جاري التحميل

تقلص الحب وأثره في حياة الأمة

الموضوعات

تقلُّص الحبِّ وأثره في حياة الأمة

كتب الدكتور غازي محمود الشمري حول هذا الموضوع في كتابه ( الحب في السنة وأثره في حياة الأمة) والصادر عن دار المقتبس سنة (1439هـ - 2018م) 

    فقال:

لقـد كانت هـذه الأمـة غنيـةً بالحبّ الإلهي، وعاشت بـه، ولِمَ لا وعندها موارده؟ ! وكانت عظيمةً في كل شيء، في الخير والرحمة، وفي العدل والعطاء، ولِمَ لا وعندها أسبابه؟ !

لا يستطيع أحدٌ أن يُنكر عِظم هذا الحب. فقد فاض على المعمورة، وظهرت آثاره في أرجائها، وسقاها من رحمة الإسلام، فارْتَوَتْ وأثمرتْ ونبتَ السَّلام. ومـن نـوره أضاءها، فشعَّ شعـاع شمسه، وذهبت وحشة الظلام. ومـن عدله نهلت، فاستقام أمرها، وولَّى الجَوْرُ، وسَعِدَ الأنام.

ودالت الأيامُ على الأمة دولتها، وزاحمَ الحبَّ الإلهيَّ حبٌّ آخرُ، لا تتسع دائرتُه لأكثرَ من هذه الدنيا. وتقلَّصَ الحبُّ من حياتها، وحلَّ محلَّه حبُّ الدنيا من باب التنافس.

إنَّ الذي قطع حبالَ الحبِّ الإلهيَّ الخالد هو تغليبُ الحب الفاني عليه ـ حب الدنيا ـ فحلَّ بالأمة ما حلَّ، ووقعت تحت قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾[التوبة: 24].

فأصيبت الأُمَّةُ في مَقْتَلٍ، وتعرَّضتْ للوعيد بقوله تعالى: ﴿ فَتَرَبَّصُوا ﴾.

ولطالما حذَّر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمتـه ـ حتى آخـر خطبـة لـه ـ من الاغترار بالدنيا، والانهماك بها، والتنافس عليهـا، وبيَّن خطر ذلك. ولم يخش صلى الله عليه وسلم على أمتـه الفقـر، ولا الشرك الذي هـو أخطر منـه بكثير؛ ولكنـه خشي عليها التنافس في الدنيا والاقتتال من أجلها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أنَّ هلاكَ الأممِ السابقة كان بسبب ذلك:

عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ كَالْـمُوَدِّعِ لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ فَقَالَ: «إِنِّي فَرَطُكُمْ([1]) عَلَى الْحَوْضِ، وَإِنَّ عَرْضَهُ كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ([2]) إِلَى الْجُحْفَةِ([3]). إِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّيأَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا وَتَقْتَتِلُوا، فَتَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَقَبْلَكُمْ». قَالَ عُقْبَةُ: فَكَانَتْ آخِرَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ([4]).

لذلك كان يتقي الصحابة كثيرًا حبَّ الدنيا والركونَ إليها، خوفًا مما حذرهم منه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:

فعن هشام بن عروة عن أبيه قال: «قدم عمرُ الشامَ، فتلقاه عظماء أهل الأرض وأمراء الأجناد. فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة. قالوا: أتاك الآن قال: فجاء على ناقة مخطومة([5]) بحبل، فسلم عليه وساءله.ثم قال للناس: انصرفوا عنا. قال: فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله. فقال له عمر: لو اتخذت متاعا ـ أو قال شيئا ـ فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، إنَّ هذا سَيُبَلِّغُنا المـَقِيلَ» ([6]).

وعن يرفأ، أن الخليفة عمر رضي الله عنه، عندما قدم الشام قال له: يا يرفأ انطلق بنا إلى أخي ـ يقصد أبا الدرداء ـ ... فانطلقنا حتى إذا قمنا على بابه قال: السلام عليكم قال: وعليك السلام. قال: أأدخل؟ فدفع الباب، فإذا ليس له غلق. فدخلنا إلى بيت مظلم، فجعل عمر يلمسه حتى وقع عليه، فجس وساده فإذا هو بَرْذَعَة([7])، وجس فراشه فإذا بطحاء، وجس دثاره فإذا كساء رقيق. فقال أبو الدرداء: من هذا؟ أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: أما والله لقد استبطأتك منذ العام. قال عمر: رحمك الله، أو لم أوسع؟ ألم أفعل بك؟ فقال له أبو الدرداء: أتذكر حديثًا حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر؟ قال: أي حديث؟ قال: «ليكنْ بلاغُ أحدِكم من الدنيا كزادِ الراكب». قال: نعم. قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟ قال: فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا([8]).

