حب العبد لله تعالى
حب العبد لله تعالى تعريفه، حكمه، أقسامه، ثمراته، مظاهره
كتب الدكتور غازي محمود الشمري حول هذا الموضوع في كتابه ( الحب في السنة وأثره في حياة الأمة) والصادر عن دار المقتبس سنة (1439هـ - 2018م)
فقال:
أولًا ـ تعريف حب العبد لله تعالى:
رأينا في تعريف محبة اللهِ تعالى للعبد، أنها مُنزَّهةٌ عن المَيْل؛ لأنه من صفات الخلق، كذلك في محبة العبد لله تعالى، فإنها لا تتضمن مَيْلًا.
يقـول الإمـام القُشَيْـري: ليست محبـة العبد لـه سبحانـه متضمنـةً ميـلًا، ولا اختطاطًـا([1])، كيـف؟ وحقيقـة الصمديَّـة مقـدَّسة عـن اللحـوق والـدرك والإحاطة!([2]).
ويرى أنها حالةٌ يجدها العبد من قلبه، يدُّق الوصف عنها، قد تظهر بعض آثارها، وليس لها وصفٌ يعبر عنها أكثرَ من اسمها، فنجده يقول: وأما محبة العبد لله، فحالة يجدها من قلبه تلطف عن العبارة، وقد تحمله تلك الحالةُ على التعظيمِ لـه، وإيثارِ رضاهُ، وقلـةِ الصبرِ عنـه، والاهتياجِ إليـه، وعـدمِ القرارِ من دونهِ، ووجودِ الاستئناسِ بدوامِ ذكرهِ لهُ بقلبهِ([3]).
ويقول أيضًا: ولا توصف المحبة بوصف، ولا تحدُّ بحدٍّ، أوضحَ ولا أقربَ إلى الفهـم من المحبـة. والاستقصاءُ في المقـال عنـد حصـول الإشكال، فإذا زال الاستعجام والاستبهام؛ سقطت الحاجة إلى الاستغراق في شرح الكلام ([4]).
وأوضحُ منـه قـول سَمْنُون المحب: لا يُعبَّر عن الشيء إلا بما هو أَرَقُّ منه، ولا شيءَ أرقُّ من المحبة، فَبِمَ يُعَبَّرُ عنها؟ ! ([5]).
لذلك يمكن اعتماد تعريف الأستاذ أبي علي الدقاق للمحبـة، الذي مرَّ في مبحث حب الله تعالـى لعباده، عندمـا قـال: «المحبة حالـة شريفـة، شهد الحقُّ سبحانه بها للعبد، وأخبر عن محبته للعبد، فالحق سبحانه يوصف بأنه يحب العبدّ، والعبدُ يوصف بأنه يحب الحق سبحانه»([6](، مع التنزيه عن الشبيه والنظير.
ثانيًا ـ حكم حبّ العبد لله تعالى:
إنَّ المَحَبَّة لله تَعَالَى فرضٌ على كل مـؤمن، يتبين ذلك من قـول الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].
قال البيهقي رحمه الله تعالى: فأبان بهذا، أن حبَّ اللهِ وحبَّ رسولهِ والجهادَ في سبيله فرضٌ، وأنه لا ينبغي أن يكون شيءٌ سواه أحبَّ إليهم منه، وبمِثْلِ ذلك جاءت السنة([7]).
وفي الآية وعيد، والوعيد لا يكون إلا على ترك فرض([8]).
ولا يخلو قلب مؤمن من محبة لله تَعَالَى وإن كان عاصيًا، لكن المطلوب أن تكون هذه المحبة غالبةً على كل المحبوبات الأخرى، كما في الآية الكريمة.
ثالثًا ـ أقسام المحبين لله تعالى:
عرفنا من أسباب الحب أن الناس ينقسمون إلى قسمين، قسم يقتصر في أسباب حبه على الإحسان، وآخر يحب للجلال والجمال، وكذلك المحبون لله تعالى ينقسمون بأسباب حبهم إلى هذين القسمين.
