جاري التحميل

حب النبي أصحابه رضي الله عنهم

الموضوعات

حبُّ النبي صلى الله عليه وسلم  أصحابه رضي الله تعالى عنهم

كتب الدكتور غازي محمود الشمري حول هذا الموضوع في كتابه ( الحب في السنة وأثره في حياة الأمة) والصادر عن دار المقتبس سنة (1439هـ - 2018م) 

    فقال:

لقـد أحبَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابـه الذيـن اختارهم الله سبحانـه لصُحْبَتِـه، ليكونوا عونًا له في تبليغ دين الله جل جلاله.

وقد جاءت السنة المطهرة بأحاديثَ كثيرةٍ بحق الصحب الكرام، بخصوص محبته صلى الله عليه وسلم لهم. فمنها ما يعمُّهم جميعًا، ومنها ما يخصُّ فئة منهم، وأخرى تعني أفرادًا بعينهـم. وهذه الأحاديث تـارةً تمدحُهم، وتـارةً تبيِّنُ فضلَهـم، وأخرى تبشرهم بالجنان. وهذا أيضًا من مظاهر محبة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لهم. وهناك أحاديث أخرى قد صرَّح فيها صلى الله عليه وسلم بحبه لهم.

ولكلٍّ من الصحب الكرام رضي الله عنهم موضعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنزلته ومحبته؛ إلا أنهم ليسوا في المنزلة والأجر والقرب والمحبة سواء. فبعضهم في ذلك فوق بعض، وذلك يرجع إلى أسباب كثيرة، كالسبق في الإسلام، وتحمُّل الشدائد والعذاب في مكة قبل الهجرة، والهجرة إلى الحبشة، والهجرة إلى المدينة، والإنفاق على الإسلام وأهلـه، والدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخدمـة الدين، وغير ذلك، هذا بالنسبة للمهاجرين. أما بالنسبة للأنصار، فيتفاوتون في المنزلة أيضًا تبعًا للمواقف المهمة في بداية الإسلام، كحضور بيعة العقبة الأولى، والثانية، وإيواء إخوانهم من المهاجرين، ونصرتهم للدين.

ثم يشترك بعد ذلك المهاجرونَ والأنصارُ على السواء، في إحرازِ شرفِ المشاركةِ في المواقفِ والمناسباتِ والغزواتِ، كحضور غزوةِ بدرٍ الكبرى، والبلاءِ والشجاعةِ في غزوةِ أُحدٍ وغيرِها، وملازمةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وافتدائِه، ومن كان من أهل بيعة الرضوان تحت الشجرة، ومن كان من العشرة المبشرين بالجنة، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة، وأفراد من الصحابة، وفي كلٍّ خير، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

ولمعرفة ذلك مفصَّلًا؛ أُورِدُ من الأحاديث ما يظهر حُبَّه صلى الله عليه وسلم لأصحابة عامة، ثم للخاصة منهم، ثم لخاصة الخاصة:

أولًا ـ حب النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عمومًا:

النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن أصحابه بأنهم خير الناس، وأنهم خير أمته، فلا شك أنهم أحبُّ أمته إليه.

عَنْ عَبْدِ الله بن مسعود رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمّ َالَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ، وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ»([1]).

وعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ لُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ـ قَـالَ عِمْـرَانُ: فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِـهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ـ «ثُـمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَـوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُـونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ»([2]).

فوصَفَ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنهم خيرُ الأمـة، بدليل أنـه يأتـي أنـاس من بعدهم وبعد أتباعهم، ليسوا على شاكلتهم في الدين من حيث الشهادة، والأمانة، والوفاء، ولاعلى شاكلتهم في أشكالهم؛ لأنه يظهر فيهم السِّمَن، وهودليل الراحة والكسل، والتوسع في الطعام والشراب، وعدم القيام بمسؤوليات الدين، وواجب الأمة، وترك الجهاد، وغير ذلك.

ثمَّ بيَّن عليه الصلاة والسلام فضائل أصحابه بأنَّ بَقَاءَهم أَمَانٌ لأُمّتةِ، كما أن بَقَاءَه أَمَانٌ لأَصْحَابِهِ.

