علاقة التنصير بالاستعمار
علاقة التنصير بالاستعمار
كتبت الكاتبة أمل عاطف محمد الخضري في كتاب ( التنصير في فلسطين في العصر الحديث ) في هذا الموضوع
الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)
فقالت:
ارتبط التطور والتقدم في الغرب النصراني بالانفصال عن الكنيسة، وحصر فاعليتها وتأثيرها في نطاق محدود، واستمر الأمر على تلك الحال إلى أن دعت الحاجة إلى ضرورة تحالف الغرب المتقدم بعلمانيته وإلحاده مع الكنيسة، وذلك لتحقيق هدف واحد مشترك، جمع بين مطالب الكنيسة التي تبعث مرسليها لتدمير الإسلام، وبين مطالب الاستعمار الذي يسعى لتحقيق الهدف نفسه ليحتل بلاد الإسلام، ويستغل خيراته، فكان من ثمار هـذا التحالـف ميـلاد الراهب المنصر، والعالم المستشرق، والجاسوس المحترف، الذي لا يتوانـى أي منهـم لحظة عـن الكيـد للإسلام، كل بطريقته الخاصة التي رسمت له، وقد يتولى مهمة القيام بكل ذلك رجل واحد أحياناً، كما كان يفعل زويمر([1]).
وقد تسبب الاستعمار بضياع دولة الخلافة الإسلامية العظيمة، حيث قام بتقطيع أوصالهـا، حتـى أصبحت دويـلات منفصلـة تقاسمها الاستعمار بحسب مصالحه، وقد عانى المسلمون من آثار الاستعمار ردحاً طويلاً مـن الزمان ولا زالوا يعانون حتى بعد انسحـاب الاستعمـار، الـذي كانت خطتـه تـدور حـول استغـلال ثروات البلاد بالقوة، والاستيلاء على عقول المسلمين بفرض المبادئ والنظم الاجتماعية الغربية عليهم، وفرض لغة المستعمر لتحل محل لغة القرآن الكريم لاقتلاع جذور الإسلام من قلوبهم، وبالتالي يسهل استعمالهم وتسخير طاقاتهم لخدمة الاستعمار وأهدافه([2]).
وكيف يتسنى للاستعمار تحقيق ذلك، دون الاستعانة بالمنصرين، الذين كان لهم اليد الطولى في التمهيد لقدومه، باستهداف الإسلام، ويبين المنصر «وليم كاش» كيف تمـكن المنصرون من اتخاذ مواقع حساسة حتى في أصعب الأوقات، فيقول: «قبل هذه التطورات التـي طرأت على العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى، كان المبشرون قد اتخذوا مراكز استراتيجية في العالم الإسلامي، واستطاعوا في أثناء الثورات والحروب والاضطرابات أن يتابعوا عملهم بهدوء وثبات»([3])، هـذا العمـل قامـت به إرساليات التنصير التي قدمت إلى العالم الإسلامي من خلال المراكز الخاصة لتنقل معالم الحضارة الغربية إلـى بلاد الإسلام، لتحـل محـل حضارتـه، حتى يؤثر سلباً على المسلمين، لأن الأعداء يعلمون أنه: «أينمـا تـم غرس المسيحية تم هدم الحضارات القائمة»([4])، الأمر الذي يمهد لقدوم المستعمر، وذلك لأن الإسلام هو الجدار الصلب المنيع، الذي تحطمت أمامه الحملات الصليبية، وبمجرد اختراقه تفتح الأبواب لمن شاء الاقتحام، ويعترف «لورنس بروان» بذلك، وهو من أعلام المنصرين البارزين في العالم حيث يقول: «الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قوته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته، إنهالجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي»([5]).
أمـا «زويمتر» فيؤكـد دور المنصرين في اختراق الإسلام بأعمالهم التنصيرية في قوله: «وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية»([6]).
