حب الله تعالى لعباده
حب الله تعالى لعباده
معناه، مظاهره، الحب الخالد
كتب الدكتور غازي محمود الشمري حول هذا الموضوع في كتابه ( الحب في السنة وأثره في حياة الأمة) والصادر عن دار المقتبس سنة (1439هـ - 2018م)
فقال:
أولًا ـ معنى حُبِّ اللهِ تعالى لعبادِه:
عرفنا فيما سبق أن أصل المحبة الميل، كميل القلب، وميل الطبع، والميل إلى الشيء، والميل إلى المحبوب، وهذا جائز بحـق الخلـق؛ لأنـه من صفاتهم. أما الله جلَّ جلاله فلا يجوز بحقه ذلك، فهو مُنزَّهٌ عن صفات الخلق، قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾[الشورى: 11].
قال الإمام القشيري ـ بعد إيراده جملةً من معاني محبة الله تعالى ـ: «فأما ماعدا هذه الجملة مما هو المعقول من صفة محبة الخلق، كالميل إلى الشيء، والاستئناس بالشيء، وكحالة يجدها المحب مع محبوبه من المخلوقين؛ فالقديم سبحانه يتعالى عن ذلك»)[1](.
وقال الإمام النووي: «وَأَصْلُ المحَبَّة فِي حَقِّ الْعِبَاد مَيْلُ الْقَلْب، وَالله تَعَالَى مُنَزَّه عَنْ ذَلِكَ»)[2](.
فما هي إذًا محبة الله تعالى لعباده؟
قوم قالوا: محبة الله سبحانه للعبد مدحه له، وثناؤه عليه بالجميل)[3](.
وقال قوم: محبته للعبد من صفات فعله، فهو إحسان مخصوص يلقى اللهُ العبدَ به، وحالة مخصوصة يُرَقِّيهِ إليها([4](.
وقال الْقَاضِي عياض: «فمَحَبَّتُةُ لِعَبْدِه تَمْكِينُـه مِنْ سَعَادَتِـهِ، وَعِصْمَتُه، وَتَوْفِيقُـه، وتَهْيِئَـةُ أَسْبابِ القُـرْبِ، وَإِفَاضَةُ رَحْمَتـهِ عَلَيْـهِ. وقَصْوَاْهَا ـ غايتها ـ كَشْفُ الْحُجُبِ عَنْ قَلْبه حَتَّى يَرَاهُ بقَلْبِهِ، ويَنْظُرُ إِليْهِ بِبَصِيرَتِهِ، فَيَكُون كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيث: «فَإِذَا أَحْبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَه الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ([5])»([6]).
وقال النووي أيضًا: «قَالَ الْعُلَمَاء: محبَّةُ اللهِ عَبْدَهُ هِيَ رَحْمَتُه لَهُ، وَرِضَاهُ عَنْهُ، وَإِرَادَتُه لَهُ الْخَيْر، وَأَنْ يَفْعَلَ بِهِ فِعْلَ الْـمُحِبّ مِنَ الْخَيْر»([7]).
وهذه الأقـوال التي ذهب إليهـا العلماء رحمهـم الله تعالى، هـي من قَبِيل التأويل والتفسير، مشيًا على مذهب الخلف.
ولقد أخبر الله سبحانه عن هذا الحب، في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ﴾[آل عمران: 31]، وقوله سبحانه: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾[المائدة: 54]، وقوله تعالى: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي﴾ [طه: 39]. وقوله جل شأنه: ﴿ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[آل عمران: 134]، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّـهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾[آل عمران: 146]. وغيرِها من الآيات، نجد أنها تخبر عن محبة الله تعالى لعباده، وعن محبتهم له، فهو يحبهم، وهم يحبونه سبحانه، مع التنزيه عن الشبيه والنظير، كما هو مذهب السلف، دون تأويل وتفسير.
وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو علي الدقاق في تعريفه للمحبة فقال: «المحبة حالة شريفة، شهد الحقُّ سبحانه بها للعبد، وأخبر عن محبته للعبد، فالحق سبحانه يوصف بأنه يحب العبد، والعبدُ يوصف بأنه يحب الحق سبحانه»([8](.
