حب الصحابة وأل البيت المتبادل
حُبُّ الصحابةِ وآلِ البيتِ المتبادَلُ
كتب الدكتور غازي محمود الشمري حول هذا الموضوع في كتابه ( الحب في السنة وأثره في حياة الأمة) والصادر عن دار المقتبس سنة (1439هـ - 2018م)
فقال:
لا يخفى على ذي لبٍّ، أنَّ حبَّ الصحابةِ للنبي صلى الله عليه وسلم، قد فاض على آل بيته الكرام، وبادلهم الآلُ هذا الحبَّ أيضًا رضي الله عن الآل والأصحاب.
أبدأ أولًا بذكر حب الصحابة لآل البيت، ثم أُتْبِعُه بحب الصحابة بعضهم بعضًا.
أولًا ـ حب الصحابة لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حبُّ الآل هـو في الحقيقة حبٌّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا يستقيم لمسلم صادق في حبه أن يُحبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دون آل بيته، ودون صحابته.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ الله، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بِحُبِّي»([1]).
وهذا ما كان عليه الصحابةُ رضي اللهُ عنهم، فقد أحَبُّوه صلى الله عليه وسلم، وأحبُّوا آلَ بيتهِ الكرامَ:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِحَسَنٍ: «اللهمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، بَعْدَ مَا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَا قَال([2]).
وعَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ: «ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِ بَيْتِهِ»([3]).
معنى: ارْقُبُوا: قال ابن الأثير: احفظوه فيهم([4]).
وقال الإمام النووي: راعوه واحترموه وأكرموه، والله أعلم([5]).
ولقد بادلهم الآل الشعور نفسه:
فعن عامر بن شراحيل الشعبي قال: «صَلَّى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى جِنَازَةِ أُمِّهِ، ثُمَّ قُرِّبَتْ لَهُ بَغْلَتُهُ لِيَرْكَبَها، فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخَذَ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ زَيْدٌ: خَلِّ عَنْهُ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ. فَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا. فَقَبَّلَ زَيْدٌ يَدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبيِّنا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ»([6]).
وعن ابنِ عباسٍ قال: لَّما قُبضَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قلتُ لرجلٍ من الأنصارِ: هَلُمَّ فلنَسْأَلَ أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم اليومَ كثيرٌ، فقال: واعجبًا لك يا بنَ عباسٍ، أترى الناسَ يفتقرونَ إليكَ، وفي الناسِ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من فيهم؟! قال: فتركتُ ذاكَ، وأقبلتُ أسألُ أصحابَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وإنْ كانَ يَبْلُغُني الحديثُ عن الرجلِ، فآتي بابَهُ وهو قائلٌ، فأتوسَّدُ رِدَائي على بابِهِ، يَسْفِي الرِّيحُ عليَّ من الترابِ، فيخرجُ فيراني، فيقولُ: يا بنَ عمِّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ما جاءَ بكَ؟ هَلَّا أرسلتَ إليَّ فآتيكَ؟ فأقولُ: لا، أنا أحقُ أن آتيكَ، قال: فأسألَهَ عن الحديثِ. فعاشَ هذا الرجلُ الأنصاريُّ حتى رآني وقد اجتمعَ الناسُ حَوْلي يسألوني، فيقولُ: هذا الفتى كانَ أعْقَلَ مِنِّي([7]).
وكان سيدُنا عمـرُ رضي الله عنـه، يقـدِّم آلَ البيتِ في العَطَاءِ وغيرِه، حُبًّا وتكريمًا لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم .
لقد «أَدَرَّ العطاءَ على الناسِ، ونزَّل نفسَهُ بمنزلةِ الأجيرِ، وكآحادِ المسلمينَ في بيتَ المالَ، ودوَّنَ الدواوينَ، ورتَّبَ الناسَ على سابقتِهم: في العطاءِ، والإذْنِ، والإكْرَامَ. فكان أهلُ بدرٍ أوَّلُ الناسِ دخولًا عليه، وكان عليٌ أوَّلَهم. وكذلك فعل بالعطاء. واثبتَ أسماءَهم في الديوان على قُرْبِهِم من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبدأَ ببني هاشمٍ، والأقرب فالأقرب»([8]).