ومن المعلوم أن أهداف التنصير ليست منصبة على إدخال المسلم في النصرانية، بقدر ما هي منصبة على خلعه من الإسلام([7])، كما أن سياسة الاستعمار قائمة على إضعاف المسلمين وخاصـة عقيدتهـم، ومن هنا تلاقت الأهداف واتحدت المصالح بين التنصير والاستعمار فكان كـل طرف يستفيد من جهد الطرف الآخر، وقد أثنى رئيس جمعيات التنصير «زويمر» علـى المنصرين في مؤتمر القدس 1935م، مؤكداً أنهم نالوا بأعمالهم بركـة المسيحية ورضـى الاستعمار، فقـال: «إنكـم أعددتـم نشأً لا يعـرف الصلـة بالله ولا يريـد أن يعرفهـا، وأخرجتـم المسلم مـن الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية وبالتالي فقـد جاء النشئ الإسلامـي طبقاً لما أراده لـه الاستعمار لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل.. وقد انتهيتم إلى خير النتائج وباركتكم المسيحية ورضى عنكم الاستعمار»([8]).
وهكـذا فإن العمـل قائـم بيـن التنصيـر والاستعمار، إذ إن العالم الإسلامي هو مركز الهدف، والتنصير هو البوابة التي يدخل منهـا الاستعمار للسيطرة على المسلمين، والاستعمار هو المساند للأعمال التنصيرية.
فإيطاليـا مثلاً تمكنت من فـرض سياستهـا الاستعمارية على الدول التي احتلتها بمساعدة الرهبان، والمنصرين، وكذلك فإن الاستعمار الفرنسي قام على أكتاف اليسوعيين الذيـن امتلأت قلوبهـم حقداً على الإسلام والمسلمين، وقد مكنت لهم فرنسا عمليات التنصير([9]). وأما بالنسبة للاستعمار البريطاني فقد تألفت في بريطانيا عام 1907م، لجنة مـن كبـار المفكريـن البريطانيين والفرنسيين، وقد دار موضوع البحث فيها حول إيجاد أهم الوسائل التي تحفظ وجـود الاستعمار البريطاني في الشرق، أو تؤجل نهايته، ومن أهم ما توصلت إليه المناقشات في تلك اللجنة، أن الخطورة تكمن في البلاد الإسلامية إذا تم توحيدها تحت عقيدة واحدة، وإذا نالت تحررها، وإذا تم نشر الثقافة بين أهلها، لذلك فقد أوصت اللجنة بما يلي:
1 ـ استمرار وضع المنطقة الإسلامية متأخرة، وفي جهل مطبق، وتناحر واختلاف.
2 ـ ضرورة فصل الجزء الأفريقي، عن مثله الآسيوي، من دول العالم الإسلامي، وذلك مـن خلال إقامـة حاجـز بشرى قوي، وغريب، بين البحرين الأبيض، والأحمر قريباً مـن قنـاة السويس، بحيـث يبقـى ذلك الحاجـز البشـري عـدواً لسكان المنطقة، صديقاً للاستعمار.
وتنفيـذاً لهـذا الاقتراح مُنح اليهود من «بلفور» ـ وزير خارجية بريطانيا آنذاك ـ وعداً بإقامة وطن قومـي في فلسطين، ولم يترك الموضوع دون متابعة، فقد تولى التنصير مهمة التنفيذ([10])، حيث قام «القنصل البريطاني» في القدس، بتحقيق ذلك الوعد، فساند المشروعات التي ساعدت على استجلاب اليهود من خارج فلسطين، لإقامة دولة صهيونية لهـم فـي فلسطين([11]) بناء علـى وعـد بلفور، هـذا الوزيـر الذي شارك في أعمال المؤتمر التنصيري المنعقد في «أدنبرج» عام 1910م، حيث منح لقب «رئيس الشرف»، وقد قال في ختام أعمال اللجنة السابقة من لجان المؤتمر: «إن المبشرين هم ساعد تلك الحكومات في أمور هامة، ولولاهم لتعذر عليها أن تقاوم كثيراً من العقبات، وعلى هذا فنحن في حاجة إلى لجنة دائمة يناط بها التوسط والعمل لما فيه مصلحة المبشرين»([12]). وفعلاً فقد تم تحقيق طلبه وألفت لجنة لمتابعة ذلك العمل([13]).