عَنْ أَبِي بُرْدَةَ [عامر بن عبدالله بن قيس]عَنْ أَبِيهِ [أبي موسى الأشعري] قَالَ: صَلَّيْنَا الْـمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ. قَالَ: فَجَلَسْنَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «مَازِلْتُمْ هَهُنَا؟». قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَلَّيْنَا مَعَكَ الْـمَغْرِبَ، ثُمَّ قُلْنَا نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ. قَالَ: «أَحْسَنْتُمْ أَوْ أَصَبْتُمْ». قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ـ وَكَانَ كَثِيرًا مِمّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ـ فَقَالَ: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ. وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابي، فَإِذَا ذَهَبْـتُ أَتَـى أَصْحَابـي مَايُـوعَدُونَ وَأَصْحَابـي أَمَنَـةٌ لأُمَّتي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»([3]).

معنـى قولـه صلى الله عليه وسلم: «النُّجُـوم أَمَنَـةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَـتْ النُّجُـومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ»:

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: «قَالَ الْعُلَمَاء: الْأَمَنَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالْمِيم، وَالْأَمْن وَالْأَمَان بِمَعْنًى. وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ النُّجُوم مَادَامَتْ بَاقِيَة فَالسَّمَاء بَاقِيَة، فَإِذَا اِنْكَدَرَتِ النُّجُوم وَتَنَاثَرَتْ فِي الْقِيَامَة وَهَنَتِ السَّمَاء، فَانْفَطَرَتْ وَانْشَقَّتْ وَذَهَبَتْ»)[4]).

وَفي قَوْله صلى الله عليه وسلم: «وَأَنَا أَمَنَة لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ»، قال: «أَيْ مِنَ الْفِتَن وَالْحُرُوب، وَارْتِدَادِ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْأَعْرَاب، وَاخْتِلَاف الْقُلُوب، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا أَنْذَرَ بِهِ صَرِيحًا، وَقَدْ وَقَعَ كُلّ ذَلِكَ»([5]).

وفـي قَوْلـه صلى الله عليه وسلم: «وَأَصْحَابِي أَمَنَـة لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَـبَ أَصْحَابِي أَتَـى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ». قال النووي أيضًا: «مَعْنَاهُ مِنْ ظُهُور الْبِدَع، وَالْحَوَادِث فِي الدِّين وَالْفِتَن فِيهِ، وَطُلُوع قَـرْن الشَّيْطَان، وَظُهُـور الرُّوم وَغَيْرهمْ عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَاك الْـمَدِينَة وَمَكَّة، وَغَيْر ذَلِكَ. وَهَذِهِ كُلّهَا مِنْ مُعْجِزَاته صلى الله عليه وسلم»([6]).

كما بيَّن صلى الله عليه وسلم، أن الناس لا يزالون بخير ما دام فيهم أصحابه الكرام، أو من رآى أصحابه وصاحبهم.

عن واثلةَ بنِ الأسْقَعِ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزالون بخيرٍمادامَ فيكم مَنْ رآني وصاحبني، واللهِ لا تزالون بخير مادام فيكم من رأى من رآني، وصاحب من صاحبني»)[7](.

ويُنصرالناس في الجهاد، وتُفتح البلاد وقلوب العباد؛ ما دام فيهم مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ، أو مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُونَ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيُفْتَحُ عَلَيْهِـمْ. ثُمَّ يَغْـزُونَ، فَيُقَالُ لَهُـمْ: هَـلْ فِيكُمْ مَنْ صَحِـبَ مَـنْ صَحِـبَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ»([8]).

أقـول: ويُنصـر المسلمون اليـوم أيضًا، ويُفتح لهم كما فُتح علـى الصحابة وأتباعهم من قبل؛ إذا اقتدوا بهم وساروا على دربهم؛ لأنهم مدارسُ مُثُلٍ، تحمل قِيمًا تصلح لكل زمان ومكان. وهم كما قال الشاعر:

جمالَ ذي الأرضِ كانوا في الحياةِ وهُمْ

بعدَ الممـَاتِ جمـالُ الكُتْبِ والسِّـيَرِ

ويوصي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فإن يكُ أحدٌ من الناسِ، مَهْمَا قدَّم من الخير في خِدْمة الإِسلامِ وأهلِه، ولو كان أمثالَ الجبال، فإنه لا يلحقُ بهم، بل ولا يبلغُ القليل منهم.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَيْءٌ، فَسَبَّهُ خَالِدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَتَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْأَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا؛ مَا أَدْرَكَ مُدَّ([9])أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ([10])»([11]).

وهذا الفضل في المنزلة بين الصحابة أنفسهم، فكيف بمن كان دونهم، وبمن جاء بعدهم من سائر الناس؟ !