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ وَالْعَبَّـاسَ أَتَيَا أَبَا بَكْـرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَـا، أَرْضَـهُ مِـنْ فَـدَكٍ، وَسَهْمَـهُ مِـنْ خَيْبَرَ. فَقَالَ أَبُـو بكْـرٍ: سَمِعْـتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُـولُ: «لاَ نُـورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَـةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّـدٍ فِي هَـذَا الْـمَالِ». وَاللهِ لَقَرَابَـةُ رَسُـولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَـبُّ إِلَـيَّ أَنْ أَصِـلَ مِـنْ قَرَابَتِي»([9]).
ثانيًا ـ حب الصحابة بعضهم بعضًا رضي الله عنهم:
لقد ألَّفَ([10])اللهُ سبحانه وتعالى بين قلوب الصحابة، ووصل بعضها بعضًا بحبلٍ من المَوَدَّة، فاجتمعوا على حبِّ اللهِ تعالى وحبِّ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، وحبِّ بعضهم بعضًا، ولولا ذلك لما استطاعوا أن يقوموا بما كلَّفهم اللهُ بهِ من نُصْرةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، ونشْر دينه، وفَتْحِ قلوبِ العبادِ والبلاد.
قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴿٦٢﴾ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾[الأنفال: 62 ـ 63].
فإذا ما قُرِأتْ هذه الآية؛ عُلِمَ أنَّه ما كان ليكون هذا التأليف ـ أو شيءٌ منه ـ بين قلوب الصحابة إلا بالحبِّ، بعد أن كان بينهم ما صنع الحدَّاد ـ قَبْلَ الإسلام ـ كما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾[آلعمران: 103].
وقد تعددت صور المحبة بين الصحابة رضي الله عنهم، أذكر منها:
1 ـ المؤآخاة بين المهاجرين والأنصار وما أثمرته:
قام النبي صلى الله عليه وسلم بتمتين أواصر المحبة بين أصحابه؛ فآخى بين المهاجرين والأنصار، حتى صار يرثُ المهاجرُ الأنصاريَّ.
عَـنِ ابْـنِ عَبَّـاسٍ رضي الله عنهمـا، فـي قولـه تعالـى: ﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾[النساء: 33]، قَالَ: «كَانَ الْـمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْـمَدِينَةَ يَرِثُ الْـمُهَاجِرُ الأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِلأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ ﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ﴾[النساء: 33]، نَسَخَتْ»([11]).
وبعد هذه المؤآخاة، ضرب الصحابةُ أروعَ الأمثلة في صدق الأخوة، وصفاء المحبة بينهم، أمثلةً لايكاد الزمان يأتي بمثلها:
حَلَفَ الزَّمَانُ لَيَأتِيَنَّ بِمِثْلِهِمْ | حَنَثَتْ يَمِيْنُك يا زَمَانُ فَكَفِّرَا |
والدليلُ على ذلك هذا الحديث:
عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا الْـمَدِينَةَ؛ آخَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالًا، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْـفَ مَالِي، وَانْظُـرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيْـتَ؛ نَـزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا. قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لاَ حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ، [وفي رواية: بَارَكَ الله لَكَ فِي أَهْلِكَ([12])] هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعَ ([13]).قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ([14])، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تَزَوَّجْتَ؟»قَالَ نَعَمْ. قَالَ: «وَمَنْ؟». قَالَ: امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ: «كَمْ سُقْتَ؟». قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ ـ أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ([15]) ـ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ ([16])»([17]).
2 ـ معرفة الصحابة قدْر بعضهم عمومًا:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لا تسبُّوا أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَقَامُ أحدهم ساعة، خير من عمل أحدهم عمره»([18]).