وفي المقابل فإن الاستعمار يقوم بدعم المنصرين لخدمة أهدافهم المشتركة، وذلك بتمكين الإرساليات التنصيرية من عملية بناء الكنائس، والأديرة، والمؤسسات المختلفة، وإمدادها بالمال اللازم لدعم عملية التنصير في وجود الاستعمار، وبعد خروجه، كما أن معظم الوافدين إلى الدول الإسلامية بأسماء مستعارة لممارسة نشاطهم التنصيري كانوا تحت حماية القناصل الأجنبية التابعة لبلادهم في الدول الإسلامية، وكلما زاد النفوذ الأجنبي في البلد، كلما زاد الدعم المقدم للمنصرين، وما كان نشاط تلك الإرساليات، والبعثات المختلفة في فلسطين إلا أسلوباً من أساليب النفوذ الأجنبي الاستعماري في البلاد([14]).
كمـا أن أمريكا أرسلـت منصرين إلى ما يقرب من نصف بلاد العالم تحت ستار الدعوة إلى السلام، والسمـو الروحانـي دعماً لعملية التنصير، وكذلك قامت بريطانيا بإرسال منصرين إلى جميع أنحاء العالم وخاصة شبه الجزيرة العربية([15]). ومن الجدير بالذكر أن مؤتمر «أدنبرة» التنصيري([16]) الذي عقد للتوفيق بين مصالح الدول الاستعمارية المختلفة، قد فشل بسبب اختلاف المطامع الاستعمارية التي يسعى لتحقيقها المنصرون المجتمعون، والممثلون عن دولهم([17]).
ومـن هنا يتبيـن أن الترابـط شديد بين الاستعمار والتنصير، ومما يدل على ذلك مشاركة قادة التنصير في المؤتمرات الاستعمارية، ومشاركة القادة السياسيين في مؤتمرات التنصيـر، ومـن الأمثلة على ذلك: مشاركة «م. ك إكسنفلد» سكرتير جمعية التنصير في برلين في المؤتمر الاستعماري الألماني، بصفته أحد الأعضاء الأساسيين، وقد كتب مقالاً يتحدث فيه عن المؤتمر، حيث أكد فيه ضرورة دمج الأهداف السياسية، والاقتصادية، وإدراجها ضمن الأعمال الأخلاقية، والدينية، ويفهم من قوله أنه يقصد دمج السياسة بالتنصـير، ومما يؤكـد ذلك أنه نقـل في تقريره قولاً لرئيس غرفة التجارة في «هامبرغ» الألمانية حيث جاء فيه: «أن نمو ثروة الاستعمار متوقف على أهمية الرجال الذين يذهبون إلـى المستعمرات وأهـم وسيلـة للحصول على هذه الأمنية إدخال الدين المسيحي في البلاد المستعمرة…»([18]).
كما حض «م. ك إكسنفلد» المشاركين على تقدير الأعمال التي يقوم بها المنصرون، وعند مناقشة موضوع المسألة الإسلامية كانت المشاركة الأقوى للمنصرين لدرجة أن شعر الحضور بأنهم في مؤتمر تنصيري لا مؤتمر استعماري([19]).
ومـن هنا يتبيـن أن الاستشراق والتنصير والاستعمار، ثلاث حلقات متداخلة، لا يمكن أن تنفك عن بعضها البعض([20]).
إذ توافقـت الخطـط الاستعمارية لمحاربة الإسلام مع قوى التنصير المتحالفة مع الاستشراق، إذ إن الاستعمار يغزو البلاد ويستغل خيراتها، والمنصر يحاول القضاء على الإسلام وإخراج المسلم من دينه، والمستشرق يغزو الفكر والتراث الإسلامي، وينقض ثوابته للتمكين للاستعمار وتثبيت حكمه، كما يهيئ للاستعمار، أشخاصاً موالين له وللتنصير، مهاجمين للإسلام.
* * *