جاري التحميل

علاقة التنصير بالاستشراق

الموضوعات

علاقة التنصير بالاستشراق

كتبت الكاتبة أمل عاطف محمد الخضري في كتاب ( التنصير في فلسطين في العصر الحديث ) في هذا الموضوع

الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)

فقالت:

تركـت الحروب الصليبية آثاراً سيئة في نفوس الأوروبيين، مما دفعهم إلى إعادة النظر في شروح كتابهم المقدس، فاتجهـوا إلـى دراسة المصـادر الحقيقية لكتابهم، وهذا تطلب منهم القيام بدراسة المصادر العربية والإسلامية لاستكمال فهم المصادر العبرية، ثم اتسع نطاق البحث ليشمل كل الدراسات التي يقوم بها الغرب، والتي تتعلق بالشعوب الشرقية، من لغة، ودين، وتاريخ، وحضارة، ونحو ذلك، لذلك سميت تلك الدراسات بالاستشراق([1]). ثم تفـرغ هؤلاء الباحثـون ـ المستشرقـون ـ لدراسة اللغة العربية لغة القرآن الكريم، والحـط مـن قدرها، وذلـك رغبة منهم في التبشير بدينهم، لما رأوه منسرعة انتشار الإسلام في الشرق والغرب، ولعلمهم أن التغلب على المسلمين والتحكم فيهـم أصبح ميئوساً منـه مـن الناحيـة العسكرية، وأنـه لابد من وجود وسيلة أخرى لتحويلهم عـن الإسلام وتنصيرهـم، ووجـدوا أن تحويلهـم متوقـف على تعلم لغات المسلمين، فأقبلوا بجد على تلك الدراسات الاستشراقية، ليتسنى لهم تجهيز منصرين لإرسالهم للعالم الإسلامي([2])([3]).

ومـن هنا يتبين أن الاستشراق لم يقم على نوايا طيبة منذ نشأته، إذ كانت دراسة المستشرقيـن للإسلام في معظمها، تهدف لأخذ المعلومات عنه لاستخدامها في القضاء عليه مـن جهة، ومـن جهة أخرى لحماية النصارى وحجب حقائق الإسلام عنهم، في الوقت الذي يقومـون فيـه باستغلال كل وسيلة للتنصير بين المسلمين، ومع ذلك فقد انتشرت المفاهيم الصحيحة عن الإسلام في المجتمعات الأوروبية، فلجأ المنصرون إلى تكثيف الهجمة الاستشراقية، حيث تركزت على تشويه أحكام الإسلام، والافتراءعليه للحد مـن انتشاره في أوروبا، وإضعاف قيمته، وتصويره للرأي الأوروبي والأميركي بصورة مشوهة بعيدة عن المستوى الحضاري، كما ركزت تلك الدراسات على ضرورة إحلال مفاهيم الصداقة بيـن الدول الغالبـة، والمغلوبـة، تحت اسم الحضارة، والإخاء الإنساني، ونحو ذلك من مسميات، لتفكيك عرى الوحدة الإسلامية([4]).

وقـد قامت الكنيسة بدعم الاستشراق في أول نشأته، حيث كان رجال الكنيسة يشكلون غالبية الطبقة المتعلمة في أوربا، والتي تهتم بالجامعات، ومراكز العلم، ويؤكد ذلك أن عشرين من أصل تسعة وعشرين من أوائل المستشرقين، كانوا من رجال الكنيسة.

كما قام البابا ومن معه من رجال الدين النصراني بمساعدة المستشرقين، فعمل علـى إنشاء مطابـع عربيـة، وتوفيـر مجموعـة لا بأس بها من الكتب الإسلامية العربية المتنوعة([5]).

كمـا ازداد الاهتمام بتعلـم اللغـة العربية وتعليمها للمنصرين، وكان أول مركز لتدريس اللغة العربية للمنصرين قد أقيم في الفاتيكان، الذي أمر بإدخال اللغة العربية واللغات الشرقية في المدارس التنصيرية والأديرة، وعمل على إيجاد فرص لتدريسها في الجامعات ومنها جامعات أسبانيا وفرنسا وإيطاليا([6]).