وإلى هذا المذهب أَمِيْلُ، مع التنزيه عن الشبيه والنظير.
فـإذا تقـرر هذا؛ فإن أقـوال العلماء السابقـة فيما ذهبـوا إليـه، مـن تأويلِ حبِّ الله تعالى لعباده وتفسيره، ما هي إلا مظاهِرُ وآثار وثمرات لهذا الحب.
ثانيًا ـ مظاهرُ حُبِّ اللهِ تعالى لعباده:
لو نظرنا في القرآن الكريم لوجدنا شواهد حبه تعالى لعباده أكثر من أن تحصى، فكل نعمة وفضل له ورحمة هي مظهر من مظاهر حبه، قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾[النور: 21]، وقال الله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾[يونس: 58].
ثم إن هناك آيات تَشَمُّ منها رائحة الحب، مثل قوله تعالى: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾[الحجـر: 49]، وقولـه تعالـى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾[الزمر: 53].
فقد فتح المولى جل جلاله لعباده بابًا عريضًا من الطمع في رحمته ومغفرته؛ يدخله الشاردون عن صراطه؛ بل الغارقون في معاصيه؛ حال توبتهم، ولولا محبة الله تعالى لعباده؛ لما فتح لهم هذا الباب على مصراعيه، وقد أضاف العباد إلى نفسه إضافة تشريف بقوله سبحانه: ﴿ يَا عِبَادِيَ ﴾.
لذلك منهم من تاه حبًا، وانتشى طربًا، وفاخر النجوم شرفًا بهذا الخطاب الربَّاني، كالقاضي عياض، عندما قال:
وممَّـا زادني شرفًا وتيهًا | وكِدْتُ بأخمصـي أطأُ الثُّريَّا |
دخولي تحت قولك يا عبادي | وأن صيَّرتَ أحمدَ لي نبيًّا |
وإنك لتجد آية أخرى، تفوح منها رائحة الحب أيضًا، ممزوجة بالعتاب، عتاب الباري المحب لعباده المؤمنين، الذين شُغِلَتْ قلوبهم عنه سبحانه، وهي قوله جلَّ شأنه: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّـهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾[الحديد: 16] !
أما مظاهر حبه تعالى لعبادها لمؤمنين في السنة الشريفة فكثيرة، وهي منِ النعم التي أسبغها المولى سبحانه وتعالى على عباده الصالحين في الدنيا وفيالآخرة.
1 ـ أما في الدنيا، فمنها:
أ ـ محبة أهل السماء وأهل الأرض لمن أحبه الله تعالى:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ. قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ الله يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ. وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضْهُ. قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ الله يُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضُوهُ. قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ»([9]).
ومثال ذلك حديث سهيل بن أبي صالح، في صحيح مسلم، حيث قال: «كُنَّا بعَرَفَةَ، فمرَّ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وهو على الموْسِمِ، فقام الناسُ ينظرون إِليه، فقلتُ لأبي: يا أبتِ، إِني أرى اللهَ يُحِبُّ عمرَ بنَ عبد العزيز، قال: وما ذاك؟ قلت: لِمَا لَه من الحبِّ في قلوب الناس. قال: فأُنبِّئُكَ أني سمعتُ أبا هريرةَ يُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذكر الحديث»)[10](. زاد الترمذي: فذاك قول الله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـٰنُ وُدًّا﴾[مريم: 96])[11](.
فمن أحبَّه اللهُ تعالى؛ شاع حبُّه في السماء والأرض، كهذا الخليفة العادل رحمه الله تعالى، فكانت محبة الناس أمارةً على محبة الله تعالى له.
ب ـ توبة الله تعالى على عباده ومضاعفة حسناتهم:
ومن أمارات حبه تعالى لعباده؛ أنه يقبل توبتهم ويفرح بها، ويعينهم عليها، ويضاعف لهم حسناتهم:
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُـهُ هَرْوَلَـةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَـةً لاَ يُشْرِكُ بِي شَيْئًا؛ لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً»([12]).
