فهو فَيِّل الرأْي، وفَيَّل رأْيَه قبَّحه وخطَّأَه. [لسان العرب: (فيل)، (ج11/ ص534)].
[15])) السيرة النبوية: [مَا كَانَ يُعَذّبُ بِهِ أَبُو جَهْلٍ مَنْ أَسْلَمَ]، ص285.
[16])) ابن ماجه، السنن: المقدمة، باب في فَضَائِلِ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فضل سلمان وأبي ذرٍّ والمقداد رضي الله عنهم، ص23، ح150. والحاكم في المستدرك على الصحيحين: كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، ذكر بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (ج3/ ص320)، ح5238. وقـال: صحيح الإسنـاد ولـم يخرجـاه. ووافقـه الذهبي. كما رواه غيرهما.
[17])) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، لـ [مَا كَانَ يَلْقَاهُ بِلَالٌ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي تَخْلِيصِهِ]، ص283.
[18])) الوَدَك: هُو دَسَم اللَّحْمِ ودُهْنُه. [النهاية في غريب الحديث والأثر: حرف الواو، (ودك)، (ج5/ ص169)].
[19])) أبو نعيم، حلية الأولياء: خباب بن الأرت، (ج1/ ص144).
[20])) ابن أبي شيبة، المصنف: كتاب الفضائل، ما ذكر في عمار بن ياسر رضي الله عنه، (ج8/ ص449) وأخرجه ابن ماجه في السنن: المقدمة، باب في فَضَائِلِ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَضَائِلِ خَبَّابٍ، ص23، ح153.
[21])) ابن هشام، السيرة النبوية، [تَعْذِيبُ قُرَيْشٍ لَابْنِ يَاسِرٍ وَتَصْبِيرُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ]، ص284.
[22])) الحاكم المستدرك على الصحيحين: كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عمار بن ياسر رضي الله عنه، (ج3/ ص438)، ح5666. وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الحافظ الذهبي.
[23])) انظر: السيرة النبوية، ابن هشام: ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة، [مَنْ أَعْتَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ مَعَ بِلَالٍ]، ص(283 ـ 284).
[24])) محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن): سورة الليل، (ج24/ ص471). وابن كثير، تفسير القرآن العظيم: تفسير سورة الليل، (ج 8/ ص420 ـ 421). والسيرة النبوية لابن هشام: ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة، 284.