جاري التحميل

بداية الإرساليات التنصرية في فلسطين

بداية الإرساليات التنصرية  في فلسطين

كتبت الكاتبة أمل عاطف محمد الخضري في كتاب ( التنصير في فلسطين في العصر الحديث ) في هذا الموضوع

الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقالت:

بـدأ التنافس الإرسالـي فـي فلسطين، عندمـا قررت كل من بريطانيا وبروسيا (ألمانيا) تثبيت دعائمها في الأرض المقدسة، وذلك بحجة حماية البروتستانت واليهود، وخاصة فـي ظل وجـود قواعد ثابتة فـي فلسطيـن لكل مـن روسيا وفرنسا، بصفتهما الحاميتين التقليديتين لنصارى فلسطين الأرثوذكس والكاثوليك، في الوقت الذي لم يكن فيه وجود لأية قاعدة بروتستانتية هناك.

وقـد تأسست أول أسقفيـة بريطانية بروسية فـي القدس عام 1841م، وكانت ترمي إلـى تنصير اليهود، لذلك تم اختيار أول أسقف لها من اليهود المتنصرين، يدعى «مايكل سولومون ألكزاندر».

وكان مـن أهم ممثلي بريطانيا فـي فلسطين؛ «الجمعية اللندنية لنشر المسيحية بين اليهـود»، لذلك فقد كان تنصير اليهود من أهم مهام الأسقف «ألكزاندر»، ومع ذلك فلم يفلح في تنصير اليهود بسبب مقاومتهم، مما دفع خليفته البروسي «صامويل جوبات» لتحويل نشاطه التنصيري من اليهود إلى نصارى فلسطين الأرثوذكس.

وكذلك شكلت بريطانيا وبروسيا أكبر حافز لفرنسا وروسيا، لإنشاء مؤسسات تدعم وجودهما الكاثوليكي والأرثوذكسي.

وانتشرت فـي ذلك الوقـت دعـوة صريحة للاستيلاء على فلسطين تحت شعار: «الحملة الصليبية السلمية»، كما شاعت الدعوة إلى «الامتلاك الفعلي للأرض المقدسة»، وذلك بين الأوساط الكاثوليكية والبروتستانتية والألفيين([1])، وظهر الاعتقاد بضرورة العمل على استرداد فلسطين عن طريق حملات دينية وثقافية وخيرية، وأصبح في نظرهم دور المرسلين الغربيين في ذلك الوقت التبشير بالإنجيل، والتبشير بالمحبة المسيحية بهدوء دون سلاح، والعمل أخوة وأخوات في مجال التعليم، وتقديم العون والخدماتبالصبر والاستقامة، حتى تدخل الأرض المقدسة وسكانها تحت راية المسيح.

لذلك زادت رحلات الحجاج إلى الأرض المقدسة وتوافد إليها المنصرون، وقد قاموا بنشر الكثير مـن المعلومات التفصيلية عـن فلسطين، لدرجة جعلت الرأي العام الأوروبي يقتنع بضرورة تملك فلسطين قبل أي مكان في العالم.

وانطلق في عام 1841م من أوساط المنصرين البروتستانت نداءٌ يطالب بمفاوضة الباب العالي في الدولة العثمانية، ومطالبته بنقل ملكية فلسطين إلى النصارى، ومن ثَم تحويلها إلى إقليم نصراني مستقل، يحكمه أمير معترف به من قبل جميع الأمم النصرانية، وذلك برعاية أمراء أوروبا النصارى([2]).

وانتشر بيـن البروتستانـت «الإنجليكيين([3]) الإنجيليين» فكرة إعادة اليهود إلى فلسطيـن، حيـث تنبثق عقيـدة إعادة اليهود إلى فلسطين؛ من العقيدة الإنجيلية، ومن عقيدة المخلص المنتظر الإنجليكانية([4]). لذلك تعهدت بريطانيا بشكل واضح بحماية جميع يهود فلسطين، وخاصة بعد الاعتراف الرسمي بالبروتستانت من قبل الدولة العثمانية عام 1850م كطائفة رسمية.

ولم يختلف موقف الكاثوليك كثيراً عن موقف البروتستانت بالرغم من اختلاف الهدف، ففي الاجتماع العام العاشر للاتحادات الكاثوليكية في ألمانيا في عام 1858م ردد المجتمعـون: «مـن الأعماق دعاء الصليبيين»: «أيها الرب، ساعد الأرض المقدسة، حـرر القبر المقدس مـن أيـدي الكفار» «إن الزمـن المسيحـي الثالـث بالنسبة للقدس سوف يبدأ»([5]).