قال الإمام الغزالي: نعم قد يُحِبُّ اللهَ لإحسانه إليه، وقد يُحبُّهُ لجلاله وجماله وإن لم يحسن إليه. والمحبون لايخرجون عن هذين القسمين. ولذلك قال الجنيد([9]): الناس في محبة الله تعالى عام وخاص، فالعوام نالوا ذلك بمعرفتهم في دوام إحسانه، وكثرة نعمه، فلم يتمالكوا أن أُرضُوه، إلا أنهم تقلُّ محبتُهم وتكثرُعلى قدْر النِّعم والإحسان. فأما الخاصة فنالوا المحبة بعظم القَدْر والقدرة، والعلم والحكمة، والتفرد بالملك. ولمَّا عرفوا صفاتِهِ الكاملةَ، وأسماءَهُ الحسنى لم يمتنعوا أن أحبُّوه، إذ استحـق عندهم المحبـة بذلك لأنـه أهل لها، ولـو أزال عنهم جميع النعم([10]).
وقال يحيى بن معاذ: حقيقة المحبة: التي لا تزيد بالبِرِّ ولا تنقص بالجَفْوَة([11]).
رابعًا ـ ثمرات حب العبد لله تعالى:
إنَّ حب العبد لله تعالى شرف وسعادة له في الدارين الدنيا والآخرة.
قال سمنون: ذهب المحبون لله تعالى بشرف الدنيا والآخرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المرء مع من أحب»([12])، فهم مع الله تعالى([13]).
وثمرات هذه المحبة كثيرة، أذكر منها:
1 ـ أما في الدنيا: فمنها ما يجده الُمحِبُّ في قلبه من حلاوة الإيمان:
وذلك إذا تحققت فيه ثلاث خصال، يذكرها الحديث الآتي:
عَـنْ أَنَسٍ رضي الله عنـه، عَـنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَـالَ: «ثَـلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيـهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُـونَ الله وَرَسُولُـهُ أَحَـبَّ إِلَيْـهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْـمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لله، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ»([14]).
الخصلتان الأولى والثانية تتعلقان بحب الله تعالى ورسولـه صلى الله عليه وسلم، والخصلة الثالثة نتيجة لهما، فمن اشتدَّ حبُّه لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ اشتدَّ كُرهُه للكفر. فالخصال الثلاثة مدارها الحب.
وعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْـمُطَّلِبِ رضي الله عنـه، أَنَّـهُ سَمِـعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُـولُ: «ذَاقَ طَعْـمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وبمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا»([15]).
والرضا لا يكون إلا عن محبة، لأنه أثر من آثارها.
قال ابن رجب الحنبلي: «فالإيمان لـه حلاوة وطعـم يـذاق بالقلوب، كما يذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم، فإن الإيمان هـو غذاء القلـوب وقوتها، كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقوتها.
وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته... فكذلك القلب، إنما يجد حلاوة الإيمان إذا سَلِمَ من أسقامه وآفاته... ومتى مرض وسقم لم يجد حلاوة الإيمان، بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»([16])، لأنه لو كَمُلَ إيمانه لوجد حلاوة الإيمان، فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي. سُئِلَ وَهيبُ بنُ الورد([17]): هل يجد طعم الإيمان من يعصي الله؟ قال: لا، ولا من هَمَّ بالمعصية»([18]).
2 ـ وأما في الآخرة: فهي مايجدُه المُحِبُّ من النعيِم والسعادة:
فينعم المحبّ بالجنة، بالإضافة إلى فرحه بالقدوم على الله سبحانه، وتَنَعُّمِهِ باللقاء والمشاهدة بعد طول شوق. ونعيمه في الجنة بقدر حبه لله تعالى.
قال الإمام الغزالي: اعلم أنَّ أسعـدَ الخلقِ حالًا في الآخـرة أقواهُم حُبًا للهِ تعالى، فإنَّ الآخرةَ معناها القدومُ على اللهِ تعالى، ودَرْكُ سعادةِ لقائِه. وماأعظمَ نعيمَ الُمحِبِّ إذا قدِمَ على محبوبـه بعـدَ طولِ شوقهِ، وتمكَّن من دوامِ مشاهدته أبدَ الآبادِ، من غيرِمُنغِّصٍ ومُكَدِّرٍ، ومن غيرِرقيبٍ ومزاحمٍ، ومن غيرِ خوفِ انقطاعٍ! إلاأنَّ هذا النعيمَ على قدر قوة الحب، فكلما ازدادت المحبة ازدادت اللذة([19]).
قال ذو النون([20]): من قَتَلَتْهُ عبادتُه فدِيتُـه جَنَّتـهُ، ومنْ قَتَلَـهُ حبُّـه فَدِيَتُهُ([21]) النظرُ إليه([22]).