قال ابن حجر: «أَيْ الْـمُدّ مِنْ كُلّ شَيْء»([12]).

أي لايلزم أن يكون مُدُّ الصحابي الذي أنفقه ذهبًا؛ بل يمكن أن يكون من طعام، كتمرٍ، أو بُرِّ، أو زبيب، أو غير ذلك مما كان ينفقه الصحابة في أيَّامهم، مقابل إنفاق جبل من ذهب، ومع ذلك يَرْجَحُ مُدُّهم، بل نِصْفَهُ على الجبل!

قال الإمام النووي: «وَمَعْنَاهُ: لَوْ أَنْفَقَ أَحَدكُمْ مِثْل أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا بَلَغَ ثَوَابُه فِي ذَلِكَ ثَوَابَ نَفَقَةِ أَحَدِ أَصْحَابِي مُدًّا، وَلَا نِصْف مُدّ» ([13]).

وقال: «قَالَ الْقَاضِي:... وَسَبَب تَفْضِيل نَفَقَتهمْ أَنَّهَا كَانَتْ فِي وَقْت الضَّرُورَة وَضِيق الْحَال، بِخِلَافِ غَيْرهمْ، وَلِأَنَّ إِنْفَاقهمْ كَانَ فِي نُصْرَته صَلَّى اللهُ عَلَيْه ِوَسَلَّمَ وَحِمَايَته، وَذَلِكَ مَعْدُوم بَعْده، وَكَذَا جِهَادهمْ وَسَائِر طَاعَتهمْ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّـهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾[الحديد: 10]، هَذَا كُلّه مَعَ مَاكَانَ فِي أَنْفُسهمْ مِنْ الشَّفَقَة، وَالتَّوَدُّد، وَالْخُشُوع، وَالتَّوَاضُع، وَالْإِيثَار، وَالْجِهَاد فِي اللهِ حَقَّ جِهَاده، وَفَضِيلَة الصُّحْبَة، وَلَوْ لَحْظَة لَايُوَازِيهَا عَمَل، وَلَاتُنَال دَرَجَتُها بِشَيْءٍ، وَالْفَضَائِل لَاتُؤْخَذ بِقِيَاسٍ، ذَلِكَ فَضْل اللهِ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء» ([14]).

ثانيًا ـ حبُّ النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله تعالى عنهم:

إنَّ نسيج المحبة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأنصار رضي الله تعالى عنهم؛ بدأت تظهر خيوطه قويةً في بيعة العقبة الثانية، في السنة الثالثة عشرة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، عندما التقاهم مع عمِّه العباسِ ـ قبلَ إسلامه ـ فبايعهم صلى الله عليه وسلم وبايعوه، أخذ عليهم عَهْدًا بنصرته وحمايته لتبليغ دين الله تعالى، فاستعدوا لذلك أيَّما استعداد، وأخذوا عليه ألَّا يرجع إلى قومه ويدعهم، بعد أن يظهره الله تعالى، فطمأنهم على ذلك، نتبين هذا بالتفصيل في حديث طويل، يرويه أحد الأنصار، هو كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَبَايَعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا، حيث قال: خرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَلَّيْنَا وَفَقِهْنَا. وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا... فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ... فَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الْحَجِّ، وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَعَدَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَنَا عَبْدُ الله بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرٍ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا، وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَـا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا، فَكَلَّمْنَاهُ وَقُلْنَا لَـهُ: يا أَبَـا جَابِـرٍ، إِنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا. ثُمَّ دَعَوْتُهُ إِلَى الإِسْلاَمِ وَأَخْبَرْتُهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسَلَمَ، وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبًا. قَالَ: فَنِمْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا، حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ؛ خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمِيعَادِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِينَ تَسَلُّـلَ الْقَطَا، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِمْ، نَسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ عُمَارَةَ، إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْـرِو بْـنِ عَدِيِّ بْـنِ ثَابِـتٍ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلِمَـةَ، وَهِيَ أُمُّ مَنِيعٍ. قَالَ: فَاجْتَمَعْنَا بِالشِّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْـمُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ وَيَتَوَثَّقَ لَهُ. فَلَمَّا جَلَسْنَا، كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْـمُطَّلِبِ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ فَقَالَ: يا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ ـ قَالَ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ مِمَّا يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ الْخَزْرَجَ أَوْسَهَا وَخَزْرَجَهَا ـ إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ. وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيهِ، وَهُو فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ. قَالَ فَقُلْنَا: قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ الله، فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ. قَالَ: فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَلاَ وَدَعَا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَغَّبَ فِي الإِسْلاَمِ قَالَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ». قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا([15])، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ، وَأَهْلُ الْحَلْقَـةِ([16])، وَرِثْنَاهَا كَابِـرًا عَنْ كَابِـرٍ. قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ ـ وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ـ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالًا وَإِنَّا قَاطِعُوهَا ـ يَعْنِي الْعُهُودَ ـ فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ الله؛ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: «بَلِ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ([17])، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ». وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ». فَأَخْرَجُوا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، مِنْهُمْ تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَثَلاَثَةٌ مِنَ الأَوْسِ... إنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، ثُمَّ تَتَابَعَ الْقَوْمُ... ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ارْفَعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ». قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ: والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنى غَدًا بِأَسْيَافِنَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لمْ أُومَرْ بِذَلِكَ»([18]).