ومقامات الصحابـة رفيعـة، لكنهم ليسوا فيها سواء، وهم يعلمـون ذلك رضي الله عنهم.
عَـنِ ابْـنِ عُمَـرَ رضي الله عنهما قَـالَ: «كُنَّا فِي زَمَـنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ نَعْـدِلُ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَـدًا، ثُـمَّ عُمَـرَ، ثُمَّ عُثْمَـانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ»([19]).
وأُتِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه يَوْمًا بِطَعَامِهِ فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ ابْنُ عُمَيْرٍ ـ وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي ـ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ ـ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ ـ خَيْرٌ مِنِّي، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي([20]).
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِلَى السُّوقِ، فَلَحِقَتْ عُمَرَ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ المؤْمِنِينَ، هَلَكَ زَوْجِي وَتَرَكَ صِبْيَـةً صِغَارًا، وَاللهِ مَا يُنْضِجُونَ كُرَاعًـا([21])، وَلاَ لَهُـمْ زَرْعٌ وَلاَ ضَـرْعٌ، وَخَشِيتُ أَنْ تَأْكُلَهُمُ الضَّبُعُ([22])، وَأَنَا بِنْتُ خُفَافِ بْنِ إِيمَاءَ الْغِفَارِيِّ، وَقَدْ شَهِدَ أَبِي الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَقَفَ مَعَهَا عُمَرُ وَلَمْ يَمْضِ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِنَسَبٍ قَرِيبٍ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرٍ ظَهِيرٍ كَانَ مَرْبُوطًا فِي الدَّارِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ غِرَارَتَيْنِ([23]) مَلأَهُمَا طَعَامًا، وَحَمَلَ بَيْنَهُمَا نَفَقَةً وَثِيَابًا، ثُمَّ نَاوَلَهَا بِخِطَامِهِ([24])، ثُمَّ قَالَ: اقْتَادِيهِ، فَلَنْ يَفْنَى حَتَّى يَأْتِيَكُمُ اللهُ بِخَيْرٍ.فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْـمُؤْمِنِينَ، أَكْثَرْتَ لَهَا. قَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَاللهِ إِنِّي لأَرَى أَبَا هَذِهِ، وَأَخَاهَا قَدْ حَاصَرَا حِصْنًا زَمَانًا، فَافْتَتَحَاهُ، ثُمَّ أَصْبَحْنَا نَسْتَفِيءُ([25]) سُهْمَانَنا([26]) فِيهِ»([27]).
فقد عرفَ أميرُ المؤمنين قَدْرَ أبي المرأة وأخيها، فأكرمها إكرامًا لهما.
وعن أسلم، عن عمر رضي الله عنه، أنه قال لأصحابه: «تَمَنَّوا. فقال بعضهم: أتمنى لو أنَّ هذه الدار مملوءةٌ ذهبًا، أنفقه في سبيل اللهِ وأتصدَّق. وقال رجل: أتمنى لو أنها مملـوءةٌ زَبَرْجَدًا([28])وجوهرًا، فأُنفقُـة في سبيل الله وأتصـدَّق.ثم قال عمر: تمنوا. فقالوا: ما ندري يا أميرَ المؤمنين. فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءةٌ رجالًا مثلَ أبي عبيدة َبنِ الجرَّاحِ، ومعاذِ بنِ جَبَلَ، وسالمَ مولى أبي حذيفةَ، وحذيفةَ ابنِ اليمانِ»([29]).
وعن قيس بن أبي حازم قال: «اشترى أبو بكر بلالًا وهو مدفونٌ في الحجارة بخمسِ أواقٍ ذَهَبًا، فقالوا: لو أبَيْتَ إلَّا أُوْقِيَّةً لَبِعْنَاْكَهُ، قال: لو أبَيْتُمْ إلَّا مِئَةَ أوقيةٍ لأخَذْتُهُ»([30]).