خامسًا ـ مظاهر أو علامات حب العبد لله تعالى:
كثيرًا ما نجد في أقوال أصحاب هذا الشأن ما يعبِّرُ عن أحوالهم، ويصف آثارَ حبهم لله تعالى في نفوسهم، كلٌ بحسب ما أثمر في عقله، واستقر في قلبه. وجلُّ معانيها يدور على الطاعة والموافقة لله تعالى، وكثرة ذكره، والرضا عنه، والشوق إليه سبحانه.
1 ـ امتلاءُ قلب العبد بحبِّ الله تعالى:
سُئِلَ أبو سليمان الداراني: ما أتقرَّبُ به إليه؟ فبكى أبو سليمان، ثم قال: مثلي يُسْألُ عن هذا ! أقربُ ما يُتَقَرَّبُ به إليه، أن يطَّلع من قلبك على أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو([23]).
وهذا يعني أن يكون حبُّ الله في قلب العبد هو الأقوى من سائر المحبوبات؛ لأنَّ حب الله تعالى هو الأصل، وهو رأس مال العبد.
2 ـ الزهد في الدنيا([24]):
إنَّ حبَّ الله عزَّ وجلَّ لا يجتمع مع حبِّ الدنيا، فلا يدخل قلبًا قد مُلىء بحب الدنيا، فالمحب لله تعالى زاهد في الدنيا مقبل على الله تعالى.
عن عمر بن الخطاب قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلًا، وعليه إهاب كبش قد تنطَّق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور الله قلبـه، لقد رأيتـه بين أبوين، يغذوانـه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حبُّ الله ورسوله إلى ما ترون»([25]).
لقد كان أنعم فتـى في قريش قبل إسلامـه، ثم ترك ذلك كله من أجل الله تعالى، وهاجر إلى المدينة، واستشهد في أُحد، رضي الله عنه.
3 ـ حبُّ ما أحبَّ اللهُ تعالى وبغضُ ما أبغضَ اللهُ تعالى:
سُئِلَ ذو النون عن المحبة فقال: أن تحبَّ ما أحبَّ اللهُ، وتبغضَ ما أبغضَ اللهُ، وتفعلَ الخيرَ لله، وترفضَ كلَّما يُشغلُ عن اللهِ، وأن لاتخافَ في الله لومةَ لائمٍ، مع العطف للمؤمنين، والغلظةِ على الكافرين، واتباعِ سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الدين([26]).
وسُئِل الجنيد عن عين المحبة فقال: أنْ تحبَّ ما يحبُّ اللهُ في عباده وتكرهَ ما يكره([27]).
4 ـ الموافقة والطاعة لله تعالى:
الطاعة مظهـر من مظاهـر المحبـة، كما أنها ثمـرة مـن ثمراتهـا، فإن من أحب الله تعالى أطاعه، وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم .
وطاعة الله والرسول تجلب الرحمة، قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[آل عمران: 132]. كما أنها سبب في نيـل الدرجات العُلى في الجنة، مَعَ الَّذِيـنَ أَنْعَـمَ اللهُ عَلَيْهِـمْ، قـال تعالـى: ﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَـٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقًا ﴾[النساء: 69].
سُئِل الحارث المحاسبي عن المحبة فقال: مَيْلُك إلى الشيء بكليَّتِك محبة له، ثم إيثارك له على نفسك ومالك، ثم موافقتك له سِرًا وجَهْرًا، ثم عِلْمُك بتقصيرك في حُبِّه([28]).
وسَأل رجلٌ من أهل بغداد أبا عثمان الحيري([29]) فقال: «يا أبا عثمان، متى يكون الرجل صادقا في حب مولاه؟ قال: إذا خلا من خلافه كان صادقًا في حبه. قال: فوضع الرجل التراب على رأسه وصاح وقال: كيف أدَّعي حبَّه، ولم أخْلُ طَرْفَةَ عينٍ من خلافه؟ قال: فبكى أبو عثمان وأهل المجلس. قال: فجعل يبكي أبو عثمان ويقول في بكائه: صادقٌ في حُبِّهِ مقصِّرٌ في حقِّه»)[30]).
وقال الجنيد: قوام المحبة موافقة الحبيب في جميع الأحوال. وأنشد:
ولو قلتَ: مُتْ مُتُّ سمعًا وطاعةً | وقلتُ لداعي الموتِ أهلًا ومرحبًا(([31] |
5 ـ اتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم:
واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم دليل محبة العبد لله تعالى، فقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[آل عمران: 31].