فقدحمل هذا الحديث في طيَّاته الكثير من المواقف المشرِّفة للأنصار، التي اطمأنَّ إليها النبي صلى الله عليه وسلم، كقولهم: «وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ الله، فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ، وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِـرٍ». وقولهم: «والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا». فكانت هذه البيعةُ نـواةً لفتحٍ عظيم، بدأت بالهجرة من مكـة إلى المدينـة، بعدها بشهرين ونصف تقريبًا.

كماحمل هذا الحديث المعاني الجليلة، والمشاعر الصادقة النبيلة للنبي صلى الله عليه وسلم، التي بثَّها للأنصار، وهو يبتسم قائلًا: «بَل ِالدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ».

ويذكرنا هذا الموقف من الأنصار بموقف آخر منهم أيضًا شبيهٍ به، عندما شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبيل غزوة بدر، وأراد بذلك رأي الأنصار بخصوص ملاقاة المشركين، ليستوثق منهم بخصوص القتال معه خارج المدينة، فجدَّدوا له العهدَ والبيعة لما هو أبعد من ذلك، إلى البحر، إلى بَرْكِ الْغِمَادِ:

عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا([19]) الْبَحْرَ لأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ ([20]) لَفَعَلْنَا! قَالَ: فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا... الحديث([21]).

قال الإمام النووي: «قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا قَصَدَ صلى الله عليه وسلم اِخْتِبَار الْأَنْصَار؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَايَعَهُـمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُـوا مَعَـهُ لِلْقِتَالِ وَطَلَب الْعَدُوّ، وَإِنَّمَا بَايَعَهُـمْ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّنْ يَقْصِدهُ، فَلَمَّا عَرَضَ الْخُرُوج لِعِيرِ أَبِي سُفْيَان، أَرَادَ أَنْ يَعْلَم أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَجَابُوهُ أَحْسَنَ جَـوَاب بِالْـمُوَافَقَةِ التَّامَّـة فِي هَذِهِ الْـمَرَّة وَغَيْرهَا»([22]).

وبهذا وضعَ الأنصارُ رضي الله تعالى عنهم، أنفسَهم تحتَ أَمْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ورهنِ إشارته، واستعدُّوا للجهاد في البرِّ والبحر، وبذلك قرَّت عين المصطفى صلى الله عليه وسلم..

وثمةَ حديثٌ آخرُ، يؤكد هذه المعاني بعد ثمان سنين، وذلك في فتح مكة، عندما أَوْجَسَ الأنصارُ خيفةً من أن تدْركَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أحبُّوه ولايستطيعون فراقه ـ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِه وعَشِيرَتِهِ، فيبقى في بلده مكة، ويطيب لـه المقام فيها بعد أن فُتحتْ، ويرجعون وحدهم إلى المدينة بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقالوا بينهم: أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ.