وعن زيد بن أسلم قال: لما أبطأ على عمرَ بنِ الخطابِ فتحُ مصرَ؛ كتب إلى عمرو بن العاص: أما بعد، فقد عجبتُ لإبطائكم عن فتح مصر. إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذلك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم. وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم...([9]).

فقوله: ( وأحببتم من الدنيا ما أحبَّ عدوُكم): ذلك يعني أن حبَّهم للدنيا يجعلهم وأعداءَهم في البضاعـة سواء، فلا فضل إذن لهم علـى أعدائهم. بل عدَّ سيدنا عمرُ رضي الله عنه حبَّ الدنيا ليس من حسن النيـة، عندما قال لعمرو: وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم. فيكلهم الله تعالى لأنفسهم، ونصرهم عندئذٍ يتـوقف على أسباب أخرى كالعدد والعُـدَّة، فيتأخَّر النصرُ أو يغيب. بينما لم يعرف سلف الأمـة النصرَ إلا من عند الله تعالى، وغزوة بدر، وغزوة مؤتة وغيرهما شاهد على ذلك:

قال الواقدي: فَسَارَ الْـمُسْلِمُونَ حَتّى نَزَلُوا أَرْضَ مَعَانٍ مِنْ أَرْضِ الشّامِ، فَبَلَغَ النّاسُ أَنّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، فِي بَهْرَاءَ وَوَائِلٍ وَبَكْرٍ وَلَخْمٍ وَجُذَامَ، فِي مِئَةِ أَلْفٍ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَلِيّ يُقَالُ لَهُ مَالِكٌ. فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ الْـمُسْلِمِينَ؛ أَقَامُوا لَيْلَتَيْنِ لِيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ وَقَالُوا: نَكْتُبُ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَنُخْبِرُهُ الْخَبَرَ، فَإِمّا يَرُدّنَا وَإِمّا يَزِيدُنَا رِجَالًا. فَبَيْنَا النّاسُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ، جَاءَهُمْ ابْنُ رَوَاحَـةَ فَشَجّعَهُمْ ثُمّ قَالَ: وَالله مَا كُنّـا نُقَاتِـلُ النّاسَ بِكَثْـرَةِ عَـدَدٍ،وَلَا بِكَثْرَةِ سِلَاحٍ، وَلَا بِكَثْرَةِ خُيُولٍ، إلّا بِهَذَا الدّينِ الّذِي أَكْرَمْنَا الله بِهِ انْطَلِقُوا، وَاللهلَقَدْ رَأَيْتنَا يَوْمَ بَدْرٍ مَا مَعَنَا إلّا فَرَسَانِ، وَيَوْمَ أُحُدٍ فَرَسٌ وَاحِدٌ وَإِنّمَا هِيَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إمّا ظُهُورٌ عَلَيْهِمْ، فَذَلِكَ مَا وَعَدَنَا الله وَوَعَدَنَا نَبِيّنَا وَلَيْسَ لِوَعْدِهِ خُلْفٌ، وَإِمّا الشّهَادَةُ فَنَلْحَقُ بِالْإِخْوَانِ نُرَافِقُهُمْ فِي الْجِنَانِ. فَشَجّعَ النّاسَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ ابْنِ رَوَاحَةَ([10]).

وقصـة رِبْعِيّ بنِ عامـرٍ رضي الله عنـه معروفـة، حيث بعثـه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، رسولا إلى هرمز قائد الفرس، قبيل معركة القادسية بثلاثة أيام:

قال ابن كثير: دخل ـ ربعي بن عامر ـ عليه، وقد زينوا مجلسه بالنمارق([11]) المذهبة، والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب. ودخل ربعي بثياب صفيقة، وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه. فقالوا له: ضع سلاحك. فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت. فقال رستم: ائذنوا له. فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: «الله ابتعثنا؛ لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله». قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنـة لمـن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي([12]).

وصنيع ربعي بن عامر هذا، يدل على عدم اهتمام الصحابة بالدنيا، وعدم افتتانهم بزهرتها، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى. فإن كلماتـه البليغة، لخصت وظيفة المسلم، وعبرت عن أهداف الإسلام بوضوح وإيجاز، وذلك عندما قال: اللهابتعثنا لنخرج من شاء، من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

وقـد قال ربعي ما قال للفرس نيابـة عن المسلمين بل عن الأمـة، فقد قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الْـمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ... الحديث»([13]).

