علاقة التنصير بالحملات الصليبية
علاقة التنصير بالحملات الصليبية
كتبت الكاتبة أمل عاطف محمد الخضري في كتاب ( التنصير في فلسطين في العصر الحديث ) في هذا الموضوع
الصادر عن دار المقتبس في بيروت سنة ( 1439هـ - 2018م)
فقالت:
قامـت الجيوش الأوربية النصرانية بإعلان الحرب على بلاد الإسلام، لاسترداد الأماكن المقدسة بزعمهم، وإعادتها وأهلها إلى النصرانية، وحمايتها من أيدي المسلمين، وهـي فـي الحقيقة خطة مدبرة لفرض التنصير بالقوة، وإكراه الشعوب الإسلامية على اعتناق النصرانية، ومن ثَم القضاء على الإسلام وحضارته التي أذهلت دول العالم غير الإسلامي، حيـث شكلت سداً منيعاً أمـام أي دخيل أجنبي، إذ يقول «غاردنر»: «لقد خاب الصليبيون فـي انتزاع القدس مـن أيدي المسلمين ليقيموا دولة مسيحية في قلب العالم الإسلامي… والحرب الصليبية لم تكن لإنقاذ هذه المدينة بقدر ما كانت لتدمير الإسلام»([1])، فعمد النصارى إلى إيجاد ثغور تمكنهم من الكيد للمسلمين. فاستعملوا العيـون والجواسيس مـن بعض أهل الذمة، وسائر الطوائف، والفرق المنحرفة، وبعد إحكام الخطة وقـدوم طلائـع الجواسيس شنت الجيوش النصرانية الجرارة الحرب على العالم الإسلامي، تحت راية الصليب، لذلـك سُميت هـذه الحرب وما تلاها بالحروب الصليبية، وكان شعارهم في ذلك: «إكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم»([2])، كما كانت شارات الصليب علـى أكتـاف مقاتليهم لا ينزعونها، واستمرت تلك الحرب الشعواء على الإسلام على شكل حملات قرابة قرنين من الزمان، إلى أن تم إجلاؤهم عن الديار الإسلامية، وتخليـص القدس مـن أيديهم على يد القائد المظفر «صلاح الدين الأيوبي» بعد معركة «حطين» عام 583ﻫ، ولكن بعد أن تمكن الصليبيون من إنشاء قواعد تابعة لملوك أوروبا وأمرائها في قلب العالم الإسلامي وأطرافه([3]).
وهكـذا أدركت الكنيسة الكاثوليكية مـع بدايـة القـرن الثالث عشر من الميلاد عـدم جدوى استخدام القوة، وذلك بعد أن فقدت الكثير من الأرواح والأموال دون حصول تنصيـر حقيقـي. وسبـب شعور الصليبييـن بحتمية فشل المعركة المسلحة مع المسلميـن؛ هو ما يحييـه الغـزو الحربي في قلوب المسلمين من روح الجهاد في سبيل الله، فتحول الاتجاه لنشر المبادئ النصرانية بين المسلمين، من استخدام القوة إلى تسخيرالبعثات الإرسالية التنصيرية، فقامت حرب جديدة تعتمد على الغزو الفكري، والنفسي، والحضاري، متخـذة مـن العلـم، والتجـارة، والصناعـة، والطـب ستاراً زائفاً، تحت شعار المبادئ الإنسانية والمحبة المسيحية، والتي تخفي وراءها عداءها الشديد للإسلاموالمسلمين([4])، وقـد كـان ذلك بناء علـى وصية قائد الجيوش الصليبي «لويس التاسع» ملك فرنسا، الذي كان مـن بيـن الأسرى، وأثنـاء أسره فكـر فـي مصيـر الجيوش الصليبية، وأيقن بضـرورة تغييـر مسار الحرب، فلما عاد إلى فرنسا خاطب شعبه وأوصاهم بوصية جاء فيها([5]): «إذا أردتـم أن تهزمـوا المسلميـن فلا تقاتلوهـم بالسلاح وحده ـ فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح ـ ولكن حاربوهم في عقيدتهم مكمن القوة فيهم»([6])، وذلك لتهيئتهـم وتأهيلهـم فكرياً ونفسياً، للتسليـم والاستسلام لما يريـده الأعداء بهم، لأنه بمجـرد تحول أفكارهم عـن المفاهيـم الإسلامية فسد منطقهم وساء إدراكهم للأمور، وبهذا يسهل التحكم بهم وتسخيرهم لخدمة أغراض أعدائهم([7]).
مـن هنا بدأ التسابق في تأسيس الرهبنات والإرساليات التي تهدف إلى استرداد الأرض المقدسة([8])، وقد شكلـت مقولـة: «نريـد مرسلين لا جنوداً لاسترداد الأرض المقدسة»([9])، التـي قالـهـا أحـد أساقـفـة إرساليـة الدومينكـان «وليـم الطرابلسـي» عـام 1270م، نقطـة انطـلاق لعمـل «ريمـون لول» والذي يعتبر أول من تولى عملية التنـصيـر بـعـد فشـل الحمـلات الصليبيـة، إذ قـام بتعلـم اللغـة العربية حتى أتقنها، وتجـول فـي بـلاد المسلميـن مناقشاً علماءهـم([10])، ويعتبـر «لـول» من رجال السياسة العملييـن، فقـد أتحـف البابـا بمذكـرة عـن الخطـوات الواجـب اتخاذها للقضاء على المسلمين، كما نشر عام 1305م أفكاره ومنهجه العملي للتنصير في كتابه: Libber ـ de ـ fine([11]).