لكن سرعان ما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بما قالوا، فيعود صلى الله عليه وسلم لطمأنتهم بقولـه لهـم: «كَلاَّ إِنِّـي عَبْـدُ اللهِ وَرَسُولُـهُ، هَاجَـرْتُ إِلَـى اللهِ وَإِلَيْكُمْ، وَالْـمَحْيَامَ محْيَاكُمْ، وَالْـمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ»، فتعود إليهم أرواحهم، وتختلط في كيانهم مشاعر الفرح والغبطة، والطرب والحياء، فتفيض أعيُنُهم بالدمع، ويعتذرون إليه أنهم ما قالوا الذي قالـوا إلَّا حُبًا لـه صلى الله عليه وسلم. يخبرنا بهذا أبـو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، في حديث طويل، يرويه عنه عَبْدُ الله بْنُ رَبَاحٍ أحد التابعين من الأنصار، فيقول:

«وَفَدَتْ وُفُودٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ ـ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ ـ فَكَانَ يَصْنَعُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ الطَّعَامَ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَنَا إِلَى رَحْلِهِ. فَقُلْتُ: أَلاَ أَصْنَعُ طَعَامًا فَأَدْعُوَهُمْ إِلَى رَحْلِي؟ فَأَمَرْتُ بِطَعَامٍ يُصْنَعُ، ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنَ الْعَشِي فَقُلْتُ: الدَّعْوَةُ عِنْدِي اللَّيْلَةَ. فَقَالَ سَبَقْتَنِي؟ قُلْتُ نَعَمْ. فَدَعَوْتُهُمْ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلاَ أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْـمُجَنِّبَتَيْنِ([23])، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْـمُجَنِّبَةِ الأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ([24])، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُول ُاللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَتِيبَةٍ، قَالَ: فَنَظَرَ فَرَآنِي فَقَالَ: «أَبُو هُرَيْرَةَ!»قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «لاَيَأْتِينِي إِلاَّ أَنْصَارِي». زَادَ غَيْرُ شَيْبَانَ فَقَالَ: «اهْتِفْ لِي بِالأَنْصَارِ». قَالَ: فَأَطَافُوا بِهِ، وَوَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشًا لَهَا وَأَتْبَاعًا([25]). فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلاَءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيءٌ كُنَّا مَعَهُمْ. وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الَّذِي سُئِلْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ». ثُمّ َقَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: «حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا». قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا إِلاَّ قَتَلَهُ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا. قَالَ: فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَارَسُولَ اللهِ، أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ! لاَ قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. ثُمَّ قَالَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ». فَقَالَتِ الأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَجَاءَ الْوَحْي، وَكَانَ إِذَا جَاءَ الْوَحْي لاَيَخْفَى عَلَيْنَا، فَإِذَا جَاءَ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَنْقَضِي الْوَحْي، فَلَمَّا انْقَضَى الْوَحْي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ» قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «قُلْتُـمْ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَـةٌ فِي قَرْيَتِـهِ». قَالُوا: قَدْ كَانَ ذَاكَ. قَالَ: «كَلاَّ إِنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللهِ وَإِلَيْكُمْ، وَالْـمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْـمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ». فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَاللهِ مَاقُلْنَا الَّذِي قُلْنَا؛ إِلاَّ الضِّنَّ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ. فَقَـالَ رَسُولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم: «إِن للهَ وَرَسُولَـهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ»قَالَ: فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَى دَارِأَبِي سُفْيَانَ وَأَغْلَقَ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ. قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ. قَالَ: فَأَتَى عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، قَالَ: وَفِي يَدِ رَسُولِ اللهِ، صلى الله عليه وسلم قَوْسٌ، وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ([26]) الْقَوْسِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ؛ جَعَلَ يَطْعُنُهُ فِي عَيْنِه ِوَيَقُولُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ». فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا، فَعَلاَ عَلَيْهِ حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللهَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ»([27]).

قَوْله صلى الله عليه وسلم: «الْـمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمـمَمَات مَمَاتكُمْ»:

قال الإمام النووي: «أَيْ: لَاأَحْيَا إِلَّا عِنْدكُمْ وَلَاأَمُوت إِلَّا عِنْدكُمْ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْـُعْجِزَات، فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ هَذَا بَكَوْا وَاعْتَذَرُوا، قَالُوا: وَاَللهِ مَا قُلْنَا كَلَامنَا السَّابِق؛ إِلَّا حِرْصًا عَلَيْك، وَعَلَى مُصَاحَبَتك، وَدَوَامك عِنْدنَا لِنَسْتَفِيدَ مِنْك، وَنَتَبَرَّك بِـك، وَتَهْدِينَـا الصِّرَاط الْـمُسْتَقِيم، كَمَا قَـالَ اللهُ تَعَالَـى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾[الشورى: 52]. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلهمْ: مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنّ بِك، هُوَ بِكَسْرِ الضَّاد، أَيْ: شُحًّا بِك أَنْ تُفَارِقنَا، وَيَخْتَصّ بِك غَيْرنَا، وَكَانَ بُكَاؤُهُمْ فَرَحًا بِمَا قَالَ لَهُمْ، وَحَيَاءً مِمَّا خَافُوا أَنْ يَكُون بَلَغَهُ عَنْهُمْ مِمَّا يُسْتَحْيَ ىمِنْهُ»([28]).

