جاري التحميل

حب الصحابة والتابعين والعوالم الأخرى

الموضوعات

حبُّ الصحابة والتـابعين والعوالم الأخرى

كتب الدكتور غازي محمود الشمري حول هذا الموضوع في كتابه ( الحب في السنة وأثره في حياة الأمة) والصادر عن دار المقتبس سنة (1439هـ - 2018م) 

    فقال:

المبحث الأول
حب الصحابة رضي الله عنهم لله تعالى

الصحابة رضي الله تعالى عنهم هم أكثر الناس حبًا لله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فكتاب الله تعالى نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهـو بين أظهرهم، فقـد رأوا الوحي، وعاينوا التنزيل، ورأوا جبريل عليه السلام عندما كان يأتي على صورة رجل، وسمعوا صوت الملائكة وهم يقاتلون معهم في بدر، ورأوا نصرة الله تعالى لهم.

والقرآن الكريم كان ينزل تارة يأمرهم؛ فيأتمروا، وتارة ينهاهم؛ فينتهوا، وتارة يبشِّرُهم بجنَّات عرضها السماوات والأرض، ويَعِدُهُم بالنعيم المقيم على الصبر والثبات على الحق المبين، و يَتَوَعَّدُ أعداءَهم بالجحيم. وكان ينزل أحيانًا جوابًا لأسئلتهم، وأحيانًا أخرى لقَبول توبتهم، أو لتبرئتهم.

علاوة على ذلك، فقد كان الله سبحانه يمتدح الصحابة الكرام، فيُثْنِي على صدقهم، وصبرهم على الشدائد، وثباتهم على الحق، وإيثارهم على أنفسهم، ونصرةنبيهم صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك.

بل كان المولى سبحانه، يأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يسمع القرآن الكريم منهم، كأُبيِّ ابن كعب رضي الله تعالى عنه، إلى أن صرَّح القرآن الكريم بحبِّ الله تعالى لهم!

والصحابة هم الحقل الأول، الذي غرس فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم تعاليم الكتاب الكريم والسنة المُطهَّرة، ورَعَاهُ حتى أثمر وآتى اُكُلَه، وما التابعون ومن جاء بعدهم بإحسان؛ إلَّا بذور من تلك الثمار، ونسخة عن تلك الغِراس.

والآن نسأل: قوم هذا حالهم، ألا يُحِبُّون الله تعالى؟ !

الجواب في قوله تعالى: ﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾[المائدة: 54].

وما طاعتهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم إلَّا تعبيرٌ عن حبهم، وما شوقهم للقاء ربِّهم سبحانه إلَّا صورةٌ كبيرةٌ عن هذا الحبِّ، أذكر منهم رضي الله عنهم:

أولًا ـ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:

الفاروقُ عمرُ عملاقُ الإسلام، الذي دانت له أطراف الأرض، لم تشْغَلْهُ هذه العَظَمَةُ والمكانةُ عن حبِّ لقاء الله تعالى، فعندما حجَّ بالناس؛ تحَيَّنَ مواطنَ إجابة الدعاء في مشاعر الحج، وأناخ إبلَ الحجيج في أبطحِ مكةَ؛ لتستريح ويستريحون، لكنَّ سيدنا عمرَ ذهب إلـى أبعـد من هذه الراحـة، إلى راحـةٍ تكـونبلقاء الله تعالى، فرفع يديه داعيًا لهذا اللقاء، واستجاب المولى سبحانه غيرَ ما بعيد.

عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْـمُسَيَّبِ قال: لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ مِنى أَنَاخَ([1])بِالأَبْطَحِ([2])، ثُمَّ كَوَّمَ كَوْمَةً بَطْحَاءَ، ثُمَّ طَرَحَ عَلَيْهَا رِدَاءَهُ وَاسْتَلْقَى، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: اللهمَّ كَبِرَتْ سِنِّي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلاَ مُفَرِّطٍ.

ثُمَّ قَدِمَ الْـمَدِينَةَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ سُنَّتْ لَكُمْ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمْ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ؛ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللهِ فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَـا. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَـوْلَا أَنْ يَقُـولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَـرُ بْـنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى؛ لَكَتَبْتُهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَاهَا.

قَال َمَالِكٌ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْـمُسَيَّبِ: فَمَا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ (سنة 23ﻫ) حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ رَحِمَهُ الله([3]).