كما تلقى الاستشراق الدعم الكامل من مختلف المؤسسات الغربية على اختلاف توجهاتها السياسية منها، والاجتماعية، والدينية، والاقتصادية([7]).

لقد شكل التقاء أهداف المنصرين والمستشرقين، لجعل النصرانية قاعدة للاستعمار الغربي، أكبر دافع للاستعمار للمسارعة بتقديم المساعدات، والتسهيلات، للمستشرقين، وكذلـك المسارعة لمساعـدة المنصريـن، لذلك قيـل إن الاستشراق قـام في بدايته على أكتاف المنصرين الرهبـان، ثـم أكمل طريقه برعاية الاستعمار، الذي قام بإنشاء العديد من المؤسسات في بلاد الإسلام، لخدمة الاستشراق في الظاهر، ولكنها تهدف في الحقيقة خدمة الاستعمار والتنصير الكاثوليكي والبروتستانتي، كالجامعة الأمريكية في كثير من بلاد الإسلام([8])، هذا ويوجد فرع للجامعة الأميركية في مدينة جنين في فلسطين.

والناظر إلى أهداف التنصير والاستشراق، يجدها واحدة مع اختلاف الأساليب، إذ تجمعت الأهداف حول محور واحد، وهو تدمير الإسلام، واختلفت الأدوار التي تقاسمها التنصير والاستشراق لتحقيق هذا الهدف وذلك على النحو التالي:

أولاً: خاطـب التنصير العقليـة العامـة الشعبية، وخاصة الفقيرة منها، متظاهراً بعمل الخير وتقديم المساعدات الإنسانيـة للفقـراء، والخدمات العلاجية للمرضى عن طريق المؤسسات الاجتماعيـة، والمراكز الصحية، والمستشفيات، كما انطلق التنصير من المؤسسات التعليمية بدءاً بدور الحضانة، ورياض الأطفال، مروراً بالمراحل الابتدائية، والثانوية، ووصولاً إلى الجامعة. حيث يتخذ المنصر له في البلد المستهدف مراكز ثابتة للعمل فيها، والانطلاق منها.

أما المستشرق فيخاطب العقلية العلمية، باستخدام الكتاب والمقال في المجالات العلمية، والبحثية، والأكاديمية الجامعية، وفي المؤتمرات العلمية العامة، أي أن علاقة المستشرق بالبلد المستهدف مقتصرة على إلقاء محاضرة، أو حضور اجتماع، أو الاستعانة به من قبل الجامعات لتقديم المشورة، أو إبداء الرأي، دون أن يكون له مركز خاص، يربطه بأي رابط في ذلك البلد.

ثانياً: المنصر يدعو إلى النصرانية، أو مجرد إخراج المسلم من دينه، وذلك بالتنقل من بلد لأخر من مدينة لأخرى، وإذا لزم الأمر ذهب إلى القرى، والأرياف.

أمـا المستشرق فهـو قابع فـي مكتبه، يبحـث في بطون الكتب، منقباً عن تراث المسلمين لدراسة مفاهيمهم وقيمهم، ويدون ما يتوصل إليه من نتائج في كتبه وبحوثه ومقالاته ومحاضراته، ويُنشر إنتاجه كما خطط له دون أن يتعامل مباشرة مع من كتب لهم.

ثالثاً: يحـاول المنصر إخفاء دعوته إلى التنصير إلا أنه لا يمكن أن يتردد في تعليق الصليب علـى صدره، أو وضعه في مكان ظاهر في المكتبة، أو العيادة، أو المدرسة التي يعمل بها.

أما المستشرق فهـو يتظاهر باتبـاع المنهـج العلمي الموضوعي المتجرد، للوصول إلى أهدافه الاستعمارية التنصيرية، والتي تتعارض مع المنهج الإسلامي عقائدياً، وفكرياً، واقتصادياً، واجتماعياً([9]).

ومع اختلاف الأدوار، فإن العلاقة بين التنصير والاستشراق قوية، والارتباط بينهما وثيق، ومما يؤكد ذلك:

1 ـ                   الأعمـال التـي يقوم بها المنصرون في المناطق المستهدفة، مبنية على دراسات استشراقية خاصة بتلك المنطقـة، تظهـر ما خفي من أسرارها، وهكذا فإن قوة التنصير مستمدة من أعمال المستشرقين ودراساتهم.