وكذلـك قـام ملـك «ميورقة»([12]) النصراني بإنشاء «كلية الثالوث المقدس» عام 1276م، لتخريج منصرين مؤهلين لنشر النصرانية بين المسلمين([13])، ومن جهة أخرى فقد أحسن النصارى استغـلال الهدنة التـي حصلـت بينهم وبين المسلمين، إذا أدركوا أنهم سيتمكنون من تحقيق ما عجـزت جيوشهـم عن تحقيقه من نشر الفساد الأخلاقي بين المسلمين، عن طريق النساء الأوروبيات القادمات مع الجيوش للترفيه عنهم، وقد تحيـز بعض فسقة المسلمين للنصارى من أجل النسوة فقد جاء في وصف ذلك: «حتى إن نساء الفرنـج ليخرجـن بنيـة القتال، ومنهـن من تأتي بنية راحة الغرباء… حتى إن كثيراً مـن فسقة المسلمين تحيـزوا إليهـم مـن أجل هذه النسوة…»([14])، وقد اعتبر هذا مؤشراً للنصـارى ودليلاً علـى ضرورة تغييـر مسلك التنصير، لما رأوه من سرعة تأثير الاختـلاط والتحلل الأخلاقـي علـى هؤلاء النفر، كما أن الهدنة أفسحت المجال أمام المسلمين للاختلاط بالجنود الصليبيين، ومعاشرتهم بالرغم من سوء أخلاقهم وخصالهم، فقـد وصفهم أسقـف عكا «جـاك دفيتري» فقال: «وكان لا يرى منهم في أرض الميعاد غيـر الزنادقة والملحديـن واللصوص والزناة والقتلـة والخائنيـن والمهرجين والرهبان الدعـار والراهبـات العواهـر»([15])، مما فتح على المسلمين أبواباً من الشر لم تحمد عقباها فيما بعد، إذ لـم تفلح الجهود المبذولة لوقف مدها، إضافة لما تسببت به الحروب نفسها من استنزاف للطاقـات الماديـة والبشرية للمسلميـن، ممـا أورثهـم ضعفاً، لم يستعيدوا قواهم من بعده([16]).
وهكذا تضافرت هذه العوامل مجتمعة لتدفع الدول الأوروبية لتسخير الكنائس، والمدارس، والمستشفيـات، ونحوهـا لخدمـة النشاط التنصيري، فوظفت فيها جنودها المنصرين، وذلك بعـد فشل الحـروب الصليبية في تحقيق مآربها، وما زالت تلك المراكز تؤدي نفس الدور إلى اليوم([17])، إذ إن كل الأحداث التي تجرى على الساحة، تدل وتؤكد على أن الحروب الصليبية التي سعت لتنصير المسلمين لم تنته بعد، بل هي المحرك لكل ما يحدث تحت رداء حرية الفكر تارة، وتارة أخرى تحت رداء التحرر والانفتاح، أو تحت رداء الاستنارة تارة ثالثة([18]) وحديثاً تحت ذريعة محاربة الإرهاب.
* * *
([2]) الإذاعـات التنصيريـة الموجهة إلى المسلمين العرب: د. كرم شلبي ـ مكتبة التراث الإسلامي ـ القاهرة ـ الطبعة الأولى ـ 1412ﻫ ـ 1991م ـ ص: 19 ـ نقلاً عن: ملامح عن النشاط التنصيري فـي الوطـن العربـي: إبراهيـم عكاشة ـ السعودية ـ جامعة الإمام محمد بن سعود ـ 1987م ـ ص: 14.
([3]) انظـر: البداية والنهاية: ابن كثير ـ 12/ 342، وأجنحة المكر الثلاثة: الميداني ـ ص: 21 ـ 23، والمرجع السابق ـ ص: 19.
([4]) انظـر: أجنحة المكـر الثلاثة: الميدانـي ـ ص: 23، والحركـة الصليبيـة صفحة مشرقة في تاريخ الجهاد الإسلامي في العصور الوسطى: د. سعيد عبد الفتاح عاشور ـ مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة ـ الطبعة الرابعة ـ 1986م ـ 2/ 1012 ـ 1013.
([5]) انظـر: واقعنا المعاصـر: محمـد قطب ـ مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر ـ السعودية ـ الطبعة الثانية ـ 1408ﻫ ـ 1988م ـ ص: 196.
([10]) انظر: الغارة على العالم الإسلامي: أ. ل شاتليه ـ تلخيص ونقل إلى العربية: محب الدين الخطيب، ومساعـد أليافـي ـ المطبعـة السلفيـة ـ القاهرة ـ الطبعة الثانية ـ 1383ﻫ ـ ص: 13، والتبشير والاستشراق: د. خـالدي و د. فـروخ ـ ص: 115، والمرجع السابق ـ ص: 29، 30، 61.
([11]) انظر: تاريخ الحروب الصليبية: ستيفن نسيمان ـ نقله إلى العربية: د. السيد الباز العريني ـ بدون دار نشر ـ القاهرة ـ الطبعة الثالثة ـ 1413ﻫ ـ 1993م ـ 2/ 724.
([12]) ميورقـة: إحـدى جـزر الأرخبيـل الأسبانـي بليار ـ الأرخبيل مجموعة من الجزر ـ وتقع غرب البحر المتوسط وتعد ميورقة ومنورقة وإبيا أهم جزر بليار ـ انظر: المنجد ـ ص: 136، 566.
([15]) التدابير الواقية من التشبه بالكفار: د. عثمان دوكوري ـ مكتبة الرشيد ـ الرياض ـ الطبعة الأولى ـ =
= 1421ﻫ ـ 2000م ـ 1/ 111 ـ نقلاً عن: حضارة العرب ـ ص: 328.