قال ابن رجب الحنبلي: فجعـل اللهُ علامـةَ الصدق في محبتـه اتباعَ رسولِهِ، فدلَّ على أنَّ المحبة لا تتمُّ بدون الطاعة والموافقة([32]).
وقال ذو النون: علامات المحبِّ لله عزَّ وجلَّ، متابعة حبيب الله صلى الله عليه وسلم، في أخلاقه، وأفعاله، وأوامره، وسننه([33]).
6 ـ دوام ذكر الله تعالى:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّـهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾[الأحزاب: 41].
سُئِل سَمْنون عن المحبة فقال: صفاء الود مع دوام الذكر)[34]).
وقال مالك بن دينار: علامة حب الله دوام ذكره، لأن من أحب شيئا أكثر ذكره([35]).
وسُئِلَ الجنيدُ عن المحبة فقال: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المُحِبّ». أشار بهذا إلى استيلاء ذكر المحبوب، حتى لا يكون الغالب على قلب المحب إلا ذكر صفات المحبوب، والتغافل بالكلية عن صفات نفسه والإحساس بها([36]).
وسئل أبو يزيد عن علامة من يحب الله تعالى، قال: «من يحبُّ اللهَ فهو مشغولٌ بعبادته ساجدًا وراكعًا، فإن عجز عن ذلك استروح إلى ذكر اللسان والثناء، وإن عجز استروح إلى ذكرالقلب والتفكير[37])).
7 ـ رضا العبد عن مولاه في كل ما قدَّر عليه وقضاه:
الرضا ثمـرة من ثمـرات الحب، وسبب لسعادة العبد، يشكـر في السرَّاء فينعم، ويصبر في الضرَّاء فيغنم.
قال أبو البقاء الكَفَويُّ: والمحبةُ إفراطُ الرضا... والرِّضا قِسمان: قِسْمٌ يكونُ لكلِّ مُكَلَّـفٍ، وهـو ما لا بُدَّ منـه في الإيمان، وحقيقتُـه: قَبُـولُ ما يـرِدُ من قِبَلِ اللهِ تعالى، من غيرِ اعتراضٍ على حكمهِ وتقديرِه. وقِسْمٌ لا يكون إلَّا لأربابِ المقامات، وحقيقتُه: ابتهاجُ القلبِ وسرورُه بالمقضي. والرضا فوقَ التوكُّلِ؛ لأنَّهُ المحبةُ في الجُمْلة ([38]).
عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأَمْرِ الْـمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»([39]).
وفي الواقع لا يكون هذا إلَّا بالمحبة. فأَبَانَ لنا هذا الحديثُ، أنَّ المحبةَ هي لُباب الإيمان، فبالحبِّ يصبرُ المؤمنُ ويشكرُ، ويرضى بقضاءِ اللهِ فَيَنالُ رضاه.
قال عبد الواحد بن زيد: ما أحسبُ أنَّ شيئًا من الأعمالِ يتقدَّمُ الصبرَ إلَّا الرضا، ولا أعلمُ درجةً أشرفَ ولا أرفعَ من الرضا، وهو رأسُ المحبة([40]).
8 ـ الشوقُ إلى لقاءِ اللهِ سبحانه:
قلَّما ينفك الشوق عن المحبـة، وما أظن المحبَّ إلا مشتاقًا، قلَّ ذلك منه أو كَثُر.
قـال أبـو عثمان [الحيـري]: الشوقُ هـو المحبـةُ، من أحـبَّ اللهَ اشتاقَ إلى لقائِه([41]).
وقال: مقامُ المحِبِّين شوقُهم إلى محبوبهم، وطَلَبُهُم رضاه، وحِرْصُهُم على خدمته)[42](.
وفي الحديث، عَـنْ عُبَادَةَ بْـنِ الصَّامِتِ، عَـنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَـالَ: «مَـنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ»([43]).
قال ذو النون: الشوقُ أعلى الدرجات، وأعلى المقامات، إذا بلغها العبدُ؛ استبطأ الموتَ شوقًا إلى ربه، وحبًا للقائِه والنظرِ إليه([44]).
وقال أبو عثمان [الحيري] في قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّـهِ لَآتٍ﴾[العنكبوت: 5]([45])، قال: هذه تعزية للمشتاقين، معناه: إني أعلمُ إنَّ اشتياقَكم إليَّ غالبٌ، وإني قد أجَّلْتُ للقائِكم أَجَلًا، وعن قريبٍ يكونُ وصالُكم إلى مَنْ تشتاقون إليه([46]).