قال ابن الأثير: أي هُمْ مُجْتَمِعُون على أعْدَائِهِم، ولا يَسَعُهُم التَّخاذُلُ، بَلْ يُعَاوِنُ بَعْضُهم بعضًا على جميع الأديـان والمِلَلِ. كأنـه جَعَل أيْدِيَهُم يَـدًا واحدَة، وفِعْلَهم فعْلًا واحدًا([14]).

وكـان عظمـاء الإسلام، كأبي بكـر وعمـر رضي الله عنهما، مـن كبـار الزاهدين في الدنيا:

عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه سمع رجلًا يقول: أين الزاهد ونفي الدنيا الراغبون في الآخرة؟ فأراه قبـر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكـر وعمر، فقال: عن هؤلاء تسأل([15]).

وعن عطاء الخراساني قـال: احتبس عمر بن الخطاب على جلسائه، فخرج إليهم من العشي، فقالوا: ما حبسك؟ فقال: «غسلت ثيابي؛ فلما جفت خرجت إليكم» ([16]).

وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الذي لا يوجد عنده إلَّا ثوبٌ واحدٌ، لو أراد أجودَ ثيابِ الدنيا لأُحْضِرَتْ له، فقد كان أعظمَ رجلٍ على وجه الأرض آنذاك! لكنَّه كان زاهداً في الدنيا!

لذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه للتابعين: أنتم أكثرُ صيامًا وأكثرُ صلاةً وأكثرُ اجتهادًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرًا منكم. قالوا: لِمَ يا أبا عبد الرحمن؟ قال: كانوا أزهدَ في الدنيا وأرغبَ في الآخرة([17]).

والصحابـة في زهدهم فـي الدنيا وإقبالهم علـى الآخـرة، كانـوا مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم:

دخل عمر رضي الله عنه، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه جالسًا على فراش بسيط مـن حصيـر، قـال: .. فَرَأَيْـتُ أَثَـرَ الْحَصِيرِ فِـي جَنْبِـهِ فَبَكَيْـتُ، فَقَـالَ: «مَا يُبْكِيكَ؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ الله! فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟»([18]).

إنما يدخل الوَهَنُ إلى القلوب مع دخول حب الدنيا إليها. ومن أحب الدنيا تشبَّث بها، وكره أن يفارقها، ومن كره فراقها؛ ترك الجهاد في سبيل الله تعالى.

قال في عـون المعبـود: وحُبّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَـة الْـمَوْت أمران مُتَلَازِمَانِ، فَكَأَنَّهُمَا شَيْء وَاحِد يَدْعُوهُمْ إِلَى إِعْطَاء الدَّنِيَّة فِي الدِّين([19]).

وعندما تركت الأمة الجهاد؛ خرجت مهابتها من قلوب أعدائها.

وها هي الأمم اليوم، تتكالب عليها، وتتداعـى عليها كتداعي الأكلة إلى قصعتها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم:

فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ، كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ([20]) كَغُثَاءِ السَّيْلِ. وَلَيَنْزِعَنَّ الله مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ الله فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ». فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله، وَمَاالْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْـمَوْتِ»([21]).

لقد حذَّر البيان القرآني من ترك الجهاد، وعدَّ تركـه تهلكـة، قـال الله تعالى: ﴿ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].

عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ قَالَ: كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ، فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ المسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ. فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ، حَتَّى دَخَلَ عليهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ الله، يُلْقِى بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ لتُأوِّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ. لَمَّا أَعَزَّ الله الإِسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ الله قَدْ أَعَزَّ الإِسْلاَمَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا، فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ الله عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[البقرة: 195]. فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلاَحَهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ، فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ الله حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ([22]).

لذلك تراجعت مكانـة الأمـة الإسلامية بتركها للجهاد ـ لأن من شأن الجهاد إعادة الحق إلى نصابـه ـ فتراجعت الدعوة إلى الله تعالى، وحُرِمَ العالمُ من رحمة الإسلام وهديه، ومن سماحته وعدله، وانحطَّ العالم بانحطاطها.

إنَّ اللهَ سبحانـه وتعالى أناطَ بعنـق الأمـة الإسلاميـة وظيفـةَ قيادةِ العالم؛ لإخراجه من الظلمات إلى النور، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ﴾[آل عمران: 110]، وهذا ما اقتضته حكمته جلَّ وعلا، بعد أن مكَّنها من أسباب هذه القيادة، قال تعالى: ﴿اللَّـهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾[الأنعام: 124].