وقَوْله صلى الله عليه وسلم للأنصار: «الْـمَحْيَا محْيَاكُمْ، وَالْـمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ»، يُذكِّرَنا بقَوْله أيضًا عند بيعة العقبة: «بَل ِالدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالمتُمْ». وهذا يعني أنه مازال على العهد الذي أعطاهم، وهو أوفى الناس عهدًا صلى الله عليه وسلم.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ـ أَوْ قَالَ: أَبو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم ـ: «لَوْ أَنَّ الأَنْصَارَ سَلَكُوا وَادِيًا أَوْ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ فِي وَادِي الأَنْصَارِ، وَلَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ». فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا ظَلَمَ بِأَبِي وَأُمِّي، آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ. أَوْ كَلِمَةً أُخْرَى([29]).

قال ابن حجر: لَعَلَّ الُمرَادَ وَوَاسَوْهُ وَوَاسَوْا أَصْحَابه بِأَمْوَالِهِمْ، وَقَوْله: «لَسَلَكْت فِي وَادِي الْأَنْصَار»: أَرَادَ بِذَلِكَ حُسْن مُوَافَقَتهمْ أَنَّهُ لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ حُسْن الْجِوَار وَالْوَفَاء بِالْعَهْدِ، وَلَيْسَ الْـمُرَاد أَنَّهُ يَصِير تَابِعًا لَهُمْ، بَلْ هُوَ المَتبُوع المُطَاع المُفْتَرِض الطَّاعَة عَلَى كُلّ مُؤْمِن([30]).

وجعل صلى الله عليه وسلم حبَّ الأنصار من الإيمان ودليلًا عليه، وبغضَهم من النفاق ودليلًا عليه:

فقَـالَ صلى الله عليه وسلم: «الأَنْصَـارُ لاَيُحِبُّهُـمْ إِلاَّمُؤْمِـنٌ، وَلاَيُبْغِضُهُـم ْإِلاَّ مُنَافِـقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ الله»([31]).

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ»([32]).

وقد صرَّح النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الأنصار هم من أحبِّ الناس إليه.

فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى صِبْيَانًا وَنِسَاءً مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ، فَقَامَ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم مُمْثِلًا([33])فَقَالَ: «اللهمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، اللهمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ»، يَعْنِي الأَنْصَارَ([34]).

وعَنْ أنسٍ، «أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا أَوْلاَدٌ لَهَا فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ»، قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ ([35]).

وكان صلى الله عليه وسلم يزورُهم، ويتودَّدُ إليهم، ويتواضعُ لصبيانهم.

عن أنسٍ قال: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يزورُ الأنصار، فيسلِّم على صبيانِهم، ويمسحُ برؤوسِهم، ويدعو لهم([36]).

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ اغْفِرْ لِلأَنْصَارِ، وَلأَبْنَاءِ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ»([37]).

وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصـار في آخـر مـرة جلس فيها علـى المنبـر، قبـل أن يتوفَّاه الله تعالى.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِمِلْحَفَةٍ، قَدْ عَصَّبَ بِعِصَابَةٍ دَسْمَاءَ([38])، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَيَقِلُّ الأَنْصَارُ، حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ، فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئًا يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا، وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ؛ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ». فَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ([39]).

ثالثًا ـ حبُّ النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بدر رضي الله تعالى عنهم:

وأهلُ بدرٍ هم المسلمون الذين حضروا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر الكبرى، في السنة الثانية من الهجرة، ليلة الجمعة، السابعة عشرة من رمضان، وعددهم ثلاثُ مئةٍ وثلاثةَ عَشَرَ، أيدهم الله بالملائكة يقاتلون معهم، قال تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾[الأنفال: 9]، وقال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ[الأنفال: 12]، فكانت أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة، التي نصر الله جلَّ جلالُه المسلمين فيها نصرًا مؤزَّرًا، فكان لمن حضر هذه الغزوة من المسلمين ـ ومن الملائكـة أيضًا ـ خصوصية عن غيرهم، حتى إنـه ليقال: فـلانٌ بدريٌّ.

فعَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ ـ وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ـ قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: «مِنْ أَفْضَلِ المسْلِمِينَ» ـ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا ـ قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْـمَلاَئِكَةِ»([40]).

وعَـنْ عَلِـيٍّ رضي الله عنـه، عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّـهُ قَـالَ: «لَعَـلَّ اللهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَـدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّـةُ، أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»([41]).

وعَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: «تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِئَةً، وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ فَنَزَحْنَاهَا، فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهَا، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَدَعَا، ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا، فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بَعِيدٍ. ثُمَّ إِنَّهَا أَصْدَرَتْنَا مَا شِئْنَا نَحْنُ وَرِكَابَنَا»([42]).

رابعًا ـ حبّ النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الشجرة رضي الله تعالى عنهم:

وأصحاب الشجرة هم أهل بيعة الشجرة، أو أهل بيعة الرضوان، وذلك عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان سفيرًا إلى قريش، يفاوضهم في دخول المسلمين مكة للعمرة، وذلك يوم الحديبية سنة ستٍ للهجرة، فاحْتَبسَتْهُ قريشٌ عندها، فشاع بين المسلمين أن عثمان رضي الله عنه قُتِل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك: «لا نبرح حتى نناجز القوم»([43]). ودعا الصحابة إلى البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على ألَّا يفروا، ومنهم من بايعه على الموت([44]).

وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البيعة منهم تحت شجرة؛ فسميت بيعة الشجرة، ورضي الله عن الصحابة في هذه البيعة؛ فسميت بيعة الرضوان، قال الله فيها: ﴿لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾[الفتـح: 18]، فكان لأهـل هـذه البيعـة شأن عنـد الله تعالى، فقد رضي الله تعالـى عنهـم، وعنـد رسولـه صلى الله عليه وسلم، حيـث قَـال: «لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ»([45]).

خامسًا ـ حب النبي صلى الله عليه وسلم للعشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم:

كل الصحابـة مُبَشَّرون بالجنـة، لكن عشرةً منهم سمَّاهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث واحد، رضي الله عنهم أجمعين.

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِيـهِ، أَنَّ سَعِيدَ بْـنَ زَيْـدٍ حَدَّثَـهُ فِي نَفَرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عَشَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ: أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ». قَالَ: فَعَدَّ هَؤُلاَءِ التِّسْعَةَ وَسَكَتَ عَنِ الْعَاشِرِ. فَقَالَ الْقَوْمُ: نَنْشُدُكَ اللهَ يَا أَبَا الأَعْوَرِ! مَنِ الْعَاشِرُ؟ قَالَ: نَشَدْتُمُونِي بِاللهِ! أَبُو الأَعْوَرِ فِي الْجَنَّةِ([46]).

وهؤلاء العشرة لهم منزلتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم وعند الصحابة أنفسهم، فمنهم الخلفاء الراشدون الأربعة، رضي الله عنهم.

ومن هؤلاء العشرة من بشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة بالجنة، كالشيخين أبي بكر وعمر، وذي النورين عثمان بن عفان، كما في الحديث الآتي:

عن أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ تَوَضَّأَ في بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ، قال: فَقُلْتُ: لأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا. قَالَ: فَجَاءَ الْـمَسْجِدَ، فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: خَرَجَ وَوَجَّهَ هَاهُنَا، فَخَرَجْتُ عَلَى إِثْرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ، حَتَّى دَخَـلَ بِئْـرَ أَرِيسٍ، فَجَلَسْتُ عِنْـدَ الْبَابِ ـ وَبَابُهَا مِـنْ جَرِيـدٍ ـ حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتَهُ، فَتَوَضَّأَ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ، وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، وَدَلاَّهُمَا في الْبِئْرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ، فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ، فَقُلْتُ: لأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْيَوْمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَ الْبَابَ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ. ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ. فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ». فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ ادْخُلْ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ. فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ في الْقُفِّ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ في الْبِئْرِ، كَمَا صَنَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ وَيَلْحَقُنِي، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ الله بِفُلاَنٍ خَيْرًا ـ يُرِيدُ أَخَاهُ ـ يَأْتِ بِهِ. فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ. ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَأْذِنُ. فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ». فَجِئْتُ فَقُلْتُ له: ادْخُلْ وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ. فَدَخَلَ، فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الْقُفِّ عَنْ يَسَارِهِ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ، فَ

الموضوعات