ثانيًا ـ معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه:

وهذا معاذ عند استشهاده، يستبشر بلقاء الله سبحانه:

عن عمرو بن قيس، أن معاذَ بنَ جبلٍ لما طُعِنَ؛ فجعلتْ سَكَرَاتُ الموتِ تغشاهُ، ثم يُفِيقُ الإفاقةَ فيقول: «اخْنُقْنِي خَنَقَاتِك، فوَعِزَّتِك إنَّك لتعلمُ أنَّ قلبي يحبُّ لقاءَك، اللهم إنَّك تعلمُ أنِّي لم أكـن أحبُّ البقاءَ فـي الدنيـا لجـريِ الأنهـارِ، ولا لغرسِ الأشجارِ؛ ولكن لمكابدةِ الساعات، وظمأِ الهواجرِ، ومزاحمةِ العلماءِ بالرُّكَبِ عند حِلَقِ الذِّكْر»([4]).

لقد أعدَّ معاذٌ رضي الله عنه نفسه جيدًا لهذا اللقاء، فلم يكن يحب البقاء في الدنيا من أجل زينتها وثمارها؛ بل لما يحبه الله سبحانه، كالجهاد في سبيله، وقيام الليل، وصوم النهار، وحضور حلق العلم والذكر.

وعندمـا حان الموعـد الذي طال شوقـه إليـه، وجاءت سكرات الموت لتغشاه، استقبلها بحب باح به لمولاه، كان أقوى من تلك السكرات والخنقات، فغشيها قبل أن تغشاه.

ثالثًا ـ حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما:

دخل أبو مسعود الأنصاري على حذيفة في مرضه الذي مات فيه، فاعتنقه، فقال: الفراقُ؟ فقال: نعم. حبيبٌ جاء على فاقة)[5](، لا أفلحَ من نَدِم.. !)[6](.

فسمَّى الموتَ حبيبًا؛ لأنَّه يجمَعُهُ بالحبيب! وما ذاك إلَّا عند المُحِبِّين!

لقد كان حب الصحابة لله تعالى هو الوَقود الذي يُشعل مجامر قلوبهم، وينير لهم دروبَهم.

*  *  *

 



[1]))   أَنَاخَ: أَنَخْتُ البعيرَ فاستناخ، ونوَّخته فتنوَّخ، وأَناخَ الإِبلَ أَبركها فبركت، واستناخت بركت والمُناخ الموضع الذي تُناخ فيه الإِبل. [لسان العرب: )نوخ)، (ج3/ ص65)].

[2]))   الأَبْطَح: يعني أَبْطَح مكة، وهو مسيل واديها.والبَطِيحَةُ والبَطْحاءُ مثل الأَبْطَحِ ومنه بَطْحاءُ مكة. والأَبْطَحُ لا يُنْبِتُ شيئًا، إِنما هو بطن المَسِيل النَّضِر، وهو التراب السهل في بطونها مما قد جَرَّته السيول، يقال: أَتينا أَبْطَحَ الوادي فنمنا عليه.وبَطْحاؤُه مثله، وهو ترابه وحصاه السَّهْلُ اللَّيِّنُ.وسُمِّي المكان أَبْطَحَ لأَنَّ الماء يَنْبَطِح فيه، أَي يذهب يمينًا وشمالًا. [انظر: لسان العرب: (بطح)، (ج2/ ص412)].

[3]))   موطأ الإمام مالك: كتاب الحدود، باب مَا جَاءَ فِي الرَّجْمِ، ص(587 ـ 588)، ح10.

[4]))   أبو نعيم، حلية الأولياء: عمرو بن قيس الملائي، (ج5/ ص103)، وقال بعد رواية هذا الخبر: أُسند عن عدة من التابعين منهم: الحكم بن عتيبة وأبو إسحاق السبيعي، وعبد الملك بن العوفي، وعطاء بن أبي رباح، ومحمد بن المنكدر وغيرهم.

 ([5]))   )الفاقةُ: الحاجة والفقر. [لسان العرب: (فوق)، (ج10/ ص315)]  والمعنى: جاءه الموت وهو مشتاق إليه.

([6])   ابن أبي شيبة، المصنف: كتاب الفتن، من كره الخروج في الفتنة، (ج8/ ص606). وأخرجه الحاكم بلفظٍ مقارب في المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، ص(547 ـ 548)، ح8533، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي في التلخيص: صحيح.

الموضوعات