إنَّ نبيَّ هذه الأمة سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، بعثه الله تعالى للناس جميعًا، قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[الأعراف: 158]. ليكـون رحمـة للعالمين، قال تعالـى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾[الأنبيـاء: 107]. لأن ما بُعِـثَ بـه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، سببٌ لإسعـاد الناس أجمعين، وموجبٌ لصلاح معاشهم في الدنيا، ومعادهم في الآخرة.

فجاء بالقرآن العظيم، ومعـه السنـة المطهرة، قانـون كفيل بإصلاح حياة الناس في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴿٤١﴾ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾[فصلت: 41، 42].

عن ابن عبـاس رضي الله عنهما قـال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مـا مـن أحدٍ يسمعُ بي من هذهِ الأمةِ، ولا يهوديٍّ، ولا نصرانيٍّ، ولا يؤمن بي؛ إلَّا دخلَ النارَ» فجعلت أقول: أين تصديقها في كتاب الله؟ وجدتُ هذه الآية: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ[هود: 17]، قال: الأحزاب الملل كلها ([23]).

إذن فللنجاة؛ فلا مناص عن الإسلام، قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ﴾[آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾[آل عمران: 85].

إن الأمة الإسلامية عندما غابت عن مسؤولياتها؛ تـولى قيادة العالم أممٌ ليست أهلًا للقيادة، ولا تملك مقوماتها، ولا تعرف الرحمة، بل ترى الرحمة (رحمة الإسلام) خطرًا عليها، فهي لا تعرف حتى مصلحتها، فكيف بمصالح الأمم الأخرى؟! فأصبحت القيادة بأيدٍ غير أمينة، فانتشر الظلم والفساد، وشاع الخراب، وساد في العالم قوانين الغاب، لأن مدنية العالم بلا ضوابط تجعلها شؤمًا عليه.

إنَّ تخلِّي الأمة الإسلامية عن وظيفتها في قيادة الأمم؛ جعل العالم كالسفينة بلا قبطان، وكالأطفال بلا أُمّ، وكالقطيع بلا راعٍ. فتغرق السفينة، ويضيع الأطفال، ويهلك القطيع!

إن الأمة لا يستقيم أمرها ولا يرتفع شأنها، إلا إذا أعادت التوازن في معادلة الحب، فزهدت في الدنيا، وجعلتْ حبَّ اللهِ ورَسُولِهِ والجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ أولًا.

إنَّ موارد الحب الإلهي الخالد لم تتعطل، فهي لا تزال تدفَّقُ قويةً، فلْنَرِدْهَا؛ ننهل منها صافيةً عذبةً نقيةً.

 

*  *  *

 



[1]))   (فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ): أي مُتَقَدِّمُكُم وسابقكم إليه، الفّرّط المتقدم. [انظر: لسان العرب: (فرط)، (ج7/ ص366)].

[2]))   أَيْلَة: بالفتح. مدينة على ساحل بحر القُلْزُم ممايلي الشام. وقيل: هي آخر الحجاز وأول الشام واشتقاقها قد ذُكر من اشتقاق إيلياء. قال أبو زيد: أيلة مدينة صغيرة عامرة بها زرع يسير وهي مدينة لليهود الذين حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت فخالفوا فمُسِخوا قرَدةً وخنازير، وبها في يد اليهود عهدٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو المنذر: سميت بأيلة بنت مَديَن بن إبراهيم عليه السلام، وقال أبو عبيدة: أيلة مدينة بين الفسطاط ومكة على شاطىء بحر القلزم تُعدُ في بلاد الشام، وقدم يوحَنه بن رُؤبَةَ على النبي صلى الله عليه وسلم من أيلـة وهـو من تبوك فصالحـه على الجزيـة. معجم البلدان: حرف الهمزة والألف، باب الهمـزة والياء وما يليهما (أيلـة)، (ج1/ ص202)] وبحـرُ القَلـْزُم     شعبة من بحر الهند، أوله من بلاد البربر والسودان، ثم يمتد مغربًا، وفي أقصاه مدينة القلزُم قـرب مصر، وبذلك سُمِّي بحـر القلـزم. [معجم البلدان: حرف الباء، بحر القلزم، (ج1/ ص241)].

[3]))   الجُحْفَةُ: بالضم ثم السكون والفاء، كانت قرية كبيرة ذات منبر على طريق المدينة من مكـة على أربـع مراحل وهي ميقات أهل مصـر والشام إن لم يمرهـا على المدينـة، فإن مرهـا بالمدينـة فميقاتهـم ذو الحليفـة. وكان اسمها مهيعَـةُ، وإنما سميت الجحفة لأن السيل اجتحفها وحمل أهلها في بعض الأعوام وهي الاَن خراب. [معجم البلدان: حرف الجيم، باب الجيم والدال وما يليهما، (ج1/ ص475)].