2 ـ                   يتم تزويد كل منصر بما يحتاج إليه من مؤلفات المستشرقين، عندما يعمل في الدول الاسلامية، كمـا يشترط عليـه إتمـام دراسة ما كتبـه أشد المستشرقين حقداً على الإسلام والمسلمين.

3 ـ                   الكثير مـن البارزين في عالم الاستشراق، بدأوا حياتهم العلمية بدراسة علم اللاهوت النصراني، قبل التوجه للدراسات الاستشراقية، والتفرغ لها.

4 ـ                   استمرار الكثير من المستشرقين في المحافظة على تولي وظائفهم الدينية التنصيرية، وتعصبهـم الديني البارز فـي كتاباتهـم، مـع ادعائهم بأن الغرض من دراستهم العلم، وإظهار الحقيقة([10]).

وهكـذا فـإن الاستشراق والتنصير همـا وجهان لعملة واحدة وهي الاستعمار، فقد أفاد الاستعمار من الاستشراق زرعه للشبهات المثارة حول الإسلام بين المسلمين، ووضعه للمناهج الدراسية المخصصة لمدارس الإرساليات، والتي تهدف إلى الانتقاص مـن فكر المسلمين، وعقائدهم، حيث يقوم بتدريسها المنصرون، كما يمهد المستشرقون لقدوم المستعمر، ببث الفكر الموالي له بين المسلمين، وذلك لتثبيت أقدامه في البلاد الإسلامية، حتى ولو كان بعيداً عنه، وهكذا فهو يتحكم فيه من بعد بواسطة الاستشراق والتنصير، ولا يـزال المستشرقـون عوناً للحمـلات الاستعمارية على البلاد الإسلامية والعربية، كما شكلوا قاعدة لجمع المعلومات التي تخدم حملات التنصير، والتي لا تزال تجتاح دول العالم الإسلامي، وكذلك فقد عمل الاستشراق جاهداً على تسهيل مسألة قبول قيام وطن قومي لليهود في فلسطين، بين مفكري العرب والغرب([11]).

وممـا سبق يتبيـن أن العلاقة وثيقة بين كل من التنصير والاستشراق والاستعمار وذلك لارتباطهم ارتباطاً تاريخيـاً ببعضهـم البعـض، ولاتحادهم علـى التصـدي لأية محاولة لقيام وحدة إسلامية، من شأنها التصدي لليهودية العالمية([12]).

 

*  *  *

 



([1])   انظر: أجنحـة المكـر الثلاثة: الميداني ـ ص: 50، والفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: محمد البهي ـ دار الفكر للطباعة والنشر ـ بيروت ـ الطبعة السادسة ـ 1973م ـ ص: 533، والاستشراق والتبشير: د. أحمد عبد الرحيم السايح ـ البعث الإسلامي ـ العدد الثاني ـ شوال ـ 1412ﻫ ـ ص: 27، 30، والعدد الثالث ـ ذو القعدة ـ 1412ﻫ ـ ص: 27 ـ نقلاً عن الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام: أحمد بشير ـ ص: 469 ـ 470، و ص: 24 ـ نقلاً عن الإسلام والاستشراق: د. محمود زقزوق ـ ص: 73 ـ ضمن كتاب: الإسلام والمستشرقون ـ جدة ـ 1405ﻫ.

([2])   انظر: أجنحة المكر الثلاثة: الميداني ـ ص: 50، والاستشراق والتبشير: د. السايح ـ العدد الثاني ـ ص: 33، والعدد الثالث ـ ص: 26، 30، وانظر أيضاً: أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي ـ د. علي جريشة، ود. الزيبق ـ دار الاعتصام ـ القاهرة ـ د. ط ـ 1978م ـ ص: 20، و التبشير والتنصير: زهران ـ ص: 13.

([3])   ومـع ذلك فلا يمكـن أن ينكر أحد ما قام به بعض المستشرقين من دراسات جادة، هدفها بيان الحقيقة، مما أدى إلى إسلام بعضهم ـ انظر: أجنحة المكر الثلاثة: الميداني ـ ص: 91.