قَوْله: «وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْت إِلَيْهِ ذِرَاعًا..»:
قال الإمام النووي رحمه اللهُ تعالى: هَذَا الْحَدِيث مِنْ أَحَادِيث الصِّفَات، وَيَسْتَحِيل إِرَادَة ظَاهِره... وَمَعْنَاهُ: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِطَاعَتِي، تَقَرَّبْت إِلَيْهِ بِرَحْمَتِي وَالتَّوْفِيق وَالْإِعَانَة، وَإِنْ زَادَ زِدْت، فَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي وَأَسْرَعَ فِي طَاعَتِي، أَتَيْته هَرْوَلَة، أَيْ صَبَبْتُ عَلَيْهِ الرَّحْمَة، وَسَبَقْته بِهَا، وَلَمْ أُحْوِجْه إِلَى المَشْي الْكَثِير فِي الْوُصُول إِلَى المَقْصُود. وَالمُرَاد أَنَّ جَزَاءَهُ يَكُون تَضْعِيفُه عَلَى حَسَب تَقَرُّبه([13]).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَلهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا»([14]).
قال الإمام النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: فَرَحُ اللهِ تَعَالَى هُوَ رِضَاهُ، وَقَالَ الْـمَازِرِيُّ: الْفَرَح يَنْقَسِم عَلَى وُجُوه مِنْهَا: السُّرُور، وَالسُّرُور يُقَارِبهُ الرِّضَا بِالْـمَسْرُورِ بِهِ، قَالَ: فَالْـمُرَاد هُنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَرْضَى تَوْبَة عَبْده أَشَدَّ مِمَّا يَرْضَى وَاجِد ضَالَّته بِالْفَلَاةِ، فَعَبَّرَ عَنْ الرِّضَا بِالْفَرَحِ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الرِّضَا فِي نَفْس السَّامِع، وَمُبَالَغَة فِي تَقْرِيره([15]).
ج ـ سعة رحمة الله تعالى لعباده المؤمنين:
ورحمـة الله تعالـى مـن آثـار محبتـه، قـال تعالـى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾[الأعراف: 156].
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِى كِتَابِهِ، فَهْوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي»([16]).
وفي رواية: «سَبَقَتْ غَضَبِي»([17]).
وعنه رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»([18]).
وأما التسع والتسعون رحمة، فقد أخَّرها اللهُ تعالى لعباده يوم القيامة، كما في روايةٍ لمسلم: «إِن لله مئةَ رحمة، أَنزل منها رحمةً واحدةً بين الجنِّ والإِنس والبهائمِ والهوامِّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تَعْطِفُ الوَحْشُ على ولدها، وَأَخَّرَ اللهُ تسعًا وتسعين رحمةً، يرحم بها عبادَهُ يومَ القيامةِ» ([19]).
وقال جَابِرٌرضي الله عنه: إنَّا لَمَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، إذْجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِفَرْخٍ طَائِرٍ، وَرَسُول ُاللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ إلَيْهِ، فَأَقْبَ لَأَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا حَتّ ىطَرَحَ نَفْسَهُ فِي يَدَيْ الّذِي أَخَذَ فَرْخَهُ، فَرَأَيْت النّاسَ عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُول ُ صلى الله عليه وسلم: أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا الطّائِرِ؟! أَخَذْتُمْ فَرْخَهُ فَطَرَحَ نَفْسَهُ رَحْمَةً لِفَرْخِهِ، وَاَللهِ لَرَبّكُمْ أَرْحَمُ بِكُمْ مِنْ هَذَا الطّائِرِ بِفَرْخِهِ!([20]).
د ـ حماية الله تعالى عبده من الانغماس في الدنيا:
عن قتادة بـن النعمان رضي الله عنـه، أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَحَبَّ اللهُ عبدًا حَماهُ الدُّنيا، كما يظَلُّ أحدُكم يَحمي سَقِيمَهُ الماءَ»)[21](.