[4]))   متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب الجنائـز، بـاب الصلاة على الشهيـد، ص(214 ـ 215)، ح1344.وصحيح مسلم: كتاب الفضائل، بـاب إِثْبَاتِ حَـوْضِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتِهِ، ص(1015 ـ 1016)، ح5977. واللفظ له.

[5]))   الخِطامُ: كلُّ ما وُضِع في أَنف البعير ليُقاد به والجمع خُطُمٌ وخَطَمَه بالخِطامِ يَخْطِمُه خَطمًا وخَطَّمَه كلاهما جعله على أَنفه وكذلك إذا حَزَّ أَنفه حَزًّا غير عَمِيقٍ ليضع عليه الخِطامَ وناقة مَخْطومةٌ ونوق مُخَطَّمةٌ شُدِّدَ للكثرة. [لسان العرب: (خطم)، (ج12/ ص186)].

[6]))   مصنف عبد الرزاق، باب زهد الصحابة، (ج11/ ص311)، ح20628.

[7]))   (البَرْذَعةُ): الحِلْس الذي يُلقـى تحت الرحل والجمـع البَراذِع وخص بعضهم بـه الحِمار وقال شَمِرٌ: هي البَرْذَعـة والبَرْدَعـة بالذال والدال. [لسان العـرب: (برذع)، (ج8/ ص9)].

[8]))   ابن عساكر، تاريخ دمشق: (ج47/ ص136).

[9]))   عبد الرحمن بن أعين القرشي المصري، فتوح مصر وأخبارها: فتح مصر، (ج1/ ص91).

[10]))   المغازي: غَزْوَةُ مُؤْتَةَ، (ج1/ ص760).

[11]))   النَمَارِقُ: جمع نُمْرُقة. والنُّمْرُقُ والنُّمْرُقَةُ وسادة صغيرة والنِّمرِقَةُ بالكسر لغة، وربما سمَّوُا الطِنْفِسَة التي فوق الرَّحل نُمْرُقة. [ مختار الصحاح: (ن م ر ق)، ص459 ].

[12]))   ابن كثير، البداية والنهاية: غزوة القادسية، (ج7/ ص46 ـ 47).

[13]))   سنن أبي داود: كتاب الجهاد، باب في السَّرِيَّةِ تَرد عَلَى أَهْلِ الْعَسْكَرِ، ص400، ح2751. عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.

[14]))   النهاية في غريب الحديث والأثر: (يد)، (ج5/ ص693).

[15]))   أبو نعيم، حلية الأولياء: عبدالله بن عمر بن الخطاب، (ج1/ ص307).

[16]))   ابن أبي شيبـة، المصنف: كتاب الزهد، كلام عمـر بن الخطاب رضي الله عنه، (ج8/ ص151).

[17]))   ابن أبي شيبـة، المصنف: كتاب الزهد، كلام بـن مسعـود رضي الله عنه، (ج 8 / ص 162)، ح35.

[18]))   متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب التفسير، باب ﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ[التحريم: 1]، ص873، ح4913. واللفظ لـه. وصحيح مسلـم: كتـاب الطلاق، بـاب فِي الإِيلاَءِ وَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ وَتَخْيِيرِهِنَّ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ[التحريم: 4]. ص(635 ـ 636)، ح3692.

[19]))   محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب، عون المعبود شرح سنن أبي داود: كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام، (ج11/ ص273).

[20]))   الغُثَاء: بالضم والمدّ ما يجيء فوق السَّيْل مِمَّا يَحْمِله من الزَّبَد والوَسَخ وغيره. [ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر: حرف الغين، (غثا)، (ج3/ ص343)].

[21]))   سنن أبي داود: كتاب الملاحم باب فِي تَدَاعِي الأُمَمِ عَلَى الإِسْلاَمِ، ص(603 ـ 604)، ح4297.

[22]))   المرجع نفسه: كتاب الجهاد، باب فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[البقـرة: 195]. ص364، ح2512 ولفظـه: «فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ حتى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطينيَّة». وجامع الترمذي: أبواب تفسير القرآن، باب وَمِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ص(668 ـ 669)، ح2972. وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. واللفظ له

([23])   الحاكم، المستدرك على الصحيحين، كتاب التفسير، تفسير سورة هود، (ج2/ ص372)، ح3309، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه). وافقه الذهبي.

الموضوعات