* * *
[1])) الاختطاط: مصدر اختط، وخَطَّ الخِطَّةَ واخْتَطَّها: اتَّخَذها لنَفْسِه وأَعْلَمَ عليْها عَلامَةً بالخَطِّ ليُعْلَم أَنَّهُ قَدْ احْتازَها ليَبْنِيَها دارًا. [مرتضى الزَّبيدي،تـاج العروس: (خ ط ط)، (ج1/ ص4820)].
[2])) الإمام القشيري، الرسالة القشيرية: ص536.
[3])) المرجع نفسه والموضع نفسه.
[6])) الإمام القشيري، الرسالة القشيرية: ص535.
[8])) انظر: المرجع نفسه: (ج1/ ص365)، ح406.
[9])) أبو القاسم الجنيد بن محمد،أصله من نهاوند. ومنشؤه بالعراق. وكان فقيهًا على مذهب أبي ثور، وكان يفتي في حلقته بحضرتـه وهـو ابن عشرين سنة. صحب خاله السَّرِيّ السقطي، والحارث المحاسبي، ومحمد بن علي القصاب. مات سنة سبع وتسعين ومائتين. سُئِل الجنيد: من العارف؟ قال: من نطق عن سرِّك وأنت ساكت. وقال الجنيد: الطرق كلها مسدودةٌ على الخلق، إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام، مذهبنا هذا مقيَّد بأصول الكتاب والسنَّة. [الرسالة القشيرية، ص(94 ـ 96)].
[10])) إحياء علوم الدين: كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا: القول في علامات محبة العبد لله تعالى، (ج5/ ص53).
[12])) متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله تعالى، ص1075، ح6169 واللفظ له وصحيح مسلم: كتاب البرَّ والصلة، باب المرء مع من أحب، ص1150، ح6718.
[13])) الإمام القشيري، الرسالة القشيرية: ص (539 ـ 540).
[14])) متفق عليه: صحيح البخاري: كتب الإيمان، باب حَلاَوَةِ الإِيمَانِ، ص6، ح16واللفظ له. وصحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب بَيَانِ خِصَالٍ مَنِ اتَّصَفَ بِهِنَّ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، ص40، ح165.
([15]) صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينا وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولًا؛ فهو مؤمنٌ وإن ارتكب المعاصي الكبائر، ص38، ح151.
[16])) متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب المحاربين، باب إِثْمِ الزُّنَاةِ.. ص1173، ح6810، وصحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله، ص45، ح202، واللفظ له، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
[17])) ابن أبي الورد القرشي أبو عثمان المكي، واسمه عبد الوهاب، وهيب لقب غلب عليه. ثقة، كان من العباد، وكانت لها أحاديـث ومواعظ وزهد. كان وهيب يتكلم والدموع تقطرمن عينيه. وعنه قال: بينا أنا واقف في بطن الوادي، إذا أنا برجل قد أخذ بمنكبي فقال: يا وهيب، خَفِ اللهَ لقدرته عليك، واستح منه لقربه منك. قال: فالتفتُّ فما رأيتُ أحدًا. وعن بشربن الحارث قال: أربعة رفعهم الله بطيب المطعم، وهيبُ بنُ الورد، وإبراهيم بن أدهم، ويوسف بن أسباط وسلم الخواص. وعن وهيب قال: أن استطعتأن لايسبقك إلى الله أحد فافعل. وكانوا يرون له الرؤيا أنه من أهل الجنة، فإذا أخبر بها اشتد بكاؤه وقال: قد خشيت أن يكون هذا من الشيطان. قال: فسمعوه عند الموت يقـول: وَفَيْتَ لي ولمْ أَفِ لكَ. وقال: لمظ العابـدون بحلاوة العبـادة فتجشمـوا لذلك ركوب البحار والتسيار في المفاوز، والله لهي أحلى عندي من العسل. يعني العبادة.مات سنة ثلاث وخمسين ومئة روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. [تهذيب الكمال للمزي، (ج31 / ص 169 ـ 175)، ترجمة رقم6771].
[18])) فتح الباري شرح صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، (ج1/ ص51)، ح16.
[19])) إحياء علـوم الدين: كتاب المحبـة والشوق والأنس والـرضا، بيـان الأسباب المقويـة لحب الله تعالى، (ج5/ ص27 ـ 28(.