فحبُّ سيدنا أبي بكر لإخوانه الصحابة، جعله يدفع هذا المبلغ الكبير من أجل تخليص بلال من عذاب المشركين. لذلك كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: «أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا. يَعْنِي بِلاَلًا»([31]).
وعَنْ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ قَالَ: أَصَابَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رُعَافٌ شَدِيدٌ سَنَةَ الرُّعَافِ، حَتَّى حَبَسَهُ عَنِ الْحَجِّ وَأَوْصَى، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ: اسْتَخْلِفْ. قَالَ: وَقَالُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: وَمَنْ؟ فَسَكَتَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ ـ أَحْسِبُهُ الْحَارِثَ ـ فَقَالَ: اسْتَخْلِفْ. فَقَالَ عُثْمَانُ: وَقَالُوا؟ فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ فَسَكَتَ. قَالَ: فَلَعَلَّهُمْ قَالُوا: الزُّبَيْرَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَخَيْرُهُمْ مَا عَلِمْتُ، وَإِنْ كَانَ لأَحَبَّهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ([32]).
3 ـ حبُّ الصحابة للشيخين أبي بكر وعمر ومعرفة مقامهما:
وأسوق ثلاثة أحاديث تشهد بذلك:
الحديث الأول:
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ([33]).
وهذه واللهِ مِنْحَةٌ جليلةٌ وفرصةٌ عظيمةٌ، أن يكون المرءُ مع من أحبَّ! أن يختار لحبِّهِ الأكابرَ ليكون معهم، كسيدنا أنسٍ الذي صرَّح بحبه المكنون للنبي صلى الله عليه وسلم سيِّد الخلق، وبحبه للشيخين أبي بكر وعمر خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وهذا واللهِ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ!
لقد قرن حبَّه للنبي صلى الله عليه وسلم مع حبه للشيخين رضي الله تعالى عنهما؛ لأنه خَبَرَ منزلتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، على مدى عَشْرِ سنينَ قضاها في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، منذ قدومه المدينة إلى أن توفَّاه الله تعالى.
لقد أشهـدَ أنسٌ رضي الله عنـه التابعين ومن بعدهم علـى هذا الحبّ، وعلَّمهم درسًا!
وأَنَا ـ غـازي ـ أُحِبُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْـرٍ وَعُمَـرَ وأَنَسًا، والصحابة جميعًا، وكلَّ من أَحَبَّهم، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُـمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ.
الحديث الثاني:
ويظهر فيه حبُّ عليِّ للشيخين أبي بكر وعمر في قصة استخلاف عثمان رضي الله عنهم:
عن الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، «أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا، قَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ. فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ؛ فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلاَ يَطَأُ عَقِبَهُ، وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا، فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ. قَالَ الْمِسْوَرُ: طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَضَـرَبَ الْبَـابَ حَتَّـى اسْتَيْقَظْتُ، فَقَالَ: أَرَاكَ نَائِمًا، فَوَالله مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ، انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا، فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ،فَشَاوَرَهُمَا، ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ: ادْعُ لِي عَلِيًّا. فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى ابهارَّ الليلُ [يَعْنِي انْتَصَفَ]، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهْوَ عَلَى طَمَعٍ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لي عُثْمَانَ، فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْـمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ، وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ الْـمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَـرَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّـدَ عَبْـدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قَـالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَلِيُّ، إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ، فَلاَ تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا. فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ الله وَرَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ. فَبَايَعَهُ عَبْـدُ الرَّحْمَـنِ، وَبَايَعَـهُ النَّـاسُ، الْـمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَـارُ، وَأُمَـرَاءُ الأَجْنَـادِ، وَالْـمُسْلِمُونَ»([34]).