ومن الجدير بالذكر أن «محمد علي»([6]) كان قد سهل للأوروبيين الانتشار الثقافي والتدخل السياسي وذلك ما بين عامي 1821م ـ 1840م، وسمح لهم بفتح قنصليات داخل البلاد، مع توسيع النشاط التنصيري والاعتراف بالمؤسسات التابعة له، وسمح لأول مرة للإرساليات البريطانية والأمريكية بفتح المدارس والمستشفيات، كما سمح لعلماء الآثار بالتنقيب عن الآثار في الأراضي المقدسة، وإعداد الدراسات اللازمة لهم([7]).

وإذا كانـت بدايـة النشاط الإرسالـي فـي عهد «محمد علي»، فقد وصلت ذروة نشاط الإرساليات في الحقبة الأخيرة من حكم الدولة العثمانية، ففي الفترة الواقعة بين عامي 1869 ـ 1922م، منحت جميع الطوائف النصرانية، والقناصل، والجهات التنصيرية، ما شاءت من التراخيص، لإقامة جميع مؤسساتها وكنائسها في فلسطين وغيرها من الـدول الواقعة تحـت الحكـم العثماني([8])، وأهم التراخيص الممنوحة من قبل الحكومة العثمانية([9]) في تلك الفترة هي:

1 ـ                   تراخيص ممنوحة للطوائف النصرانية العثمانية (أي الطوائف التي اعترفت بهـا الحكومـة العثمانية بصورة رسمية، فأصبحت جزءاً من الدولة)، وذلك للقيام ببناء كنائس جديدة، أو إعادة تعمير أو ترميم أو تعديل أو إضافة أجزاء على الكنائس القديمة.

2 ـ                   تراخيـص للطوائـف النصرانية العثمانية جماعات وأفرادً لإنشاء مؤسسات؛ كالمدارس، والمستشفيات، ودور الأيتام، والعجزة، والمقابر.

3 ـ                   تراخيـص للهيئـات التنصيريـة الأجنبيـة المختلفة، للقيام ببناء مؤسسات، كالكنائس، والأديرة، والمدارس، والمستشفيات.

4 ـ                   تراخيص ممنوحة بناء على طلب دول أجنبية، نيابة عن مؤسسات تابعة لهذه الدول، وتعمل في أراضي الدولة العثمانية، مثل روسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وذلك لبناء مؤسسات تعليمية ودينية وخيرية، أو دور ضيافة([10])([11]).

وبالنسبة لفلسطين ففي كل ما قدم من طلبات سواء لتجديد كنيسة أو بناء أخرى، أو بناء أديرة أو مؤسسات، لم يقع أي رفض من قبل الحكومة، بل وجدت كنائس ومؤسسات أقيمت واستعملت دون ترخيص رسمي([12]).

على الرغم من مجموعة الشروط التي وضعتها الحكومة العثمانية لإقامة مثل تلـك المؤسسات إلا أنـها إذا تعارضـت مـع إقامة أي مـن التراخيـص الممنوحة، فإن الحكومة كانت تتغاضى عنها مقابل حفنة من المال وهذه الشروط هي:

الشرط الأول: ألا يكون لأي من الطوائف الأخرى حقوق من أي نوع في العقار المعد للبناء.

الشرط الثاني: ألا يكون داخلاً ضمن محلة الإسلام.

الشرط الثالث: ألا يكون وقفاً إسلامياً، أو لأي طائفة أخرى.

الشرط الرابع: أن يكون بعيداً عن القلاع السلطانية.

الشرط الخامس: أن يكون العقار ملكاً خاصاً للطائفة أو الجمعية القائمة بمشروع البناء([13]).

وقـد أحسن المنصـرون استغلال هذه الشروط فكانت تُختار الأماكن بدقة، كما لا يتوانى المنصرون عن التحايل لامتلاك الأراضي([14])، والتوسط لدى ملوك النصارى فـي أوروبا لاستصدار التراخيـص اللازمة لبناء مؤسساتهم، واستغلال بعض فقرات قانون الدولة العثمانية الخاص بإقامـة مؤسسات خيريـة، فالقانـون لا يمانـع لأي جهة أجنبية مـن إنشاء أي مؤسسة شرط أن تـدار مـن قبل وجهاء البلد، فمثلاً دار العجزة المقامة في القدس والتي تلقت المعونة من أمريكا وبعض الدول الأوروبية، كانت مسجلة على أنها مؤسسة تدار من قبل أهالي ووجهاء القدس الشريف منهم، جمال باشا قائد الجيش الرابع التركـي «جمـال باشا السفاح»، ومحافـظ القدس، وأعيان القدس، وبنك فلسطين، وشركة المحروقات([15]).