والحماية هنا ليس معناها أن يُبقيَه فقيرًا، إنما يحفظ قلبه من حب الدنيا والتعلق بها، غنيًا كان أو فقيرًا، فيُبقي قلبه مشغولًا بحبه تعالى، والله أعلم. فقد كان كثيرٌ من أكابر الصحابة رضي الله عنهم أصحاب أموال، وأصحاب إنفاق في سبيله تعالى بآن واحد، وكانت الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، وزهدهم فيها معلوم، وهذا لا يتعارض مع معنى الحديث، فوجود المال لإنفاقه فـي الحـق أمرٌ يُغبَط صاحبه عليه.
فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ، فَهْوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا»([22]).
ﻫ ـ أن يعطي اللهُ تعالى عبدَه الكرمَ والشفقةَ والتواضعَ:
وهو الكرم في سبيل الله تعالى، والشفقة على المسلمين، والتواضع لهم.
سُئِلَ أبـو يزيدٍ عن علامـةِ مَنْ يحبُّـهُ اللهُ؟ فقال: فأمَّا مـن يحبُّـه اللهُ تعالـى أعطاه سخاوةً كسخاوةِ السحاب، وشفقـةً كشفقـةِ الشمس، وتواضعًا كتواضعِ الأرض[23])).
2 ـ وأما في الآخرة، فمن مظاهر حبه تعالى لعباده:
أ ـ ما أعده سبحانه لهم في الجنة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنـه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تعالى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾[السجدة: 17]»([24]).
ب ـ رضوانه تعالى على عباده بعد إدخالهم الجنة:
وإحلالُ اللهِ تعالى رضوانَـه على عباده الصالحين هو من أجلّ ما يطمح إليه العبيد، وأعلى من نعيم الجنة، وهو فضلٌ منه تعالى ومِنَّة، ودليل على حب من الله لا ينقضي ولا يبِيْد. قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّـهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّـهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾[التوبة: 72].
قوله: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّـهِ أَكْبَرُ ﴾ أي رضى اللهِ تعالى عنهم أكبرُ وأجلُّ وأعظمُ مما هم فيه من النعيم([25]).
وعَنْ أَبِـي سَعِيـدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنـه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبِّ، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟! فَيَقُولُ: أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا»([26]).
ج ـ كشفه عزَّ وجلَّ الحجابَ لعباده المؤمنين في الجنة للنظر إليه:
وهو فوق نعمة الرضى عن العبيد، ونعيم فوق نعيم، أحبُّ شيء أعطاه لعباده، ما عليه من مزيد !
قال الله تعالى: ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ﴾[يونس: 26].
والحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجهه الكريم ([27]).
عَنْ صُهَيْبٍ رضي اللهُ عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟! قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ» ([28]).
وكل إنعام على العبد، هو مظهر من مظاهر حب الله تعالى لـه، قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّـهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾[النحل: 53].
ونِعَمُ اللهِ تعالى على عباده تترى، لا تُعَدُّ ولا تُحصى، قال سبحانه: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا﴾[إبراهيم: 34].
ثالثًا ـ الحب الخالد:
الحب يفنى بفناء مُتَعَلَّقِه، ويَخْلُد بخلوده. واللهُ سبحانه وتعالى حقٌ باقٍ، واجبُ الوجود، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴿٢٦﴾ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾[الرحمـن: 26 ـ 27]، وقـال تعالــى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾[الـقصص: 88]، فحبُّ الله تعالى حبُّ لا يعرف الأفول ولا الفناء، سرمديٌّ لا يموت؛ لأنه متعلقٌ بـ ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾[البقرة: 255].
هذا هو الحبُّ الخالد، فطوبى لمن كان له في هذا الحبِّ نصيب.
* * *
[1])) الرسالة القشيرية: ص536.
[2])) شرح صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الحب في الله تعالى، (ج16/ ص124).
[3])) الإمام القشيري، الرسالة القشيرية: ص536.
[4])) المرجع السابق نفسه والموضع نفسه.
[5])) قطعة من حديث قدسي، رواه البخاري في الصحيح: كتاب الرقائق، باب التواضع، ص1127، ح6502. والحديـث بتمامـه: عَـنْ أَبِـي هُرَيْرَةَ قَـالَ: قَـالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْـمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْـمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ».
[6])) الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم: فصل في تفضيله بالمحبة والخلة، ص(266 ـ 267).