فقول سيدنا عليٍّ رضي الله عنه: «أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ»، دليلٌ كبيرٌ على حبِّ سيدنا عليٍّ للشيخين، ورضاه عن سيرتهما، واشترط في بيعته لعثمان أن يتبع ـ بعد سُنَّةِ الله وَرَسُولِهِ ـ سنتهما، وأن يقتفي في الخلافة أثرهما، وقد سمَّى من أولاده أبا بكر وعمر على اسم الشيخين حبًا لهما.
الحديث الثالث:
عَنْ مُحَمَّدِ بنِ الْحَنَفِيَّةِ ـ بن علي بن أبي طالب ـ قَالَ: «قُلْتُ لأَبِي: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ. وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَنَا إِلاَّ رَجُلٌ مِنَ المسْلِمِينَ»([35]).
4 ـ حبُّ الصحابة لسيدنا أبي بكر ومعرفة مقامه وإجماعهم على ذلك وثناؤهم عليه:
«عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكنه أُرسِل إليه كما أرسل إلى موسى، فمكث في قومه أربعين ليلة، واللهِ إني لأرجو أن يعيشَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يقطعَ أيديَ رجالٍ من المنافقين وألسنتَهم، يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات»([36]).
قال الزهري: «فأخبرني أنس بن مالك، أنه سمع خُطبةَ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه الآخرة، حين جلس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فتشهد عمر، وأبو بكرٍ صامتٌ لا يتكلم، ثم قال: أما بعد: فإني قلت أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت في كتاب أنزله الله، ولا في عهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يُدَبِّرَنَا([37]) ـ يريد بذلك أن يكون آخرهم ـ فإن يكُ محمد صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن الله جعل بين أظهركم نورا تهتدون به، فاعتصموا به تهتدوا لما هدى اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم، ثم إن أبا بكر صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين، وإنه أولى الناس بأموركم، فقوموا فبايعوه، وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر»([38]).
فظهر في هذا الحديث، أنَّ الصحابة عرفوا لأبي بكر الصديق منزلتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن الشعبي قال: «لما وليَ عمرُ صعد المنبرَ فقال: ما كان اللهُ ليراني أرى نفسي أهلًا لمجلس أبي بكر، فنزل مرقاة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اقرءوا القرآن تُعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أنتوزنوا...»([39]).
وعن ابن عائذ: «قال رجل من أهل العراق لعمر: ما رأينا رَجُلًا أقضى بالعدل، ولا أقْوَل بالحق، ولا أشدَّ على المنافقين منك. قال عوف: كذبتم. قد رأينا من هو خير منه، أبو بكر. قال عمر: صدق عوف وكذبتم، قد كان أبو بكر أطيبَ من ريح المسك، وأنا أضلُّ من بعير أهلي»([40]).
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: «أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم»([41]).
وقال عمر: «وَايْمُ الله! مَا سَابَقْتُ أَبَا بَكْرٍ إِلَى خَيْرٍ إِلا سَبَقَنِي»([42]).
وعن الحسن قال: قال علي رضي الله تعالى عنه: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدَّم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، فقدمنا أبا بكر([43]).
5 ـ حبُّ الصحابة لسيدنا عمر ومعرفة منزلته وثناؤهم عليه:
سيدنا عمر، الإمام الأوَّاب، شهيد المحراب، الذي جعل الحق على لسانه وقلبه؛ فوافق قولُه قولَ الكتاب:
قَالَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْـمُؤْمِنِينَ رَضِيَ الله عَنْهَا: «لَمَّا ثَقُلَ أَبِي دَخَلَ عَلَيْهِ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَقَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ الله! مَاذَا تَقُولُ لِرَبِّكَ غَدًا إِذَا قَدِمْتَ عَلَيْهِ، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ قَالَتْ: فَأَجْلَسْنَاهُ فَقَالَ: أَبِالله تُرْهِبُونِي؟ أَقُولُ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمْ خَيْرَهُمْ»([44]).