كما كانـت توقـع الأوراق المرسلة إلى المأمورين وأصحاب الحكم بالحرف «م»، لتنال الموافقة، ومن هذه الأوراق أوراق أرض الخليل التي حولت إلى كنيسة «المسكوبية» أشهر معالم النصرانية الحديثة في الخليل([16]).

وجانب آخر ساهم في تأسيس مراكز ومؤسسات الإرساليات هو التهاون في إعفاء المؤسسات التنصيرية من الضرائب، والرسوم، بناء على طلبات السفارات، والقنصليات، وذلك بحجة أنها تقدم الخدمة المجانية([17]).

وقد أدى هذا التهاون من قبل حكام الدولة العثمانية في ذلك الوقت، إلى التنازل عـن أجزاء كبيرة من أراضي الوقف الإسلامي في فلسطين، مقابل رسوم مالية لصالح المؤسسات التنصيرية، وكذلك الوقوع في محاذير شرعية، كبناء وترميم الكنائس والمؤسسات التنصيرية، الأمر الذي أدى إلى تحويل مناطق كاملة في فلسطين إلى أحياء نصرانية.

وتحـت شعار الدولـة العثمانية (السلطان): «أن ينعم بالراحة الكاملة في كل أمر أصحاب الديانات والمذاهـب المقيمـون في المملكة»([18])، توافدت إلى فلسطين عشرات الجمعيات الرهبانية والمؤسسات الكنسية الأجنبية، من مختلف البلاد والكنائس، وتسابقت في فتح عشرات المدارس والمستوصفات ودور الأيتام والمعاهد، والتي لا تزال موجودة حالياً في القدس وبيت لحم وباقي مدن فلسطين، وقد كانت البداية في القدس، ثم بيت لحم، ثم الرملة، والناصرة، وحيفا، وعكا، وصفد، وغيرها من مدن فلسطين([19]).

إلا أنه في بداية القرن العشرين بدأت أوروبا تشعر بفشل فكرة «الحملة الصليبية السلمية» لاسترداد فلسطين؛ نتيجة بداية الاستعمار اليهودي، ونشأة الصهيونية([20]).

ومع ذلك فلم تيأس أوروبا من فكرة التنصير نفسها، حتى ولو لم تصبح فلسطين إمارة نصرانية كما يريدون، فإن العملية التنصيرية لم تتوقف للحظة واحدة، فإن فشلت في مكان ما أو زمان ما، أو فشلت خططهم لسبب ما، فإنهم يعملون بلا كلل أو ملل، لتحقيق مآربهم وتنفيذ مخططاتهم.

*  *  *

 



([1])   الألفيين: هم عبارة عن تجمع للمجلس اليهودي العالمي واليمين النصراني الأمريكي المتطرف معاً، وهم يؤمنون بشدة بحلول الألفية السعيدة بعد حرب هيرمجدون، ويتركزون في مكان يسمى حزام الإنجيل وهي الولايات الواقعة في جنوب، وجنوب غرب أمريكا، ودعم الألفيين لليهود ليس حباً فيهم، بل لأنهم ـ في نظرهم ـ الطريق لتحقيق نبوءة الألفية، وذلك بعد بناء اليهود لهيكلهم المزعوم، ومن ثَم إبادتهم في حرب هيرمجدون ـ انظر: وثائق وحقائق حول مؤامرة ضرب المقدسات الإسلامية في القدس: حسن النديم ـ مجلة:

 Executive Intelligence Review ـ .

From: http:// www. dolphin. org/ , www. templemount. org. 5 ـ 1 ـ 2001

([2])   انظر: تحولات جذرية في فلسطين 1856 ـ 1882 ـ دراسات حول التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي: ألكزاندر شولش ـ نقله عن الألمانية: د. كامل جميل العسلي ـ دار الهدى ـ عمان ـ الطبعة الثانية ـ 1990م ـ ص: 61 ـ 67، 74، 76.