([4])   انظر: أجنحـة المكـر الثلاثة: الميدانـي ـ ص: 50، وأساليـب الغـزو الفكري: د. جريشة، ود. الزيبق ـ ص: 20، والاستشراق في خدمة التنصير واليهودية: د. علي النملة ـ مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ العدد الثالث ـ رجب 1410ﻫ ـ ص: 252، والاستشراقوالتبشير: السايح ـ العدد الثالث ـ ص: 26، والتبشير والتنصير: زهران ـ ص: 14.

([5])   انظر: الاستشراق في خدمة التنصير واليهودية: د. النملة ـ ص: 242، التبشير والاستشراق أحقاد وحملات: الطهطاوي ـ ص: 48، والاستشراق وجه للاستعمار الفكري: د. عبد المتعال محمد الجبري ـ مكتبة وهبة ـ القاهرة ـ الطبعة الأولى ـ 1416ﻫ ـ 1995م ـ ص: 138، 139.

([6])   انظر: الاستشراق في خدمة التنصير واليهودية: د. النملة ـ ص: 253، والاستشراق والتبشير: السايح ـ العدد الثالث ـ ص: 26.

([7])   انظر: الفكر الإسلامي: البهي ـ ص: 537، والاستشراق وجه للاستعمار: الجبري ـ ص: 93.

([8])   انظر: أجنحة المكر الثلاثة: الميداني ـ ص 176، وجذور البلاء: عبد الله التل ـ المكتب الإسلامي ـ بيروت ـ الطبعة الثالثة ـ 1408ﻫ ـ 1998م ـ ص: 204 ـ نقلاً عن استعباد الإسلام ـ ص: 44، وانظر أيضاً: الفكر الإسلامي: البهي ـ ص: 533، والاستشراق في خدمة التنصير واليهودية: د. علـي النملـة ـ ص: 248، التبشيـر والاستشراق أحـقاد وحملات: الطهطاوي ـ ص: 51، والاستشراق وجه للاستعمار: الجبري ـ ص: 138، 139.

([9])   انظـر: جـذور البـلاء: عبد الله التـل ـ المكتـب الإسلامي ـ بيروت ـ الطبعة الثالثة ـ 1408ﻫ ـ 1998م ـ ص: 197، 198 ـ نقلاً عن: المستشرقون والمبشرون: إبراهيم خليل أحمد ـ مكتبة الوعي العربي ـ 164م ـ ص: 39 ـ 40، وانظر: الاستشراق في خدمة التنصير واليهودية: النملة ـ ص: 248، 249، والتبشير والتنصير: زهران ـ ص: 12، والاستشراق وجه للاستعمار الفكري: الجبري ـ ص: 135، 136.

([10])   انظر: معاول الهدم والتدمير في النصرانية وفي التبشير: إبراهيم الجبهان ـ عالم الكتب ـ بيروت ـ الطبعة الرابعة ـ 1981 ـ ص: 129، 130، والاستشراق في خدمة التنصير واليهودية: النملة ـ   ص: 250 ـ نقلاً عن: المستشرقون وبعض قضايا التاريخ العربي الإسلامي ـ الملتقى السادس للتعرف على الفكر الإسلامي ـ المجلد الثاني ـ 13/ 6 ـ 1/ 7/ 1392ﻫ ـ 24/ 7 ـ 10/ 8/ 1972م ـ ص: 198، وانظر: التنصير والتبشير: زهران ـ ص: 14.

([11])   انظر: الاستشراق في خدمة التنصير واليهودية: د. النملة ـ ص: 239، و ص: 248 ـ نقلاً عن شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي ـ المكتب الإسلامي ـ دمشق ـ 1398ﻫ ـ 1978م ـ ص: 91، وانظر: التبشير والتنصير: زهران ـ ص: 13.

([12])   انظر: الاستشراق في خدمة التنصير واليهودية: د. النملة ـ ص: 254 ـ نقلاً عن: الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية: قاسم السامرائي ـ الرياض ـ دار الرفاعي ـ 1403ﻫ ـ ص: 51.

الموضوعات