وعن يسار بن حمزة قال: «لما ثَقُلَ أبو بكر أشرف على الناس من كُوَّة فقال:
يا أيها الناس، إني قد عهدت عهدًا أفترضون به؟ فقال الناس: قد رضينا يا خليفةَ رسولِ اللهِ. فقال عليٌّ: لا نرضى إلا أن يكون عمر بن الخطاب»([45]).
وهذه دلالة واضحة على محبة سيدنا علي لسيدنا عمر رضي الله عنهما.
وقَالَتِ السيدة عَائِشَةُ رضي الله عنها: «إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّهَلاَ بِعُمَرَ»([46]).
كذلك سيدنا عليّ رضي الله عنـه قال: «إذا ذكـر الصالحون فحيَّهَلا بعمرَ، ما كنا نبعُدُ أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم أن السَّكينة تنطق على لسان عمر»([47]).
وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ». وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا نَزَلَ بِالنَّاسِ أَمْرٌ قَطُّ فَقَالُوا فِيهِ، وَقَالَ فِيهِ عُمَرُ ـ أَوْ قَـالَ ابْنُ الْخَطَّابِ فِيهِ شَكَّ خَارِجَةُ ـ إِلاَّ نَزَلَ فِيـهِ الْقُرْآنُ عَلَى نَحْـوِ مَا قَالَ عُمَرُ([48]).
وكانت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، تذكر عمر بن الخطاب فتقول: «كان واللهِ أحوذيًا([49]) نَسِيجَ وَحْدِهِ([50])، قد أعدَّ للأمور أقرانها» ([51]).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضيَ الله عنهما قَالَ: إِنِّي لَوَاقِفٌ فِي قَوْمٍ يدْعُون اللهَ لِعُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ ـ وَقَدْ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ ـ إِذَا رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي قَدْ وَضَعَ مِرْفَقَهُ عَلَى مَنْكِبِي، يَقُولُ: يرحمُكَ الله، إِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، لأَنِّي كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُنْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَفَعَلْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَانْطَلَقْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَإِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللهُ مَعَهُمَا، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ([52]).
وهذا ابن مسعود يصوِّر لنا شِدَّة حُبِّه لعمر رضي الله عنهما، وحبّ الصحابة ومن كان في عصرهم من التابعين، ولقد حزنوا لفقده حزنًا شديدًا، حتىشجر البوادي ! يقسم ابن مسعود على ذلك:
عن أبي وائل قال: قدم علينا عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ فنعى إلينا عمر. فلم أرَ يومًا كان أكثر باكيًا ولاحزينًا منه، ثم قال: «واللهِ لو أعلمُ عمرَ كان يحبُّ كلبًا لأحببتُه! واللهِ إنْ أحسبُ العضاهَ ([53]) قد وجَد فَقْدَ عمر» ([54])!
وموتُ سيِّدنا عمرَ فجعَ المسلمين وأبكاهم، وثَلَمَ ثَلْمةً في الإسلام.
لمَّا «بكـى سعيـدُ بـنُ زيدٍ رضي الله عنـه، فقال لـه قائـل: يا أبـا الأعْـوَر، ما يبكيك؟ فقال: على الإسلام أبكي، إنَّ موتَ عمرَ ثَلَمَ الإسلامَ ثُلْمَةً([55]) لا تَرْتَقُ([56]) إلى يوم القيامة»([57]).
وذكر أبو عبيدةَ بنُ الجرَّاحِ عُمَرَ يومًا فقال: «إنْ ماتَ عمرُ رقَّ الإسلامُ، ما أُحِبُّ أنَّ لي ما تطلعُ عليه الشمسُ أو تغربُ؛ وأَنِّي أبقى بعد عمر. قال قائل: ولم؟ قال: سترون ما أقول إن بقيتم، أمَّا هو: فإن ولي والٍ بعد عمر، فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به؛ لم يطعْ له الناسُ بذلك، ولم يحملوه، وإن ضَعُفَ عنهم قتلوه»([58]).