[7])) شرح صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الحب في الله تعالى، (ج16/ ص124).
[8])) الإمام القشيري، الرسالة القشيرية: ص535.
[9])) متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم، ص536، ح3209. وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة، باب إذا أحب الله عبدًا أمر جبرئيل فأحبه وأحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض، واللفظ له.ص1148، ح6705.
[10])) كتاب البر والصلة، باب إذا أحب الله عبدًا أمر جبرئيل فأحَبَّه وأحَبَّه أهلُ السماء ثم يوضع له القبول في الأرض، ص(1148 ـ 1149)، ح6707.
[11])) الجامع: أبواب تفسير القرآن، بابٌ من سورة مريم، ص(715، 714)، ح3161. وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
[12])) صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب فَضْلِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى الله تَعَالَى، ص1170، ح6833.
[13])) شرح صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبـة والاستغفار، بـاب الحـث علـى ذكر الله تعالى، ص(ج 17/ ص3 ـ 4).
[14])) متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب قوْلِ الله تَعَالَى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّـهُ نَفْسَهُۗ وَإِلَى اللَّـهِ الْمَصِيرُ﴾[آل عمران: 28]، ص(1273 ـ 1274)، ح7405. وصحيح مسلم: كتاب التوبـة، باب في الْحَضِّ عَلـَى التَّوْبَـةِ وَالْفَرَحِ بِهَا، ص1189، ح6953. واللفظ له.
[15])) شرح صحيح مسلم: كتاب التوبة، بَاب الْحَضّ عَلَى التَّوْبَة وَالْفَرَح بِهَا، (ج 17/ ص60).
[16])) متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق، باب مَا جَاءَ فِي قَـوْلِ الله تَعَالَى: ﴿الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾[الروم: 27]، ص532، ح3194. واللفظ لـه. وصحيح مسلم: كتـاب التـوبـة، بـاب فـِي سَعَـةِ رَحْمَـةِ الله تَعَالَى وَأَنَّهَـا سَبَقَـتْ غَـضَبَـهُ، ص1192، ح6971.
[17])) صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب: ﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾[هود: 7]، ﴿ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾[التوبة: 129]، ص1277، ح7422.
([18]) متفـق عليـه: صحيـح البخـاري: كتـاب الأدب، بـاب جَعَـلَ اللهُ الرَّحْمَـةَ مِائَـةَ جُـزْءٍ، ص1050، ح6000، واللفظ لـه. وصحيـح مسلـم: كتاب التوبـة، بـاب فِـي سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا سَبَقَتْ غَضَبَهُ، ص1193، ح6972.
([19]) صحيح مسلم: كتـاب التوبـة، بـاب فِي سَعَـةِ رَحْمَـةِ اللهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا سَبَقَـتْ غَضَبَهُ، ص1193، ح6974.
[20])) مغازي الواقدي: غَزْوَةُ ذَاتِ الرّقَاعِ، ص 398.
[21])) جامع الترمذي: أبواب الطب، باب مَا جَاءَ فِى الْحِمْيَةِ، ص469، ح2036وقال: حسن غريب. ورواه الحاكم في مستدركه: كتاب الطب، (ج4/ ص230)، ح7464، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
[22])) متفق عليه، صحيح البخاري: كتاب العلم، باب الاِغْتِبَاطِ فِى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، ص17، ح73. وصحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب فَضْلِ مَنْ يَقُومُ بِالْقُرْآنِ وَيُعَلِّمُهُ وَفَضْلِ مَنْ تَعَلَّمَ حِكْمَةً مِنْ فِقْهٍ أَوْغَيْرِهِ فَعَمِلَ بِهَا وَعَلَّمَهَا، ص328، ح1896.
[24])) متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق، باب مَا جَاءَ فِى صِفَةِ الجنَّة وأنها مخلوقة ص541، ح3244. واللفظ له، وصحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب.، ص1228، ح7132.
([25]) تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم): سورة التوبة، (ج4/ ص177)، وانظر: تفسير البغوي (معالم التنزيل للبغوي): سورة التوبة، (ج4/ ص73).