[20])) أبو الفيض ذو النون المصري واسمه: ثوبان بن إبراهيم، وقيل: الفيض بن إبراهيم، وأبوه كان نوبيًا. تُوفي سنة خمس وأربعين ومائتين. أوحد وقته علمًا، وورعًا، وحالًا، وأدبًا. سئل عن السَّفلـة فقال: من لا يعـرفُ الطريـق إلى الله ولا يتعرّفُـه. وسُئِل عن التوبـة فقال: توبـة العوام تكون من الذنوب، وتوبـة الخواصِّ تكـون من الغفلـة. [الرسالة القشيرية: ص(54 ـ 55)].
[21])) الدّيَة: مال يعطى لولي المقتول مقابل النفس، أو مال يعطى للمصاب، مقابل إصابة أو تلف عضو من الجسم. [انظر: التعريفات للجرجاني: باب الدال، ص142].
[22])) البيهقي، شعب الإيمان: معاني المحبة، (ج1/ ص372)، ح431.
[23])) أبـو نعيم الأصفهاني، حليـة الأولياء: أبـو سليمان الداراني، (ج9/ ص274). وانظر: محبة الله عز وجل، لابن قيِّم الجوزية، ص347.
[24])) الزهد في الشيء: قلة الرغبة فيه، وإن شئت قلت: الرغبة عنه. وفي اصطلاح أهل الحقيقة: بغض الدنيا والإعراض عنها، وقيل: ترك راحة الدنيا لراحة الآخرة. وقيل: أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك. [التوقيف على مهمات التعاريف، محمد عبد الرؤوف المناوي، باب الزاي، فصل الهاء، (ج 1/ ص390)].
[25])) ابن الجوزي، صفة الصفوة، مصعب بن عمير بن هاشم، ( ج1/ ص391 ـ 392).
[26])) شعب الإيمان، العاشر من شعب الإيمان: معاني المحبة، (ج1/ ص369)، ح416.
[27])) المرجع نفسه، (ج1/ ص381)، ح469.
[29])) أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور الواعظ الحيري، ولد بالري ونشأ بها صحب يحيى بن معاذ الرازي، وشاه الكرماني... يقال: إنه كان مستجاب الدعوة، وكان كثيرًا ما ينشد في حال وعظه:
وغيرُ تقيٍّ يأمرُ الناسَ بالتقى | طبيبٌ يداوي والطبيبُ مريضُ |
توفي بنيسابور سنة ثمان وتسعين ومائتين، رحمه الله تعالى. انظر: [وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان (ج2/ ص369 ـ 370). والرسالة القشيرية ص97].
[30])) شعب الإيمان، العاشر من شعب الإيمان: معاني المحبة، (ج1/ ص387)، ح496.
[32])) جامع العلوم والحكم، الحديث السادس، (ج1/ ص212).
[33])) الإمام القشيري، الرسالة القشيرية: ص55.
[36])) الإمام القشيري، الرسالة القشيرية، ص538.
[37])) شعب الإيمان، العاشر من شعب الإيمان: معاني المحبة، (ج1/ ص369)، ح417.
[38])) الكليات: (ج1/ ص756).
[39])) صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب الْـمُؤْمِنُ أَمْرُهُ كُلُّهُ خَيْرٌ، ص1295، ح7500.
[40])) شعب الإيمان، العاشر من شعب الإيمان: معاني المحبة، (ج1/ ص382)، ح475.
[41])) البيهقي، شعب الإيمان، العاشر من شعب الإيمان، معاني المحبة، (ج1/ ص379)، ح459.
[42])) المرجع نفسه والموضع نفسه.
[43])) متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ الله أَحَبَّ الله لِقَاءَهُ»، ص1128، ح6507. وصحيـح مسلـم: كتـاب الذكـر والدعاء، بـاب «مَـنْ أَحَبَّ لِقَاءَ الله أَحَبَّ الله لِقَاءَه ..»، ص1168، ح6820 واللفظ لهما.
[44])) شعب الإيمان للبيهقـي، العاشر من شعـب الإيمان: معانـي المحبـة، (ج1/ ص379)، ح 458.
[45])) والآية كاملة: ﴿ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّـهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّـهِ لَآتٍ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾[العنكبوت: 5].
[46])) البيهقي، شعب الإيمان: العاشر من شعب الإيمان، معاني المحبة، (ج1/ ص379)، ح459.