وهذا الأخير هوما حصل مع سيدنا عثمان رضي الله عنه، ومات أبو عبيده قبل عمر رضي الله عنهما، وصَدَقَتْ نبوءتُه.
وعن طارق بـن شهاب قـال: قـالت أمُّ أيمـنَ لما قُتِلَ عمـرُ: «اليـومَ وَهَىْ الإسلامُ»([59]).
أي ضَعُف الإسلام بموته.
وقد «قَبَّلَ أبو عُبَيْدةَ يدَ عمرَ بنِ الخطَّابَ حين قَدِمَ من سَفَر»([60]).
وأبو عبيدة أمين الأمة، هو من هو في فضله ومكانته بين الصحابة.
6 ـ حبُّ الصحابة لسيدنا عثمان وثناؤهم عليه:
قال عبد الله بن مسعود حين بويع عثمان بالخلافة: «بايعْنا خيرنَا ولم نألُ»([61]).
أي لم يُقَصِّر الصحابة في اختيار أفضلهم بعد عمر؛ ليكون خليفةً له، أميرًا عليهم.
وقال علي: «كان عثمانُ أوصلَنا للرحم، وكان من الذين آمنوا ثم اتقوا وأحسنوا واللهُ يحبُّ المحسنين»([62]).
وكان يوم الدار من المدافعين عن سيدنا عثمان، وقد أمر ولداه الحسن والحسين أن يحرسا عثمان مع أولاد الصحابة، رضي الله عنهم جميعًا([63]).
ولَّما بلغَ ثُمامةَ بنَ عديٍّ ـ وكان أميرًا على صنعاء الشام، وكانت له صحبة ـ قَتْلُ عثمانَ بنِ عفَّانَ؛ بكى وطال بكاؤه، فلما أفاق قال: هذا حين انتُزِعَتْ خلافةُ النُّبُوَّة([64]).
7 ـ حب الصحابة لسيدنا عليٍّ وثناؤهم عليه رضي الله تعالى عنهم:
وسُئِلَ ابـنُ عمـرَ عـن عليٍّ وعثمـانَ رضـي الله عنهم؟ فقـال للسائـل: «قبَّحَكَ اللهُ! تسألني عن رجلينِ كلاهما خيرٌ منِّي! تريدُ أن أغُضَّ من أحدِهما وأرفعَ من الآخر؟!»([65]).
8 ـ إيثار الصحابة بعضهم بعضًا بدافع الحب:
أ ـ إيثار أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بعضهم بعضًا في الخلافة:
عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أنَّهُ حِينَ تَوَفَّى اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، اجْتَمَع الأَنْصَارُ بِأَسْرِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَاجْتَمَعَ الْـمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وذلك لاختيارِ خليفةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فَقال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لأَبِي بَكْرٍ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا هَؤُلاَءِ مِنَ الأَنْصَـارِ. فَانْطَلَقْـوا حَتَّى أَتَوْهُم فِي سَقِيفَـةِ بَنِي سَاعِـدَةَ، وتكلم الأنصار، وذكروا نصرتهم للإسلام([66]).
قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «.. فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى رِسْلِكَ. فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ. فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ هُوَ أَحْلَمَ مِنِّي وَأَوْقَرَ.. فقَالَ أبو بكر: مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ، وَلَنْ يُعْرَفَ هَذَا الأَمْرُ إِلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ. فَأَخَذَ بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهْوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا، فَلَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا، كَانَ وَالله أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي لاَ يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ، أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ»([67]).
لذلك قَالَ عُمَرُ: «بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ، فَأَنْتَ سَيِّدُنَا، وَخَيْرُنَا، وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم . فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ»([68]).
كذلك قال عُمَرُ للأَنْصَار: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ؟ فَأَيُّكُمْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ؟ ! قَالُوا: نَعُوذُ بِالله أَنْ نَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ»([69]).