([3])   الإنجليكيون: تطورت هذه الفرقة من كنيسة إنجلترا، وتُبنى عقيدتهم على التوراة والإنجيل والتقاليد والعقل، ولهم كتاب يتبعه جميع أفراد هذه الفرقة وهو كتاب الصلاة العامة ـ انظر: الموسوعة العربية العالمية ـ 3/ 199.

([4])   انظر: تحولات جذرية: شولش ـ ص: 65، 81، 85، 91.

([5])   المرجع السابق ـ ص: 83، 84.

([6])   محمد علي: 1182 ـ 1265ﻫ، 1769 ـ 1849م، وهو جندي ألباني ولد بمدينة قولة باليونان التـي كانت جزءاً من الامبراطورية العثمانية، ومات بالاسكندرية ودفن في قلعة الجبل ـ انظر: الموسوعة العربية العالمية ـ 22/ 371.

([7])   انظر: تحولات جذرية: شولش ـ ص: 61، وتاريخ الكنيسة الأسقفية في مطرانية القدس ـ 1841م ـ 1991م رفيق فرح ـ بدون دار نشر ـ د. ط ـ د. ت. ن ـ 1/ 38، 39.

([8])   انظر: الكنائس العربية في السجل الكنسي العثماني 1869 ـ 1922 ـ جمع وترجمة وتحقيق: عبد الرحيم أبو حسين، صالح سعداوي ـ دار الشروق للنشر والتوزيع ـ عمان ـ رام الله ـ الطبعة الأولى ـ 1988م ـ ص: 7، 8.

([9])   أطلـق علـى السجلات التـي حوت هـذه التراخيص ـ دفاتر الكنيسة kilise Defterleri ـ وبلغ عددها عشرة سجلات، وهي إحدى دفاتر الديوان الهمايوني في الدولة العثمانية، واختصت السجلات السبعة الأولى بمختلف الكنائس والمؤسسات في الدولة العثمانية، واختصت الثلاثة الأخيرة بكنيسة القيامة وأحكامها في فلسطين ـ المرجع السابق ـ ص: 7، 8.

([10])   انظر: المرجع السابق ـ ص: 7.

([11])   انظر: نماذج من التراخيص الممنوحة لإنشاء المؤسسات التنصيرية ـ ص 388، 393، وانظر: الصيغة الرسمية لرخصة الموافقة على إنشاء المؤسسات أو الكنائس ـ ص: 394 من هذا الكتاب.

([12])   انظر: الكنائس العربية في السجل الكنسي العثماني: أبو حسين، سعداوي ـ ص: 9.

([13])   انظر: الكنائس العربية في السجل الكنسي العثماني: أبو حسين، سعداوي ـ ص: 10.

([14])   حيث قـام الأرشمندريت الروسي أنطوين بإقـراض صاحب أرض المسكوبية حالياً في الخليل، ويدعى إبراهيم الحموري مبلغاً من المال، ثـم قـام قنصل روسيا بالقدس فيما بعد بأخذ توكيل من ورثة الأرشمندريـت المتوفـى، وأخـذ يطالـب بالأموال أو الأرض، إلى أن تم الحجز على الأرض المذكورة بتعاون من نائب محكمة الخليل مع القنصل الروسي ـ انظر: وثيقة من ملف رقم: 44/ 62، 1/ 300/ 13 ـ من وثائق مؤسسة إحياء التراث ـ القدس ـ باللغة العثمانية.

([15])   انظـر: وثيقـة مـن ملـف رقـم: 24/ 2/ 2، 4/ 322/ 13، وملـف رقم: 24/ 2/ 1، 4/ 331/ 13 ـ من وثائق مؤسسة إحياء التراث ـ القدس ـ باللغة العثمانية.

([16])   انظر: وثيقة من ملف رقم: 44/ 62، 1/ 300/ 13 ـ من الوثائق السابقة.

([17])   انظر: وثيقة من ملف رقم: 24/ 1، 9/ 322/ 2 ـ من الوثائق السابقة.

([18])   انظر: الكنائس العربية في السجل الكنسي العثماني: أبو حسين، سعداوي ـ ص: 10.

([19])   انظر: جولة في تاريخ الأرض المقدسة من أقدم العصور حتى اليوم ـ القدس وبيت لحم في القرن التاسع عشر: حنا عبد الله جقمان ـ المجلد الثاني ـ الباب الأول ـ بدون دار نشر ـ بيت لحم ـ الضفة الغربية ـ الطبعة الأولى ـ 1996 ـ ص: 21، 128.

([20])   انظر: تحولات جذرية: شولش ـ ص: 65، 81، 85، 91.

الموضوعات