ب ـ إيثار السيدة عائشة سيدَنا عمرَ على نفسها بأن يدفن في بيتها مع صاحبيه:
عندما طُعِن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعَلِمَ أنَّه ميِّتٌ، قَال لابنه عَبْد الله بْنِ عُمَرَ: «انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْـمُؤْمِنِينَ فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلاَمَ، وَلاَ تَقُلْ: أَمِيرُ الْـمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا، وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ. فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّلاَمَ، وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ. فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، وَلأُوثِرَنَّ بِهِ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي. فَلَمَّا أَقْبَلَ قِيلَ: هَذَا عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ. قَالَ: ارْفَعُونِي. فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ. فَقَالَ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْـمُؤْمِنِينَ، أَذِنَتْ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ، مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ. فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ؛ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمْ فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَأَدْخِلُونِي، وَإِنْ رَدَّتْنِي رُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْـمُسْلِمِينَ.. فَلَمَّا قُبِضَ؛ خَرَجْنَا بِهِ فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي، فَسَلَّمَ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ قَالَ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. قَالَتْ: أَدْخِلُوهُ. فَأُدْخِلَ، فَوُضِعَ هُنَالِكَ مَعَ صَاحِبَيْهِ»([70]).
في الحديث صور كثيرة جديرة بالذكر منها:
أ ـ حبُّ أميرِ المؤمنينَ عمرَ للنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وللصدِّيق، فأراد أن يكون معهما في الممات كما كان في الحياة.
ب ـ تواضعُ سيدنا عمر. دلَّ عليه قوله: «فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلاَمَ. وَلاَ تَقُلْ أَمِيرُ الْـمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا». وقوله: «فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَأَدْخِلُونِي، وَإِنْ رَدَّتْنِي رُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْـمُسْلِمِينَ».
ت ـ لكنَّ الذي أكبرَ من هذا وذاك ـ وهو موضع الشاهد ـ الإيثار العظيم والتضحية الكبيرة للسيدة عائشة رضي الله عنها، فقد آثرت أمير المؤمنين بالمكان الذي أعدته لنفسها وفي حجرتها، لكي تدفن فيه جانب النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذا ما لحقت يومًا بربها عز وجل.
وصنيعها هذا رضي الله عنها إيثارٌ عظيم، نراه من وجوه:
1 ـ إن هذه البقعة هي حجرة السيدة عائشة، وهي أشرف بقعة على وجه البسيطة؛ بعد أن دُفن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرفُ مخلوقٍ وأكرمُه وأحبُّه إلى الله تعالى.
2 ـ إن حجرة السيدة عائشة ليست كغيرها من الأرض، فهي روضة من رياض الجنة، وهي مَنْقَبَةٌ من مناقب السيدة عائشة رضي الله عنها:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي»([71]).
وبيت النبي صلى الله عليه وسلم هو حجرة السيدة عائشة التي دُفن فيها.
3 ـ إن السيدة عائشة آثرت بمكان فيه زوجها، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله تعالى، وفيه أبوها الصدّيق الأكبر، أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
رضي الله عن السيدة عائشة وعن أمهات المؤمنين، وعن الصحابة والآل أجمعين.
* * *
[1])) جامع الترمذي: أبواب المناقب، باب في مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ص859، ح3789. قالَ أبو عيسى: حَسَنٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
[2])) متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب اللباس، باب السِّخَابِ لِلصِّبْيَانِ، ص1035، ح5884. واللفظ له. وصحيح مسلم: ... كتاب فضائل الصحابة، باب من فَضَائِلِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رضي الله عنهما، ص1067، ح6257.
[3])) صحيح البخاري: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مَنَاقِب قَرَابَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَمَنْقَبَةِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ص626، ح 3713.
[4])) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر: حرف الراء، (رقب)، (ج2/ ص248).
[5])) ر